شيء عن الردة

شيء عن الردة0%

شيء عن الردة مؤلف:
تصنيف: مكتبة التاريخ والتراجم
الصفحات: 119

شيء عن الردة

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: أحمد عبدالله
تصنيف: الصفحات: 119
المشاهدات: 13456
تحميل: 4907

توضيحات:

بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 119 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 13456 / تحميل: 4907
الحجم الحجم الحجم
شيء عن الردة

شيء عن الردة

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

فالأمر عند المقدسي واضحٌ لا يحتمل شكّاً. ومقتل خالد عنده لم يكن إلاّ بسبب زوجته الوسيمة وميل خالد إليها. وهذا ما سنتناوله فيما بعد.

وحين يرى عبد الله بن عمر وأبو قتادة ما يجري لمسلم، كل ذنبه أنّ زوجته وسيمةٌ، وأنّ أمير الجيش يريد التخلّص من زوجها ليسهّل الطريق إليها، فإنهما ينهيان خالداً وينكران عليه. وما أظنهما كانا قادرين على أكثر من ذلك. فالآمر هو الأمير ولن يستطيعا منع ما يجري أو وقفه. ولم يكن خالد الّذي اتخذ قراره بقتل مالك، بالّذي يصغي لنهي أو إنكار حتى لو صدرا من أشخاص كابن عمر وأبي قتادة. فلابد من قتل مالك ولن يعدم عذراً فيه.

وها هو يبعث على مالك ليسأله عن هذا البيت من الشعر إن كان هو قائله:

ألا عللاني قبل جيش أبي بكر

لعل المنايا قد دنون وما ندري

فينكر مالك نسبته إليه ويضيف (ولو سمعني صاحبكم أقوله ما قتلني فقال خالد تقول لرسول الله (صاحبكم) وليس بصاحبك اضربوا عنقه..).

وليس في جواب مالك ما يحلّ دمه، فهو ينفي أن يكون صاحب البيت رغم أنّ البيت لا يتضمّن ردّةً ولا كفراً.

ماذا كان على مالك أن يفعل ليثبت ألاّ علاقة له بهذا البيت من الشعر؟ أكان أمامه أو أمام أيّ شخص يقف موقفه وسيلة أخرى يثبت بها براءته من بيتٍ لم يقله؟ لقد لزمته التّهمة وهو ينفي صدوره عنه، فهل كان عليه أن يؤكّد نسبة البيت إليه لينفي التهمة عنه؟!

ثم إنّ لفظة (صاحبكم) التي توسّل بها خالد لاستحلال دم ابن نويرة، لا يمكن أن تنصرف للنبّي محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله بأيّ حالٍ من الأحوال. فالنبي توفّي قبل (ردّة) مالك الّذي كان على صدقات بني حنظلة في زمانه.

وأقصى مداها أنها تتوجّه إلى الخليفة أبي بكر (رض)، فالجيش المذكور في البيت جيشه كما يصرّح البيت نفسه. وهو الّذي سيقتل أو لا يقتل مالكاً لو سمعه، لا النبي محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله ليجوز أن يصرف اللفظ إليه.

وما أحسب أنّ من بين الأسباب التي يكفّر بها المسلم ويستحل دمه أن يقول عن أبي بكر أو غير أبي بكر (صاحبكم) على افتراض قول مالك لها، وقد بلغ الأمر بالصحابة حدّ الاقتتال حتى بين المبشّرين بالجنة منهم ولم يكفّروا.

٦١

وما أحسب مالكاً إلاّ صادقاً حين قال لو سمعني صاحبكم أقوله ما قتلني. فما كان أبو بكر مع دينه وفضله، ليقتل مسلماً أن يقول أو ينشد بيتاً من الشعر لا قطع فيه على ردّة قائله أو منشده.

وحده خالد بن الوليد فهم من (صاحبكم) أنه النبي لا أبو بكر.

ووحده خالد بن الوليد فهم أنّ (صاحبكم) تعني أنه ليس بصاحب لمن قالها.

ووحده خالد بن الوليد حكم أنّ قائل (صاحبكم) قد ارتدّ عن الإسلام بقوله هذا.

ووحده خالد بن الوليد يأمر بالقتل ويستعجل فيه وينفّذه. لا يستشير من كان معه من كبار الصحابة بل ويرفض رأيهم، مخالفاً بذلك حكم الإسلام حتى مع التسليم بارتداد مالك. إذ الحكم أن يستتاب المرتد ثلاثاً إذا ثبتت عليه الردّة. ومالك لم يستتب ثواني ولم تثبت عليه ردّة.

ليس بيت الشعر ما قتل مالكاً، وليس (صاحبكم) ما قتله. ولو لم يكن هذا أو ذاك لكان هناك من الأسباب ما يكفي لقتله وقتل ألفٍ معه لو كان معه ألف.

لقد كان مالك أدرى بالّذي قتله حين قال (هذه قتلتني).

ففارس بني يربوع كان قتيل امرأةٍ!!

بقيت رواية واحدةٌ أرجو القارئ الكريم، وقد أطلت عليه وأثقلت، أن يسمح لي بعرضها استكمالاً لموضوع قلما بحث بحياد ونزاهةٍ. وإن كانت قليلةً في تأريخنا، المواضيع التي بحثت بحياد ونزاهةٍ، بعيداً عن مخلّفات أفكار وعقائد ليس فيها إلاّ تعصّب وجهل وأحكام لا تقبل مراجعة ولا تغييراً قد جمد عليها أصحابها فهم لا يناقشونها ولا يقبلون أن يناقشوا فيها.

وعلى كلٍّ فلنرجع إلى هذه الرواية التي يقدّمها لنا صاحب خزانة الأدب(١) . ولكن قبلها أودّ أن أقف قليلاً عند عبارةٍ أوردها عبد القادر بن عمر البغدادي وهو يمهّد لروايته تلك.

____________________

(١) خزانة الأدب ولب لباب لسان العرب لعبد القادر بن عمر البغدادي تحقيق وشرح عبد السلام محمد هارون نشر مكتبة الخانجي بمصر ج ٢ ص ٢٥ - ٢٦.

٦٢

تقول العبارة (... فأقبل خالد بن الوليد حتى هبط جو البعوضة وبه بنو يربوع فبات عندهم ولا يخافونه...) فبنو يربوع قد أمنوا واطمأنّوا إلى خالد الّذي بات مع جيشه وسلاحه عندهم، ولم يجدوا ما يدعوهم إلى الحذر والخوف منه ومن جيشه وسلاحه.

وما أظن بني يربوع من الحمق بحيث يطمئنّون إلى جيشٍ وسلاح يبيت عندهم فيأمنون إلاّ إذا كان هناك سببٌ قوي يدفعهم إلى الاطمئنان والأمن. وليس هذا السبب سوى أنهم مسلمون كالذين باتوا عندهم. فلِم إذن يخشون مسلمين مثلهم ويحذّرونهم؟

بل ما أظن هذا الجيش وأميره نفسه يأمن أن يبيت عند بني يربوع، لو لم يعرف أنهم مسلمون لن يقاتلوه ولن يغدروا به وهو عندهم.

أليس هذا هو تفسير عبارة البغدادي؟

وأعود إلى روايته وهذا هو نصّها (... ثم إنّ خالد بن الوليد قال يا ابن نويرة هلم إلى الإسلام قال مالك وتعطيني ماذا قال ذمّة الله وذمّة رسوله وذمّة أبي بكر وذمّة خالد بن الوليد فأقبل مالك وأعطاه بيديه وعلى خالد تلك العزمة من أبي بكر قال يا مالك إني قاتلك قال لا تقتلني قال لا أستطيع غير ذلك قال فأت ما لا تستطيع إلاّ إيّاه فقدّمه إلى الناس فتهيّبوا قتله وقال المهاجرون أتقتل رجلاً مسلماً؟ غير ضرار بن الأزور الأسدي من بني كوز فأنه قام فقتله...).

وسأترك ذمّة خالد بن الوليد فهو حرٌّ أن يتصرّف فيها: يحترمها أو لا يحترمها. فذلك شأنه. ولكن كيف سأعمل بما أعطاه ابن الوليد من ذمّة الله وذمّة رسوله ثم ذمّة الخليفة أبي بكر؟!

أكانت ذمّة الله وذمّة رسوله من الهوان عند خالد، بحيث لا يتحرّج من اللعب بهما واتخاذهما وسيلة غدرٍ وحيلة يعطيهما ويخفرهما كما يشاء.

وبِمَ يثق المسلم، إذا لم يثق بذمّة الله وذمّة رسوله وذمّة الخليفة، يعطيها من يستطيع أن يفي بها؟! ماذا كنت ستفعل لو أعطاك خالد أو من هو مثله ذمّة الله وذمّة رسوله، غير ما فعله مالك؟!

أكان أحدٌ سيلومك أنك وثقت بما أعطيت. أم اللّوم على من لم يحترم الله ولا رسوله واستهان بهما وخفر ذمّتهما؟! وأحسب متمّماً كان على علم بما جرى مع أخيه حين قال:

أدعوته بالله ثم قتلته

لو هو دعاك بذمّة لم يغدر

٦٣

أيقتل ابن الوليد مالكاً بحجّة أنه قال (صاحبكم) مع ما يحتمله اللفظ من وجوهٍ، ولا يبالي أن يخفر ذمّة الله وذمّة رسوله. ولا وجه آخر لهما يمكن أن يحملا عليه؟!

ثم هل تهيب الناس قتل مالك، وهل واجه المهاجرون خالداً مستنكرين (أتقتل رجلاً مسلماً) لو لم يكن مالك رجلاً مسلماً حقّاً.

ومع ذلك فأنت مضطر أن تتهم مالكاً بالردّة وبما هو أكثر من الردّة، لو كان هناك ما هو أكثر، إرضاءً لخالد والخالدييّن. وإلاّ فإنّ سيف الله سيكون مسلولاً عليك هذه المرّة.

إلى هنا أنتهي من الروايات التي تناولت حديث مالك أو مأساته.

لكنّ هذه الروايات تبقى قاصرةً عن إعطاء صورة كاملة للمأساة. فهي لا تعرض للأسباب أو للسبب الحقيقي الّذي كان وراء مقتل مالك، مكتفيةً من ذلك بأسباب لا أدري إن كان أصحابها، وهم يروونها مقتنعين بها. وإن كنت أرى وأحسّ مدى اضطرابهم، وهم يحاولون أن يبرّروا ما جرى لمالك ويقنعوك به.

ويبقى السؤال الكبير: ما الّذي قتل مالكاً إذن؟ وهو السؤال الّذي أحاول أن أجيب عليه، لا بروايةٍ جديدة أضيفها إلى الروايات السابقة. بل بالرجوع إلى تلك الروايات التي وقفت عند رموز وإشارات لا تريد أن تتخطّاها إلى التصريح بالسبب الحقيقي الّذي تحوم حوله وتقترب منه، ثم تترك لك أن تصل إليه بنفسك، وكأنما أخذ على أصحابها عهدٌ بالوقوف عند ذاك. مع أنّ تلك الرموز والإشارات كافيةٌ في ذاتها للكشف عن هذا السبب.

وسأعيد قراءة الروايات.

يقول صاحب البدء والتأريخ (وكانت لمالك امرأةٌ وسيمةٌ فمال إليها خالد وأمر بقتل مالك...)(١) .

ويقول الطبري (وتزوّج خالد أم تميم ابنة المنهال) وهو يقصد زوجة مالك(٢) .

ويروي ابن خلّكان (فالتفت مالك إلى زوجته أم متمّم ـ واسمها أم تميم كما هو المتفق عليه ـ وقال لخالد هذه التي قتلتني وكانت في غاية الجمال وقبض خالد امرأته...)(٣) .

____________________

(١) البدء والتأريخ ج ٥ ص ١٥٩.

(٢) تاريخ الطبري ج ٣ ص ٢١٨.

(٣) وفيات الأعيان ج ٦ ص ١٤.

٦٤

ويذكر المرزباني (فقتله ضرار بن الأزور الأسديّ بأمر خالد بن الوليد بالبطاح صبراً وخلف على زوجته وكانت جميلةً...)(١) .

ويحكي ابن الأثير (... وتزوّج خالد أم تميم امرأة مالك...)(٢) .

ويروي أبو الفرج (... يا أبا عبد الله أما سمعت بساقي أم تميم؟ يعني زوجة مالك التي تزوّجها خالد لما قتله، وكان يقال إنه لم ير أحسن من ساقيها...)(٣) .

ويقول ابن أعثم (... فالتفت مالك بن نويرة إلى امرأته فنظر إليها ثم قال يا خالد بهذه قتلتني... فيقال إنّ خالد بن الوليد تزوّج بامرأة مالك ودخل بها وعلى ذلك أجمع أهل العلم...)(٤) .

وينقل أبو الفدا (... فالتفت مالك إلى زوجته وقال لخالد هذه التي قتلتني وكانت في غاية الجمال وقبض خالد امرأته...)(٥) .

ويذكر ابن شاكر الكتبي (... وكان خالد قد تزوّج بزوجة مالك... وعنّفه ـ يعني الخليفة أبا بكر ـ بالتزويج وقيل إنّ خالداً كان يهوى امرأة مالك في الجاهلية(٦) .

ويتحدّث ابن عساكر (... وإنما كان عمر ـ يقصد الخليفة عمر بن الخطاب ـ وجِدَ عليه لأجل ما صنع بمالك بن نويرة وقتله إيّاه وتزوّجه بامرأته... ولما قدِم أبو قتادة على أبي بكر وأخبره بقتل مالك وأصحابه جزع جزعاً شديداً...)(٧) .

وينقل اليعقوبي (... فأتاه مالك بن نويرة يناظره ـ يعني خالد بن الوليد ـ واتبعته امرأته فلما رآها خالد أعجبته فقال والله لا نلت ما في مثابتك حتى أقتلك فنظر مالكاً فضرب عنقه وتزوّج امرأته...)(٨) .

____________________

(١) معجم الشعراء ص ٣٦٠ - ٣٦١.

(٢) تاريخ ابن الأثير ج ٢ ص ٢١٧.

(٣) الأغاني ج ١٥ ص ٣٠٦.

(٤) الفتوح ج ١ ص ٢٢ - ٢٣.

(٥) تاريخ أبي الفدا ج ١ ص ١٥٨.

(٦) فوات الوفيات تحقيق الدكتور إحسان عباس - دار صادر بيروت - ص ٢٣٤.

(٧) تاريخ ابن عساكر ج ٥ ص ١٠٤.

(٨) تاريخ اليعقوبي ج ٢ ص ١١٠.

٦٥

ويقول ابن الوردي في تأريخه ط دار الكتب العلمية ج ١ بيروت ص ١٢٥ ، ١٩٩٦ ط أولى (.. هذه التي قتلتني.. وكانت في غاية الجمال...).

وروى ثابت بن قاسم في الدلائل أنّ خالداً رأى امرأة مالك وكانت فائقةً في الجمال فقال مالك بعد ذلك لامرأته قتلتني يعني سأقتل من أجلك...)(١) .

ويروي الذهبي (... فالتفت مالك إلى زوجته وقال هذه التي قتلتني وكانت في غاية الجمال...)(٢) .

ويحكي ابن العماد (... واشترى ـ يعني خالداً ـ زوجته من الفيء وتزوّجها...)(٣) .

وينقل ابن كثير (... واصطفى خالد امرأة مالك بن نويرة وهي أم تميم ابنة المنهال وكانت جميلةً...)(٤) .

وأظنه استوقفك كما استوقفني هذا الاهتمام بزوجة مالك والتركيز عليها وطول الحديث عن جمالها وهوى خالد لها والتأكيد على قول مالك زوجها (أنت التي قتلتني) أو قوله لخالد (هذه التي قتلتني).

وأظنك تساءلت كما تساءلت أنا، إن كان مالك هو المتزوّج الوحيد بين الذين قاتلهم خالد في الردّة أو في غير الردّة. فهل سمعت حديثاً أو روايةً عن واحدةٍ من زوجات هؤلاء ووصف جمالها حتى وصل الأمر إلى ساقيها وكأنّهم يدفعون بك إلى نهاية طريق واحدٍ ليس أمامك غيره: أن يكون ميل خالد لامرأة مالك الجميلة وحرصه على الزواج منها، السبب في مقتل مالك، تخلّصاً منه، وتحقيقاً لرغبة خالد في الزواج من امرأته.

صحيحٌ أنّ المؤرّخين لم يقولوا صراحةً أنّ مقتل مالك كان بسبب زوجته وتعلّق خالد بها ورغبته فيها.

ولكن أكنّا في حاجةٍ إلى صراحتهم هذه بعد كل الّذي قالوه؟ ثم بعدما اعتادوا أن يختموا الحديث عن مالك، بزواج خالد من زوجته أمّ تميم.

____________________

(١) الإصابة ج ٦ ص ٣٦ - ٣٧.

(٢) تاريخ الإسلام - عهد الخلفاء الراشدين ص ٣٤.

(٣) شذرات الذهب في أخبار من ذهب ج ١ ص ١٦.

(٤) البداية والنهاية ج ٦ ص ٣٢٢.

٦٦

ما أظننا في حاجة، ولا أظنهم.

ومع ذلك فلنكمل ما لم يقولوه صراحةً، بما قاله صراحةً من هو أوثق منهم وأصدق حديثاً.

ولنعد إلى تلك الروايات مرّةً أخرى لنرى موقف الخليفتين عمر وأبي بكر ـ ووضع الاسمين هنا باعتبار تسلسل الحديث ـ ومواقف آخرين لهم بمأساة مالك صلة وثيقة.

يروي الطبري (... وقال عمر لأبي بكر إنّ في سيف خالد رهقاً فإن لم يكن هذا حقّاً حق عليه أن تقيّده وأكثر عليه في ذلك ـ وكان أبو بكر لا يقيّد من عمّاله ولا وزعته ـ فقال هيه يا عمر تأوّل فأخطأ فارفع لسانك عن خالد وودّى مالكاً وكتب إلى خالد أن يقدم عليه ففعل فأخبره خبره فعذره وقبل منه وعنّفه في التزويج...)(١) .

وفي موضع آخر (... وألحّ عليه عمر في خالد أن يعزله وقال: إنّ في سيفه رهقاً...)(٢) .

وفي موضعٍ ثالثٍ (... فلما بلغ قتلهم ـ يعني مالكاً وأصحابه ـ عمر بن الخطاب، تكلّم فيه عند أبي بكر فأكثر وقال: عدّو الله عدا على امرئ مسلم فقتله ثم نزا على امرأته)(٣) .

وبعده (وأقبل خالد بن الوليد قافلاً حتى دخل المسجد وعليه قباءٌ له عليه صدأ الحديد معتجراً بعمامةٍ وقد غرز في عمامته أسهماً فلما أن دخل المسجد قام إليه عمر فانتزع الأسهم من رأسه فحطّمها ثم قال: أرئاءً قتلت امرءاً مسلماً ثم نزوت على امرأته والله لأرجمنّك بأحجارك...)(٤) .

____________________

(١) تاريخ الطبري ج ٣ ص ٢٧٨.

(٢) المصدر السابق ص ٢٧٩.

(٣) نفس المصدر ص ٢٨٠.

(٤) نفس المصدر والصفحة.

٦٧

وفي ابن الأثير (... و تزوّج خالد أم تميم امرأة مالك فقال عمر لأبي بكر إنّ سيف خالد فيه رهقٌ وأكثر عليه في ذلك فقال هيه يا عمر تأوّل فأخطأ... ودخل المسجد ـ يعني خالداً ـ وعليه قباء له عليه صدأ الحديد وقد غرز في عمامته أسهماً فقام إليه عمر فنزعها وحطّمها وقال له أرئاءً قتلت امرءاً مسلماً ثم نزوت على امرأته والله لأرجمنك بأحجارك... وعنّفه ـ يعني أبا بكر خالداً ـ في التزويج...)(١) .

وبعده (... فأمر أبو بكر بردّ السبي وودّى مالكاً من بيت المال...)(٢) .

وفي الأغاني (وقد كان تزوّج خالد أم تميم بنت المنهال...)(٣) .

وفي موضعٍ آخر (... فقال عمر لأبي بكر إنّ في سيف خالد رهقاً وحقٌّ عليه أن تقيده وأكثر عليه في ذلك وكان أبو بكر لا يقيد من عمّاله ولا من وزعته فقال هيه يا عمر تأوّل فأخطأ فارفع لسانك عن خالد وودّى مالكاً... وعنّفه بالتزويج...)(٤) .

ولا أدري لِم لا يقيّد أبو بكر من عمّاله ووزعته إذا فعلوا ما يستحقّون عليه ذلك؟

ما الّذي يمنعهم إذن ويحول بينهم وبين ظلمهم الناس والعدوان عليهم، ويحمي هؤلاء منهم، إذا كان الخليفة قد أعطى ولاته وعمّاله، الضوء الأخضر كما يقال الآن، يعملون ما يريدون دون خوف من حساب أو عقاب.

إلى أين سيتّجه المظلوم لرفع ظلامته واستعادة حقّه ممّن ظلمه واعتدى عليه، ونحن بعد في بداية ما يسمّى بعهد الراشدين؟!

وماذا سيبقى من قول أبي بكر من أوّل خطبة له بعد استخلافه كما يروون (... والقوي ضعيف عندي حتى آخذ الحق منه، والضعيف قوي حتى آخذ الحق له...).

ماذا سيبقى غير هذا الشيطان الّذي يعتريه، كما يعبّر هو، لا أنا، في نفس خطبته تلك، ويطلب من المسلمين أن يتجنّبوه إذا اعتراه الشيطان فغضب(٥) .

____________________

(١) تاريخ ابن الأثير ج ٢ ص ٢١٧.

(٢) تاريخ ابن الأثير ج ٢ ص ٢١٨.

(٣) الأغاني ج ٥ ص ٣٠١. (ذكر متمّم وأخباره وخبر مالك ومقتله).

(٤) انظر نص خطبته في الأخبار الموفقيات للزبير بن بكار من إحضار عبد الله بن الزبير ت ٢٥٦ ص ٤٦٤ تحقيق الدكتور سامي مكي العاني - دار عالم الكتب للطباعة والنشر والتوزيع بيروت ١٩٩٦ ط ثانية.

(٥) نفس المصدر والصفحة.

٦٨

وما أظن أمّة تفلح وخليفتها يعتريه الشيطان فلا يعرف ما يفعل إذا غضب...

ولم تفلح.

أرأيت إلى أين أوصلنا خالد والمدافعون عنه والمبررّون لفعله؟!

لقد أرادوا تبرئة خالد فاتّهموا أبا بكر!

ونعود إلى موضوعنا نستأنف الحديث فيه، فقد تعبنا من هؤلاء الذين يسمّونهم مؤرّخين، وما هم في الواقع إلاّ مزوّرون وأغبياء ومتعصّبون.

وبعده (... وألحّ عليه عمر في خالد أن يعزله وقال إنّ في سيفه لرهقاً...)(١) .

وفي موضع آخر (... فلما بلغ قتلهم ـ يعني مالكاً وأصحابه ـ عمر بن الخطاب تكلّم فيه عند أبي بكر (رض) وقال عدو الله عدا على امرئ مسلم فقتله ثم نزا على امرأته وأقبل خالد قافلاً حتى دخل المسجد وعليه قباء له عليه صدأ الحديد معتجراً بعمامة وقد غرز فيها أسهماً فلما أن دخل المسجد قام إليه عمر فانتزع الأسهم من رأسه فحطّمها ثم قال قتلت امرءاً مسلماً ثم نزوت على امرأته والله لأرجمنّك بأحجارك...)(٢) .

وفي البدء والتأريخ (... ولما قدم خالد قال عمر (رض) لأبي بكر اقتله فإنه قتل وزنا قال تأوّل فأخطأ...)(٣) .

وفي وفيات الأعيان (ولما بلغ الخبر أبا بكر وعمر (رض) قال عمر لأبي بكر (رض) إنّ خالداً قد زنى فارجمه قال ما كنت لأرجمه فإنّه تأوّل فأخطأ قال فإنه قتل مسلماً فاقتله به قال ما كنت لأقتله به إنه تأوّل فأخطأ(٤) .

ويقول أبو الفدا: (... ولما بلغ ذلك أبا بكر وعمر قال عمر لأبي بكر إنّ خالداً قد زنى فارجمه قال ما كنت أرجمه فإنه تأوّل فأخطأ قال فإنّه قتل مسلماً فاقتله قال ما كنت أقتله فإنّه تأوّل فأخطأ(٥) .

____________________

(١) نفس المصدر ص ٣٠٢.

(٢) نفس المصدر ص ٣٠٤.

(٣) البدء والتأريخ ج ٥ ص ١٦٠.

(٤) وفيات الأعيان لابن خلكان ج ٦ ص ١٥.

(٥) تاريخ أبي الفدا ج ١ ص ١٥٨.

٦٩

وينقل الذهبي (... قدِم أبو قتادة الأنصاري على أبي بكر (رض) فأخبره بقتل مالك ابن نويرة وأصحابه فجزع لذلك ثم ودّى مالكاً وردّ السبي والمال)(١) .

وفي موضعٍ آخر (... فلما قدم خالد قال عمر: يا عدو الله قتلت امرءاً مسلماً ثم نزوت على امرأته لأرجمنك)(٢) .

وبعده (... فقام عمر فقال: يا أبا بكر إنّ في سيف خالد رهقاً وإنّ هذا لم يكن حقّاً فإنّ حقّاً عليك أن تقيده فسكت أبو بكر)(٣) .

وبعده (... وقال لعمر ـ يعني أبا بكر ـ وهو يناشد في القيود ليس على خالد ما تقول هبه تأوّل فأخطأ)(٤) .

وفي تأريخ اليعقوبي (... فقال عمر بن الخطاب لأبي بكر: يا خليفة رسول الله إنّ خالداً قتل رجلاً مسلماً وتزوّج امرأته من يومها...)(٥) .

ويروي خليفة بن خياط (... قدم أبو قتادة على أبي بكر فأخبره بمقتل مالك وأصحابه فجزع من ذلك جزعاً شديداً فكتب أبو بكر إلى خالد فقدم عليه فقال أبو بكر هل يزيد خالد على أن يكون تأوّل فأخطأ وردّ أبو بكر خالداً وودّى مالك بن نويرة وردّ السبي والمال)(٦) .

ويقول صاحب الخزانة (... ودخلها ـ دخول خالد المدينة ـ وقد غرز سهمين في عمامته فكأنّ عمر غضب حين رأى السهمين فقام فأتى عليّاً فقال إنّ في حق الله أن يقاد هذا بمالك. قتل رجلاً مسلماً ثم نزا على امرأته كما ينزو الحمار ثم قاما فأتيا طلحة فتتابعوا على ذلك...)(٧) .

____________________

(١) تاريخ الإسلام - عهد الخلفاء الراشدين - ص ٣٣.

(٢) المصدر السابق ص ٣٦.

(٣) نفس المصدر ص ٣٧.

(٤) نفس المصدر والصفحة.

(٥) تاريخ اليعقوبي ج ٢ ص ١١٠.

(٦) تاريخ خليفة بن خياط ج ١ ص ٧٠.

(٧) خزانة الأدب ج ٢ ص ٢٧.

٧٠

فأين تلك الروايات التي تحجم فلا تفصح، من صراحة عمر وهو يعلن غير شاك ولا مرتاب أنّ خالداً قتل امرءاً مسلماً وزنى بامرأته ويطالب بإنفاذ حكم الله فيه: القتل والرجم.

وهل كان ابن الخطاب يتّهم خالداً أو غير خالد من عامّة المسلمين، بهذا الشكل الحاسم القاطع ويمضي فيه لو لم يثبت عنده قتل خالد لمالك ظلماً، دون أن يصدر منه ما يستوجب قتله من ردّة أو ما دونها. ولو لم يثبت عنده وبنفس الدرجة من القوّة أيضاً أنّ خالداً تجاوز حدود الله بالزنا ـ وهو ما كان يصر عليه الخليفة عمر دون أيّة تسمية أخرى ـ بامرأة مالك ويطالب برجمه كما تقضي الشريعة.

أمّا أنا فلا أحسبني في حاجةٍ إلى ما أضيفه بعد قول ابن الخطاب ولا أجد شهادةً ببراءة مالك ممّا اتهم به بعد شهادته ولا إدانةً لخالد بعد إدانته.

وليس موقف أبي بكر بأقلّ إدانةً لخالد من موقف عمر وإن كان أقلّ صراحةً.

فالمؤرّخون ينقلون أنّ أبا بكر جزع أو جزع جزعاً شديداً، لما علم بمقتل مالك وأصحابه(١) .

وما أحسب أبا بكر قد جزع أو جزع جزعاً شديداً لو كان المقتول مرتدّاً، وهو الّذي أرسل خالداً وغير خالد لقتال المرتدّين. فجزعه لم يكن إذن إلاّ لعلمه أنّ خالداً قتل مسلماً ثابتاً على إسلامه.

وبغير هذا لا أجد تفسيراً لجزعه، أو جزعه الشديد.

كما ينقل المؤرّخون أنّ أبا بكر ودّى مالكاً وردّ السبي والمال(٢) . ولم يكن هذا فعله مع المرتدّين. وهو أيضاً ما لا يمكن تفسيره بغير ما ذكرناه من إسلام مالك وعدم ارتداده.

بل إنّ اعتذار أبي بكر عن خالد بقوله (تأوّل فأخطأ) حين اشتدّ عمر في أمره وطلب بأن يقتل ويرجم.

____________________

(١) تاريخ الإسلام للذهبي - عهد الخلفاء الراشدين - ص ٣٣ وتاريخ خليفة بن خياط ج ١ ص ٧٠.

(٢) تاريخ الطبري ج ٣ ص ٢١٨ والأغاني ج ١٥ ص ٣٠١ والذهبي تاريخ الإسلام - عهد الخلفاء الراشدين - ص ٣٣ وتاريخ ابن الأثير ج ٢ ص ٢١٨.

٧١

هذا الاعتذار يؤكّد بوضوحٍ لا لبس فيه، أنّ خالداً قتل خطأ أي أنه قتل مسلماً غير مرتد. وإلاّ فأيّ خطأ في أن يقتل خالد واحداً من المرتدّين. وهو الّذي ما جاء إلاّ لقتالهم وبأمرٍ من أبي بكر نفسه.

فاعتذار أبي بكر إن كان ينفي بوضوح تهمة الردّة عن مالك، فإنه لا ينفي خطأ خالد في قتله مسلماً لم يرتكب جرماً. هذا إذا قبلنا أنّ قتل مالك كان مجرّد خطأ من خالد وهو ما لا نجد سبيلاً لقبوله بعد كل الّذي تقدّم.

وأبو بكر لا يقف عند هذا الحد. فالمؤرّخون يضيفون أنّه عنّف خالداً بزواجه من أمّ تميم امرأة مالك. وما كان أبو بكر ليعنف شخصاً في زواجه، لو لم يكن في هذا الزواج ما يدعو إلى التعنيف بمخالفته للسنن الشرعيّة وخروجه عليها.

وما أظننا في حاجةٍ للعودة إلى زواج خالد من أم تميم، ولم يجف دم زوجها، بعد أحجار ابن الخطاب التي يرمي بها الزناة كما أشرنا، وبعد ما تغنّى الناس بأبيات أبي زهير السعدي التي يقول فيها:

قضى خالد بغياً عليه لعرسه

وكان له فيها هوى قبل ذلك

فأمضى هواه خالد غير عاطف

عنان الهوى عنها ولا متمالك

ولا بدّ أن نتوقّف قليلاً عند اثنين من خيار الصحابة من الّذين كان لهم موقفٌ في هذه المأساة: هما عبد الله بن عمر وأبو قتادة الأنصاري. وقد شهد الاثنان بإسلام مالك وكلّما خالداً في أمره، لو كان إسلامه نافعاً له ومانعاً عنه القتل، ولو كانت زوجته واحدة أخرى غير ذات الساقين اللذين لم ير أحسن منهما.

وقد بلغ من غضب أبي قتادة على خالد لقتله مالكاً أن (عاهد الله ألاّ يشهد مع خالد بن الوليد حرباً أبداً بعدها)(١) .

وأظن من قلّة الوفاء وقد أوشكنا على الانتهاء من حديث مالك، أن ننسى أخاه الّذي كان مضرب المثل في الوفاء لأخيه. ذلك هو متمّم بن نويرة، الّذي ظل يبكي مالكاً حتى دمعت عينه العوراء، وحتى هجرته زوجته لانشغاله عنها بالحزن على أخيه والّذي كان يبكي كل قبر يراه؛ لأنه يذكّره بقبر أخيه مالك.

____________________

(١) تاريخ الطبري ج ٣ ص ٢٨٠ والأغاني ج ١٥ ص ٣٠٣ وتاريخ اليعقوبي ج ٢ ص ١١٠ وطبقات فحول الشعراء لمحمد بن سلام الجمحي سفر أول ص ٢٠٨.

٧٢

متمّم هذا يمثّل فصلاً من فصول هذه المأساة التي بدأت في البطاح لتنتهي في المدينة. وهو فصلٌ لا تستطيع أن تغفله وأنت تريد الخروج بصورةٍ كاملة لمأساة مالك.

فيذكر المؤرّخون أنّ متمّماً جاء إلى المدينة، يحمل حزنه على أخيه مالك، ومع حزنه ظلامته التي يحاول أن يعرضها على المسلمين هناك لعل فيهم من ينصفه وينصف أخاه، أو من يشاركه فيها ويواسيه.

وهؤلاء المؤرّخون يروون أنّ متمّماً صلّى الصبح مع أبي بكر ثم أنشده قوله:

نعم القتيل إذا الرياح تناوحت

خلف البيوت قتلت يا ابن الأزور

أدعوته بالله ثم قتلته

لو هو دعاك بذمّة لم يغدر

فقال أبو بكر والله ما دعوته ولا قتلته.

ومن حق أبي بكر أن يقول ذلك. فهو لم يدعه ولم يقتله، وهو أفضل وأتقى لله أن يدعوه ثم ينكث ويغدر به.

ولكن ألا تحس معي أنّ في جواب الخليفة شيئاً آخر أكثر من مجرّد البراءة من قتل مالك والغدر به، وهو ما لا يلحق أبا بكر ولا يتعلّق به من قريب ولا من بعيد.

ألا تحس في هذا الجواب لا ما يبرئ أبا بكر وهو غير متّهم طبعاً، ولكن ما يبرئ مالكاً ممّا اتهم به من ردّة ورجوعٍ عن الإسلام.

ألم يكن أسهل على أبي بكر أن يقول لمتمّم إنّ الذي قتل أخاه هو ردّته، فلا يقطع بذلك متمّماً وحده، وإنما كل الذين قد يشاركون متمّماً ويعطفون على قضيّته.

ما الّذي منع أبا بكر من هذا الجواب أو مثله، لو كان مالك قتل على الردّة.

بل كيف يجرؤ متمّم على المجيء إلى المدينة، باكياً أخاه راثياً له والتعرّض لأبي بكر وعمر ووجوه المسلمين، واستعدائهم على قاتل أخيه وسكوت كل هؤلاء عنه وسماعهم منه، لو لم يكن متمّم واثقاً من أمره وممسكاً منه بسبب أكيد.

رحم الله مالكاً وغفر لخالد.

لقد كنت أعجب كيف قتل الحسين بعد خمسين سنة من وفاة النبي.

وقد زال عجبي وأنا أرى ما حلّ بالمسلمين بعد خمسين يوماً من وفاة النبي.

٧٣

الباب الرابع

( سجاح )

٧٤

الباب الرابع

( سجاح )

وأراني وصلت إليك يا ابنة عقفان. فمن أنت وما خطبك؟ هل صحيحٌ أنك ادّعيت النبوّة كما يقول المؤرّخون؟ وهل صحيحٌ ما حصل لك في خيمة مسيلمة كما يقول هؤلاء أيضاً؟

لقد جعلوا منك نبيّاً. ثم قاربوا أن يجعلوا منك بغيّاً. وأظن الفرق كبيراً بينهما. وما أحسبهم صدقوا في الأولى ولا في الثانية.

ولا أكتمك أنّ الحديث عن (الأنبياء) يستهويني. وقد سبق أن تحدّثت عن صاحب لك من بني أسد، هو طليحة بن خويلد منحه المؤرّخون رتبة (النبوّة) وسأتحدّث عن صاحب آخرٍ لك، من أخوالك ربيعة، يشاركك المرتبة نفسها، هو مسيلمة بن حبيب الحنفي.

ثم إنّ عندي من حديث المؤرّخين عنك وعن غيرك شكّاً كبيراً. ولهذا جئتك ببعض الأسئلة، عسى أن أستطيع الدفاع وتصحيح ما يرويه المؤرّخون عنك، دون أن أقتضيك ثمناً لهذا الدفاع. فما أزال أذكر أنّه كان عندنا بالعراق في العهد المسمّى بـ(البائد) أو (المباد) وقبل قيام (الثورات)، لجنة تدعى لجنة الدفاع عن العدالة، مهمّتها الدفاع عن المتّهمين أمثالك، ممّن لا يملكون وسائل الدفاع عن أنفسهم. وكنت واحداً من أعضائها. وقد انتهت هذه اللجنة بعد سقوط العهد المباد وقيام عهد الثورات في العراق، إذ لم يعد المتّهمون في حاجةٍ إلى محامين!!

ربّما أثقلت عليك بهذا الاستطراد وأنت تنتظرين الأسئلة التي حملتها معي، وعذري أنّ الحديث مع أهل الدار الآخرة فيه من الرهبة والخوف ما يوجب التمهيد له والتلّطف في تناوله.

وعذري ثانياً أنكم في الآخرة لستم مثلنا في عجلةٍ من أموركم، وقد كفيتم أمور المعيشة التي تضغط علينا في هذه الأرض وتسلب وقتنا وفكرنا.

٧٥

وسأبدأ الحديث بسؤال عن حياتك قبل الردّة والنبوّة، وقبل الزواج من مسيلمة. فالمؤرّخون يقولون إنك ابنة الحارث بن سويد بن عقفان، من بني غدانة بن يربوع، عدا صاحب جمهرة أنساب العرب: محمد بن حزم فله في أسماء آبائك رأيٌ يخالف الآخرين(١) .

ولم أكن لأقف عند هذا السؤال. ولم أكن لأطرحه عليك، لولا ما يوليه العربي لنسبه من منزلةٍ رفيعة واعتزازٍ بآبائه وعشيرته حتى أنّه ليقبل راضياً أن يذمّ ويهجي إذا مدح أبوه وأجداده. ويفضّل أن يكون ماضياً بلا حاضر على أن يكون حاضراً بلا ماض، وإن ضعف هذا الآن وأصبح المرء قادراً على أن يشتري بماله ما يشاء: آباءً وأجداداً، وأن يضيف إليهم ما يشاء ، إن قصر به هؤلاء الآباء والأجداد: لكل سعرٌ محدّد معلوم.

ويقولون أيضاً إنك من بيت كان نقيلاً في بني تغلب، كما كانت البسوس التي ثارت بسببها الحرب بين بكر وتغلب، وهي تميميّةٌ مثلك، نقيلة في نفس القبيلة: تغلب.

هذا كل ما يذكره المؤرّخون عن نشأتك، ليس لديّ ما أضيفه إليه، وبيني وبينك هذا الزمن الطويل.

وسأنتقل إلى سؤال آخرٍ ما يزال المؤرّخون يبحثونه ويثيرونه كلّما عرضوا لموضوع الردّة التي يتّهمونكِ بها.

فالطبري، وما أخالك سمعت به وقد جاء بعدك بحوالي الثلاثة قرون، يذكر في تأريخه، ويشاركه في ذلك بقيّة المؤرّخين، أنك تنبّأتِ بعد وفاة النبي محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله بالجزيرة في أخوالك بني تغلب. وأنّك جئت تقودين قبائل ربيعة، وقد عزمت على غزو أبي بكر في المدينة.

وحتى أبعد عن نفسي ما قد تتهمينني به من المبالغة أو عدم الدّقة في النقل، فسأثبت نص ما قاله شيخ المؤرّخين عندنا (بينا الناس في بلاد تميم على ذلك قد شغل بعضهم بعضاً فمسلمهم بإزاء من قدم رجلاً وأخر أخرى وتربص وبإزاء من ارتاب فجاءتهم سجاح بنت الحارث قد أقبلت من الجزيرة وكانت رهطها في بني تغلب تقود أفناء ربيعة. معها الهذيل بن عمران في بني تغلب وعقّة بن هلال في النمر وتاد بن فلان في إياد والسليل بن قيس في شيبان...

____________________

(١) تاريخ الطبري ج ٣ ص ٢٦٩ أحداث سنة ١١، وتاريخ ابن الأثير ج ٢ ص ٢١٤ أحداث نفس السنة.

٧٦

وكانت سجاح بنت الحارث بن سويد بن عقفان هي وبنو أبيه عقفان في بني تغلب فتنبّت بعد موت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بالجزيرة في بني تغلب فاستجاب لها الهذيل وترك التنّصر وهؤلاء الرؤساء الّذين أقبلوا معها لتغزو بهم أبا بكر...)(١) .

هذا هو نص الطبري كما ترين. وأظنك تشكّين في الكثير مما ورد فيه كما شككت، لو أنّ أهل الآخرة يذكرون شيئاً من أمور دنياهم.

فما الّذي جعل ربيعة تتبع نبيّةً من تميم على ما بين القبيلتين من عداء قلما عرف بين حييّن من العرب. بدأ جاهليّةً واتّصل إسلاماً حتى كانت ربيعة تحالف الأزد من اليمن ضد تميم التي تشاركها (العدنانية).

وماذا لدى هذه المرأة مما يدفع ربيعة إلى الإيمان بها والانقياد لها وقد قيل (ما زالت ربيعة غاضبة على الله منذ بعث نبيّه من مضر)(٢) . على عظمة هذا النبي وعظمة دينه وقرآنه. فأين منه سجاح وغير سجاح مع (مضريّتها).

ثم إنّ ربيعة كان لها نبيٌّ (ذكر) من نفسها، هو مسيلمة بن حبيب الحنفي الربعي. فكيف تركته وتولّت امرأةً من تميم. وليست سجاح بأفضل من مسيلمة ولا أصدق منه. ولا مسيلمة بأسوأ من سجاح ولا أكذب منها، إذا أخذنا بما يقوله المؤرّخون عنهما.

ومن الحق ألاّ أتهم ربيعة وحدها بهذه العصبيّة (النبوّية) فالمؤرّخون يذكرون أنّ عيينة ابن حصن الفزاري كان يقول في ردّته واتباعه طليحة (والله لإن نتبع نبيّاً من الحليفين ـ يعني غطفان الّتي هو منها وأسداً التي منها طليحة ـ أحبّ إلينا من أن نتبّع نبيّاً من قريش...)(٣) .

____________________

(١) هكذا أحفظها. وقد وردت على لسان عبدالله بن خازم السلمي أمير خراسان في الفتنة ثم من قبل عبدالله بن الزبير بالصيغة التالية (أنّ ربيعة لم تزل غضاباً على ربها منذ بعث الله النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله من مضر. ولا أدري إن كان ابن خازم هو أول من قالها أم أنّ الذي قالها غيره وتمثّل هو بها، وهذا ما أظن - الطبري ج ٥ أحداث سنه ٦٤ ص ٥٤٨.

(٢) تاريخ الطبري ج ٣ ص ٢٥٧ وابن الأثير ج ٢ ص ٢٠٥.

(٣) تاريخ الطبري ج ٣ ص ٢٧٢ أحداث سنة ١١.

٧٧

وعلى كلٍّ فبين قبائل ربيعة المتّهمة عند المؤرّخين بالردّة واتباع سجاح، تغلب التي بدأت منها دعوة سجاح أو نبوّتها. وتغلب هذه كما نعرف من القبائل التي غلبت عليها النصرانية واستمرّت كذلك حتى عهد متأخّر. ويكفي أن الأخطل التغلبي وهو شاعر الخلافة الأمويّة، كان نصرانياً ولا يتحرّج أن يعلن نصرانيّته، وأمر هذه القبيلة مستفيض معروفٌ يمكن لمن يشاء أن يرجع إليه في مصادره من كتب التاريخ والأنساب والأدب.

بل لماذا أبعد عليك بمراجعة المصادر من كتب التاريخ والأنساب والأدب، والطبري نفسه يقول في هذا النص الّذي ننقل عنه (... فاستجاب لها ـ سجاح ـ الهذيل ـ يعني ابن عمران زعيم تغلب ـ وترك التنصّر...).

تغلب النصرانيّة هذه، كيف يمكن أن تضاف إلى القبائل المرتدّة وتبحث معها، مع تصريح المؤرّخين بنصرانيّتها.

والهذيل بن عمران زعيمها. ما الّذي دعاه أن يترك التنصّر كما يقول الطبري؟ ليسلم؟ وهو لم يسلم. أليقاتل المسلمين؟ وهو لم يكن في حاجةٍ إلى ترك دينه، ليقاتلهم. أم ليدين بدين سجاح؟ ونحن لا نعرف من هذا الدّين شيئاً، حتى اسمه. وما أظن الهذيل عرف منه شيئاً؛ لأنه لم يكن فيه ما يستحق أن يعرف ولا ما لا يستحق، كحمام طليحة وضفدعة مسيلمة.

هذا عن تغلب ورأسها الهذيل.

لكن ما هو أهمّ منه، أنّ سجاح نفسها لم تكن مسلمةً ليصح اتهامها بالارتداد، فضلاً عن ادّعائها النبوّة وقيادتها المرتدّين. فالطبري يصفها بأنها (كانت راسخة في النصرانيّة وقد علمت من علم نصارى تغلب)(١) .

ولا أدري يا ابنة عقفان، إن كنتِ راسخةً حقّاً في النصرانيّة كما يصفكِ الطبري، وقد نشأت عند أخوالك النصارى من تغلب. ولكن ما أدريه وأعلمه أنّ الارتداد لا يطبّق عليكِ؛ لأنه لا يطبّق على غير المسلمين، من نصارى وسواهم. يستوي في ذلك الراسخون وغير الراسخين في ديانتهم تلك.

____________________

(١) تاريخ الطبري ج ٣ ص ٢٧٠ أحداث سنة ١١.

٧٨

وهذا ما يدفع إلى الاستغراب، أن يكون مؤرّخ كابن جرير ينعتكِ في وقت واحد، بالنصرانية وبالارتداد الّذي يعني الارتداد عن الإسلام، وهو ما يعزّز شكوكي التي بدأت بها حديثي معك، لا فيما يخصّك وحدك، ولا فيما يخصّ الردّة وحدها، ولكن فيما يتعلّق بتأريخنا كله. وأظنني تناولت هذا الموضوع في أكثر من موضع هنا، وفي أكثر من كتاب.

ويذكر الطبري بين أفناء ربيعة التي قدمت معك قبيلة إياد بقيادة تاد بن فلان.

وإياد كما يجمع علماء الأنساب، ليست من ربيعة وإنما هي قبيلة تقابل ربيعة. والنسّابون يذكرون أنّ أبناء نزار بن معد بن عدنان أربعة، هم ربيعة ومضر وإياد وأنمار.

فإياد ليست من ربيعة، ولا أقرب إليها منها إلى مضر. وهي ليست من القبائل الكبيرة القوية، ولم تشارك في بناء تاريخ العرب، لا جاهلية ولا إسلاماً ولم تعرف لها أيام كأيامهم ولا بيوت وزعامات كبيوتهم وزعاماتهم. ولولا قيس بن ساعدة ولقيط بن يعمر وأبو دؤاد في الجاهلية، وابن أبي دؤاد في الإسلام، لما سمع أحدٌ باسمها من غير أصحاب الاختصاص.

بعد هذا ما الذي جاء بك وإفناء ربيعة إلى بلاد تميم، وأنتم تريدون غزو أبي بكر في المدينة؟! هل كان الطريق إلى المدينة يمّر ببني تميم أم قصدتم غزو تميم أيضاً، وهم قومك وقبيلتك وليس الأمر سهلاً معهم كما تعلمين. وقد جرّبت ربيعة قتالهم في الجاهلية قبل ذاك. وأفترض أنك وأصحابك على علم به.

أم لدعوتهم إلى الدخول في دينك وترك دين محمد؟ وكان أقبل عند قومك لو قصدتهم وحدك في غير ما يشبه هيئة الغزو، إن استطعت أن تجدي بينهم من يتبعك عليه. وسأعود إلى الحديث عن هذا الدين فيما بعد، فالمؤرّخون لا يكتفون منك بالردّة عن الإسلام كما يفعلون مع الآخرين، وإنما يجعلون منك نبيّاً. ولا بد أن يكون لك، ككل نبي دينٌ أو ما يشبهه أو يقرب منه.

لعلّي أضجرتكِ بحديث عمره أربعة عشر قرناً أو تزيد، ربما لم تعودي تذكرين منه الآن شيئاً.

٧٩

لكن عذري أنني أحاول ـ كما فعلت مع غيرك ـ أن أنصفك قدر ما أستطيع، مما رماكِ به المؤرّخون، وأصحّح الأخبار التي رافقت ما يسمّونه ردّة سجاح، وقد خبطوا فيها وتجنّوا وأسفّوا.

ولهذا رأيت أن أستفهمك عن بعض تلك الأخبار، ومنها مثلاً موقف زعماء بني تميم منك، وعلى وجه الخصوص عطارد بن حاجب والزبرقان بن بدر.

وأنت تعرفين أنّ عطارد هو سيّد قومك وابن سيّدهم، فأبوه حاجب بن زرارة الّذي رهن قوسه عند كسرى في قصّة معروفةٍ، وصاحب أغلى فداء عرفته العرب بعد أسره يوم شعب جبلة.

والزبرقان بن بدر صاحب الحطيئة الّذي انقلب عليه وهجاه في سينيته التي منها البيت المشهور:

دع المكارم لا ترحل لبغيتها

واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي

هل كان عطارد والزبرقان ومعهما رؤوس بني تميم معك أم ضدّك؟ فلقد تعبت مع هؤلاء المؤرّخين الّذين يجعلونهم معك وضدّك في بضع صفحات فقط.

فهذا الطبري يقول في ص ٢٦٩ من تأريخه (فأرسلت ـ يعني سجاح التي هي أنتِ ـ إلى بني مالك بن حنظلة تدعوهم إلى الموادعة، فخرج عطارد بن حاجب وسروات بني مالك حتى نزلوا في بني العنبر على سبرة بن عمرو هرابا...).

فهو يثبت هنا هرب عطارد وخلافه عليك وكرهه لمقابلتك. لكنه يعود إلى عطارد في ص ٢٧٤ فيقول (... وكان من أصحابها الزبرقان بن بدر وعطارد بن حاجب ونظراؤهم).

ثم يؤكّد هذا بعد سطرين من نفس الصفحة (... فانصرفت ومعها أصحابها فيهم الزبرقان وعطارد... فقال عطارد بن حاجب:

أمست نبيّتنا أنثى نطوف بها

وأصبحت أنبياء الله ذكرانا

٨٠