شيء عن الردة

شيء عن الردة0%

شيء عن الردة مؤلف:
تصنيف: مكتبة التاريخ والتراجم
الصفحات: 119

شيء عن الردة

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: أحمد عبدالله
تصنيف: الصفحات: 119
المشاهدات: 13457
تحميل: 4907

توضيحات:

بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 119 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 13457 / تحميل: 4907
الحجم الحجم الحجم
شيء عن الردة

شيء عن الردة

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

وإن كنت لا أرى في هذا البيت المنسوب لعطارد ما يشير إلى تأييده لك أو اقتناعه بك. بل أجده، على العكس، يعبر عن روح ساخرة منك ومن أتباعك. لا يهم الضمير (نا) في (نبيّتنا) الّذي يشير فيه كما أرى، إلى قبيلته تميم. وأظنك تحسّين معي هذه السخريّة من المقابلة بين شطري البيت. فهو لا يقصد أن يقرّر حقيقة معروفة أن نبيّتهم أنثى وأنبياء غيرهم من الناس ذكور، وإنما يريد أن يسخر من هؤلاء الذين تبعوا نبيّةً أنثى، مخالفين في ذلك، كل الناس الذين عرفهم أو سمع عنهم، والذين لم يكن أنبياؤهم إلاّ من بين الذكور، حتى الّذين تنبّئوا في وقته. فهو بروحه القبليّة يسوؤه أن يكون نبي بني أسد ذكراً، ونبي بني حنيفة ذكراً، ونبي اليمن (الأسود العنسي) ذكراً، فلِمَ يكون نبي بني تميم من دون أولئك جميعاً أنثى؟ وكيف قبلت تميم ذلك ورضيت به؟ وماذا ستقول عنها قبائل العرب الأخرى، وبينها أعداء لها؟ سيجدون ولا شك في اتّباع تميم لامرأة يطيفون بها ويركضون وراءها موضعاً للطعن في هذه القبيلة.

أمّا الزبرقان بن بدر الّذي يذكر الطبري هنا أنّه كان من أصحابك ومرتدّاً معك فقد سبق للطبري أن قال عنه في ص ٢٤٧ إنه كان من أوائل الّذين جاؤا أبا بكر في المدينة بصدقاتهم. وإليك نص ما قاله في ذلك:

(... وطرقت المدينة صدقات نفر: صفوان، الزبرقان، عدي، صفوان ثم الزبرقان ثم عدي، صفوان في أول الليل والثاني في وسطه والثالث في آخره... والذي بشّر بالزبرقان عبد الرحمن بن عوف...).

وفي ص ٢٦٨ (فعزم قيس ـ ابن عاصم ـ على قسمها ـ الصدقات ـ في المقاعس والبطون ففعل وعزم الزبرقان على الوفاء فأتبع صفوان بصدقات الرباب وعوف والأبناء حتى قدم بها المدينة وهو يقول ويعرّض بقيس:

وفيت بأذواد الرسول وقد أبت

سعاة فلم يردد بعيراً مجيرها

فهل أستطيع أن أفهم غير ما تحمله النصوص من معنى؟! هناك كان الزبرقان مع سجاح، وهنا لم يكن الزبرقان مع سجاح. فهل ألام بعد، إذا ما شككت فيما يسمّونه تأريخاً ومؤرّخين.

٨١

وسؤال آخرٌ يخصّ قومك أيضاً، فالمؤرّخون يتحدّثون عن بطنين من تميم يسمّونهما خضم وبهدى. كانتا كما يبدو من بين الذين لم يستجيبوا لك من بطون تميم. وقد فكرت، ومعك مالك ووكيع في شنّ الحرب عليهما خلال اجتماع ضمنكم أنتم الثلاثة كما قيل، لكنك سجعت لصاحبيك بأن يتّجه القتال أولاً نحو الرباب. وهكذا كان(١) .

ويظهر أنّ اجتماعكم الثلاثي الّذي افترض أنه كان سرّياً لا يعلم أحدٌ بما دار فيه، لم يكن سرّياً كما افترضت. وإلاّ فكيف اتّصلت أخباره بالمؤرّخين الذين نقلوا لنا تفاصيله بعد قرون، ولم يكن معكم غيركم، ولم تسجّل محاضره ـ كما يفعلون في عصرنا هذا ـ لما دار فيه فتقع في أيدي الناقلين.

وأعود إلى خضم وبهدى، فالناس ـ كما تعلمين أو لا تعلمين ـ لا يعرفون في عصرنا هذا من أمرهما شيئاً. وقد تعبت حتى عرفت أنّ خضم هم بنو العنبر أو بل عنبر من تميم. ولكني لا أعرف حتى الآن، بهدى في بطون تميم وأفخاذها، ولم أسمع بها ولم أجد ذكراً لها عند المؤرّخين أو أصحاب النسب، على طول بحثي واستقصائي.

ودعينا من حديث النسب، فأظنك لا تعلمين أنّ الأنساب عندنا في هذه الأيام، لا حرمة لها كما كانت في أيامكم، بل تحوّلت تجارةً من أربح التجارات. فأنا أستطيع مثلاً أن أجعلك ابنة حاجب بن زرارة: سيّد تميم، أو أنفيك من تميم كلّها، ومن العرب كلّهم، تبعاً للمبلغ الذي تدفعين.

ولكن خبّريني كيف خطرت لك فكرة غزو مسيلمة، وجيشك كما يؤكّد المؤرّخون، يتألّف من قبائل ربيعة. ومسيلمة الذي تنوين غزوه من بني حنيفة، إحدى قبائل ربيعة. وأستبعد أن تقاتل ربيعة لصالح نبيّة من تميم... يمنعها من ذلك ما بين القبيلتين من عداء طويل أشرت إليه قبل الآن. وكان أولى بربيعة، وهي تفتّش عن نبي تبدّله بمحمّد، أن تتبع نبيّاً منها: مسيلمة، لا نبيّةً من تميم.

____________________

(١) تردّدت طويلاً في إثبات هذه الأبيات الفاحشة ولكن رأيت المؤرخين الذين أحيل إليهم، وعلى رأسهم الطبري، قد أثبتوها. فضلاً عن أنّ كل الذين درسوا الردّة أو كتبوا فيها أو قرؤوا عنها واجهوا هذه الأبيات وحفظوها. ثم إنّ مناقشة ما ورد في الرواية يقتضي إثباتها.

٨٢

ثم إنّ جيشك كما يؤكّد هؤلاء المؤرّخون أيضاً، كان من الضعف بحيث هزم في قتال ضبّة. وعجز عن قتال بعض بني عمرو من تميم، حين أغار عليكم أوس بن خزيمة الهجيمي. فليس من المعقول أن يخافه مسيلمة في أربعين ألف مقاتل من بني حنيفة متحصّنين في اليمامة، وقد حاربوا جيوش المسلمين فكادوا أن يظهروا عليهم ويهزموهم لولا أن يتدراكهم الله بنصرهِ أخيراً.

كيف إذن سجعت بحرب مسيلمة، على ما بينكما من اختلاف ظروف ليس فيها إلاّ ما هو لمسيلمة عليك؟!

وحتى لو امتلكت من القوّة ما تستطيعين أن تغزي به مسيلمة أو غير مسيلمة وتنتصري عليه. فلماذا تختارين لقتالك مرتدّاً مثلك قد فارق الإسلام وشاركك في مناهضته، وتتركين أعداءك وأعداء مسيلمة من المسلمين؟!

بئسما نظرت لنفسك ولأصحابك ولدينك، حين تقاتلين من هو مثلك فتضعفين بذلك جبهة المرتدّين التي هي جبهتك، لو صحّ ما يقوله المؤرّخون عنك.

وأردت أن أنهي حديثي مع سجاح، لكني تذكرت سؤالاً ما يزال يتلجلج في صدري منذ سنين، دون أن أجد فيه غير ما يتلقّاه الرواة بعضهم عن بعض، ونتلقّاه نحن عنهم.

وقلت في نفسي: هذا هو الوقت. ماذا لو ألقيت السؤال على أم صادر وسمعت منها جوابه. فهي أعرف بحقيقته وليس مثلها من يقدر أن يوضحه لي. ثمّ هي نبيّةٌ، ولا بد أن تكون واسعة الصدر، ولن تضيق بسؤال مهما كانت طبيعته، وقد تعرّضت، خصوصاً في فترة نبوّتها، لمختلف الأسئلة كما أظن.

ودنوت منها، وقلت بصوت لا يكاد يسمع: سيّدتي النبيّة، هل تسمحين بسؤال أخيرٍ ما يزال يشغلني، وأتحرّج أن ألقيه عليك فقد أغضبك به وأنا لا أتحمّل غضب الأنبياء، لولا مرض ملازم لنا نحن أهل الأرض، اسمه الفضول، قد برئتم منه أهل الآخرة بما شغلتم به من نعيم الجنة أو عذاب الجحيم، باختلاف منازلكم فيها.

وليس هذا السؤال مما يخص القتال أو الحرب، بل أبعد ما يكون عن القتال والحرب والمقاتلين والمحاربين. سؤال عن زواجك بمسيلمة وما يخوض فيه المؤرّخون من أمركما في الخيمة.

٨٣

وتغيّرت ملامح المرأة فجأةً فبدت غير ما أعرف، وكأنها لم تكن نبيّة قبل لحظات.

وحاولت أن أعتذر عن السؤال الذي قد يفسد علاقتنا ويمنعني من العودة إليها إن احتجتها يوماً.

ولكنها سرعان ما عادت إلى طبيعتها (النبويّة) وأشارت لي بطرح السؤال.

قلت: يا سيّدتي ما حقيقة ما جرى لك مع مسيلمة؟ هل ذهبت لغزوه أم للزواج منه؟ فالمؤرّخون يخوضون في ذلك بما أوجب عليّ السماع مباشرةً منك.

وسأروي لك ما نتداوله في هذا الشأن، ممّا نجده في كتب التأريخ عندنا، لعلّه يذكّرك بعض الذي نسيت ممّا أريد السؤال عنه.

والرواية الأكثر شيوعاً هي التي أثبت نصّها فيما يلي « أنّ مسيلمة لما نزلت به سجاح ـ التي هي أنت طبعاً ـ أغلق الحصن دونها فقالت له سجاح أنزل قال فنحّي عنك أصحابك ففعلت فقال مسيلمة: اضربوا لها قبّة وجمّروها لعلّها تذكر الباه. ففعلوا فلما دخلت القبّة نزل مسيلمة فقال: ليقف ها هنا عشرة وها هنا عشرة ثم دارسها فقال: ما أوحي إليك؟ فقالت: هل تكون النساء يبتدئن ولكن أنت قل ما أوحي إليك قال « ألم تر إلى ربك كيف فعل بالحبلى أخرج منها نسمة تسعى من بين صفاق وحشى » قالت: وماذا أيضاً قال: أوحي إليّ « أن الله خلق النساء أفراجا وجعل الرجال لهن أزواجا فنولج فيهن قعساً إيلاجا ثم نخرجها إذا نشاء إخراجا فينتجن لنا سخالاً إنتاجا » قالت: أشهد أنك نبي قال: هل لك أن أتزوّجك فآكل بقومي قومك العرب قالت: نعم قال:

ألا قومي الى النيك

فقد هيّء لك المضجع

وإن شئت ففي البيت

وإن شئت ففي المخدع

وإن شئت سلقناك

وإن شئت على أربع

وإن شئت بثلثيه

وإن شئت به أجمع

٨٤

قالت: بل به أجمع قال: بذلك أوحي إليّ. فأقامت عنده ثلاثاً ثم انصرف إلى قومها فقالوا: ما عندك؟ قالت: كان على الحق فاتبعته فتزوجته قالوا: فهل أصدقك شيئاً؟ قالت: لا قالوا: ارجعي إليه فقبيح بمثلك أن ترجع بغير صداق فرجعت فلما رآها مسيلمة أغلق الحصن وقال مالكِ؟ قالت: أصدقني صداقاً قال: من مؤذّنك؟ قالت: شبث بن ربعي الرياحي قال: عليّ به فجاء فقال: نادِ في أصحابك أنّ مسيلمة بن حبيب رسول الله قد وضع عنكم صلاتين ممّا أتاكم به محمد: صلاة العشاء الآخرة وصلاة الفجر... »(١) .

هذه الرواية نكاد نجدها لدى جميع المؤرّخين الذين تحدّثوا عنك.

وأصدقكِ القول. لقد كنت وما أزال في شكٍّ مما ألصقوه بك.

فالمؤرّخون كما سمعت، يروون أنّ مسيلمة قد طلب من أصحابه أن يضربوا لك قبّةً ويجمّروها، لعلّك تذكرين الباه. ثم تلا ما أوحي إليه بالمناسبة من إيلاج وإخراج، وكأنه يريد أن يشغلك بأمور الجنس عن أمور النبوّة والسياسة والقتال، كما هو شأن الأنبياء.

ويبدو ـ كما يذكر أولئك المؤرّخون ـ أنّ ذلك قد أعجبك واستخفّك أكثر ممّا تصوّر مسيلمة، فلم يكفك أن تشهدي له بصحّة النبوّة بل تجاوزت بعيداً كأيّ بغيٍّ محترفة، وأنت تسمعين ما يدعوك إليه ويطلبه منك فلا تنكرين ولا ترفضين.

ثم وأنت تستزيدين ممّا يدعوك إليه ويطلبه منك، لا تكنين عن ذلك ولا تلحنين. وهو ما ترفضه أيّة امرأةٍ تملك شيئاً من كرامة النساء وتمنّعهن، في البداية وأمام الناس على الأقل. وربّما رفضته البغيّ في موقف مثل موقفك، فضلاً عن نبيّةٍ وقائدة وصاحبة رسالة!!

هذا ما يرويه المؤرّخون أو ما تقود إليه روايتهم. أمّا أنا فأشكّ كثيراً فيما يروون رغم اتفاقهم عليه وسأبسط لك أسباب شكّي، لا دفاعاً عنك وعن مسيلمة، فمهمّة الدفاع عن الأنبياء صعبة لا أطيقها، ولكن دفاعاً عمّا أتصوّره حقّاً، وإن شئت، دفاعاً عن العقل أو الحد الأدنى منه.

____________________

(١) تاريخ الطبري ج ٣ ص ٢٧٣ - ٢٧٤ ومع اختلاف يسير في اللفظ تاريخ ابن الأثير ج ٢ ص ٢١٥ والبدء والتأريخ ج ٥ ص ١٦٤ - ١٦٥ وتأريخ أبي الفدا ج ١ ص ١٥٧.

٨٥

فالحوار الذي يزعم المؤرّخون حصوله بينك وبين زوجك (النبي) مسيلمة لا يمكن، على افتراض حصوله، أن يتجاوزكما إلى هؤلاء المؤرّخين لينقلوه عنكما. لا لأن ما يحصل بين الزوج وبين زوجته من أمور لها طابع الجنس، يبقى محصوراً بينهما، وهذا وحده كافٍ لإثارة شكّي، بل لأنّ ما تضمّنه هذا الحوار من البذاءة والفحش والانحطاط الذي تعدّى كل حدّ، لا يشرّف من قاله ولا من قيل له أو رضي به، حتى لو لم يكن من صنف الأنبياء مثلكما. فأنا لم أعرف قبل زواجكما، أنّ زوجاً في ليلة زفافه يخاطب زوجته أمام الحاضرين من المهنئين بما خاطبك به زوجك مسيلمة، ولا زوجة رضيت بذاك وقبلته كما رضيت به وقبلته، إلاّ إذا كان الزواج بين الأنبياء يجري على هذا النحو ولم نعلم.

أكان في (السلق) و(الثلثين) و(الأربع) ما يثبت نبوّته أو نبوّتك، ويشد الأتباع والأنصار إليكما.

لقد كان العرب يضربون المثل بأم خارجة التي لا بد أنك سمعت بها، فيقولون أسرع من نكاح أم خارجة، وأخالهم لو عرفوك قبلها لتركوا هذه المسكينة التي لم تكن نبيّة يوحى إليها كما أوحي إليك بـ(به أجمع) مفضّلة له على (ثلثيه) اللذين خيّرك بينهما مسيلمة.

فهل قنعت من منزلة النبوّة وقيادة الجيوش وغزو أبي بكر في المدينة، بمنزلة تترفّع عنها أم خارجة كما يريد المؤرّخون أن يصوّروك.

ويبدو أنّ زواجك ممّا يروق المؤرّخين الحديث عنه ومتابعة تفاصيله. وربما كانوا يرون فيه، من خلال الطعن والسخرية من اثنين من قادة ما يسمّونه الردّة، مدخلاً للطعن والسخرية من الردّة نفسها. فهم لم يكتفوا بما سمعت مما نقلت عن التجمير والباه والشعر الذي استقبلك به مسيلمة في الخيمة ليلة زواجك. بل يزيدون بأنّ هذا الزواج لم يدم أكثر من ثلاثة أيام عدت بعدها إلى الجزيرة، تاركةً الزوج والتجمير والشعر.

فما الذي دعاكِ أو دعاكما إلى اختصار مدّة الزواج وجعلها ثلاثة أيام فقط، وكأنّما التقيتما في سفر يعود بعده كلٌّ إلى بلده وأهله.

أليس من تمام الزواج أن تكون الزوجة في بيت زوجها وأن يكون الزوج قريباً من زوجته مادام الزواج قائماً. ولم يخبرنا المؤرّخون بطلاقكما.

٨٦

وماذا عن الصداق الذي أصدقك إياه مسيلمة ما دمنا بعد في حديث الزواج، وهو من لوازمه كما تعلمين؟ هل صحيح أنّ مسيلمة قد وضع عن أتباعك صلاتين ممّا أتى به محمد: العشاء الآخرة والفجر صداقاً لك.

ولكن ما معنى أن يضع عنهم صلاتين، وهم أصلاً لا يصلّون لارتدادهم ورجوعهم عن الإسلام وإنكارهم نبوّة محمد وما أتى به من فرائض وأحكام، من بينها الصلاة كما يقول المؤرّخون، وإلاّ فلِمَ كانت نبوّة مسيلمة ونبوّة سجاح إذا هما أبقيا على الصلاة كما كانت وهي من أهم شعائر الإسلام: دين محمد.

أليس في ذلك ما يتعارض وما يذكره المؤرّخون عنك وعن زوجك، وما يضعفهم فيما ينقلون عنكما لو انتبهوا.

أيكون الذي أثار المؤرّخين ضدّكما ودفعهم إلى اتهامك أنت ومسيلمة بالردّة، أنكما لم ترسلا الصدقات إلى المدينة ككثير غيركما من العرب الذين امتنعوا عن إرسال صدقاتهم إلى هناك مفضّلين توزيعها بين فقراء قومهم؟

وبعد كل ذاك، فإنّ المؤرّخين، وهم في سورة الغضب، متسابقين لإلصاق التهم بك وبمسيلمة، قد نسوا كما يبدو أنك كنت متزّوجة عند توجّهك إلى اليمامة واجتماعك بمسيلمة(١) .

وإذا كنت أعرف أنّ للعربي قبل الإسلام وبعده أن يتزوّج بأكثر من امرأةٍ، فإني لم أعرف أنه كان جائزاً عندكم أن تتزوّج المرأة بأكثر من رجلٍ في وقتٍ واحد، قبل أن يحدّثنا المؤرّخون عن زواجك بمسيلمة مع سبق زواجك من غيره(٢) .

____________________

(١) انظر ص ١٦٤ من ج ٥ من البدء والتأريخ فهي فيه أم صادر وزوجها هو أبو كحيلة. ويكتفي صاحب فتوح البلدان ص ١٠٨ وصاحب جمهرة أنساب العرب ص ٢٢٦ بأن يكنّياها أم صادر.

(٢) جاء في البدء والتاريخ ج ٥ ص ١٦٥ بأن سجاح أباحت للمرأة أن تتزوج - في وقت واحد طبعاً - بزوجين (على النصف مما للرجل).

٨٧

أرأيت يا أخت بني غدانة، لِمَ شككت فيما رواه المؤرّخون، وهو شك لم أقصد من ورائه الدفاع عنك كما قلت في بداية هذا الحديث، وأنت تستحقينه، ولكن قصدت قبل ذاك، الدفاع عن العقل في حدّه الأدنى، رغم ما سيجرّه عليّ ذلك مما أعرف وتعرفين، وقد كنت هدفاً له قبل أربعة عشر قرناً خلت.

وعلى أيّة حال فمن حقّك أن تجدي بعد هذه المدّة من يحاول إنصافك، وقد أردت أن أكون واحداً من هؤلاء، فلعلّ في ذلك بعض العزاء لك.

واكتفت سجاح بإيماءة شكر ثم غابت.

٨٨

الباب الخامس

(مسيلمة)

٨٩

الباب الخامس

(مسيلمة)

هل تستطيع أن تتصوّر أنّ أربعين ألفاً من بني حنيفة(١) يعرّضون أنفسهم وعوائلهم وأموالهم للقتل والنهب، دفاعاً عن واحد لا يزيد وحيه الذي يريد أن يواجه به محمداً وقرآن محمد على (يا ضفدعة ابنة ضفدع...)(٢) وكأنهم في حاجةٍ إلى وحي من السماء يعلّمهم أنّ الضفدعة هي بنت الضفدع وليست بنت الإنسان، ولا بنت حيوان آخرٍ من غير جنس الضفادع.

هذا بعض ما يقوله المؤرّخون العرب عن (نبي) اليمامة وعن وحيه و(قرآنه) والمؤمنين به، عليك أن تصدّقهم فيه. وألاّ تكذبهم أو تشك فيما ينقلون عن مسيلمة الكذّاب، وهو اسمه عندهم.

ولكن لماذا نبدأ بوحي مسيلمة وقرآنه، وكان الأولى بنا أن نبدأ بالرجل نفسه، صاحب الوحي والقرآن.

فمن هو مسيلمة هذا وما قضيّته ومتى بدأت دعوته أو نبوّته؟!

والحق أنّ محاولة من هذا النوع ليست بالأمر السهل على من يريد الكتابه عن مسيلمة بما يقنع عقله وضميره، بعد أربعة عشر قرناً من التجريح والتشويه.

فلكي أصل أو أقترب من مسيلمة الحقيقي، عليّ أولاً أن أزيل الكثير من الرتوش والألوان والصفات التي حفلت بها كتب التأريخ وتوارثها المؤرّخون وأضافوها إلى صورة مسيلمة، إمعاناً منهم في الطعن عليه والسخريّة منه وممّن اتّبعوه. وهي محاولةٌ ليست بالأمر السهل كما قلت.

____________________

(١) تاريخ الطبري ج ٣ أحداث سنة ١١ ص ٢٨١، وابن الأثير ج ٢ أحداث نفس السنة ص ٢١٩، والبداية والنهاية ج ٦ ص ٣٢٣، و ابن خلدون بقية ج ٢ ص ٧٤.

(٢) تاريخ الطبري ج ٣ أحداث سنة ١١ ص ٢٨٤، وابن الأثير ج ٢ أحداث نفس السنة ص ٢١٩ وعند ابن كثير (يا ضفدعة بنت الضفدعين!!) البداية والنهاية ج ٦ ص ٣٢٦.

٩٠

وأوّل ما يلفت النظر في موضوع مسيلمة هو إصرار المؤرّخين على أنّ اسمه مسيلمة بالتصغير(١) ، مع أنني وبقدر علمي، لم أعرف عربيّاً قبله ولا بعده شاركه الاسم بالصيغة التي يوردها أولئك المؤرّخون. فهناك في الجاهلية سلمة وسالم وسلمي وسلمان ومسلمة دون تصغير. وهناك غيرها من مشتقّات السلم والسلام من الأسماء، ولكني لم أعرف جاهليّةً أو إسلاماً من اسمه مسيلمة بالتصغير.

وهذا طبعاً لا يعني انعدام أو قلّة استعمال صيغة التصغير في الأسماء العربية. فما أكثر هذه الصيغة وأيسرها. بل إنّ بعض الأسماء لم يعرف إلاّ مصغّراً كعيينة وأميّة.

أيكون مسيلمة إذن وحده من بين المولودين في الجاهلية قد اختار له أبوه هذا الاسم؟! ربما.

فإذا تركت الاسم فستجد نفسك أمام (رويجل أصيفر أخينس)(٢) وكلها بالتصغير أيضاً. وهذه صفاته التي يذكرها المؤرّخون.

ولا أعلم لماذا يكون هذا الـ(مسيلمة) رويجلاً لا رجلاً كباقي الرجال من بني حنيفة وغير حنيفة. ولا أعلم العلّة في تصغير الصفة أصفر إلى أصيفر وهل تعني أنه كان قليل الصفرة ضعيفها، أم على العكس شديد الصفرة بيّنها.

كما لا أعلم إذا كان الخنس، وهو ارتفاع طرف الأنف مما يعاب به الانسان أو في الأقل، مما يستوقف المؤرّخين من صفاته.

____________________

(١) رغم أنّ أبا الحسن البلاذري يتحدث هو أيضاً عن (مسيلمة الكذّاب) إلاّ أنه يسمّيه كما يبدو في حديثه ثمامة بن كبير بن حبيب. فهو يقول عند كلامه عن اليمامة ص ٩٧ من تأريخه (وكان فيهم مسيلمة الكذّاب ثمامة بن كبير بن جبيب) ولا ندري ما الاسم الصحيح لدى البلاذري، هل هو مسيلمة أم ثمامة، ومسيلمة أم مسيلمة مضافاً إليها الكذّاب، لقبه عنده. على أنّ صيغة التصغير هذه لا تقتصر عند المؤرّخين المسلمين على مسيلمة الكذّاب وحده إذ يشاركه فيها طليحة الأسدي كما رأينا مع أنني لم أجد في العرب إلاّ من اسمه طلحة دون التصغير.

(٢) تاريخ الطبري ج ٣ أحداث سنة ١١ ص ٢٩٥، وابن الأثير ج ٢ أحداث نفس السنة ص ٢٢٢، وتاريخ خليفة بن خياط ج ١ ص ٧٦ وفيه (أحيمش) بدل (أخينس) وعند ابن خلدون (رويجل دميم أخينس) تأريخ ابن خلدون بقية ج ٢ ص ٧٥.

٩١

ويتجاوز بعض هؤلاء المؤرّخين، وهم يتحدّثون عن مسيلمة فيضيفون إلى ما سبق من صفاته، أنه كان (قبيح الخلقة دميم الصورة)(١) .

وما أظنهم كانوا سيبخلون عليه بما هو أكثر لو وجدوا أكثر من قبح الخلقة ودمامة الصورة يضيفونها إلى هذا الرويجل الأصيفر الأخينس.

وإذا لم يكن مطلوباً في مدّعي النبوّة أن يكون في منزلة يوسف أو منزلةٍ قريبة منها، فأنا أفترض أن يتوفّر فيه الحد الأدنى من الصفات الخَلْقية والخُلُقية التي تتوفّر في أيّ شخص اعتيادي، إن لم يتميّز عنه ويفضّله؛ فذلك أملأ لعيون العرب وقلوبهم وأحرى أن يجذبهم إليه وإلى قبول (نبوّته) خصوصاً في ذلك العهد الذي ظهر فيه مسيلمة، وقد رأوا ومنهم رجال بني حنيفة وساداتهم، محمداً وكمال خَلْقه وخُلُقه.

أمّا أن يكون هذا النبي رويجلاً أصيفر أخينس قبيح الخلقة دميم الصورة، فليس في بني حنيفة ولا غيرهم حاجةٌ إلى نبيّ جمع الله فيه أسوأ ما يمكن أن يجمع في رجلٍ من خلقه.

وأحسب أنّ مثل هذا الرجل قد يصلح لإضحاك الناس ولكنه، في جميع الأحوال لا يصلح لادّعاء النبوّة وتلقّي الوحي.

على أنّ المؤرّخين لم يكتفوا من مسيلمة بكل ذاك من صفات القبح والدمامة.

وسأتركهم يكملون حديثهم عنه قبل أن يشتهر أمره ويذيع، أو بعد ما اشتهر وذاع. وسأبدأ بقدومه في وفد بني حنيفة قبيلته، إلى المدينة لإعلان إسلامهم عام ١٠ للهجرة.

والمؤرّخون يسوقون في ذلك روايتين لا أجد في أيٍّ منهما إلاّ ما يبعث على الشك أو ما يثير الضحك.

تقول أولاهما أنه لما قدم وفد بني حنيفة على النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله عام ١٠ للهجرة في المدينة، خلّفوا مسيلمة في رحالهم. فلما أسلموا ذكروا مكانه للنبي فقالوا (يا رسول الله إنا خلّفنا صاحباً لنا في رحالنا وركابنا يحفظها لنا فأمر له رسول الله بما أمر به للقوم وقال أما أنه ليس بشرّكم مكاناً. أي لحفظه ضيعة أصحابه وذلك الذي يريد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ).

____________________

(١) تأريخ الخميس المطبعة الوهبية بالقاهرة ١٢٨٣ هـ ج ٢ ص ١٥٧، ويضيف البلاذري في تأريخه ص ١٠٠ أنه كان (قصيراً أفطس).

٩٢

ثم انصرفوا عن رسول الله وجاؤوه بما أعطاه. فلما انتهوا إلى اليمامة ارتدّ مسيلمة وتنبّأ وقال إني أشركت في الأمر معه، وقال للوفد الذين كانوا معه، ألم يقل لكم حين ذكرتموني له أما أنه ليس بشرّكم مكاناً ما ذاك إلاّ لما كان يعلم أني قد أشركت في الأمر معه ثم جعل يسجع لهم الأساجيع وأحلّ لهم الخمر والزنا ووضع عنهم الصلاة وهو مع ذلك يشهد لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بأنه نبي فأصفقت معه حنيفة على ذلك فالله أعلم أيّ ذلك كان).

وهذه الرواية تجدها في العديد من كتب السيرة والتأريخ(١) ، وهي رواية لا تستطيع أن تقنع أحداً. وأسهل عليك أن ترفضها من أن تحاول تبريرها وتتكلّف العذر لأصحابها.

فهي أولاً تجعل من مسيلمة مجرّد حارس لرحل الوفد من بني حنيفة، حين قدومهم المدينة ومقابلتهم النبي محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله وليس واحداً من بين الذين قابلوه من هذا الوفد. ونحن نعلم أنّ العرب لا يخلفون وراءهم لحفظ الرحل وحراسته، إلاّ من يستغني عنه ولا يشارك فيما جاء له القوم الذين يحفظ لهم رحلهم.

وهذا لا يستقيم مع ما يذكره هؤلاء المؤرّخون أنفسهم، من ادعاء مسيلمة النبوّة بعد أيّام من رجوع الوفد إلى اليمامة واتّباع بني حنيفة له.

وما أظن من يطمح للنبوّة ويسعى لها ويستطيع أن يجنّد قبيلته خلفه، يدينون بدعوته ويقاتلون دونه، يرضى لنفسه بالبقاء حارساً لرحلهم مكتفياً بما يقوم به أيّ غلام لا شأن له ولا غناء.

كيف أقبل أن مثل هذا الغلام، وكل مهمّته أن يحرس رحل الوفد ويقوم على حفظه، سيجرؤ بعد أيّام فقط على الادّعاء أنّه نبي يوحى إليه. ثم يجد من يصدّقه ويؤمن به في دعواه ويقاتل ويقتل تأييداً له ولدعوته. وبين (المؤمنين) المقاتلين من سادات حنيفة ورجالهم، من كان في الوفد الذي كلّف مسيلمة بحراسة رحلة. أكانت النبوّة عند بني حنيفة من ضعة الشأن بحيث لا يدّعيها إلاّ حارس الرحل؟

____________________

(١) انظر سيرة ابن هشام ج ٤ ص ٥٧٦ – ٥٧٧، والطبري ج ٣ ص ١٣٨، وتأريخ الإسلام للذهبي - قسم المغازي - أحداث السنة العاشرة وعيون الأثر لابن سيد الناس ج ٢ ص ٢٣٥. وفي ابن الأثير ج ٢ ص ١٦٦ (واجتمع مسيلمة برسول الله ثم عاد إلى اليمامة وتنبّأ).

٩٣

وإذا كان هذا غريباً فليس أقل غرابةً منه احتجاج مسيلمة لنبوّته، وهو يحاور رؤساء بني حنيفة لإقناعهم بها.

وسأعيد عليك ما احتجّ به مسيلمة كما أوردته الرواية: قال مسيلمة (ألم يقل لكم ـ يعني النبي محمداًصلى‌الله‌عليه‌وآله ـ حين ذكرتموني له أما أنه ليس بشرّكم مكاناً ما ذاك إلاّ لما كان يعلم أني قد أشركت في الأمر معه ...) (فأصفقت معه حنيفة على ذلك).

وتسأل. أية حجّة لمسيلمة في قول النبي هذا، حتى مع افتراض صدوره عنه؟!

كيف فهم مسيلمة، وكيف فهم بنو حنيفة معه، عبارة، النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله (ليس بشرّكم مكاناً) على أنها إقرارٌ بنبوّة مسيلمة وتصديق لها؟!

إنني بعد أربعة عشر قرناً لا أفهم من هذه العبارة غير ما فهمه منها ابن هشام بعد قرنين من صدورها حين قال (أي لحفظه ضيعة أصحابه) وغير ما يفهمه أي سامع أو قارئ لها الآن وبعد الآن، خصوصاً وهي تأتي بعد قول الوفد (يا رسول الله إنّا خلّفنا صاحباً لنا في رحالنا وركابنا يحفظها لنا ...).

وحتى لو جرّدنا العبارة من سياقها الذي وردت فيه، فما الصلة بين (ليس بشرّكم مكاناً) وهي لا تعني في أحسن الأحوال، أكثر من أنه مساوٍ لكم في المنزلة أو في الأجر والثواب، وبين ادّعاء النبوّة؟!

أيكون مسيلمة وبنو حنيفة أقل فهماً للعربية من ابن هشام الذي فسّر محقّاً، عبارة النبي بأنها (لحفظه ضيعة أصحابه). ومن غير ابن هشام الذي لا يستطيع تفسيرها بغير ذاك؛ لأنها لا تحتمل غيره؟! وفي جميع الأحوال، فهي لا توحي بأيّة إشارةٍ للنبوّة أو لشئ قريب منها.

وتمضي الرواية ـ أو واضعوها ـ لتحدّد لنا ملامح الدين الجديد الذي بشّر به مسيلمة ودعا إليه، إذ لا بد لأيّ نبي من دينٍ. وقد رأينا سجاح تضع صلاتين عن أتباعها هما صداقها. كما أحلّت للمرأة أن تتزوّج بأكثر من رجل في وقت واحد، كما ينقل ذلك صاحب البدء والتأريخ. لكن مسيلمة ـ زوج سجاح ـ لن يقبل بأن يتساوى مع امرأته، فهو لا يكتفي بصلاتين يضعهما عن أصحابه كما فعلت زوجته من قبل، وإنّما يذهب إلى أبعد من ذاك حين يضع الصلاة كلها عنهم، ومع الصلاة يحلّ لهم الخمر والزنى.

٩٤

هذا ما تقوله الرواية كما تقرؤها في غالبية المصادر التي تعرّضت لمسيلمة(١) . ولا بدّ أنه خالجك ما خالجني وأنت تعيد قراءة هذه الرواية. فلو كان مسيلمة قد وضع الصلاة حقّاً وحلّل الخمر والزنا حقّاً، إذن لرأينا ذلك في واحدة من (سور قرآنه) التي لا بدّ أن الرواة قد حرصوا على جمعها وإذاعتها تشهيراً بمسيلمة، كما حرصوا على جمع وإذاعة (سورة) الضفدعة بنت الضفدع، وليس فيها ما يتعارض وأحكام الإسلام كما في وضع الصلاة وتحليل الخمر والزنا.

ثم ماذا أبقى مسيلمة من دين محمد؟ وكيف يستمر على الاعتراف بنبوّته، كما تقول الرواية أو واضعوها، وهو يلغي ثلاثة من أهمّ ما جاء به دينه من فروض تخصّ الصلاة والخمر والزنا. وبعد هذا فهل أستطيع أن أجمع بين قول الطبري هنا بتحليل مسيلمة للزنا وبين قوله في ص ٢٧٢ ـ ٢٧٣ بأنه (كان ممّا شرع لهم مسيلمة أنّ من أصاب ولداً واحداً عقباً لا يأتي امرأة الى أن يموت ذلك الابن فيطلب الولد حتى يصيب ابناً ثم يمسك فكان قد حرم النساء على من له ولد ذكر) وهو ما تجده في ابن الأثير ج ٢ ص ٢١٥. أيحلّل الزنا من حرّم النساء على الرجل لمجرّد أن يكون له ولدٌ ذكر؟!

كم كنت أودّ لو أن هؤلاء الرواة توقّفوا قليلاً فقرؤوا ما كتبوا ليعلموا مبلغ جنايتهم على هذا الذي نسمّيه مضطرّين تأريخاً، إلاّ إذا كانوا مصرّين على ما كتبوا، وتلك هي الكارثة.

هذه إحدى الروايتين. أمّا الثانية التي تجدها في نفس المصادر التي تناولت الأولى فتقول (إنّ بني حنيفة أتت به ـ مسيلمة ـ إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله تستره بالثياب ورسول الله جالس في أصحابه معه عسيب من سعف النخل في رأسه خوصات فلما انتهى إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وهم يسترونه بالثياب كلّمه وسأله فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : لو سألتني هذا العسيب ما أعطيتكه)(٢) .

____________________

(١) سيرة ابن هشام ج ٤ ص ٥٧٧، وتأريخ الطبري ج ٣ ص ١٣٨، وعيون الأثر ج ٢ ص ٢٣٥ - ٢٣٦.

(٢) تاريخ الطبري ج ٣ ص ٢٨٢، وابن الأثير ج ٢ ص ٢١٩.

٩٥

والحق أنني ما زلت منذ قرأت هذه الرواية وحتى اليوم، لا أجد رغم طول سؤالي لنفسي ما أفسّر به صنع بني حنيفة وسترهم لمسيلمتهم هذا. أكانوا يخافون عليه العين لجماله مثلاً؟! أم على العكس، يخشون أن يظهروه لقبحه ودمامته وما يمكن أن يثيره ذلك من سخريّة بهم لدى المسلمين القادمين عليهم.

ما الذي أكرههم على المجئ به إذن، وفي رجال حنيفة غنىً عنه لو شاءوا؟ وما الذي منعهم أو منعه من الكشف عن نفسه، وهو الذي ما جاء إلاّ لإشهار إسلامه ضمن الوفد الذي قصد المدينة لهذه الغاية. لكنّنا نراه هنا يرفض أو يرفض قومه الكشف عنه ولا يتكلّم إلاّ من وراء ستار.

لا أعرف كما قلت سبباً لذلك، ولكني أعرف أنني لا أملك نفسي من الضحك كلما تصوّرت منظر هذا (النبي) وهو ملفوف بالثياب أو ربما بجريد النخل، يحمله أو يجرّه عددٌ من بني حنيفة، والمسلمون ينظرون ولا يعلمون ما هذا الذي يجرّه الحنفيّون على الأرض أو يحملونه على الرؤوس.

ثم ما الذي سأل مسيلمة النبي محمداً حين انتهى إليه؟ هل سأله النبوّة أو الشركة فيها؟ لا يمكن أن يكون ذلك. فالقوم ما جاؤوا ـ وهو فيهم ـ إلاّ لإعلان إسلامهم. ولو أرادوا غير ذلك لبقوا في منازلهم ولم يتكلّفوا الرحلة إلى المدينة والقدوم على النبي فيها، ولكان أسهل على مسيلمة إعلان نبوّته هناك، قبل ورود قومه من بني حنيفة المدينة، وقبل اتصالهم بالنبي محمد وإسلامهم على يديه. بل إنّ أحد أكبر أعوان مسيلمة ـ الرجال بن عنفوة ـ كان قد هاجر إلى النبي وقرأ القرآن وفقه في الدين، قبل أن يلحق بمسيلمة وينضمّ إلى دعوته(١) .

سأرفض إذن هذه الرواية كما رفضت سابقتها، أو بالأحرى أن إحدى الروايتين هي التي ترفض الأخرى وتستبعدها وتدعوك إلى رفضها أو رفضهما معا.

ومع ذاك فنحن لم ننته بعد من حديث المؤرّخين عن نبيّ بني حنيفة وما ألصق به وأضيف إليه.

____________________

(١) تاريخ الطبري ج ٣ ص ٢٨٢، و ابن الأثير ج ٢ ص ٢١٩.

٩٦

ويبدو أنّ المؤرّخين لم يقنعوا منه بما قنعوا من طليحة وسجاح وغيرهما، فتجاوزوا حدود ما وقفوا عنده من أولئك. بل إنّ إفرادهم مسيلمة بوصف (الكذّاب) دون الآخرين بحيث لا يذكر اسمه إلاّ مقروناً بهذا الوصف، مع اشتراكهم جميعاً بإدعاء النبوّة وبالكذب طبعاً في هذا الادّعاء، يوحي بما لهذا الكذّاب من منزلةٍ خاصّة بين الكذّابين عند مؤرّخي المسلمين.

وسأعرض لبعض ما تحدّثوا به عنه، استكمالاً لما ورد في الروايتين السابقتين.

يقول الطبري في معرض هذا الحديث (وكان مسيلمة يصانع كل أحدٍ ويتألّفه ولا يبالي أن يطّلع الناس منه على قبيح)(١) .

وما أحسب هذا الكلام مما يقنع أحداً، حتى صاحبه أو ناقله أبا جعفر نفسه. فكيف لنا أن نتصوّر شخصاً يدّعي النبوّة ويريد أن يتآلف الناس ويدنيهم إليه ويزيّن لهم الإيمان به، ثم لا يبالي أن يطلع الناس منه على قبيح وأيّ شخص من غير مدّعي النبوّة يرفض أن يطلع الناس منه على قبيح ويعمل على ستره عنهم ما أمكنه ذلك؟

ألم يكن في ادّعاء النبوّة ما يمنع مسيلمة من إتيان القبيح، أو على الأقل من السماح للناس بالإطلاع عليه؟!

وبعد هذا الحديث يورد الطبري بعض الأفعال التي يعزوها لمسيلمة، والتي لا تتناسب ومقام هذا المؤرّخ الكبير، حتى لو أعتذر بالنقل. اسمعه يقول (وأتته امرأةٌ من بني حنيفة فقالت إنّ نخلنا لسحق وإنّ آبارنا لجرز فادع الله لمائنا ونخلنا كما دعا محمد لأهل هزمان).

ثم يستطرد الطبري في رواية الحديث الذي دار بين مسيلمة الذي يجهل ما فعله محمد بنخل أهل هزمان وآبارهم، وبين الرجال ابن عنفوة الذي يخبره به فيقول عن مسيلمة (فدعا مسيلمة بدلو من ماء فدعا لهم فيه ثم تمضمض منه ثم مجّ فيه فنقلوه فأفرغوه في آبارهم فغارت مياه تلك الآبار وخوى نخلهم وإنّما استبان ذلك بعد مهلكه)(٢) .

وعجبت كيف يسمح الطبري لنفسه بإيراد مثل هذا السخف؟ ألم يكن في ادعاه النبوّة وحده ـ لو اقتصر عليه الطبري ـ ما يكفي لبيان كذب مسيلمة والسخرية منه والزراية عليه.

____________________

(١) تاريخ الطبري ج ٣ أحداث سنة ١١ ص ٢٨٢.

(٢) تاريخ الطبري ج ٣ ص ٢٨٤ – ٢٨٥، وابن الأثير ج ٢ ص ٢٢٠.

٩٧

كيف قبل مسيلمة أن يفضح نفسه ويكشف كذبه أمام أتباعه من بني حنيفة، وهو لا شك يعرف أنه كاذب وغير نبي، وعاجز عن فعل ما فعل محمد لأهل هزمان ولا يستطيع أن يأتي بالمعجزات كما أتى.

ثم ألم يكن بين خاصّته وخلّص أتباعه من ينصحه أو من يختلق عذراً يتقدّم به إلى هؤلاء الذين طلبوا من مسيلمة ما طلب أهل هزمان من محمد؟!.

ولكن لماذا لم يستبن ذلك إلاّ بعد مهلك مسيلمة؟ فهل فاضت الآبار بالمياه في حياته كما كانت من قبل، وعاد النخل مثمراً في حياته كما كان من قبل؟ وأظن هذا سيؤكّد نبوّة مسيلمة لا ينفيها. ويكون الطبري قد جاء بما من شأنه تصديق هذه النبوّة من حيث لا يريد.

أم أنّ بني حنيفة تركوا الشرب والسقاية لهم ولأنعامهم من تلك الآبار وتعوّضوا عنها غيرها، فلم يعلموا أنها كانت غائرة ولم يعودوا إليها، إلاّ بعد مقتل مسيلمة، ليستبينوا حقيقتها.

وهذا النخل. وهو ظاهر شامخٌ فوق الأرض، لا يخفيه شئ ولا يحجبه شئ، ولم يفارقه أهله وأصحابه. فكيف خفي عليهم ولم يعلموا حاله إلاّ بعد مقتل مسيلمة؟!

وإليك روايةً أخرى لن أثقل عليك بغيرها، وإن كان أبو جعفر قد أورد الكثير من هذه الروايات، فارجع إليه إن شئت المزيد مما يخصّ نبوّة الكذّاب.

يقول الطبري (وقال له ـ يعني نهاراً لمسيلمة ـ برّك على مولودي بني حنيفة فقال له وما التبريك قال كان أهل الحجاز إذا ولد فيهم المولود أتوا به محمداًصلى‌الله‌عليه‌وآله فحنكه ومسح رأسه: فلم يؤت مسيلمة بصبي فحنكه ومسح رأسه إلاّ قرع ولثغ واستبان ذلك بعد مهلكه)(١) .

وكم رثيت لهؤلاء الصبية المساكين من بني حنيفة يسوقهم آباؤهم، وهم ذوو لسان وشعر إلى هذا الخبيث الكذّاب، فلا يعودون منه إلاّ وقد انعقدت ألسنتهم وقرعت رؤوسهم!!

لكن ما حيّرني وما يزال، كيف استطاع مسيلمة أن يأمر القرع بأن يختفي ولا يظهر في رؤوس الأطفال ما دام حيّاً، فيستجيب ويطيع ولا يظهر ولا يراه القرعى أو ذووهم، إلاّ بعد مقتل الكذّاب. أكان مسيلمة نبيّاً حقّاً فاستجاب له الله حين دعاه إلى وقف ظهور القرع في رؤوس أولئك الصبية ما بقي هو حيّاً؟!

____________________

(١) تاريخ الطبري ج ٣ ص ٢٨٥، وابن الأثير ج ٢ ص ٢٢٠.

٩٨

ثم كيف أفهم أن نهاراً يسأل مسيلمة تبريك الأطفال من بني حنيفة فلا يفهم مسيلمة المقصود بالتبريك، وكأنه ليس من القوم وليست عاداته من عاداتهم فيضطر نهار أن يشرح ذلك له.

أيعرف نهار التبريك ويجهله نبيّه مسيلمة؟!

أظنني لو كنت مكان نهار لرفضت أن أتبع مثل هذا النبي الذي يجهل حتى تبريك الأطفال. أو ربّما ادّعيت أنا النبوّة ولم أتركها له.

وبعد فهل سنكتفي من مسيلمة بما رأيت وسمعت من تناقض وجهل، دون أن نعرض للرجل الذي قاد معركةً من أعنف ما شهد المسلمون في أيّامهم الأولى، بشكل موضوعي بعيد عن تعصّب المتعصّبين وجهل الجاهلين. نحاول من خلاله أن نقترب ما أمكننا ذلك منه، وأن نقول رأينا فيه بصدق وأمانه. لعلّنا نستطيع أن نسهم في إنقاذ ضحيّة من ضحايا هؤلاء الرواة وما أكثر ضحاياهم في تأريخنا.

فمن هو مسيلمة، وهل ادّعى النبوّة فعلاً كما يقول الرواة، وهل كانت بداية دعوته في حياة النبي محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله .

وسأبدأ بالرجل.

فأمّا عن نسبه، فقد سبق أن قلت إنه من بني حنيفة إحدى قبائل بكر بن وائل من ربيعة.

لكن نسبه الحنفي هذا لا يعني في نظري مجرّد انتماءٍ إلى قبيلة ما فليس بين العرب من لا ينتمي إلى قبيلةٍ، إنّما الأمر المهم في نسب مسيلمة كما يبدو لي، هو أنّ بني حنيفة من القبائل المتوطّنة ـ على خلاف القبائل العربية الأخرى ـ يسكنون اليمامة وهي (بلد كبير فيه قرى وحصون وعيون ونخل)(١) شأنهم في ذلك شأن قريش في مكّة والأنصار في المدينة وثقيف في الطائف.

وهذا الاستقرار يسمح لهم بأن يتجاوزا غيرهم من العرب في الأمور المتّصلة بالعقل والفكر، إذا قبلنا أن يتخلّفوا عنهم في مسائل القلب والعاطفة.

____________________

(١) مراصد الاطلاع - دار إحياء الكتب العربية. عيسى البابي الحلبي وشركائه ط أولى ١٩٥٥ ج ٣ ص ١٤٨٣ وقاموس الأمكنة والبقاع - شركة طبع الكتب العربية مطبعة التقدم ١٩٠٦.

٩٩

فليس من السهل على مسيلمة، ولا من السهل على بني حنيفة، أن يقتنعوا بنبوّة مسيلمة، وقد أعلنوا إسلامهم حديثاً على يدي الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله في المدينة. ورأوه واتصلّوا به وسمعوا منه، بعدما سبقهم إليه عددٌ من القبائل العربيّة.

لقد جاهد محمد طويلاً وصبر طويلاً في مكّة وفي المدينة حتى استقام الإسلام وقوي وثبت وانتشر بين العرب. وكانت أخلاق محمد وقرآنه وتعاليمه وراء النجاح الذي حقّقه الإسلام.

فكيف استطاع مسيلمة في أيام، بعد عودة وفد بني حنيفة من المدينة إلى اليمامة، أن يدّعي النبوّة فيجد عند بني حنيفة الرضا به والقبول بدعوته، وكأنهم كانوا ينتظرونه وينتظرونها، وليس فيه إلاّ الرويجل الأصيفر الأخينس، وليس في قرآنه إلاّ الضفدعة بنت الضفدع أو ما هو شبيه أو قريب.

لقد كان بنو حنيفة مسلمين يؤمنون بالنبي محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وكان مسيلمة نفسه يؤمن به ظاهراً على الأقل، وأقصى ما كان يدّعيه أنّ رسول الله أشركه معه في النبوّة. فإيمان بني حنيفة بنبوّة مسيلمة إذا صدّقنا الروايات، ليس مستقلاً إذن عن إيمانهم بنبوّة محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله وإنّما يستمد وجوده منه. ولو كان الأمر عكس ذلك لادّعى مسيلمة النبوّة قبل ذهابه مع وفد بني حنيفة إلى المدينة، وقبل إعلان إسلامهم على يدي النبي محمد هناك، ولما احتاج إلى شهادة الرجال بن عنفوة يؤكّد بها أنّ محمداًصلى‌الله‌عليه‌وآله أشركه في الأمر، فكانت هذه الشهادة سبباً في أن يصدّق بنو حنيفة مسيلمة ويستجيبوا له ويصفقوا معه كما يذكر المؤرّخون(١) .

وهذا سيقودنا إلى سؤال آخر أحسبه نتيجة طبيعية لما تقدّم. فما دام الأمر كلّه ينحصر في أنّ بني حنيفة اعتقدوا بشهادة الرجال أو غيره، أنّ مسيلمة قد أشرك في النبوّة مع محمد. أكان صعباً تفنيذ هذا الاعتقاد، وإبلاغ بني حنيفة كذب مسيلمة وكذب الرجال معه في شهادته وفيما نقله عن النبي محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله .

والآن ماذا بقي من نبوّة مسيلمة غير ما اعتدنا من تزييف وتعصّب وحمق، يسهم فيها كل أصحاب المصلحة في تشويه حقائق التأريخ.

____________________

(١) تاريخ الطبري ج ٣ ص ٢٨٢، وابن الأثير ج ٢ ص ٢١٩، وفتوح البلدان للبلاذري ص ٩٧.

١٠٠