شيء عن الردة

شيء عن الردة0%

شيء عن الردة مؤلف:
تصنيف: مكتبة التاريخ والتراجم
الصفحات: 119

شيء عن الردة

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: أحمد عبدالله
تصنيف: الصفحات: 119
المشاهدات: 13459
تحميل: 4907

توضيحات:

بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 119 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 13459 / تحميل: 4907
الحجم الحجم الحجم
شيء عن الردة

شيء عن الردة

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

لقد تنبّأ طليحة، ومحمد حيٌّ بعد يملأ بشخصيته الجبّارة القوية القلوب والنفوس والعقول حبّاً وإجلالاً واحتراماً. والقرآن هذه المعجزة الخالدة، يتلى ليل نهار قد أعجز العرب لا ببلاغته فحسب وهم أهل البلاغة، بل وبما جاء به من أحكام شملت أمور الدين والدنيا، ما تزال حتى اليوم، وحتى يأذن الله بنهاية هذه الحياة، تشدّ إليها عالماً كاملاً.

فما الّذي جاء به طليحة دليلاً وحجّة على نبوّته؟ وأين هي معجزته ـ ولأقبل بحدّها الأدنى وبما هو دونه أيضاً ـ التي يستطيع أن يفرض صدقه بها ويغري المسلمين ويدفعهم إلى الارتداد عن دينهم والانضمام إليه والإيمان بدينه.

بم يستطيع أن يتجاوز أو يساوي عظمة محمد وعظمة معجزته.

أبقوله (والحمام واليمام والصرد الصوام قد صمن قبلكم بأعوام ليبلغن ملكنا العراق والشام)(١) .

أم بقوله (أمرت أن تصنعوا رحى ذات عرى يرمي بها الله من رمى يهوى عليها من هوى)(٢) .

أم بقوله (ابعثوا فارسين على فرسين أدهمين من بني نصر بن قعين يأتيانكم بعين)(٣) .

وهو كل ما نقله المؤرّخون ممّا أوحى إليه من السماء.

أيكون هذا ممّا يعارض به القرآن أم صاحبه ممّن يوازن به محمّد؟!

لقد ضحكت وأنا أقرأ ما كتبه المؤرّخون عن نبوّة طليحة؛ لأنّ سيف ضرار لم يغن فيه شيئاً.

ولكني ضحكت أكثر وأنا أقرأ ما أوردوه من قرآن طليحة.

____________________

(١) تاريخ الطبري ج ٣ ص ٢٦٠ وابن الأثير ج ٢ ص ٢١٠.

(٢) تاريخ الطبري ج ٣ ص ٢٦٠.

(٣) المصدر السابق ص ٢٦٠ - ٢٦١.

٤١

الباب الثالث

(مأساة مالك بن نويرة)

٤٢

الباب الثالث

(مأساة مالك بن نويرة)

كنت قد نويت في الأصل أن يقتصر حديثي عن الردّة على ردّة أو مأساة مالك بن نويرة كما يظهر ذلك من مقدّمة الكتاب. لكن وجدتني مسوقاً، ربما بحكم اتّصال أحداث الردّة وعدم إمكان الفصل التام بينها دون تشويهها، إلى التعرّض لردّة طليحة التي تقدّمت في الفصل السابق.

وحاولت أن أعود إلى مقدّمة الكتاب لأعيد النظر فيها بما ينسجم والوضع الجديد الّذي تجاوز ردة مالك، لولا أنني ما كدت أبدأ حتّى رأيت المسافة إلى اليمامة من القرب بحيث حالت بيني وبين ما كنت أريد. ورأيت جموع (المرتدّين) من بني حنيفة وهم ينتظرون ـ شأن سابقيهم من أصحاب طليحة ـ من يذكرهم بكلمة إنصاف بعد قرون من ظلم المؤرّخين لهم واتهامهم بالارتداد عن الإسلام.

وفي الطريق بين مالك ومسيلمة، صادفت امرأةً شاحبة الوجه مذهولة قالت، عندما سألتها عن اسمها وشأنها، أنها تدعى سجاح، وقد رفعت إلى السماء كفين بدت عروقهما، داعيةً على من اسمه سيف بن عمر، وعلى المؤرّخين الّذين نقلوا عنه، ما لوّث سيرتها واتهمها في دينها وشرفها. واستطعت أن أخفف عنها وأزيل بعض همّها، حين أخبرتها أنّ سيفاً هذا قد لوّث وزوّر تأريخاً كاملاً ما نزال نقرأه ونعتمده حتّى الآن، وأنها ليست إلاّ واحدةً من ضحاياه.

وبعيداً عن سجاح ومالك ومسيلمة. كانت تدور على أرض اليمن رحى حرب أخرى بسبب ناقة أراد صاحبها ارتدادها، فكانت إحدى حروب الردّة.

وتركت المقدّمة كما هي دون تعديل تدور حول مالك الّذي يبقى موضوعاً لمأساة، أعجب ألاّ يكون بين الأدباء والشعراء حتّى الآن من تناولها. وهي مأساة ما تزال تثير في النفس أعمق عواطف الحزن والألم والشعور العميق بالظلم يتعرّض له من لا يستحقّه فتوّةً وشجاعة وكبرياء.

٤٣

وإذا كانت الحرب ضد طليحة قد وجد المؤرّخون سبباً لها فيما سمّوه ارتداداً. فإنّ هؤلاء المؤرّخين يضطربون ويتناقضون كلما تعرّضوا لمالك. وتحسّ بضعفهم وحيرتهم وهم يحاولون أن يجدوا ما يبرّرون به قتله.

وقبل أن أناقش موقف هؤلاء المؤرّخين من مأساة مالك. أرى أن أقدّم له بتعريف مختصر عن بطل المأساة، فذلك أحرى أن يساعد على فهمه.

من هو مالك بن نويرة:

إلى يربوع من تميم القبيلة العربية الكبيرة يرجع مالك بن نويرة فهو كما يذكر النسّابون مالك بن نويرة بن جمرة بن شدّاد بن عبيد بن ثعلبة بن يربوع.

وبنو يربوع من أشدّ بطون تميم وأقواها بأساً وهي إحدى جمرات العرب كما تذكر الأخبار.

وبين أفخاذ يربوع هناك فخذان يتمتّعان بمكان خاص هما ثعلبة بن يربوع رهط مالك ورياح بن يربوع.

وكان جرير لا يجد ما يعارض به الفرزدق في مهاجاته الطويلة له إلاّ هذين الفخذين يعتد بهما عليه. متجاوزاً قومه بني كليب (بن يربوع) فهو يقول مثلاً في إحدى قصائده:

أثعلبة الفوارس أم رياحاً

عدلت بهم طهية والخشابا

ونجد ثعلبة ورياحاً يتردّدان في شعر جرير كلما أراد الفخر والرد على خصمه الفرزدق الّذي ينحدر من فخذ الرئاسة في تميم (دارم) وله من آبائه وأسرته ما لا يجد جرير بعضه ولا شيئاً منه.

هذا مالك في قبيلته ورهطه الأدنين. أمّا مالك في نفسه فيكفي أن تعرف أنّ فيه قيل المثل المشهور (فتىً ولا كمالك) عند الحديث عمّن فيه فضلٌ لكن غيره أفضل منه.

وقد كان مالك من أرداف الملوك في الجاهلية. والردف هو من يجلس عن يمين الملك ويخلفه إذا غاب.

وهو من الفرسان الّذين لخيلهم أسماء، فكان اسم فرسه ذا الخمار. ويعرف مالك دائماً بفارس ذي الخمار. وليس عبثاً أن يحزن عليه أخوه متمّم فيطيل الحزن ويبكي فيديم البكاء.

وما أظن صلة الأخوّة وحدها هي التي ألهمت متمّماً أخاه أن يقول فيه ما يعتبر حتى الآن من أروع وأصدق شعر الرثاء في الأدب العربي.

٤٤

بل إن تسمية النبي محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله لمالك عاملاً على صدقات بني حنظلة التي منها بنو يربوع توضّح منزلة مالك، وقد تشير في نفس الوقت إلى حسن إسلامه.

وأكتفي من التعريف بمالك بهذه الأسطر القليلة وأعتذر للقارئ وأعتذر لمالك أيضاً إذا قصّرت في إيضاح صورته كما يجب، واكتفيت من فارس ذي الخمار بهذه الملامح العامّة. فأنا لا أقصد في كتابي هذا أن أترجم مالكاً، ولم أعرض لمنزلته ولأخلاقه إلاّ بقدر ما يساعد ذلك على فهم الأحداث التي جرت له فيما سمي بـ (ردّة) مالك.

التهم والروايات:

رغم أنّ مأساة مالك ترتبط إلى حدٍّ بعيد بردّة سجاح. والحديث عنها سيجرّ، بما يصعب معه الفصل، إلى الحديث عن سجاح إذ أنّ (ردّة) مالك تبدأ عند المؤرّخين مع وصول سجاح أرض بني تميم واتصالها به.

إلاّ أنّي سأحاول قدر ما أستطيع أن أتجاوز سجاح الآن، لأعود إليها بعد الفراغ من مالك.

فما الّذي فعله ابن نويرة وبرّر قتله، وما هي التهم التي استحلّوا بها دمه؟ وهو لم يحارب المسلمين ولم يحمل السلاح في وجوههم ولا قاتلهم ولا قتل منهم. ولم ينكر نبوّة محمد ولم يجحد فريضةً من فرائض الإسلام.

وقد نجا وعفى عمّن هو أخطر شأناً منه وأبعد أثراً: من ادّعى النبوّة وأشعل الحرب وأوقع في المسلمين وأمعن في قتالهم وأثخن فيهم.

نجا طليحة (النبي) فلم يقتل وعفي عنه.

ونجت سجاح (النبيّة) فلم تقتل وعفي عنها.

ونجا عيينة بن حصن فلم يقتل وعفي عنه، وكان على رأس سبعمائة من فزارة يقاتلون المسلمين مع طليحة.

ونجا الأشعث بن قيس رئيس كِندة فلم يقتل وعفي عنه رغم ارتداده. ثم كوفئ بإرجاع أم فروة أخت الخليفة أبي بكر إليه.

٤٥

ونجا عمرو بن معدي فلم يقتل وعفي عنه بعد ارتداده.

ونجا قيس بن مكشوح فلم يقتل وعفي عنه رغم ارتداده مرّتين.

ونجا شبت بن ربعي مؤذّن سجاح فلم يقتل وعفي عنه.

وغيرهم وغيرهم.

وكلهم أشدّ جرماً من مالك وأسوأ أثراً في الحرب ضد المسلمين، فأيّة تهمة أو تهم ارتكبها مالك وكانت الأخطر والأعظم ممّا ارتكبه هؤلاء جميعاً ليستحق عليها القتل دونهم؟!

لقد أرادت سجاح أن تغزو أبا بكر في المدينة فردها مالك وثناها وصرفها عن المضي في عزمها كما يتّفق في ذلك الطبري وابن الأثير وابن خلدون(١) .

فهل كانت هذه هي التهمة عند من يتّهمون مالك بالردّة. وأنّه كان عليه لنفيها عنه، أن يحرّض سجاح على غزو أبي بكر والمدينة وأن ينظم إليها ويقاتل في صفّها؟!

وحين قدم خالد بن الوليد البطاح قاصداً قتال مالك، كان هذا قد فرق بني يربوع ونهاهم عن الاجتماع وخذلهم عن القتال وطلب إليهم الدخول فيما دخل فيه المسلمون.

وإليك نص ما أورده الطبري في ذلك وهو نصّ يشاركه فيه مع اختلاف يسير ابن الأثير في تاريخه.

يقول الطبري عن مالك (يا بني يربوع إنا قد كنّا عصينا أمراءنا إذ دعونا إلى هذا الدين وبطّأنا الناس عنه فلم نفلح ولم ننجح وقد نظرت في هذا الأمر فوجدت الأمر يتأتّى لهم بغير سياسة وإذا الأمر لا يسوسه الناس فإيّاكم ومناوأة قوم صنع لهم فتفرّقوا في دياركم وأدخلوا في هذا الأمر. فتفرّقوا على ذلك إلى أموالهم وخرج مالك حتى رجع إلى منزله)(٢) .

____________________

(١) تاريخ الطبري ج ٣ ص ٢٦٩ و ابن الأثير ج ٢ ص ٢١٤ وابن خلدون بقية ج ٢ ص ٧٢.

(٢) تأريخ الطبري ج ٣ ص ٢٧٧ وابن الأثير ج ٢ ص ٢١٦ - ٢١٧ وانظر في نهي مالك قومه عن قتال المسلمين تاريخ ابن خلدون - بقية ج ٢ منشورات مؤسسة الأعلمي للمطبوعات بيروت ١٩٧١ ص ٧٣.

٤٦

أيستطيع أحدٌ ـ ما لم يكن قد أصدر حكمه على مالك ـ أن يطمع منه في موقف أفضل وهو لا يكتفي بأن يفرق قومه ويخذلهم وينهاهم عن الاجتماع وما يمكن أن يؤدّي إليه من قتال. بل ويدعوهم إلى الدخول فيما دخل فيه المسلمون.

أهذا عمل من أرتدّ أو نوى الارتداد أو عزم عليه؟! وكيف سيكون موقف غير المرتد وبِمَ سيختلف عن موقف مالك؟!

بعد هذا ما هي إذن التّهم التي يسوقها المؤرّخون ويبرّرون بها مقتل مالك؟

من استعراض النصوص الخاصّة بذلك يبدو أننا أمام أكثر من رواية من أشهرها وأكثرها تداولاً هي التي أنقل نصّها عن ابن الأثير ويشاركه فيها بنفس الألفاظ التي يوردها أو بألفاظ قريبة منها غالبية الّذين كتبوا عن مالك.

يقول النص (لما قدم خالد البطاح بثّ السرايا وأمرهم بداعية الإسلام وأن يأتوه بكل من لم يجب وإنّ من استعراض النصوص الخاصّة بذلك يبدو أننا أمام أكثر من رواية، من أشهرها وأكثرها تداولاً، هي التي أنقل نصّها عن ابن الأثير ويشاركه فيها بنفس الألفاظ التي يوردها أو بألفاظ قريبة منها غالبية الّذين كتبوا عن مالك.

يقول النص (لما قدم خالد البطاح بثّ السرايا وأمرهم بداعية الإسلام وأن يأتوه بكل من لم يجب، وإن امتنع، أن يقتلوه وكان قد أوصاهم أبو بكر أن يؤذّنوا إذا نزلوا منزلاً فإن أذّن القوم فكفّوا عنهم وإن لم يؤذّنوا فاقتلوا وانهبوا وإن أجابوكم إلى داعية الإسلام فسائلوهم عن الزكاة فإن أقرّوا فاقبلوا منهم وإن أبوا فقاتلوهم قال فجاءته الخيل بمالك بن نويرة في نفر معه من بني ثعلبة بن يربوع فاختلفت السرية فيهم وكان فيهم أبو قتادة فكان فيمن شهد أنّهم قد أذنّوا وأقاموا وصلّوا فلما اختلفوا أمر بهم فحبسوا في ليلة باردة لا يقوم لها شيء فأمر خالد منادياً فنادى (دافئوا أسراكم) وهي في لغة كنانة القتل فظنّ القوم أنّه أراد القتل ولم يرد إلاّ الدفء فقتلوهم فقتل ضرار بن الأزور مالكاً وسمع خالد الواعية فخرج وقد فرغوا منهم فقال إذا أراد الله أمراً أصابه)(١) .

____________________

(١) الطبري ج ٣ ص ٢٧٨ وابن الأثير ج ٢ ص ٢١٧، والإصابة لابن حجر طبعة دار الكتب العلمية - بيروت ترجمة مالك بن نويرة رقم ٧٦٩٠ مع بعض الاختصار، والأغاني طبعة دار الكتب المصرية ج ١٥ ص ٣٠١.

٤٧

هذه كما قلت هي إحدى أشهر الروايات في مقتل مالك فما من مؤرّخ يعرض له إلاّ ويذكرها أو يشير إليها.

وضحكت كما لم أضحك في حياتي

وضحكت، وما أكثر ما يضحك الإنسان، وهو يقرأ تاريخنا!

وبكيت، وما أكثر ما يبكي الإنسان، وهو يقرأ هذا التاريخ!

لكنه ضحك هو البكاء، وليس كالبكاء. وبكاء هو الضحك، وليس كالضحك بـ(كاف) التشبيه، كما يقول سيّد شعراء العربية: المتنبّي، والشر كل الشر حين يكون الضحك بكاء، والبكاء ضحكا. وشرٌّمنه حين يكون الضحك أشد إيلاماً وأقوى تعبيراً من البكاء.

ضحكت، أو بكيت، لا فرق، وأنا اقرأ أنّ مشكلة مالك وقتله كانت بسبب (لغة) كنانة التي لم يفهمها حرّاس مالك. لم يكن بينهم من يفهم ولا من يترجم لهم هذه اللغة.

إذن هي مشكلة لغوية، كان من الممكن تلافيها لو وجد في جيش خالد مترجمٌ يحسن اللغتين: العربية والكنانيّة!

ما أروع ما اكتشف المؤرّخون، العرب المسلمون ! أيّة عبقرية هذه التي لا يمتلكها إلاّ من تفضّل الله عليه بلطف ورحمة وفضل واسع منه، وقلّة هم، أي فتح فكري كبير اهتدوا له بعد نصب وجهد طويل؟!

هل تعرف يا عزيزي القارئ، وأنت تعرف، أن كنانة: أبا القبيلة التي تحتاج إلى من يترجم لغتها إلى لغة قريش، هو أبو قريش أو جدّه المباشر. فقريق ـ وهذا لقبه ـ هو النضر بن كنانة، أو فهر بن مالك بن النضر بن كنانة. هذا يا يجمع عليه النسّابة العرب كلهم، لا يشذّ منهم أحد، و قلّما يجمعون. فهو في كلا الحالين، ابن أو حفيد كنانة. قريش فرع من كنانة وبطن من بطونها، كما أن هاشماً أو أميّة أو مخزوماً، فرع من قريش وبطن من بطونها. فهل سمعت أن هاشمياً أو أموياً أو مخزومياً واجه مشكلة في اللغة أدّت إلى قتله، وهو يتحدّث إلى قريش آخر من بطون قريش الأخرى؟! وهل نحتاج نحن الآن، على بعد الزمان والمكان، وكل شيء غير الزمان والمكان، إلى من يترجم لنا لغة قريش أو غير قريش من قبائل العرب؟! وهل احتاج المؤرّخون العرب أنفسهم، وهم يكتبون عن كنانة، إلى من يترجم لهم نصوص لغتها، كما يحتاج المؤرّخون، وهم يبحثون أمراً ممّا يخصّ اللغة السومرية أو الصينية مثلاً؟!

٤٨

أتلومني إذا أثقلت عليك بحديث الضحك والبكاء حتى كرهت الاثنين؟!

ولأعد إلى الجد في هذا الموضوع. أريد أن أتحدّى مرة واحدة في حياتي، على كرهي للتحدّي. مرة واحدة فقط. هل يستطيع كل هؤلاء المؤرّخين، ومن تبعهم ومن صدّقهم، أن يأتوا بشاهد واحد، نعم واحد، في كل لغة كنانة، وفي كل لغة قريش، وفي كل لغة العرب، أينما تكلمها العرب، شعرا أو نثراً أو حديثاً، يشير إلى كلمة (الدفء) بمعنى (القتل) و(دفئوا) بمعنى (اقتلوا)، ولو على سبيل الاستثناء، ولو على سبيل الخطأ، أم أن الدفء تحوّل إلى القتل، هنا فقط، في هذه الحادثة فقط، مع خالد بن الوليد ومالك بن نويرة فقط؟!

سيكفيني شاهد واحد، وسأحني رأسي لهم معترفاً بأنهم كانوا على حق، وأني كنت المخطئ.

أأسهل من هذا التحدّي وأيسر؟! وسأعذر خالداً وضراراً وكل القتلة والمجرمين والكاذبين والمزوّرين على امتداد تاريخنا العربي الطويل وأريد أن أفترض العكس: أفترض أن هذا المنادي قد نادى (اقتلوا أسراكم)، فهل سيبادر ضرار بن الأزور إلى زيادة الغطاء والإكثار من الحطب لتوفير الدفء لأسراه ـ مالك وأصحابه ـ ما دام الدفء يساوي القتل في لغة كنانة، أم سيسرع إلى قتلهم، وستعود لغة كنانة لغة عربية أخرى، لا يعني القتل فيها الدفء ولا شيئاً قريباً منه سيعود القتل قتلاً، كما يفهمه العرب، جميع العرب بمن فيهم كنانة وقريش.

ولأسلّم بأن (دفئوا) تعني (اقتلوا) في لغة كنانة، فلم اختيرت هذه اللغة دون غيرها، والآمر ليس كنانياً وإنّما قرشي، والمطلوب دفؤه أو قتله، ليس كنانياً وإنّما تميمي، ومتولّي القتل ليس كنانياً وإنّما أسدي: خالد بن الوليد ومالك بن نويرة وضرار بن الأزور.

ثم ألم يخطر ببال واحدٍ من كل هذه الأطراف خصوصاً المطلوب قتله، أن يحاول مراجعة الآمر لمعرفة ما إذا كان يقصد الدفء الحقيقي من البرد أو القتل في لغة هذه القبيلة الروميّة أو الفارسيّة التي اسمها كنانة، ولم يكن الآمر في بلد آخر ولا بعيداً بل على خطوات منه وممّن تولّى قتله!!!.

٤٩

لعلّي أطلت في هذا الجانب من الرواية ولعلّ ما أوردته يكفي لدحضها وردّ المدافعين عنها والآخذين بها من المؤلّفين وغيرهم.

لكنّ هؤلاء، وهم مشغولون بكنانة ولغتها ودفئها والليلة الباردة التي لا يقوم لها شيءٌ، لم يلتفتوا إلى أنّ مقتل مالك لم يكن في الشتاء ولا في وقت قريب منه ليحتاجوا إلى كل ما أتعبوا أنفسهم به وإلى كل ما زوّروه على كنانة وأضافوه إليها.

لقد حصل الحادث في الصيف أو في وقت غير بعيد عنه. وليس هذا اجتهاداً أو اختياراً نابعاً من رغبة في الطعن على القدماء من المؤلّفين وإنمّا هو الرأي الّذي تؤكّده الوقائع.

فرغم أنّ هؤلاء المؤلّفين لا يحدّدون تأريخاً في غير القضايا المهمّة في نظرهم، وليس بينها مقتل مالك طبعاً، وهو نقصٌ عانينا منه ومن غيره الكثير.

إلاّ أننا نستطيع أن نتجاوز ذلك إذا قابلنا بين الأشهر القمرية الهجرية التي يذكرها المؤلّفون لبعض أحداث الردّة والتي لا ترتبط بفصول السنة من صيف وشتاء، وبين الأشهر الميلاديّة التي ترتبط بفصول السنة صيفها وشتائها فيما يخصّ نفس الأحداث.

وفي قضيّة مالك، يقول المؤلّفون إنّ أبا بكر قد خرج إلى ذي القصة، موضع قرب المدينة، لعشر من جمادى الأولى أو النصف من جمادى الآخرة (ما يقابل تمّوز أو آب من عام ٦٣٢ ميلادية) وذلك لتعبئة الجيوش الموجّهة لقتال أهل الردّة. ومن هناك سار خالد ومن معه لحرب طليحة وجموعه في براخة. وبعد انتصاره عليهم اتجّه مباشرةً إلى البطاح حيث قتل مالك(١) .

فمقتل مالك إذن لا يمكن في أيّة حالٍ أن يكون قد جرى في الشتاء و(في ليلة باردةٍ لا يقوم لها شيءٌ وجعلت تزداد برداً) وما أظن المؤلّفين لجؤوا إلى هذه الليلة إلاّ ليكون لحديثهم عن (أدفئوا) أسراكم ما يبرّره ويقنع القارئ به.

____________________

(١) تأريخ خليفة بن خياط ج ١ ص ٦٦، وتأريخ الطبري ج ٣ ص ٢٤١، وتأريخ الخلفاء للسيوطي تحقيق محمد محي الدين عبد الحميد ص ٧٥.

٥٠

وحتى الآن لم ننته من هذه الرواية التي لا أدري كيف سوّقها ـ كما يقول أهل الاقتصاد ـ المؤلّفون بين القرّاء وإن كنت أدري كيف قبلها القرّاء، وقد رواها مؤرّخون كبار كالطبري وابن الأثير وغيرهما من أعلام المؤرّخين.

وتقول خاتمة الرواية أنّ خالد سمع الواعية فخرج (وقد فرغوا منهم فقال إذا أراد الله أمراً أصابه).

وما أظنّك تجهل أنّ الواعية لغةً تعني الصراخ أو الصراخ على الميّت خاصّة.

إذن كان خالد في الليلة التي قتل فيها مالك وأصحابه من القرب منهم بحيث يسمع الصراخ الصادر من المكان الّذي حبسوا فيه.

ولا بد أنّ هذا الصراخ وما صحبه من استغاثة ومحاولة لتفادي القتل ودفعه من جانب الضحايا وهو أمرٌ طبيعي جداً، قد امتدّ وقتاً مّا، خصوصاً وأنّ المطلوب قتلهم يتجاوزون الأربعين رجلاً(١) .

لكنّ خالداً كما تذكر الرواية دون إشارةٍ للأسباب، لم يسأل ولم يخرج إلاّ بعد أن فرغوا منهم.

ثم صراخ من هذا الّذي أخرج خالداً؟ أهو صراخ الضحايا الّذين حصدهم السيف وحوّلهم إلى أشلاء تعدم الصراخ وما هو دونه، ولا تملك إلاّ الصمت إذا جاز للميّت أن يملك شيئاً؟!!

أم صراخ الّذين تولّوا قتلهم وما أحسب هناك ما يدعوهم إلى الصراخ، وقد أنهوا مهمّتهم على أفضل وجه يمكن أن ينهوها عليه!!

____________________

(١) في خزانة الأدب نشر مكتبة الخانجي بمصر ج ٢ ص ٢٦ أن عدد من أصيب مع مالك كان خمسة وأربعين رجلاً.

٥١

ومع ذلك فلو كنت يا سيّدي على استعداد أن تستغني عن عقلك فترةً قصيرةً، وأظننا في هذه البلاد نستطيع أن نستغني عن عقولنا طويلاً دون أن نخسر شيئاً، وتقبل أنّ كل الّذي حصل لمالك وأصحابه كان مجرّد خطأ بسبب الدفء ولغة كنانة فيه، غفر الله لكنانة. فكيف ستفسّر أن يجعل رأس مالك ورؤوس القتلى ممّن أخذ معه أثافيّ للقدور التي يطبخ فيها طعام الجيش المسلم بعلم خالد أو بأمرٍ منه(١) ؟!

والغريب أنّ المؤرّخين يروون هذا، لا مستنكرين الجريمة التي تعكس وحشيّةً غيرمتناهية وحقداً ولؤماً بلا حدود. بل متعجّبين أن تكون كل رؤوس أصحاب مالك قد وصلت النار إلى بشرتها فأحرقتها عدا رأس مالك فإنّ القدر نضجت قبل أن تبلغ النار بشرته من كثرة الشعر الّذي غطّاها ومنع النار أن تصل إليها(٢) .

ولعلّ هذه تهمةٌ أخرى توجّه إلى مالك وتضاف إلى تهمة الردّة. فقد كان عليه أن يرفق بالطّباخين ولا يتعبهم بكثرة شعر رأسه!!

تلك كانت كما ذكرت في بداية هذا الحديث إحدى أكثر الروايات تداولاً. ولكنها ليست الوحيدة في مقتل مالك. فهناك روايات أخرى لا تقل عنها تداولاً وشيوعاً.

فمن هذه الروايات ما ينقله لنا ابن الأثير بعد المقدّمة التي يشترك فيها أغلب الروايات والرّاوين عن السرايا الّتي بثّها خالد حين وصل البطاح، وأمره لهم بأن يأتوه بكل من لم يجب داعية الإسلام وقتل من امتنع عن ذلك.

____________________

(١) تأريخ الطبري ج ٣ ص ٢٧٩ ووفيات الأعيان لابن خلكان تحقيق الدكتور إحسان عباس ج ٦ ص ١٤ والأغاني - ط دار الكتب ج ١٥ ص ٣٠٢ و ٣٠٣ وفيه أن خالداً هو الّذي أمر برأس مالك فجعل أثفيةً لقدر. وتأريخ ابن الوردي - دار الكتب العلمية ط أولى ١٩٩٦ بيروت ج ١ ص ١٢٥ والأخبار الموفقيات للزبير بن بكار ٢٥٦ هجرية تحقيق الدكتور سامي مكي العاني ص ٥٠٢.

وهذا ما نجده أيضاً في الإصابة لابن حجر ج ٦ ص ٣٧ حيث يذكر أنّ خالداً هو الّذي (أمر برأسه - يعني رأس مالك - فنصب أثفية لقدر فتح ما فيها قبل أن تخلص النار إلى شؤون رأسه. وأظن ما قصده ابن حجر (نضج) ما فيها لا (فتح) ما فيها. وهو أيضاً ما نراه في البداية والنهاية لابن كثير - مطبعة السعادة ١٩٣٢ ج ٦ ص ٣٢٢ إذ ورد فيه (... فضربت عنقه وأمر برأسه - يعني رأس مالك طبعاً - فجعل مع حجرين وطبخ على الثلاثة قدرٌ فأكل منها خالد تلك الليلة...).

(٢) تأريخ الطبري ج ٣ ص ٢٦٩ ووفيات الأعيان لابن خلكان تحقيق الدكتور إحسان عباس ج ٦ ص ١٤، والأغاني ج ١٥ ص ٣٠٢، والإصابة ج ٦ ص ٣٧، وتأريخ الإسلام للذهبي - عهد الخلفاء الراشدين - ص ٣٤، والبداية والنهاية لابن كثير ج ٦ ص ٣٢٢.

٥٢

يقول ابن الأثير (إن المسلمين لما غشوا مالكاً وأصحابه ليلاً أخذوا السلاح فقالوا نحن المسلمون فقال أصحاب مالك ونحن المسلمون قالوا لهم ضعوا السلاح فوضعوه ثم صلّوا وكان خالد يعتذر في قتله ـ يعني مالك بن نويرة ـ أنّه قال ما أخال صاحبكم إلاّ قال كذا وكذا فقال له أو ما تعدّه لك صاحباً ثم ضرب عنقه)(١) .

وهذه الرواية تجدها بنصّها تقريباً في تأريخ الطبري والأغاني(٢) .

وألاحظ ابتداء أنّ هذا النص كما يبدو، مبتور ولا يخلو من قطع أو على الأقل، أنّ ما يخص اعتذار خالد عن قتله مالكاً لقوله (صاحبكم) قد أقحم في النص إقحاماً. إذ لم يمهّد له بشيء ولم يسبقه شيءٌ يسمح بالانتقال من الصلاة ووضع السلاح إلى قتل مالك والاعتذار عنه.

ولو أعدت قراءته لتأكّدت من ذلك. فالنصّ يمضي طبيعيّاً ومتّسقاً إلى (قالوا لهم ضعوا السلاح فوضعوه ثم صلّوا).

إلى هنا ولا شيء في النص يلفت الانتباه. لكن انظر إليه كيف ينتقل بعد ذاك مباشرةً ودون أيّة مقدمات إلى (وكان خالد يعتذر في قتله أنّه قال ما أخال صاحبكم).

فهل تقدم شيء عن خالد في النص لكي تأتي عبارة (وكان خالد... الخ) في مكانها الطبيعي منه.

إنك تستطيع أن تتصوّر بعد قول النص (ثم صلّوا) أيّة عبارةٍ وأيّ موضوع إلاّ العبارة التي جاء بها النص (وكان خالد يعتذر...).

وقد يؤكّد هذا أنك لا تجد حديث (صاحبكم) في تأريخ خليفة بن خياط ولا في الفتوح لابن أعثم رغم وجود هذه الرواية فيهما.

وعلى كلٍّ فالطبري وابن الأثير وأبو الفرج وخليفة وابن أعثم يتفقون في أنّ مالكاً وأصحابه قد أقرّوا حين سئلوا، بأنهم مسلمون وقد وضعوا السلاح حين طلب منهم أن يضعوه ثم صلّوا.

____________________

(١) ابن الأثير ج ٢ ص ٢١٧ - ٢١٨.

(٢) تأريخ الطبري ج ٣ ص ٢٨٠، والأغاني ج ١٥ ص ٣٠٤، وانظر أيضاً تأريخ ابن خلدون بقية ج ٢ ص ٧٤.

٥٣

فعلوا ذلك اطمئناناً إلى أنهم مسلمون لن يتعرّضوا لمكروهٍ، وثقةً بأنّ الّذين طرقوهم ليلاً لن يؤذوهم ما داموا مسلمين مثلهم. بل إن سلاحهم لم يكن عليهم حين غشيهم جيش المسلمين. وهم لم يفزعوا إلى السلاح إلاّ بعد ما فوجئوا بالجيش ليلاً ثم وضعوه. فلو كان مالك وأصحابه مرتدّين ويعرفون ما سيجري لهم لما وضعوا السلاح حين طلب إليهم ذلك ولما أخذوا بالسهولة التي أخذوا بها، ولما كانوا أصلاً بهذه القلّة من العدد(١) ولكان لهم في جميع الأحوال موقفٌ آخر غير الّذي كان وهم ذوو الشوكة والعدد والبأس.

لو كان مالك يفكّر في ردّة، لفكّر في حربٍ. ولو فكّر في حربٍ لما كان هذا شأنه ولما نزع سلاحه وفرّق أصحابه، وليس بعيداً عنه ما حصل لطليحة وجموعه.

بِمَ كان سيختلف موقف أيّ مسلمٍ عن موقف مالك لو وجد في مثل ظروفه؟ وهل يطالب بأكثر مما فعل لإثبات إسلامه، وهو الّذي كان يدعو أصحابه للدخول فيما دخل فيه المسلمون.

ماذا يريدون أن يكون موقف مالك، هؤلاء الّذين يصرّون على اتّهامه واتهام أصحابه بالردّة والخروج عن الإسلام لتبرير قتلهم؟! مسلمون يسألهم مسلمون عمّا يكونون فيصدقونهم القول بأنهم مسلمون ويصدقونهم الفعل بالصلاة ووضع السلاح.

أذنبهم أنهم مسلمون وأنهم يقرّون بذلك.

وماذا إذن بعد الإسلام والإقرار به ما يحقن الدم ويصون العرض والمال في دين محمد؟!

لكن ذلك لم ينفع مالكاً. لم ينفعه إقراره بالإسلام ودعوة أصحابه لعدم محاربة المسلمين والدخول فيما دخلوا فيه. ولا صلاته مع المسلمين ووضعه سلاحه حين طلب إليه أن يضعه.

لماذا؟ لأن هناك من يريد القتل ومن يريد السبي والغنائم وربما كان هناك من يريد شيئاً غير القتل والسبي والغنائم.

وسأنتقل إلى تكملة هذه الرواية عند الطبري وابن الأثير وأبي الفرج بالجزء الخاص بـ(صاحبكم) الّذي يؤلّف روايةً مستقلّة عند صاحب البدء والتأريخ وابن خلكان وأبي الفدا والذهبي وابن العماد.

____________________

(١) في البدء والتأريخ ج ٥ ص ١٥٩ (بيوتات مالك بن نويرة وهم مسلمون) وفي الفتوح لابن أعثم ج ١ ص ٢١ (فوقفت سرية من تلك السرايا على مالك بن نويرة فإذا هو في حائط له ومعه امرأته وجماعة من بني عمه).

٥٤

ويتفّق الأربعة الأخيرون على أنّ مالكاً قال لخالد بعدما أتى به (أني آتي بالصلاة دون الزكاة فقال له خالد أما علمت أنّ الصلاة والزكاة معاً لا تقبل واحدةٌ دون الأخرى فقال مالك قد كان صاحبك يقول ذلك قال خالد وما تراه لك صاحباً والله لقد هممت أن أضرب عنقك ثم تجادلا في الكلام طويلاً فقال له خالد إني قاتلك قال أو بذلك أمرك صاحبك قال وهذه بعد تلك والله لأقتلنك وكان عبد الله بن عمر (رض) وأبو قتادة (رض) حاضرين فكلّما خالداً في أمره فكره كلامهما فقال مالك يا خالد ابعثنا إلى أبي بكر فيكون هو الّذي يحكم فينا فقد بعثت إليه غيرنا ممّن جرمه أكبر من جرمنا فقال خالد لا أقالني الله إن أقلتك وتقدم إلى ضرار بن الأزور الأسدي بضرب عنقه فالتفت مالك إلى زوجته أم تميم وقال لخالد هذه التي قتلتني وكانت في غاية الجمال فقال له خالد بل الله قتلك برجوعك عن الإسلام فقال مالك أنا على الإسلام فقال خالد يا ضرار اضرب عنقه فضرب عنقه...)(١) .

فـ(صاحبكم) إذن هو الّذي قتل مالكاً عند هؤلاء المؤرّخين. ومن الصحبة ما قتل.

وابتداء أودّ أن أسأل عن مصدر هذه الرواية، وهل هناك بين المؤرّخين من حقّق أصلها وعرف مصدرها. ذاك أنّ الطبري وأبا الفرج وابن الأثير، لا ينقلونها وهم ينقلونها، إلاّ مباشرةً عن خالد نفسه (وكان ـ خالد ـ يعتذر في قتله أنه قال...).

وخالد بإجماعٍ هو الآمر بالقتل. أي طرف فيه، وما أظنه من المقبول الاقتصار عليه وحده والاكتفاء بقوله في إهدار دم واحدٍ من المسلمين. فهل عند غير الطبري وأبي الفرج وابن الأثير ممّن جاء قبلهم أو بعدهم ـ ولم أره عند واحدٍ قبلهم ـ من يروي حديث (صاحبكم) عن غير طريق خالد.

ولأفترض أنّ واحداً قد تبرّع بروايته. ولن أقول بإضافته واختلاقه، فهل يكفي هذا الواحد لتصحيح الرواية واعتمادها واتّخاذها أساساً مقبولاً لتحليل دم مالك.

____________________

(١) وفيات الأعيان لابن خلكان ج ٦ ص ١٤، وباختلاف يسير في بعض الألفاظ تجد النص في تأريخ أبي الفدا ج ١ ص ١٥٧ - ١٥٨ وتأريخ الإسلام للذهبي - عهد الخلفاء الراشدين - ص ٣٣ وشذرات الذهب لابن العماد نشر مكتبة القدسي ١٣٥٠ ه- ج ١ ص ١٥.

٥٥

ولأفترض أيضاً أنّ مالكاً قال لخالد (صاحبكم) تبعاً للرواية وأنه قصد بقوله ذاك النبي محمّداًصلى‌الله‌عليه‌وآله نفسه وليس أبا بكر.

فمن أين فهم خالد أنّ هذا اللفظ يعني التنكّر للنبي والطعن فيه والكفر بنبوّته ونفي الصحبة عنه حتى يستحلّ به دمه.

لقد جرى العرب على استعمال هذا اللفظ في كلامهم دون أن يقصد به قائله، ودون أن يفهم منه سامعه، ما يشير الى ذمٍّ أو انتقاص أو سوء نيّةٍ أو انتفاء من صحبة.

هذا العبّاس بن عبد المطلب يقول عن النبي وقد توفّي وحلّ أوان دفنه (... فادفنوا صاحبكم..)(١) يعني النبي محمداًصلى‌الله‌عليه‌وآله .

أفكان العبّاس يريد بـ(صاحبكم) أنّ النبي لم يكن له بصاحب ولا نبيّ؟!

وهذا شيبة ـ أظنه ابن عثمان بن أبي طلحة ـ يقول لعمر في حديث يسوقه البخاري (... ما أنت بفاعل قال ـ يعني عمر ـ لم؟ قلت: لم يفعله صاحباك ـ يقصد النبي وأبا بكر  ـ ...)(٢) .

فهل كان النبي وأبو بكر صاحبي عمر وحده دون شيبة ودون باقي المسلمين؟!

وعلي بن أبي طالب يخاطب عثمان قائلاً (ولقد عهدت نبيّكصلى‌الله‌عليه‌وآله وبأنه يتبع نبيّاً غيره. وما أحسب خالداً كان أتقى وأفضل وأغير على الإسلام من علي وعثمان(٣) .

واسمع أم المؤمنين السيّدة عائشة لا مالك بن نويرة تقول للنبي محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله لا لخالد ابن الوليد (ما أرى ربك إلاّ يسارع في هواك).

والكلام هنا لا يمكن صرفه لشخص آخر كاحتمال صرف كلام مالك إلى أبي بكر بدلاً من النبي محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله . ذلك أن الحديث كان يدور بين السيدة عائشة وبين النبي محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله الّذي يسارع ربه في هواه.

____________________

(١) طبقات ابن سعد ج ٢ ص ٢٦٧ دار صادر بيروت، وتأريخ الخميس ج ٢ ص ١٦٧.

(٢) صحيح البخاري حديث رقم ٧٢٧٥.

(٣) تأريخ الطبري ج ٤ أحداث سنة ٢٩ ص ٢٦٧.

٥٦

أترى عائشة كانت ترفض أن يكون رب محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله ربّاً لها، وهي تقول للنبي (ما أرى ربك..).

ما الّذي منع النبي أن يجيبها بما أجاب به خالد مالكاً فيقول لها: أو ما ترينه ربّاً لك، والله أكبر من النبي كما أظن! أم كان خالد أحرص على الإسلام وأعرف بما يجوز وما لا يجوز فيه من محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله وهو يسمع كلام عائشة(١) .

أترى عليّاً والعبّاس وعائشة كانوا لا يفهمون العربيّة أم أنّهم ارتدّوا كذلك حين قالوا (صاحبك) عن محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله ، و(ربك) عمن هو أكبر من محمد، ولو تمكّن منهم خالد لأمر ابن الأزور فيهم بما أمره في مالك.

ولو أردت أن أورد ما جاء في كلام العرب والمسلمين من لفظ (صاحبك) و(نبيّك) و(ربّك) الّذي يقسم به دائماً، لأمللت القارئ وأضجرته فيما لا حاجة إليه وهو يستطيع أن يرجع إلى كتب الأدب والتأريخ والحديث ليرى كثرة استعمال اللفظ(٢) .

ومع ذاك فإنّ مالكاً لم يستعمل هذا اللفظ ـ الجريمة ولم يقله حتى عن أبي بكر وهو يطلب إلى خالد أن يبعث به إليه فيكون هو الّذي يحكم فيه.

أفيعقل أن يقول عن النبي ما لم يقله عن أبي بكر مع فرق ما بين النبوّة والخلافة وبين النبي والخليفة.

وحتى لو قبلت أنّ مالكاً (أخطأ) فقال عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله في أول حواره مع خالد (صاحبك) وأنّ خالداً هدّده بضرب عنقه بسبب قوله ذاك وكان جادّاً واضحاً فيه كأقوى وأشدّ ما يكون الجدّ والوضوح. فكيف عاد مالك إلى (صاحبك) مرّةً أخرى في حواره كما تذكر الرواية، والسيف في يد ضرار، وما بينه وبين أن يذهب برأسه إلاّ إشارةٌ من خالد، ما لم يكن أحمق لا يعرف مواضع كلامه. ولم ينسب مالك إلى شيءٍ من ذلك جاهليةً أو إسلاماً.

____________________

(١) صحيح البخاري حديث رقم ٤٧٨٨ ورقم ٥١١٣.

(٢) وعلى سبيل المثال أذكر بعض ما ورد في صحيح البخاري فقط من أحاديث تحمل لفظ (صاحبك) أو (نبيك) أو (ربك) وهي:

رقم ١٣٢٢، ٤٨٠٧، ٤٩٢٠، ٧٠٦٨، ٧١٠٠، ٧٥٣٨.

٥٧

كيف يصرّ على كلمةٍ يعلم أنها ستذهب بحياته، وهو الّذي يطلب من خالد أن يبعث به إلى أبي بكر في المدينة ليرى رأيه فيه.

فلِمَ هذا الطلب إذن؟ ما دام مالك نفسه هو الّذي يدفع خالداً دفعاً إلى قتله بكلمةٍ ما كان أسهل عليه أن يتجنّبها ولا ينطق بها.

أظنك تشاركني فيما أذهب إليه من شك يكاد يصل حدّ القطع بعدم صحّة ما ينقله الرواة عن (صاحبك) التي لا يمكن أن تصدر عن مالك بعد كل ما سبق قوله. وهذا ما يفسّر طلب مالك أن يبعث بهم خالد إلى أبي بكر قائلاً (ابعثنا إلى أبي بكر فيكون هو الّذي يحكم فينا فقد بعثت إليه غيرنا ممّن جرمه أكبر من جرمنا..).

فمالك على يقين بأنه لم يصنع شيئاً يستحق عليه القتل. ولن يكون في كل الأحوال أسوأ مصيراً من عيينة بن حصن الّذي منع هو أيضاً الزكاة وقاتل المسلمين مع طليحة على رأس سبعمائة من قومه فأرسله خالد إلى أبي بكر الّذي عفا عنه وأخلى سبيله.

فلِمَ لا يطلب من خالد إرساله إلى أبي بكر؟ ولِمَ يرفض خالد أن يستجيب لطلبه، وليس هناك ما يمنع من تحقيقه، خصوصاً وأنّه لم يحمل السلاح ولم يقاتل المسلمين، كما فعل عيينة.

وغاية ما اتّهم به أنه امتنع عن إرسال الزكاة إلى المدينة. وربما كان له عذرٌ في ذلك. وربما استطاع أن يقنع أبا بكر بعذره فيعفو عنه كما عفا عن غيره ممّن هم ليسوا أقل جرماً من جرمه، إن لم يزيد عليه بكثير، وإلاّ فالقتل في المدينة وبسيف غير سيف ضرار لن يختلف عن القتل في البطاح وبسيف ضرار. ففيم العجلة يا أبا سليمان(١) ؟!

هذا فيما يتعلّق بمالك. ولكن ألا تحس يا سيّدي من جانب خالد إصراره المسبق على القتل. وهو إصرارٌ أكّده في حواره مع مالك أكثر من مرّةٍ، ويتجاوز بكل وضوح تهمة مالك، وقد تسامح خالد مع من هم أكبر جرماً منه فلم يقتلهم واكتفى بإرسالهم إلى أبي بكر.

____________________

(١) هي كنية خالد بن الوليد.

٥٨

ألا تحس وأنت تسمع أصوات القتل تتردّد متلاحقة من فم خالد، بأنّ الرجل قد اتخذ قراره بشأن مالك. وأنّ هذا مقتول مهما دافع عن نفسه ومهما احتجّ لبراءته. بل إنّ قتله لا علاقة له بتهمةٍ أو براءة. وإنما بموقفه من مالك لن يتغيّر بقوّة الدفاع ولا بظهور البراءة.

لنستمع إليه وهو يخاطب مالكاً ولأبدأ من (صاحبك) التي تمثّل التهمة (... فقال مالك قد كان صاحبك يقول ذلك قال خالد وما تراه لك صاحباً والله لقد هممت أن أضرب عنقك ثم تجادلا في الكلام طويلاً فقال له خالد إني قاتلك ـ فالأمر كما ترى محسومٌ وليس دفاع مالك عن نفسه إلاّ عبثاً لا طائل من ورائه ـ قال أو بذلك أمرك صاحبك قال وهذه بعد تلك والله لأقتلنك وكان عبد الله بن عمر (رض) وأبو قتادة (رض) حاضرين فكلّما خالداً في أمره فكره كلامهما فقال مالك يا خالد ابعثنا إلى أبي بكر فيكون هو الّذي يحكم فينا فقد بعثت إليه غيرنا ممّن جرمه أكبر من جرمنا فقال خالد لا أقالني الله إن أقلتك وتقدّم إلى ضرار بن الأزور الأسدي بضرب عنقه...)(١) .

وما كان على خالد لو سمع كلام ابن عمر وأبي قتادة؟! حتى لو قبلنا رفضه سماع مالك وإرساله إلى أبي بكر كما طلب.

ما الّذي منعه أن يصغي إلى صحابييّن جليلين ليسا من تميم ولا من يربوع رهط مالك، ولا يمكن أن يتّهما في دينهما لحساب كافر مرتد؟! أكان خالد سيكره كلامهما ويرفض سماعه لو علم أنّ فيه إدانة لمالك.

ولكن ما لنا ولهذه الفروض التي يبدو أن لا محلّ لها هنا على الإطلاق. فالعبارة التي ختم بها خالد حواره مع مالك (لا أقالني الله إن أقلتك) تنبئ عن قرار لا رجوع فيه، بقتل مالك. وما أظن مالكاً، بعد أن سمعها إلاّ وقد كفّ عن محاولة الاعتذار لنفسه. وما أظن ابن الأزور إلاّ وقد شدّ يده على مقبض سيفه وهو يستعجل رأس فارس يربوع وفتاها.

وأنتقل إلى رواية المقدسي التي تلتقي مع سابقتها في (صاحبك) ولكنها تختلف في تفاصيل كثيرة أخرى، وهو ما رجّح عندي إفرادها بمكان خاص وعدم بحثها ضمن تلك الرواية.

____________________

(١) سبقت الإشارة إلى مصادر هذه الرواية في هامش ص ٥٥.

٥٩

يقول ابن مطهر في البدء والتأريخ أنّ خالداً سار (حتى أحاط بيوتات مالك بن نويرة وهم مسلمون وكانت لمالك امرأةٌ وسيمةٌ فمال إليها خالد وأمر بقتل مالك فنهاه عبد الله بن عمر وأبو قتادة الأنصاري فأحضر خالد مالكاً وقال ألست القائل:

ألا عللاني قبل جيش أبي بكر

لعل المنايا قد دنون وما ندري

فقال مالك ما قلت ذاك ولو سمعني صاحبكم أقوله ما قتلني. فقال خالد تقول لرسول الله (صاحبكم) وليس بصاحبك اضربوا عنقه. فالتفت مالك إلى امرأته وقال يا خالد هذه قتلتني...)(١) .

وقد أغنانا المقدسي في نصّه هذا عن مناقشة كثير من القضايا التي اضطررت لمناقشتها عند غيره.

فهو يعترف بأنّ مالكاً كان في بيوتات لا في جيش ولا جمع ولا عشيرة.

وما أظنك بحاجةٍ إلى معرفة الأسباب وقد فصّلناها سابقاً. فما حاجة مالك (المسلم) إلى الجيش والجمع والعشيرة، وله من إسلامه ما يحرم دمه ويحمي ماله وعرضه ولم يكن عند نفسه في شكٍّ من ذلك.

بل إنّ ما بلغناه استنتاجاً فيما مضى جاء المقدسي الآن ليقوله صراحةً.

اسمع إليه وهو يتكلّم عن (بيوتات مالك بن نويرة) التي لا يكتفي بإبراز قلتها بالتعبير (بيوتات) وإنما يضيف إلى قلّة العدد تأكيد الدّين بأنهم (مسلمون) وهو لا يرسل هذا الوصف بصيغة ضعيفةٍ تدلّ على الشك وعدم اليقين. بل على العكس بعبارةٍ واضحةٍ لا مجال للشك فيها (وهم مسلمون)(٢) ثم ينتقل بعد ذاك إلى الحديث عن زوجة مالك الوسيمة، فيربط بشكل واضحٍ بين ميل خالد إليها وبين أمره بقتل مالك زوجها إذ يقول (فمال إليها خالد وأمر بقتل مالك)(٣) .

____________________

(١) البدء والتأريخ ج ٥ ص ١٥٩ - ١٦٠.

(٢) وهو ما يؤكّده ابن الأثير في أسد الغابة في ترجمة مالك حيث يصرّح بإسلامه ونفي أي ارتداد عنه. أسد الغابة - بيروت ١٩٩٤ ج ٥ ترجمة مالك بن نويرة.

(٣) وهو ما نجده أيضاً في تأريخ اليعقوبي ج ٢ ص ١١٠.

ويلاحظ أن جميع المؤرّخين الذين يتناولون الموضوع يشيرون إلى زوجة مالك الجميلة وميل خالد إليها ويجعلون منها جزءاً من رواياتهم عن مقتل مالك. لكنهم مع ذاك يتجنبون الربط بين جمال هذه الزوجة وميل خالد لها وزواجه بها في نفس اليوم الّذي قتل فيه مالك زوجها، وبين مقتل مالك نفسه.

٦٠