دراسة عامة في الامامة

دراسة عامة في الامامة0%

دراسة عامة في الامامة مؤلف:
الناشر: مؤسّسة أنصاريان
تصنيف: الإمامة
الصفحات: 282

دراسة عامة في الامامة

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة الشيخ إبراهيم الأميني
الناشر: مؤسّسة أنصاريان
تصنيف: الصفحات: 282
المشاهدات: 71544
تحميل: 3859

توضيحات:

دراسة عامة في الامامة
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 282 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 71544 / تحميل: 3859
الحجم الحجم الحجم
دراسة عامة في الامامة

دراسة عامة في الامامة

مؤلف:
الناشر: مؤسّسة أنصاريان
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

السقيفة لإحباط خطط الأنصار في الاستيلاء على الخلافة.

وقال أبو بكر فيما قاله مدافعاً عن حقّ المهاجرين في الخلافة:

(فهم أوّل مَن عَبد الله في الأرض، وأوّل مَن آمن بالله ورسوله، وهم أولياؤه وعشيرته وأحقّ الناس بالأمر مِن بعده، لا ينازعهم فيه إلاّ ظالم).

وأردف مسجّلاً أوّل تفوّق في الاستدلال:

(فنحن الأُمراء وأنتم الوزراء لا نفتات دونكم بمشورة ولا تنقضي دونكم الأمور) (1) .

وقال عمر ردّاً على الحباب بن منذر الأنصاري:

(إنّه والله لا ترضى العرب أنْ تؤمّركم ونبيّها مِن غيركم، ولكنّ العرب لا ينبغي أنْ تولي هذا الأمر إلاّ مَن كانت النبوّة فيهم وأولو الأمر منهم، لنا بذلك على مَن خالفنا من العرب الحجّة الظاهرة والسلطان المبين. مَن يُنازعنا سلطان محمّد (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) وميراثه ونحن أولياؤه وعشيرته؟) (2) .

وقال بشير بن سعد الأنصاري مستسلماً:

(إنّ محمّداً رسول الله رجل من قريش وقومه أحقّ بميراثه وتولّي سلطانه، وأيم الله لا يراني الله أُنازعهم هذا الأمر أبداً) (3) .

وهنا تدخّل أبو بكر ليحسم الصراع لصالحه، فقال بعد أنْ دعاهم إلى الجماعة ونهاهم عن الفرقة:

(إنّي ناصح لكم في أحد هذين الرجلين: أبي عبيدة بن الجرّاح أو عمر

____________________

(1) الإمامة والسياسة: ج1 ص7.

(2) المصدر السابق.

(3) المصدر السابق: ص8.

٦١

فبايعوا مَن شئتم منهما).

فقال عمر:

معاذ الله أنْ يكون ذلك وأنت بين أظهرنا، أنت أحقّنا بهذا الأمر، وأقدمنا صحبة لرسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) وأفضل منّا في المال، وأنت أفضل المهاجرين وثاني اثنين، وخليفته على الصلاة، والصلاة أفضل أركان دين الإسلام. فَمَنْ ذا ينبغي أنْ يتقدّمك، ويتولّى هذا الأمر عليك؟ ابْسِط يَدَكَ أُبايعك (1) .

وهنا اندفع بشير بن سعد الأنصاري إلى بيعته، وانهارتْ بذلك جبهة الأنصار، وغادر أبو بكر السقيفةَ خليفةً غير منازع.

وبالرغم من أن انتصار جبهة المهاجرين جاء على أساس احتجاج قبلي صرف، فإنّ موقفهم القويّ هذا سجّل على نفسه نقطة ضعف قاتلة في مقابل علي (عليه السلام)، الذي يعدّ أقرب الناس إلى رسول الله في كلّ شيء حتّى القرابة فهو ابن عمّه وأخوه وصهره.

موقف علي :

* وسعى الإمام علي إلى الاحتجاج عليهم بذات المنطق الذي انتصروا فيه على الأنصار، فقال عشيّة سماعه أنباء السقيفة مخاطباً المهاجرين:

(الله الله يا معشر المهاجرين لا تُخرجوا سلطان محمد (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) في العرب عن داره وقعر بيته إلى دوركم وقعور بيوتكم ولا تدفعوا أهله عن مقامه في الناس وحقّه، فوالله يا معشر المهاجرين لنحن أحقّ الناس به؛ لأنّا أهل البيت ونحن أحقّ بهذا الأمر منكم، ما كان فينا القاري لكتاب الله، الفقيه في دين الله، العالِم بسنن رسول الله، المضطلع بأمر الرعيّة، المدافع عنهم الأمور السيِّئة، القاسم بينهم

____________________

(1) الإمامة والسياسة: ج1 ص9.

٦٢

بالسويّة. والله إنّه لفينا فلا تتّبعوا الهوى فتضلّوا عن سبيل الله فتزدادوا من الحق بُعْدَاً) (1) .

وفي هذا إثارة قويّة لجانب أُغفل متعمّداً في مسألة زعامة المسلمين وقيادتهم. وقد أكّد الإمام ذلك مرّة أُخرى عندما اقْتِيد إلى أبي بكر لغرض البيعة.

قال(عليه السلام):

(أنا أولى برسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) حيّاً وميتاً، وأنا وصيّه ووزيره ومستودَع سرّه وعلمه، وأنا الصدّيق الأكبر والفاروق الأعظم، أوّل مَن آمن به وصدّقه، وأحسنكم بلاءً في جهاد المشركين، وأعرفكم بالكتاب والسُنّة، وأفقهكم في الدين، وأعلمكم بعواقب الأُمور، وأذربكم لساناً، وأثبتكم جناناً، فعلام تنازعونا هذا الأمر؟) (2) .

ويقول بشأن الخلافة:

(إنّ أحقّ الناس بهذا الأمر أقواهم عليه وأعلمهم بأمر الله) (3) .

ويقول الإمام الحسن سبط رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم):

(إنّ الأئمّة منّا، وإنّ الخلافة لا تصلح إلاّ فينا، وإن الله جعلنا أصلها في كتابه وسُنّة نبيّه، وإنّ العلم فينا، ونحن أهله، وهو عندنا مجموع كلّه بحذافيره، وإنّه لا يحدث شيء إلى يوم القيامة حتّى إرش الخدش إلاّ وهو عندنا مكتوب بإملاء رسول الله صلَّى الله عليه وآله وبخطّ علي) (4) .

وتلا عليّ الآية الكريمة: ( إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ

____________________

(1) الإمامة والسياسة: ج1 ص12.

(2) الاحتجاج للطبرسي: ج1 ص95.

(3) نهج البلاغة: ج2 ص104.

(4) الاحتجاج: ج2 ص6.

٦٣

عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ) (1) .

وقال (عليه السلام) في إحدى المناسبات:

(والله ما كانت لي في الخلافة رغبة ولا في الولاية إربة، ولكنّكم دعوتموني إليها وحملتموني عليها، فلمّا أفضتْ إليّ نظرتُ إلى كتاب الله وما وضع لنا وأمرنا بالحكم به فاتَّبَعْتُهُ، وما استنّ النبي (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) فاقْتَدَيْتُهُ) (2) .

وقال في مناسبة أُخرى:

(اللّهم إنّك تعلم أنّه لم يكن الذي كان منّا منافسةً في سلطان، ولا التماس شيء من فضول الحطام، ولكن لنردّ المعالم من دينك، ونُظهِر الإصلاح في بلادك فيأمَنُ المظلومون من عبادك، وتُقام المعطّلة من حدودك) (3) .

وقال في رسالة إلى معاوية:

(.. فإنّ أولى الناس بأمر هذه الأُمّة قديماً وحديثاً أقربها من الرسول وأعلمها بالكتاب، وأفقهها في الدين، أوّلها إسلاماً، وأفضلها جهاداً، وأشدّها بما تحمله الأئمّة من أمر الأُمّة اضطلاعاً، فاتّقوا الله الذي إليه تُرجعون، ولا تَلْبِسُوا الحقّ بالباطل وتكتموا الحقّ وأنتم تعلمون) (4) .

الاعتراف:

أجل، وحده عليّ بن أبي طالب(عليه السلام) وأبناؤه بلغوا المرتبة الرفيعة من الكمال والتقوى والعلم؛ ولذا عَدّوا أنفسَهم دون غيرهم أهلاً للخلافة

____________________

(1) الاحتجاج: ج1 ص253.

(2) نهج البلاغة: الخطبة 206.

(3) المصدر السابق.

(4) شرح ابن أبي الحديد: ج3 ص210.

٦٤

والإمامة، فلم يكن ليعترّض أحدٌ يومذاك أو يجد منقصةً أو مثلبة في شخص علي. لقد كان (عليه السلام) يجسّد المثال الإسلامي بكلّ أبعاده ورموزه.

* أَلَم يقل أبو عبيدة لعليّ (عليه السلام) وهو يحثّه على بيعة الخليفة الأوّل:

فسلِّم لأبي بكر هذا الأمر، فإنّك إنْ تَعِشْ وَيَطُلْ بك بقاء فأنت لهذا الأمر خليق وبه حقيق في فضلك ودينك وعلمك وفهمك وسابقتك ونسبك وصهرك (1) .

* أَوَلَم يقل عمر لعليّ (عليه السلام) في مرضه:

(وما يمنعني منك يا علي إلاّ حرصك عليها وإنّك أحرى القوم إنْ وليتكها أنْ تُقيم على الحقّ المبين والصراط المستقيم - إلى أن قال - يا علي لعلّ هؤلاء يعرفون حقّك وشرفك وقرابتك من رسول الله وما أتاك الله من العلم والفقه والدين فيستخلفوك فإنْ ولّيت هذا الأمر فاتّق الله يا علي فيه ولا تحمّل أحداً من بني هاشم على رقاب الناس) (2) .

* وقد قال زفر بن قيس لقومه:

(إنّ الناس بايعوا عليّاً (عليه السلام) بالمدينة، غير محاباة ببيتعهم لعلمه بكتاب الله ويرى الحقّ فيه) (3) .

* وفي رسالة لمعاوية إلى علي (عليه السلام) جاء فيها:

(وأمّا فضلك في الإسلام وقرابتك من النبي (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) فلعمري ما أدفعه ولا أنكره) (4) .

ولقد كان عمر بن الخطّاب يدرك أهليّة الإمام علي وأحقّيّته بالخلافة، يكشف عن ذلك ما ورد في كتب التاريخ بعد حادثة اغتياله والتفكير في مصير الخلافة، فقد أعلن على الملأ إثر تعيينه للشورى قائلاً لقد اخترتُ لكم أحد

____________________

(1) الإمامة والسياسة: ج1 ص12.

(2) الإمامة والسياسة: ج1 ص25.

(3) الإمامة والسياسة: ج1 ص90.

(4) المصدر السابق: ص102.

٦٥

هؤلاء الستّة؛ لأنّ رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) رحل عن هذه الدنيا وهو راضٍ عنهم!.

* ثمّ استدعاهم وراح يعدّد مواصفاتهم، فالْتَفَتَ إلى الزبير وقال:

أمّا أنت يا زبير: فوعق لقس، مؤمن الرضا كافر الغضب، يوماً إنسان ويوماً شيطان، لو أفضت إليك الخلافة فلعمري مَن يكون للناس يوم تكون شيطاناً.

والْتَفَتَ إلى طلحة وقال: لقد مات رسول الله ساخطاً عليك؛ للكلمة التي قُلْتَها يوم نزلتْ آية الحجاب.

وقال لسعد بن أبي وقاص: إنّما أنت صاحب قنص وقوس، وما لزهرة والخلافة.

وقال لعبد الرحمن: ليس هذا الأمر لِمَنْ فيه ضعف كضعفك وما لزهرة وهذا الأمر.

واتّجه إلى عثمان قائلاً: كأنّي بك وقد تقلّدتَ هذا الأمر وحملتَ بني أُميّة وبني أبي معيط على رقاب الناس وآثرتهم بالفيء.

ثمّ التفتَ إلى علي وقال: أمّا أنت فوالله لو وليتَها لحملتهم على الحقّ الواضح والمحجّة البيضاء.

* وطالما سُمِعَ عمر يقول: (عليٌّ أقضانا) (1) .

* وقال علي (عليه السلام) لأبي بكر محاجِجَاً: (أخبرني عن الذي يستحقّ هذا الأمر بِمَ يستحقّه؟

فقال أبو بكر: بالنصيحة، والوفاء، ودفع المداهنة، وحسن السيرة، وإظهار العدل، والعلم بالكتاب والسُنّة وفصل الخطاب، مع الزهد في الدنيا وقلّة

____________________

(1) طبقات ابن سعد: ج3 ص339 / مناقب الخوارزمي: ص47.

٦٦

الرغبة فيها، وانتصاف المظلوم من الظالم للقريب والبعيد. ثمّ سكت.

فقال علي: والسابقة والقرابة؟

فقال أبو بكر: والسابقة والقرابة.

فقال علي: أنشدك يا أبا بكر في نفسك تجد هذه الخصال أو فيّ؟

فقال أبو بكر: بل فيك يا أبا الحسن) (1) .

* وقال عمر:

(عجزتْ النساء أنْ تَلِدْنَ مثل علي بن أبي طالب. لو لا علي لهلك عمر) (2) .

اعتراف الخلفاء بعدم عصمتهم:

* اعترف أبو بكر وعمر أكثر من مرّة أنّهما ليسا بِمَأْمَنٍ عن الخطأ وحصن عن الخطيئة:

يقول أبو بكر في إحدى خطبه:

أيُّها الناس إنّي لم أجعل لهذا المكان أنْ أكون خيركم ولوددتُ أنّ بعضكم كفانيه ولئنْ أخذتموني بما كان الله يقيم به رسوله من الوحي ما كان ذلك عندي، وما أنا إلاّ كأحدكم فإذا رأيتموني قد استقمتُ فاتّبعوني، وإنْ زِغْتُ فقوّموني واعلموا أنّ لي شيطاناً يعتريني أحياناً فإذا رأيتموني غضبتُ فاجتنبوني) (3) .

وقال في مناسبة أُخرى:

(أيُّها الناس قد وُلِّيْتُ عليكم ولستُ بخيركم، فإنْ أحسنتُ فأعينوني، وإنْ أسأتُ فقوِّمُوْنِي) (4) .

وقال معاوية لأبي هريرة:

(لستُ أزعم أنّي أَوْلَى بهذا الأمر من علي) (5) .

____________________

(1) الاحتجاج: ج1 ص159.

(2) مناقب الخوارزمي: ص39.

(3) الإمامة والسياسة: ج1 ص16.

(4) تاريخ الطبري: ج3 ص224.

(5) الإمامة والسياسة: ج1 ص108.

٦٧

أجل، لقد كان هناك اتجاهٌ عامٌّ حول خلافة رسول الله في الحكم فقط، أي في الجانب السياسي لا غير؛ ولهذا لم يثيروا أبداً شروطاً ذاتيّة في شخص الخليفة، باستثناء بعض المواصفات التي لا تنطوي على دلالة عميقة، مثل: الهجرة والنصرة والسن ، مع أنّ موضوعاً كهذا ينبغي أنْ يكون حسّاساً للغاية. فالذي يريد أنْ ينهض بمسؤوليّات النبي (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) بعد رحيله ينبغي أنْ يكون امتداداً له في أبعاده الشخصيّة وقابليّاته الذاتيّة.

* وهذه كتب السيرة التي تحدّثنا عن بعض الزعامات، الذين عرضوا على سيّدنا محمّد (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) حمايته والدفاع عن دعوته، شريطة أنْ يورثهم سلطانه، وكان النبي (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) يجيبهم أنّ ذلك ليس من صلاحيّته:

عن الزهري قال:

أتى رسول الله(صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) بني عامر، فدعاهم إلى الله وعرض عليهم نفسه.

فقال له رجل منهم: أرأيتَ إنْ نحن تابعناك فأظهرك الله على مَن خالفك أيكون لنا الأمر بعدك؟

قال النبي(صلَّى الله عليه وآله وسلَّم): الأمر لله يضعه حيث يشاء.

قال الرجل: أفنهدف نحورنا للعرب دونك فإذا ظهرتَ كان الأمر لغيرنا (1) ؟

وهكذا نجد كلمة الأمر متداولة منذ فجر الدعوة وحتّى حوادث السقيفة وبعدها.

____________________

(1) تاريخ الطبري: ج2 ص350 / سيرة ابن هشام: ج2 ص66.

٦٨

أُولو الأمر في القرآن

اكتسبت مسألة أُولي الأمر أو صاحب الأمر أهمِّيَّتها الفائقة لدى الصحابة، ربّما انطلاقاً من هذه الآية الكريمة في قوله تعالى:

( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً ) (1) .

* وتدور محاور الطاعة في هذه الآية حول ثلاثة:

* الله عزّ وجلّ:

وطاعته حكم عقلي ووجداني، فالعقل يؤيّد وجوب الاستجابة لله عزّ وجل دون قيد أو شرط؛ لأنّه خالق الوجود ومالك الموجودات، وكلّ شيء في قبضته، وأوامره نافذة.

ولأنّ أحكامه - سبحانه - من أوامر ونواهٍ لا تصل البشر مباشرةً، بل بواسطة الوحي والأنبياء الذين يبلِّغون رسالات الله، وهم لا يشرّعون مِن أنفسهم بل يبلِّغون الشريعة كما أنزلها الله عزّ وجل، فالنبي لا يبدع بل يبلِّغ ( وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى ) (2) .

* الرسول:

وطاعته واجبة؛ لأنّ الله قَرَنَ طاعته بطاعة النبي الذي بعثه، ومن

____________________

(1) النساء: الآية 59.

(2) النجم: الآية 3 - 5.

٦٩

هنا يستشفّ أنّ رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) له قراراته وأحكامه الخاصّة به، فإنّ له - إضافةً إلى مهمّته - في تبليغ الرسالة مهمّة أُخرى تتعلّق في تطبيق شرع الله في أرضه وبين عباده، وهو مسؤول عن إقرار النظام وإرساء قواعد العدل وقيادة المجتمع في طريق الخير والحقّ وإعلاء كلمة الإسلام، وهي مهمّة إلهيّة لا يمكن القيام بها إلاّ من خلال تشكيل جهاز حكومي متكامل يستوعب كلّ شؤون الحياة الإنسانيّة.

ومن هنا فإنّ الرسول (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) يتحرّك في هذا الإطار بعنوان حاكم وقائد ورئيس، حيث يتمتّع - بناءً على ذلك - بأحكام خاصّة تُدْعى أحكام الرئاسة ، فهو يتّخذ القرارات المناسبة التي تنسجم ومصالح المسلمين ومنافع المجتمع الإسلامي؛ ولهذا كانت طاعته واجبة. قال تعالى:

- ( وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ) (1) .

- ( وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاَغُ الْمُبِينُ ) (2) .

- ( وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ ) (3) .

- ( مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ ) (4) .

- ( وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ ) (5) .

- ( النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ ) (6) .

____________________

(1) آل عمران: الآية 132.

(2) التغابن: الآية 12.

(3) المجادلة: الآية 13.

(4) النساء: الآية 80.

(5) النساء: الآية 64.

(6) الأحزاب: الآية 6.

٧٠

وكان بعضهم يعترض:

يمثّل سيّدنا محمّد (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) قمّة الهرم في التشكيل الحكومي الإسلامي، حيث ينقاد له المسلمون طائعين، على أنّ التأمّل في الحوادث والآيات الكريمة يكشف لنا أنّ بعض المسلمين يشكّكون أو يعترضون حول امتياز النبي في وجوب طاعته أوّلاً وأخيراً. لنتأمل في هذه الآية الكريمة من قوله تعالى:

( وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لاَ يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا ) (1) .

معركة أُحد:

لكي نستكشف معاني الآية الكريمة من الضروري أنْ نعرف أسباب نزولها وطبيعة الحادثة التي رافقتْها أو سبقتْها.

أُحيط النبي علماً بتحرّكات قريش وزحفها باتّجاه المدينة، فاجتمع سيّدنا محمّد (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) بالمسلمين وأطلعهم على آخر الأنباء، وكان رأي رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) التحصّن بالمدينة.

وتظاهر المنافق عبد الله بن أبي سلول بتأييد النبي، ولكنّ الشباب المتحمّسين - خاصّة أولئك الذين لم يشاركوا في معركة بدر - وجدوا هذه المناسبة فرصة للاندفاع ورفض فكرة التحصّن في المدينة، وأيّدهم في ذلك

____________________

(1) آل عمران: الآية 154.

٧١

سعد بن معاذ ، وسيطر شعار: (النصر أو الشهادة إحدى الحسنَيَيْن) على أجواء الجدل، وكان على النبي (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) أنْ يحسم الموقف، فدخل إلى منزله وخرج وهو يسوّي لأْمَةَ القتال.

وهنا شعر المتحمّسون أنّهم قد فرضوا رأيهم على النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) فشعروا بالندم قائلين:

استكرهنا رسولُ الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، ثمّ اعتذروا وقالوا: اصنع ما شئتَ با نبيّ الله.

فقال النبي (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم): (لا ينبغي لنبي أنْ يلبس لأْمَتَهُ فيضعها حتّى يقاتل). وأصدر أمرَه بالتحرّك لمواجهة العدوان.

عبّأ النبيُّ قوّاته للاشتباك، وأمر خمسين من أَمْهَر الرُماة بالتمركز فوق سفوح جبل (عينين) لحماية ظهر الجيش الإسلامي من حركة التفاف يقوم بها العدوّ. وقال لابن جبير قائد الرماة:

- (انضحوا الخيل بالنبل لا يأتونا مِن خلفنا).

والتفتَ إلى جموع الرماة مؤكّداً:

- (احموا لنا ظهورنا. لا يأتونا من خلفنا. وارشقوهم بالنبل، فإنّ الخيل لا تقدم على النبل، إنّا لا نزال غالبين ما لبثتم مكانكم.. اللّهم إني أُشهدك عليهم).

وللمرّة الأخيرة أوصاهم النبي (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم):

- (إنْ رأيتمونا تتخطّفنا الطير فلا تبرحوا مكانكم حتّى أُرسِل إليكم، وإنْ رأيتمونا ظهرنا على القوم وأوطأناهم فلا تبرحوا مكانكم حتّى أُرسِل إليكم، وإنْ رأيتمونا غَنِمْنَا فلا تشركونا، وإنْ رأيتمونا نُقْتَل فلا تغيثونا ولا تدافعوا عنّا).

وعندما اشتعلتْ المعركة كان النصر للمسلمين أوّلاً حيث ولّى المشركون

٧٢

الأدبار، وفي تلك اللحظات الحسّاسة ترك الرماة مواقعهم رغم تحذير القائد الذي كان مرابطاً مع اثني عشر ملتزمين بأوامر النبي(صلَّى الله عليه وآله وسلَّم).

وهنا انتهز سلاح الفرسان بقيادة خالد بن الوليد الفرصة وشنّ هجوماً كاسحاً في حركة التفاف سريعة، وفَاجَأَ بذلك مؤخّرة الجيش الإسلامي، فحدثتْ الفوضى في صفوف القوّات الإسلاميّة، وتغيّر الموقف لصالح المشركين الذين راحوا يطاردون المسلمين.

ولولا صمود المخلصين وفي طليعتهم الإمام علي بن أبي طالب، لبقي الرسول (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) وحيداً، ولتعرّضتْ حياتُه للخطر.

وفي تلك اللحظات أدرك المسلمون عواقب مخالفتهم لرسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم).

وبرزتْ تساؤلات حول قيادة الرسول (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) المطلقة، وهل أنّ للمسلمين في ذلك رأياً، فجاء الوحي الإلهي لِيُجِيْب: ( قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ ) .

وقال فريق من المسلمين: ( لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا ) .

فجاءتْ الجواب الإلهي: ( قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ ) .

ثمّ جاء تفسير الهزيمة في أُحد في قوله سبحانه: ( وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ ) (1) .

____________________

(1) آل عمران: الآية 152.

٧٣

وأدرك المسلمون موقع الرسول في القيادة من خلال قوله تعالى: ( ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ ) (1) . مع التأكيد على أهمِّيَّة الشورى وبقاء القرار النهائي بيد النبي (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم): ( وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ) (2) .

ومن هنا نفهم سيرة النبي (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) فهو قائد، إضافةً إلى دوره في تبليغ الشريعة والوحي، ويبقى مساره في أوامره وقراراته ضمن دائرة القانون الإلهي والشريعة السماويّة.

____________________

(1) الجاثية: الآية 18.

(2) آل عمران: الآية 159.

٧٤

مصاديق أُولي الأمر

* ثمّ يأتي التسلسل الثالث لأولي الأمر بعد الله عزّ وجلّ والرسول(صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) لتكون طاعته واجبة:

فأولي الأمر وطبقاً للآية التي تصدّرت البحث يقومون مقام الرسول (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) في تسلّم زِمام الأُمور وإدارة شؤون المسلمين، فهم أُمناء على الشريعة ومسؤولون عن تنفيذها وتطبيقها في الحياة، وهم امتداد لرسول الله، وفي سيرتهم امتداد لسيرته.

ولعلّ تكرار فعل ( أَطِيعُوا ) في الآية جاءت اعتباراً من ذلك، فقد سبق ( أَطِيعُوا ) لفظ الجلالة ( الله ) ثمّ ( الرسول ) ، فيما اكتفت بالنسبة لأُولى الأمر بعد الرسول بـ (واو) العطف فقط. وفي كلّ الأحوال فإنّ طاعة أولي الأمر واجبة كما هي للرسول (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم).

* ومن أجل تحديد أولي الأمر نسوق هذه الاحتمالات:

* الاحتمال الأوّل:

إنّ المقصود من أُولي الأمر هم مَن في رأس الحكومة الإسلاميّة ومَن بيدهم مقاليد الأُمور.

٧٥

فكل مَن أصبح في قمّة الهرم الرئاسي كان وليّاً للأمر، وبالتالي تجب طاعته، فلا يحقّ لأحد عصيانه أو التمرّد عليه.

ومن هنا وانطلاقاً من هذه الرؤية، يكون الحاكم هو وليّ الأمر بالنتيجة، حتّى لو تربّع على الحكم فوق جماجم الضحايا، بل حتّى لو كان منافقاً يستميت من أجل الاحتفاظ بالسلطة ويرتكب مئات المذابح.

وبالطبع، فإنّ الآية الكريمة لا يمكن أنْ تتضمّن هذه النظريّة بأيّة صورة؛ لأنّ روح الآية الكريمة يأبى هذا الظلم.

وقد يُقال:

إنّ الطاعة مطلوبة في حدود معيَّنة، حتّى لو أصدر الحاكم قراراً يخالف النصوص الشرعيّة والأحكام الإلهيّة مخالفةً صريحةً وكان حكمه بالنتيجة نوعاً من محاربة القرآن.

وهذا لا يسلّم به عاقل، فكيف يرتضي العقل إنساناً منحرفاً - عن الدين وروحه، وعن الشريعة وأحكامها - أنْ يحكم باسم الدين، ثمّ تكون طاعته واجبة؟

كيف يمكن للعقل أنْ يوفّق بين المتناقضات؟ فَمِنْ جهة:

- يرى رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) وقد بُعث بشيراً ونذيراً ورحمةً للعالمين وقد جاء من ربّه بشريعة فيها سعادة الإنسان في الدارَين، ثمّ يَخْلِفُهُ رجالٌ يصبّون العذاب على الأُمّة، ويتعسّفون في حكمها وقيادتها، من قبيل خلفاء بني أُميّة وحكّام بني العباس، ثمّ يوجب الدين طاعتهم!! إنّ العقل يرفض ذلك مستنكِراً.

- هذا، إضافةً إلى ما ستتضمّنه الآية من المتناقضات، فإذا كانت طاعة الحاكم الفاسق واجبةً، فكيف نوفّق بينها وبين طاعة الله والانصياع لرسوله، ويا تُرى مَن سنتّبع في الطاعة إذا تناقضتْ أوامر الله مع أوامر الحاكم؟!

٧٦

ولعلّ هناك مَن يقول:

إنّ الطاعة واجبة ما دام بيده زمام الأُمور يتحرّك ضمن إطار الشرعيّة، فهو في هذه الحالة واجب الطاعة، أمّا إذا حدث تصادم بين ما يأمر به الحاكم وما يرتضيه الشرع فعندها تنتفي طاعته وتتقدّم عليها طاعة الله ورسوله، وحقّ للأمّة أنْ تخالفه.

وهذا الرأي لا يصمد أمام النقاش أيضاً، للأسباب التالية:

أوّلاّ:

إنّ هذا لا يتحقّق إلاّ إذا كانت الأُمّة بأسرها على وعي كامل بالشريعة وأحكام الدين، أي أنْ يكون أفرادها جميعاً فقهاء لكي يدركوا طبيعة قرارات الحاكم وسيرته وإجراءاته.

ثانياً:

تقديم طاعة الله على طاعة الحاكم في حالة التصادم بين الأحكام، فهذا يعني بالحقيقة طاعة لله فقط، وهنا لا وجود لولاية الأمر ولولي الأُمور، وبالتالي إلغاء طاعة وليّ الأمر التي سبق أنْ أوجبتْها الآية الكريمة.

ثالثاً:

سيادة الفوضى وارتباك النظام؛ لأنّ كلّ فريق في الأُمّة قد يُفسّر أمراً ما بأنّه مخالفة للدين فيسوِّغ لنفسه الثورة والتمرّد، وبالتالي ارتباك النظام.

وبالطبع، فإنّ أُمّة تسودها الفوضى لا يمكنها أنْ تنتج أو تتقدّم في ركب الحضارة، وستكون المصالح الشخصيّة الباعث الأساس في الثورات بذريعة مخالفة الحاكم للدين، وهذا ما يؤدّي إلى دمار البلاد.

* الاحتمال الثاني:

لعلّ قائل يقول: إنّ تفسير الآية يمكن أنْ يُشير إلى أنّ وليّ الأمر رجل ينتخبه الشعب وتختاره الأُمّة، وعندها يكون وليّاً للأُمور فيتحقّق عند ذاك مفهوم الآية.

وهذا الاحتمال مردود أيضاً، وتفسير الآية على هذا الأساس تعسّف واضح؛

٧٧

لأنّ خطاب الآية لا يتضمّن هذا المعنى أبداً، لم تقل الآية إنّ مَن ترتضون للحكم والقيادة سيكون وليّاً للأمر، وبالتالي ستكون طاعته واجبة.

ومعطيات الآية تشير إلى وجوب طاعة أُولي الأمر، أمّا مَن همّ فلم تتحدّث عنه الآية، إضافة إلى ما سَيَرِد من إشكالات أُشير لها في الاحتمالَيْن معاً.

* الاحتمال الثالث:

ويبقى الاحتمال الثالث وهو أنّ أُولي الأمر أُناس اختارهم الله لإمامة المسلمين، وبالتالي أصبحوا مصداقاً لمعنى الآية في وجوب طاعتهم، ومِن أجل توضيح ذلك نقول:

إنّ الأحكام والقوانين الإلهيّة لا تنحصر في الطقوس العباديّة، بل إنّها تستوعب جميع الشؤون الإنسانيّة؛ ذلك أنّ الأمّة يلزمها ومن أجل استمرارها وديمومتها قانون سياسي ونظام اقتصادي وجهاز قضائي وهي مسألة من بديهيات الحياة البشريّة. فالشريعة الإلهيّة لا يمكن تطبيقها إلاّ من خلال قانون ونظام للحكم، وإنّ غاية النبي (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) - مِن بعثته - هو استمرار الشريعة الإسلاميّة وتجسّدها في حياة البشر.

ومِن هنا اقتضتْ الحكمة الإلهيّة والمشيئة الربّانية اختيار أفراد معيّنين لزعامة الأُمّة وولاية أمرها؛ من أجل الحفاظ على الشريعة وضمان تطبيقها في الحياة.

وهؤلاء الأفراد يجب أنْ يكونوا:

- معصومين عن الخطأ.

- منزّهين عن الذنب وارتكاب المعاصي.

- بعيدين عن الاشتباه.

- محفوظين من النسيان.

ولقد قرن الله طاعتهم بطاعته؛ لأنّهم استمرار لخطّ رسوله.

ولأنّهم معصومون؛ فقد وجبت طاعتهم دون قيد أو شرط. وفي هذه الحالة لنْ يحدث تناقض أو تصادم في سيرتهم مع أحكام الله وشريعته وما جاء به

٧٨

رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) مِن عند ربّه. وعندها تنتفي كلّ الإشكالات التي أُثيرت في الاحتمالَين الأوّل والثاني.

خلاصة القول:

إنّ صدر الآية يتضمّن إطلاقاً في طاعة الله وتسليماً كاملاً لأحكامه وشرائعه، وليس هناك قيد أو شرط، فكلّ حكم يتناقض مع أمر الله ونَهْيه يفقد كلّ اعتبار له؛ لأنّ الحاكميّة لله وحده، إضافةً إلى أنّ هذه المسألة تعدّ في الواقع ضرورة عقليّة لا مناص منها.

* وفي مقابل كلّ هذا نجد نهياً قرآنيّاً صريحاً عن طاعة الظالمين والمسرفين:

قال تعالى:

- ( فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * وَلاَ تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ ) (1) .

- ( وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ ) (2) .

* وفي سياق هذا نجد حشداً من الأحاديث الشريفة يتماشى وروح الآيات؛ من قبيل ما رواه:

- جابر بن عبد الله، قال: قال رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم): (مَنْ أَرْضَى سلطاناً بسخط الله خرج مِن دين الله) (3) .

- وعن الإمام الباقر(عليه السلام) قال: (لا دينَ لِمَنْ دَانَ بِطَاعةِ مَنْ عَصَى الله، وَلا دِيْنَ لِمَنْ دَانَ بِفِرْيَة بَاطِل عَلَى الله، وَلاَ دِيْنَ لِمَنْ دَانَ بِجُحود شَيءٍ مِنْ

____________________

(1) الشعراء: الآية 150 - 151.

(2) الكهف: الآية 28.

(3) الكافي: ج2 ص273.

٧٩

آيَاتِ اللهِ) (1) .

- وعن الصادق(عليه السلام) قال:

(لا تسخطوا الله برضى أحد مِنْ خَلْقِه، ولا تتقرّبوا إلى الناس بتباعد من الله) (2) .

- وعن سيدنا محمّد (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) قال:

(لاَ طاعةَ لِمَخْلُوْقٍ فِي مَعْصِيَةِ الخَالِقِ) (3) .

- وعن علي أمير المؤمنين(عليه السلام) قال:

(لاَ دِيْنَ لِمَنْ دَانَ بِطَاعَةِ مَخْلُوْقٍ فِي مَعْصِيَةِ الخَالِقِ) (4) .

وسياق الآية الكريمة يتضمّن - بالضرورة - عدم التزاحم بين طاعة الله وطاعة أُولي الأمر، وعندما يكون وليّ الأمر معصوماً ينتفي التعارض بين الطاعتَين، وبالتالي تكون عصمة أُولي الأمر مسألة عقليّة.

تساؤل:

* قد يتساءل البعض قائلاً:

لماذا هذا الإصرار على تفسير أُولي الأمر بالمعصومين، في حين يمكن إطلاقه على كلّ مَن بيده زمام الأمور، وأنتم تقولون كيف يمكن تصوّر مَنْ بيده مقاليد الأمر أنْ يكون غير معصوم؛ لاحتمال الخطأ في أحكامه ومناقضتها لأحكام الشرع؟

وفي الجواب عن هذا التساؤل نقول:

بما أنّ تشكيل الحكومة ضروري للأُمّة، وبدونها لا يمكن إصلاح شأن

____________________

(1) المصدر السابق.

(2) وسائل الشيعة: ج11 ص422.

(3) مجمع الزوائد: ج5 ص226.

(4) وسائل الشيعة: ج11 ص422.

٨٠