ارشاد القلوب الجزء ١

ارشاد القلوب0%

ارشاد القلوب مؤلف:
الناشر: دار الأسوة للطباعة والنشر
تصنيف: كتب الأخلاق
ISBN: ( دوره ) ٢ ـ ٤٢ ـ ٨٠٧٣ ـ ٩٦٤
الصفحات: 381

ارشاد القلوب

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: الحسن بن أبي الحسن محمّد الديلمي
الناشر: دار الأسوة للطباعة والنشر
تصنيف: ISBN: ( دوره ) ٢ ـ ٤٢ ـ ٨٠٧٣ ـ ٩٦٤
الصفحات: 381
المشاهدات: 79132
تحميل: 16954


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 381 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 79132 / تحميل: 16954
الحجم الحجم الحجم
ارشاد القلوب

ارشاد القلوب الجزء 1

مؤلف:
الناشر: دار الأسوة للطباعة والنشر
ISBN: ( دوره ) ٢ ـ ٤٢ ـ ٨٠٧٣ ـ ٩٦٤
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

ولعقوبته مستحقّين (١) .

وقال :

الدار دار نوائب ومصائب

وفجيعة بأحبّة وحبائبِ

ما ينقضي رزئي بفرقة صاحب

إلاّ أُصبت بفرقةٍ من صاحبِ

فإذا مضى الآلاف كفاك مظنّة (٢)

والمؤنسين بأنّك أوّل ذاهبِ

____________

(١) راجع البحار ٧٧ :١٨٤ضمن حديث ١٠ .

(٢) في ( ب ) و( ج ) : عنك لظنّه .

٦١

الباب الرابع [ في ترك الدنيا ] (١)

روي عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال :إنّ الناس في الدنيا ضيف وما في أيديهم عارية ، وإنّ العارية مردودة ، وإنّ الضيف راحل ، ألا وإنّ الدنيا عرض حاضر يأكل منه البر والفاجر ، والآخرة وعد صادق يحكم فيه ملك عادل قاهر ، فرحم الله مَن نظر لنفسه ، ومهّد لرمسه ، وحبله على عاتقه ملقىً قبل أن ينفذ أجله ، وينقطع أمله ، ولا ينفع الندم (٢) .

وقال الحسن(٣) عليه‌السلام :مَن أحبّ الدنيا ذهب خوف الآخرة من قلبه ، ومن ازداد حرصاً على الدنيا لم يزدد منها إلاّ بعداً ، وازداد هو من الله بغضاً ، والحريص الجاهل والزاهد القانع كلاهما مستوف أكله ، غير منقوص من رزقهم شيئاً ، فعلام التهافت في النار (٤) .

____________

(١) أثبتناه من ( ب ) و ( ج ) .

(٢) راجع البحار ٧٧ : ١٨٩ ضمن حديث ١٠ .

(٣) في ( ب ) : الحسين بن عليعليهما‌السلام .

(٤) إلى هنا في مجموعة ورام ٢ : ٢١٨ .

٦٢

والخير كلّه في صبر ساعة ، تورث راحة طويلة وسعادة كبيرة (١) ، والناس طالبان : طالب يطلب الدنيا حتّى إذا أدركها فهو هالك ، وطالب يطلب الآخرة حتّى إذا أدركها فهو ناجٍ فائز ، واعلم أيّها الرجل أنّه لا يضرّك ما فاتك من الدنيا وأصابك من شدائدها إذا ظفرت بالآخرة ، وما ينفعك ما أصبت من الدنيا إذا حرمت الآخرة .

وكتب عمر بن عبد العزيز إلى الحسن البصري : عظني ، فكتب إليه : إنّ رأس ما يصلحك الزهد في الدنيا ، والزهد باليقين ، واليقين بالفكر ، والفكر هو الاعتبار ، فإذا فكّرت في الدنيا لم تجدها أهلاً لأن تنفع نفسك بجميعها فكيف ببعضها ، ووجدت نفسك أهلاً أن تكرمها بهوان الدنيا .

واذكر قول الله تعالى :( وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنْشُوراً ) (٢) فلقد عدل عليك مَنْ جعلك حسيباً على نفسك حيث قال(٣) :( اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً ) (٤) .

وقال : لقد صحبت في الدنيا أقواماً كانوا والله قرّة عين ، وكلامهم شفاء الصدور ، وكانوا والله في الحلال أزهد منكم في الحرام ، وكانوا على النوافل أشدّ محافظة منكم على الفرائض ، وكانوا والله من حسناتهم ومن أعمالهم الحسنة مخافة أن ترد عليهم أكثر وجلاً من أعمالكم السيّئة أن تعذّبوا بها .

وكانوا والله من حسناتهم أن تظهر(٥) أشد خوفاً منكم من سيّئاتكم أن تشهر(٦) ، وكانوا يسترون حسناتهم كما تسترون أنتم سيّئاتكم ، وكانوا محسنين

____________

(١) في ( ب ) و ( ج ) : كثيرة .

(٢) الإسراء : ١٣ .

(٣) في ( ب ) و ( ج ) : لقوله تعالى .

(٤) الإسراء : ١٤ .

(٥) في ( ب ) : يظهروا .

(٦) في ( ب ) : تشهدوا .

٦٣

وهم مع ذلك يبكون ، وأنتم تسيئون وتضحكون ، فإنّا لله وإنّا إليه راجعون .

ظهر الجفاء(١) ، وقلّت العلماء ، وعفت السنّة ، وهجر الكتاب ، وشاعت البدعة ، وتعامل الناس بالمداهنة ، وتقارضوا الثناء ، وذهب الناس وبقي حثالة من الناس ، يوشك أن تدعوا فلا تجابوا ، وتظهر عليكم أيدي المشركين فلا تغاثوا .

فأعدّوا الجواب فإنّكم مسؤولون ، والله لو تكاشفتم ما تدافنتم ، فاتقوا الله وقدموا فضلاً(٢) ، فإنّ مَن كان قبلكم كانوا يأخذون من الدنيا بلاغهم ، ويؤثرون بفضل ذلك إخوانهم المؤمنين ، ومساكينهم وأيتامهم وأراملهم ، فانتبهوا من رقدتكم فإنّ الموت فضح الدنيا ، ولم يجعل الله لذي عقل فرحاً(٣) .

واعلموا أنّه مَن عرف ربّه أحبّه فأطاعه ، ومَن عرف عدوّه(٤) الشيطان عصاه ، ومَن عرف الدنيا وغدرها بأهلها مقتها(٥) ، وإنّ المؤمن ليس بذي لهو ولا غفلة وإنّما همّه التفكّر والاعتبار ، وشعاره الذكر قائماً وقاعداً وعلى كلّ حال .

نطقه ذكر ، وصمته فكر ، ونظره اعتبار ؛ لأنّه يعلم أنّه يصبح ويمسي بين أخطار ثلاثة : إمّا بليّة نازلة ، أو نعمة زائلة ، أو منيّة قاضية ، ولقد كدّر ذكر الموت عيش كلّ عاقل ، فعجباً لقوم نودي فيهم بالرحيل وهم غافلون عن التزوّد ، ولقد علموا أنّ لكل سفر زاداً لا بد منه ، حبس أوّلهم عن آخرهم وهم لاهون ساهون .

وروي في قوله تعالى :( وآتيناه الحكم صبيّاً ) (٦) عن يحيىعليه‌السلام أنّه كان له سبع سنين ، فقال له الصبيان : امض معنا نلعب ، فقال :ليس للّعب خُلقنا .

وقال أمير المؤمنينعليه‌السلام في قوله تعالى :( ولا تنس نصيبك من

____________

(١) في ( ج ) : المخالفون .

(٢) في ( ب ) و ( ج ) : فضلكم .

(٣) في ( ج ) : فسحاً .

(٤) في ( ب ) و ( ج ) : عداوة .

(٥) في ( ج ) : زهد فيها .

(٦) مريم : ١٢ .

٦٤

الدنيا ) (١) قال :لا تنس صحّتك وقوّتك وشفاءك (٢) وغناك ونشاطك أن تطلب الآخرة (٣) .

وقال آخرون : هو الكفن من جميع ما يملك ، أي لا تنس أنّه هو نصيبك من الدنيا كلّه لو ملكتها .

وقال علي بن الحسينعليه‌السلام :أعظم الناس قدراً مَن لم يبال الدنيا في يد مَن كانت .

وقال محمد بن الحنفيّة : مَن كرمت نفسه عليه هانت الدنيا عنده(٤) .

وقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :لا يزداد الزمان إلاّ شدّة ، والعمر إلاّ نقصاناً ، والرزق إلاّ قلّة ، والعلم إلاّ ذهاباً ، والخلق إلاّ ضعفاً ، والدنيا إلاّ إدباراً ، والناس إلاّ شحّاً ، والساعة إلاّ قرباً ، تقوم على الأشرار من الناس .

وقال :كان الكنز الذي تحت الجدار : عجباً لمَن أيقن بالموت كيف يفرح ، وعجباً لمَن أيقن بالرزق كيف يحزن ، وعجباً لمَن أيقن بالحساب (٥) كيف يذنب ، وعجباً لمَن عرف الدنيا وتقلّبها بأهلها كيف يطمئنّ إليها .

وقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :إذا أحبّ الله عبداً ابتلاه ، وإذا أحبّه الحبّ البالغ افتناه ، فقالوا : وما معنى افتناه ؟ قال : لا يترك له مالاً ولا ولداً (٦) .

وإنّ الله تعالى يتعهّد عبده المؤمن في نفسه وماله بالبلاء كما تتعهّد الوالدة ولدها باللبن ، وإنّه ليحمي عبده المؤمن من الدنيا كما يحمي الطبيب المريض من

____________

(١) القصص : ٧٧ .

(٢) في ( ج ) : شبابك .

(٣) مجموعة ورام ٢ : ٢١٩ ، معاني الأخبار : ٣٢٥ .

(٤) مجموعة ورام ١ :٧٧نحوه .

(٥) في ( ج ) : بالنار .

(٦) البحار ٨١ :١٨٨ح٤٥ ، عن دعوات الراوندي .

٦٥

الطعام(١) .

وكان أمير المؤمنينعليه‌السلام يقول :اللهم إنّي أسألك سلواً عن الدنيا ومقتاً لها ، فإنّ خيرها زهيد ، وشرّها عتيد ، وصفوها يتكدّر ، وجديدها يخلق ، وما فات فيها لم يرجع ، وما نيل منها فتنة إلاّ مَن أصابته منك عصمة وشملته منك رحمة ، فلا تجعلني ممّن رضي بها واطمأنّ إليها ووثق بها ، فإنّ مَن اطمأنّ إليها خانته ، ومَن وثق بها غرّته .

ولقد أحسن من وصفها بقوله :

ربّ ريح لأُناسٍ عصفت

ثم ما لبثت إلى أن سكنتْ

وكذاك الدهر في أطواره

قدمٌ زلّت وأُخرى ثبتتْ

وكذا الأيّام من عاداتها

أنّها مفسدةٌ ما أصلحتْ

[ وقال غيره : ](٢)

لا تحزننّ (٣) على الدنيا وما فيها

واحزن على صالح لم تكتسب فيها

[ وقال آخر : ](٤)

واذكر ذنوباً عظاماً منك قد سلفت

نسيت أكثرها والله محصيها

وفي قوله تعالى :( كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ * كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْماً آخَرِينَ * فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ ) (٥) عبرة .

وقال بعضهم : مررت بخربة فأدخلت فيها رأسي وقلت :

____________

(١) مجموعة ورام ١ : ٨٦ .

(٢) أثبتناه من ( ب ) و ( ج ) .

(٣٩ في ( ب ) و ( ج ) : تحرصنّ .

(٤) أثبتناه من ( ج ) .

(٥) الدخان : ٢٤ ـ ٢٩ .

٦٦

ناد ربّ الدار ذا المال الذي

جمع الدنيا بحرصٍ ما فعل ؟!

فأجابه هاتف من الخربة يقول :

كان في دارٍ سواها داره

علّلته بالمنى حتّى انتقل (١)

وقال قتاده في قوله تعالى :( وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ ) (٢) قال : وقائع القرون الماضية ، وما حلّ بها من خراب الديار وتعفية الآثار .

ومرّ الحسنعليه‌السلام بقصر أوس فقال : لمن هذا ؟ فقالوا : لأوس ، فقال : ودّ أوس أنّ له في الآخرة بدله رغيفاً(٣) .

وقال أبو العتاهيّة :

جمعوا فما أكلوا الذي جمعوا

وبنوا مساكنهم فما سكنوا

وكأنّهم كانوا بها ظعناً

لمّا استراحوا ساعةً ظعنوا

وقال مسروق : ما امتلأت دار حبرة إلاّ امتلأت عبرة ، وأنشد [ عند ذلك يقول : ](٤)

كم ببطن الأرض ثاوٍ من وزيرٍ وأمير

وصغير الشأن عبد خامل الذكر حقير

لو تأمّلت قبور القوم في يومٍ قصير

لم تميّزهم ولم تعرف غنيّاً من فقير

وروي أنّ سعد بن أبي وقّاص لما ولي العراق دعا حرقة(٥) ابنة النعمان ، فجاءت في لمّة من جواريها ، فقال لهنّ : أيّتكنّ حرقة ؟ قلنا : هذه ، فقالت : نعم ، فما استنذارك(٦) إيّاي يا سعد ؟ فو الله ما طلعت الشمس ، وما شيء يدبّ تحت

____________

(١) مجموعة ورام ٢ :٢٢٠ .

(٢) الرعد :٦ .

(٣) مجموعة ورام ١ :٧٠ .

(٤) أثبتناه من ( ب ) .

(٥) في ( ب ) : خرقة .

(٦) في ( ب ) و ( ج ) : استبداؤك .

٦٧

الخورنق(١) إلاّ وهو تحت أيدينا ، فغربت [ شمسنا ](٢) وقد كان رحمنا جميع من كان يحسدنا ، وما من بيت دخلته حبرة إلاّ وعقبته عبرة ، ثمّ أنشأت تقول :

فبينا نسوق الناس والأمر أمرنا

إذا نحن فيها سوقة نتنصّفُ

فاُفٍّ لدنيا لا يدوم سرورها

تقلّب بنا ثاراتها وتصرفُ

هم الناس ما ساروا يسيرون حولنا

وإن نحن أومأنا إلى الناس أوقفوا

ثم قالت : إنّ الدنيا دار فناء وزوال لا تدوم على حال ، تنتقل بأهلها انتقالاً ، وتعقبهم بعد حال حالاً ، ولقد كنّا ملوك هذا القصر يطيعنا أهله ، ويجبوا إلينا دخله ، فأدبر الأمر وصاح بنا الدهر ، فصدع عصانا ، وشتّت شملنا ، وكذا الدهر لا يدوم لأحد ، ثم بكت فبكى لبكائها ، وأنشد :

إنّ للدهر صولة فاحذريها

لا تقولين قد أمنت الدهورا

قد يبيت الفتى معافاً فيؤذى

ولقد كان آمناً مسرورا

فقال لها : اذكري حاجتك ، فقالت : بنو النعمان وأهله أجزهم على عوائدهم ، فقال لها : اذكري حاجتك لنفسك خاصّة ، فقالت : يد الأمير بالعطيّة أطلق من لساني بالمسألة ، فأعطاهم وأعطانا(٣) وأجزل .

فقالت : شكرتك يد افتقرت بعد غنى ، ولا ملكتك يد استغنت بعد فقر ، وأصاب الله بمعروفك مواضعه ، ولا جعل الله لك إلى اللئيم حاجة ، ولا أخذ الله من كريم نعمة إلاّ وجعل لك السبب في ردّها إليه ، فقال سعد : اكتبوها في ديوان الحكمة ، فلمّا خرجت من عنده سألها نساؤها فقلن : ما فعل معك الأمير ؟ فقالت : حاط لي ذمّتي ، وأكرم وجهي ، إنْ يكرم الكريم إلاّ كريماً(٤) .

____________

(١) الخورنق : اسم قصر بالعراق ، فارسيّ معرّب ، بناه النعمان الأكبر ( لسان العرب ) .

(٢) أثبتناه من ( ج ) .

(٣) في ( ج ) : وأعطاها .

(٤) أورده المصنفرحمه‌الله في أعلام الدين : ٢٨٣ باختصار .

٦٨

ولقد أحسن مَن قال :

وما الدهر والأيّام إلاّ كما ترى

رزيّة مال أو فراق حبيب

وإنّ امرءً قد جرّب الدهر لم يخف

تقلّب يوميه لغير أريب

وقال الآخر :

هو الموت لا منجى من الموت والذي

أُحاذر بعد الموت أدهى وأفظعُ

وقال آخر :

إذا الرجال كثرت أولادها

وجعلت أوصابها تعتادها

واضطربت من كبرها أعضادها

فهي زروع قد دنا حصادها

وقال بعضهم : اجتزت بدار جبّار كان معجباً بنفسه وملكه ، فسمعت هاتفاً ينشد ويقول :

وما سالم عمّا قليل بسالمٍ

وإن كثرت أحراسه ومواكبه

ومَن يك ذا بابٍ شديدٍ وحاجبٍ

فعمّا قليل يهجر الباب حاجبه

ويصبح في لحدٍ من الأرض ضيّقاً

يفارقه أجناده ومواكبه

وما كان إلاّ الموت حتّى تفرّقت

إلى غيره أحراسه وكتائبه

وأصبح مسروراً به كلّ كاشحٍ

وأسلمه أحبابه وحبائبه

فنفسك فاكسبها السعادة جاهداً

فكلّ امرءٍ رهناً بما هو كاسبه

قال : وكان بعضهم إذا نظر في المرآة إلى جماله أنشد :

يا حسان الوجوه سوف تموتون

وتبلى الوجوه تحت الترابِ

يا ذوي الأوجه الحسان المصونات

وأجسامها الفظاظ الرطابِ

أكثروا من نعيمها أو أقلّوا

سوف تهدونها لعفر الترابِ

قد نعتك الأيّام نعياً صحيحاً

بفراق الأقران والأصحابِ

٦٩

 [ وقال آخر : ](١)

تذكّر ولا تنسَ المعاد ولا تكن

كأنّك في الدنيا مخلى وممرجُ (٢)

فلابدّ من بيت انقطاعٍ ووحشةٍ

وإن غرّك البيتُ الأنيق المدبّجُ

ووجد على بعض القبور مكتوباً هذه الأبيات :

تزوّد من الدنيا فإنّك لا تبقى

وخذ صفوها لمّا صفت ودع الرتقا

ولا تأمننّ الدهر إنّي أمنته

فلم يبق لي خلاًّ ولم يرع لي حقّا

قتلت صناديد الملوك فلم أدع

عدوّاً ولم أمهل على ظنّه خلقا

وأخليت دار الملك من كل بارعٍ

فشرّدتهم غرباً وفرّقتهم (٣) شرقا

فلمّا بلغت النجم غراً ورفعة

وصارت رقاب الخلق أجمع لي رقّا

رماني الردى رمياً فأخمد جمرتي

فها أنا ذا في حفرتي مفرداً ملقى

فأفسدت دنيائي وديني جهالةً

فمَن ذا الذي منّي بمصرعه أشقى

وقال بعضهم : يا أيّها الإنسان لا تتعظّم ، فليس بعظيم مَن خُلق من التراب وإليه يعود ، وكيف يتكبّر مَن أوّله نطفة مذرة(٤) ، وآخره جيفة قذرة ، وهو يحمل بين جنبيه العذرة ، واعلم أنّه ليس بعظيم مَن تصرعه الأسقام ، وتفجعه الآلام ، وتخدعه الأيّام ، ولا يأمن أن يسلبه الدهر شبابه وملكه ، وينزله من علوّ سريره إلى ضيق قبره ، إنّما الملك العاري من هذه المعائب ، ثم أنشد :

أين الملوك وأبناء الملوك ومَن

قاد الجيوش ألا يا بئس ما عملوا

باتوا على قلل الأجبال تحرسهم

غلب الرجال فلم تنفعهم القللُ

____________

(١) أثبتناه من ( ب ) و ( ج ) .

(٢) في ( ج ) : مخرج .

(٣) في ( ب ) و ( ج ) : مزّقتهم .

(٤) في ( ج ) : قذرة .

٧٠

فأُنزلوا بعد عزٍّ من معاقلهم (١)

وأُسكنوا حفرة يا بئس ما نزلوا

ناداهم صارخٌ من بعد ما دُفنوا

أين الأسرّة والتيجان والكللُ (٢)

أين الوجوه التي كانت منعّمةً

من دونها تُضرب الأستار والحجلُ

فأفصح القبر عنهم حين ساءلهم

تلك الوجوه عليها الدود يقتتلُ (٣)

قد طال ما أكلوا دهراً وما شربوا

فأصبحوا بعد طيب الأكل قد أُكلوا

سالت عيونهم فوق الخدود فلو

رأيتهم ما هناك العيش يا رجلُ

وقال الحسين عليه‌السلام : يا ابن آدم تفكّر وقل : أين ملوك الدنيا وأربابها الذين عمّروا خرابها ، واحتفروا أنهارها ، وغرسوا أشجارها ، ومدّنوا مدائنها ، فارقوها وهم كارهون ، وورثها(٤) قوم آخرون ، ونحن (٥) بهم عمّا قليل لاحقون .

يا ابن آدم اذكر مصرعك ، وفي قبرك مضجعك ، وموقفك بين يدي الله تعالى ، يشهد جوارحك عليك ، يوم تزلّ فيه الأقدام ، وتبلغ القلوب الحناجر ، وتبيضّ وجوه وتسودّ وجوه ، وتبدى السرائر ويوضع الميزان للقسط .

يا ابن آدم اذكر مصارع آبائك وأبنائك كيف كانوا وحيث حلّوا ، وكأنّك عن قليل قد حللت محلّهم ،وأنشد :

أين الملوك التي عن حظّه(٦) غفلت

حتّى سقاها بكأس الموت ساقيها

تلك المدائن في الآفاق خالية

عادت خراباً وذاق الموت بانيها

أموالنا لذوي الورّاث نجمعها

ودورنا لخراب الدهر نبنيها

ما عبّر أحد عن الدنيا كما عبّر أمير المؤمنينعليه‌السلام بقوله :دار بالبلاء

____________

(١) في ( ب ) : منازلهم .

(٢) في ( ب ) : الحلل .

(٣) في ( ج ) : تنتقل .

(٤) في ( ب ) : ورثوها .

(٥) في ( الف ) : وهم .

(٦) في ( ب ) و ( ج ) : حفظها .

٧١

محفوفة ، وبالغدر معروفة ، لا تدوم أحوالها ، ولا تسلم نزّالها ، أحوال مختلفة ، وتارات متفرّقة(١) ، العيش فيها مذموم ، والأمان فيها معدوم ، وإنّما أهلها فيها أغراض مستهدفة ، ترميهم بسهامها وتفنيهم بحمامها .

واعلموا عباد الله أنّكم وما أنتم فيه من هذه الدنيا على سبيل مَن كان قبلكم ممّن كان أطول منكم أعماراً ، وأعمر دياراً ، وأبعد آثاراً ، أصبحت أصواتهم هامدة ، وآثارهم خامدة ، ورياحهم راكدة ، وأجسادهم بالية ، وديارهم خاوية ، وآثارهم عافية .

فاستبدلوا القصور المشيّدة ، والنمارق الممهّدة ، والصخور(٢) والأحجار المسندة ، بالقبور اللاّطئة الملحدة التي قد بُني على الخراب فناؤها ، وشُيّد بالتراب بناؤها ، فمحلّها مقترب ، وساكنها مغترب ، بين أهل محلّة موحشين وأهل فراغ متشاغلين .

لا يستأنسون بالأوطان ، ولا يتواصلون تواصل الجيران على ما بينهم من قرب الجوار ، ودنوّ الدار ، فكيف يكون بينهم تواصل وقد طحنهم بكلكله البلاء ، وأكلتهم الجنادل والثرى ، وكأنّكم قد صرتم إلى ما صاروا إليه ، وارتهنكم(٣) ذلك المضجع ، وضمّكم ذلك المستودع .

فكيف بكم إذا تناهت بكم الأمور ، وبُعثرت القبور ، هنالك تبلو كلّ نفس ما أسلفت ،( وَرُدُّوا إِلَى اللهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ ) (٤) .

ودخل أبو الهذيل دار المأمون فقال : إنّ دارك هذه كانت مسكونة قبلك من ملوك درست آثارهم ، وانقطعت أعمارهم ، فالسعيد مَن وعظ بغيره(٥) .

____________

(١) في ( ب ) و ( ج ) : متصرّفة .

(٢) في ( ب ) : بالصخور .

(٣) في ( ب ) : ارتهنتم .

(٤) نهج البلاغة : الخطبة ٢٢٦ ، عنه البحار ٧٣ : ٨٢ح٤٥ .

(٥) مجموعة ورام ٢ :٢٢١ .

٧٢

الباب الخامس : في التخويف والترهيب من كتاب الله جلّ جلاله

قال :( وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاّ طُغْيَاناً كَبِيراً ) (١) .

وقال سبحانه :( بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ ) (٢) .

وقال :( أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ * أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ ) (٣) .

وقال :( وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلاّ تَخْوِيفاً ) (٤) .

وقال :( أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتاً وَهُمْ نَائِمُونَ * أَوَ أَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ * أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللهِ إِلاّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ ) (٥) .

____________

(١) الإسراء : ٦٠ .

(٢) القمر : ٤٦ .

(٣) الملك : ١٦ ـ ١٧ .

(٤) الإسراء : ٥٩ .

(٥) الأعراف : ٩٧ ـ ٩٩ .

٧٣

وقال :( وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ * يَسْمَعُ آَيَاتِ اللهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ) (١) .

وقال :( وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ ) (٢) .

وقال سبحانه :( ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ) (٣) .

وقال سبحانه :( وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا ) (٤) .

وقال :( فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ ) (٥) .

وقال سبحانه :( وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ ) (٦) .

وقال سبحانه :( وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَاماً وَأَجَلٌ مُسَمًّى ) (٧) ، يعني سبحانه : للزمهم(٨) بالعذاب عند كلّ معصية ، وإنّما سبق منه سبحانه أنّه قال :( وَمَا كَانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ) (٩) .

وقال أمير المؤمنينعليه‌السلام :كان في الناس أمانان : رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والاستغفار ، فرفع منهم أمان وهو رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وبقي أمان وهو الاستغفار (١٠) .

____________

(١) الجاثية : ٧ ـ ٨ .

(٢) النحل : ٦١ .

(٣) الروم : ٤١ .

(٤) الكهف : ٥٩ .

(٥) النساء : ١٦٠ .

(٦) هود : ١١٠ .

(٧) طه : ١٢٩ .

(٨) في ( ب ) و ( ج ) : ألزمهم .

(٩) الأنفال : ٣٣ .

(١٠) نهج البلاغة : قصار الحكم ٨٨ ، عنه البحار ٩٣ : ٢٨٤ح٣١ ، روضة الواعظين : ٤٧٨ .

٧٤

الباب السادس(١) : في التخويف من الآثار

قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :مهلاً عباد الله عن معصية الله ، فإنّ الله شديد العقاب (٢) .

وقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :إنّ الله لم يعط ليأخذ ولو أنعم على قوم ما أنعم ، وبقوا ما بقي الليل والنهار ، ما سلبهم تلك النعم وهم له شاكرون إلاّ أن يتحوّلوا من شكر إلى كفر ، ومن طاعة إلى معصية ، وذلك قوله تعالى : ( إنّ الله لا يغيّر ما بقوم حتّى يغيّروا ما بأنفسهم ) (٣) .

وقال أمير المؤمنينعليه‌السلام :إنّ الله يبتلي عباده عند طول السيّئات بنقص الثمرات ، وحبس البركات ، وإغلاق خزائن الخيرات ليتوب تائب ، ويقلع مقلع ، ويتذكّر متذكّر ، وينزجر منزجر ، وقد جعل الله الاستغفار سبباً له وللرزق

____________

(١) أثبتنا عنوان هذا الباب من ( ألف ) ، ولم يرد في سائر النسخ ، وبه يتم خمس وخمسين باباً ، كما وعدّه المصنّف (ره) .

(٢) مجموعة ورام ٢ : ٢٢١ .

(٣) الرعد : ١١ .

٧٥

رحمة للخلق ، فقال سبحانه : ( اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَاراً ) (١) .

فرحم الله مَن قدّم توبته ، وأخّر شهوته ، واستقال عثرته ، فإنّ أمله خادع له ، وأجله مستور عنه ، والشيطان موكل به ، يمنّيه التوبة ليسوّفها ، ويزهي له المعصية ليرتكبها ، حتّى تأتي عليه منيّته وهو أغفل ما يكون عنها .

فيالها حسرة على ذي غفلة أن يكون عمره عليه حسرة ، وأن تؤدّيه أيّامه إلى شقوة ، فنسأل الله تعالى أن يجعلنا وإيّاكم ممّن لا تبطره نعمة ، ولا تقصر به عن طاعة ربّه غاية ، ولا تحلّ(٢) به بعد الموت ندامة ولا كآبة(٣) .

وقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :ولو أنّهم حين تزول عنهم النعم وتحل بهم النقم ، فزعوا إلى الله بوَلَه من نفوسهم ، وصدق من نيّاتهم ، وخالص من طويّاتهم ، لرد عليهم كلّ شارد ، ولأصلح لهم كلّ فاسد (٤) .

وقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّ لله تعالى ملكاً ينزل في كلّ ليلة وينادي :يا أبناء العشرين جدّوا واجتهدوا ، ويا أبناء الثلاثين لا تغرنّكم الحياة الدنيا ، ويا أبناء الأربعين ماذا أعددتم للقاء ربّكم ، ويا أبناء الخمسين أتاكم النذير ، ويا أبناء الستّين زرع آن حصاده ، ويا أبناء السبعين نودي بكم فأجيبوا ، ويا أبناء الثمانين أتتكم الساعة وأنتم غافلون ، ثم يقول :لولا عباد ركّع ، ورجال خشّع ، وصبيان رضّع ، وأنعام رتّع لصبّ عليكم العذاب صبّاً (٥) .

وقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :أكرموا ضعفاءكم فإنّما ترزقون

____________

(١) نوح : ١٠ ـ ١٢ .

(٢) في ( ألف ) : لا تجعل .

(٣) راجع البحار ٩١ : ٣٣٦ ح٢٠ .

(٤) نهج البلاغة : الخطبة ١٧٨ ، عنه البحار ٦ : ٥٧ ح٧ .

(٥) عنه معالم الزلفى : ٥٩ .

٧٦

وتنصرون بضعفائكم (١) .

وقال :يا بني هاشم ، يا بني عبد المطلب ، يا بني عبد مناف ، يا بني قصيّ اشتروا أنفسكم من الله ، واعلموا أنّي أنا النذير ، والموت المغير ، والساعة الموعد .

ولمّا أنزل الله عليه :( وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ ) (٢) صعد على الصفا وجمع عشيرته وقال : يا بني عبد المطلب ، يا بني هاشم ، يا بني عبد مناف ، يا بني قصي ، اشتروا أنفسكم من الله ، فإنّي لا أُغني عنكم من الله شيئاً ، يا عباس عمّ محمد ، يا صفيّة عمّته ، يا فاطمة ابنته ـ ثم نادى كل رجل باسمه وكل امرأة باسمها ـ لا ينجي الناس يوم القيامة إلاّ العمل .

لا يجيء الناس يوم القيامة يحملون الآخرة (٣) وتأتون وتقولون : إنّ محمداً منّا ، وتنادون : يا محمد يا محمد ، فأعرض عنكم هكذا وهكذا ـ وأعرض عن يمينه وشماله ـفو الله ما أوليائي منكم إلاّ المتّقون ، إنّ أكرمكم عند الله أتقاكم .

وروي أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لمّا مرض مرضه الذي مات فيها خرج متعصّباً ، معتمداً على يد أمير المؤمنينعليه‌السلام والفضل بن العباس ، فتبعه الناس فقال :يا أيّها الناس إنّه قد آن منّي خفوق ـ يعني رحيلاً ـ وقد أُمرت بأن أستغفر لأهل البقيع ، ثم جاء حتّى دخل البقيع ، ثم قال :

( السلام عليكم يا أهل التوبة ، السلام عليكم يا أهل الغربة ، ليهنكم ما أصبحتم فيه وقد نجوتم ممّا الناس فيه ، أتت الفتن كقطع الليل المظلم يتبع أوّلها آخره ) ثم استغفر لهم وأطال الاستغفار ، ورجع واجتمع(٤) الناس حوله فحمد الله

____________

(١) مجموعة ورام ٢ : ٢٢١ .

(٢) الشعراء : ٢١٤ .

(٣) في ( ألف ) : تحملون الآخرة .

(٤) في ( ب ) : جمع .

٧٧

وأثنى عليه ، ثم قال : أيّها الناس إنّه قد آن منّي خفوق ، فإنّ جبرئيل كان يأتيني يعارضني بالقرآن في كلّ سنة مرّة ، وإنّه قد عارضني به في هذه السنة مرّتين ، ولا أقول ذلك إلاّ لحضور أجلي ، فمَن كان له عليّ دين فليذكر أعطه ، ومَن كان له عندي عدة فليذكرها [ أعطه ] (١) .

أيّها الناس لا يتمنّ متمنٍّ ولا يدّعي مدّع أنّه ينجو بلا عمل ، أو يتقرّب إلى رضا الله بلا عمل ، فإنّه والله لا ينجي إلاّ العمل ورحمة الله ، ولو عصيت لهويت ، ثم رفع طرفه إلى السماء وقال : اللّهمّ هل بلّغت ؟!(٢)

وقالعليه‌السلام :إيّاكم ومحقرات الذنوب فإنّ لها من الله طالباً ، وإنّها لتجتمع على المرء حتّى تهلكه .

وقالعليه‌السلام :لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً على أنفسكم ، ولخرجتم على الصعدات تبكون على أعمالكم ، ولو تعلم البهائم من الموت ما تعلمون ما أكلتم شيئاً سميناً .

وقال عليعليه‌السلام : أما والله لو تعلمون ما أعلم لبكيتم على أنفسكم ، ولخرجتم على الصعدات تندمون على أعمالكم ، ولتركتم أموالكم لا حارس لها ، ولا خالف عليها ، ولكنّكم نسيتم ما ذكّرتم ، وأمنتم ما حذّرتم ، فتاه(٣) عنكم رأيكم ، وتشتّت عليكم أمركم .

أما والله لوددت أنّ الله ألحقني بمَن هو خير لي منكم ، قوم والله ميامين الرأي ، مراجيح الحكمة ، مقاويل الصدق ، متاريك للبغي ، مضوا قدماً على الطريقة ، وأوجفوا على المحجّة ، فظفروا بالعقبى الدائمة والكرامة الباقية .

____________

(١) أثبتناه من ( ب ) و ( ج ) .

(٢) إرشاد المفيد : ٩٧ ، عنه البحار ٢٢ : ٤٦٧ ضمن حديث ١٩ ، إعلام الورى : ١٤٠ باختلاف .

(٣) في ( ب ) : ففاتكم .

٧٨

أما والله ليظهرنّ (١) عليكم غلام ثقيف ، الذيّال الميّال ، يأخذ خضرتكم ، ويذيب شحمتكم ، إيه أبا وذحة إيه أبا وذحة . يعني بذلك الحجّاج بن يوسف [ لهمّة تهتمّ به ](٢) (٣) .

وقالعليه‌السلام :إنّ الزاهدين في الدنيا تبكي قلوبهم وإن ضحكوا ، ويشتدّ حزنهم وإن فرحوا ، ويكثر مقتهم أنفسهم وإن اغتبطوا بما رزقوا (٤) .

وقالعليه‌السلام في خطبة : أمّا بعد ، فإنّ الدنيا قد أدبرت وأذنت بوداع ، وإنّ الآخرة قد أقبلت وأشرفت باطلاع ، ألا وإنّ اليوم المضمار وغداً السبقة ، والسبقة الجنّة والغاية النار .

أفلا تائب من خطيئته قبل منيّته ، ألا عامل لنفسه قبل يوم بؤسه وحسرته ، ألا وإنّكم في أيّام أمل(٥) من ورائه أجل ، فمَن عمل في أيّام أمله(٦) قبل حضور أجله نفعه عمله ولم يضرّه أجله ، ومَن قصر في أيّام أمله(٧) خسر عمله وضرّه(٨) أجله .

ألا فاعملوا في الرغبة كما تعملون في الرهبة ، ألا وإنّي لم أر كالجنّة نام طالبها ، ولا كالنار نام هاربها ، وإنّه مَن لم ينفعه الحق يضرّه الباطل ، ومَن لم يستقم به الهدى يرده الضلال ، ألا وإنّكم قد أمرتم بالظعن ، ودللتم على الزاد ، وإنّ أخوف ما أتخوّف عليكم اتباع الهوى وطول الأمل ، وتزوّدوا من الدنيا في الدنيا ما تنجون به

____________

(١) في ( ج ) : ليظهر .

(٢) أثبتناه من ( ب ) و ( ج ) .

(٣) نهج البلاغة : الخطبة ١١٦ .

(٤) نهج البلاغة : الخطبة ١١٣ .

(٥) في ( ج ) : عمل .

(٦) في ( ج ) : عمله .

(٧) في ( ب ) : أجله .

(٨) في ( ب ) : قصر .

٧٩

أنفسكم (١) .

يقول العبد الفقير إلى رحمة الله ورضوانه ، الحسن بن محمد الديلمي تغمّده الله برأفته ورحمته وغفرانه : إنّ هذا الكلام منهعليه‌السلام لعظيم الموعظة ، وجليل الفائدة ، وبليغ المقالة ، لو كان كلام يأخذ بالازدجار والموعظة لكان هذا ، فكفى به قاطعاً لعلائق الآمال ، وقادحاً زناد الاتعاظ والايقاض .

يأخذ والله بأعناق المتفكّرين فيه المتبصّرين في الزهد ، ويضطرّهم إلى عمل الآخرة ، فاعتبروا وتفكّروا وتبصّروا إلى معانيه يا أُولي الأبصار .

وقالعليه‌السلام في خطبة أُخرى تجري هذا المجرى : انظروا إلى الدنيا نظر الزاهدين فيها الصارفين عنها ، فإنّها عن قليل والله تزيل الثاوي الساكن ، وتفجع المترف الآمن ، لا يرجع ما تولّى منها فأدبر ، ولا يدرى ما هو آت منها فينتظر ، سرورها مشوب بالحزن ، وجلد الرجال منها إلى الضعف والوهن .

فلا تغرّنّكم كثرة ما يعجبكم فيها لقلّة ما يصحبكم منها ، فرحم الله امرءً تفكّر فاعتبر فأبصر ، وكأنّما هو كائن من الدنيا عن قليل لم يكن ، وما هو كائن من الآخرة عمّا قليل لم يزل ، وكلّ معدود منقص ، وكلّ متوقّع آت ، وكلّ آت قريب دان .

والعالم مَن عرف قدره ، وكفى بالمرء جهلاً أن لا يعرف قدره ، وإنّ أبغض العباد إلى الله لعبد وكّله الله لنفسه ، وهو جائر عن قصد السبيل ، سائر بغير دليل ، إن دُعي إلى حرث الدنيا عمل وإلى حرث الآخرة كسل ، كأنّما عمل له واجب عليه ، وما ونى عنه ساقط عنه وذلك زمان لا يسلم فيه إلاّ كلّ مؤمن نؤمة ، إن شهد لم يُعرف ، وإن غاب لم يُفتقد ، أُولئك مصابيح الهدى ، وأعلام الورى ، ليسوا بالمساييح ولا المذاييع البذر ، أُولئك يفتح الله عليهم باب الرحمة ، ويكشف عنهم ضرّاء(٢) نقمته .

____________

(١) نهج البلاغة : الخطبة ٢٨ ، ونحوه البحار ٧٧ : ٣٣٣ ح٢١ .

(٢) في ( ج ) : ضرّ .

٨٠