شيء عن الردة

شيء عن الردة0%

شيء عن الردة مؤلف:
تصنيف: مكتبة التاريخ والتراجم
الصفحات: 119

شيء عن الردة

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: أحمد عبدالله
تصنيف: الصفحات: 119
المشاهدات: 13449
تحميل: 4905

توضيحات:

بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 119 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 13449 / تحميل: 4905
الحجم الحجم الحجم
شيء عن الردة

شيء عن الردة

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

الفصل الثاني

(موقف العرب بعد وفاة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله )

٢١

الفصل الثاني

(موقف العرب بعد وفاة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله )

إذا كانت أول مشكلة واجهت المسلمين بعد وفاة نبيّهم هي مشكلة الخلافة، فإن أول مشكلة واجهت أبا بكر بعد الخلافة، هي ما أصطلح المؤرّخون على تسميته بالردّة، إمعاناً في الطعن على المتّهمين بها، وتبريراً لما نزل بهم من ظلم بلغ حدّ السبي والقتل والنهب دون سبب مقبول، أو على الأقل، دون سبب يتناسب مع ما نزل بهم.

فكيف يعرض المؤرّخون هذه المشكلة وكيف يصوّرون موقف القبائل العربية بعد وفاة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ؟.

يقول الطبري في ص ٢٢٥ من الجزء الثالث من تاريخه وهو يبحث الموضوع نقلاً عن سيف بن عمر(١) أشهر وأكثر رواته فيه (لما بويع أبو بكر (رض)... وقد ارتدّت العرب إمّا عامّة وإمّا خاصّة في كل قبيلة ونجم النفاق واشرأبّت اليهود والنصارى والمسلمون كالغنم في الليلة المطيرة الشاتية لفقد نبيّهمصلى‌الله‌عليه‌وآله وقلّتهم وكثرة عدوّهم...).

وفي صفحة ٢٤٢ عن سيف أيضاً (لما فصل أسامة ـ وكان النبي قد بعثه على رأس جيش من المسلمين إلى مؤته حيث قتل أبوه ـ كفرت الأرض وتضرّمت وارتدّت من كل قبيلة عامّة أو خاصّة إلاّ قريشاً وثقيفاً).

وفي نفس الصفحة، والنقل ما يزال عن سيف (لما مات رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وفصل أسامة ارتدّت العرب عوامّ أو خواص وتوحّى مسيلمة وطليحة فاستغلظ أمرهما...).

وفي ص ٢٤٣ ودائماً عن سيف (... فلم يلبثوا أن قدمت كتب أمراء النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله من كل مكان بانتقاض عامّة أو خاصّة... وكان أوّل من صادم عبس وذبيان عاجلوه ت يعني أبا بكر ـ فقاتلهم قبل رجوع أسامة).

____________________

(١) التميمي توفّي عام ٢٠٠ هـ وأحداث الردّة وقعت عام ١١ هـ أي أن سيفاً هذا لم يحضرها ولم ينقل عمّن حضرها وإنّما ينقل أحداثها عبر سلسلة طويلة من الرواة إلى أن انتهت أخبارها إليه، ثم سلسلة أخرى طويلة من الرواة لكي تصل روايته لها إلى الطبري المتوفّى عام ٣١٠ هـ.

٢٢

وفي ص ٢٤٤ وعن سيف طبعاً فيبدو أن ليس لدى الطبري غير سيف الّذي نحن مدينون له بحفظ تاريخنا !! (مات رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله واجتمعت أسد وغطفان وطيء على طليحة إلاّ ما كان من خواص أو عوام في القبائل الثلاث... فلم تحملهم الأرض ـ لكثرة أصحاب طليحة ـ فافترقوا فرقتين...).

ويذهب ابن الأثير مذهب الطبري في حديثه عن موقف القبائل بعد وفاة النبي محمد فهو يقول في صفحة ٢٠٥ من الجزء الثاني من تاريخه (ارتدّت العرب وتضرّمت الأرض ناراً وارتدّت كل قبيلة عامّة أو خاصّة إلاّ قريشاً وثقيفاً واستغلظ أمر مسليمة وطليحة واجتمع على طليحة عوام طيء وأسد وارتدّت غطفان تبعاً لعيينة بن حصن...).

وفي ص ٢٠٦ (وتبعه ـ يعني طليحة ـ كثير من العرب عصبية فلهذا كان أتباعه من أسد وغطفان وطيء...).

وأظنك ترى أن ابن الأثير يستعمل هنا نفس الألفاظ والتعابير التي استعملها الطبري وهو يتناول نفس الموضوع.

أمّا المسعودي فإنّه لا يعرض لحديث الردّة في مروج الذهب، لكنّه يؤكّدها في التنبيه والإشراف حين يقول في ذكر (خلافة أبي بكر الصديق (رض)) (وارتدّ أكثر العرب بعد وفاة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ) دون أن يتعدّى ذلك إلى التفاصيل التي رأيناها عند الطبري(١) .

ويتجاوز صاحب البدء والتاريخ الجميع حين يقول في ص ١٥١ الجزء ٥ (وارتدّت العرب قاطبة إلاّ ثلاثة مساجد: المدينة ومكّة والبحرين وناساً من نخع وكِندة) وحين يقول في ص ١٥٢ (... ورمتهم العرب ـ يقصد المسلمين ـ عن قوس واحدة...).

هكذا إذن يصوّر المؤرّخون المسلمون موقف الكثير من الزعماء والغالبية العظمى من القبائل العربية بعد وفاة النبي محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله ، متّهمين إيّاهم بالارتداد عن الإسلام ليبرّروا موقف السلطة منهم وتجريدها الجيوش لقتلهم وسبي ذراريهم وانتهاك حرماتهم.

____________________

(١) التنبيه والإشراف ـ دار الصاوي للطبع والنشر والتأليف ١٩٣٨ ص ١٤٧.

٢٣

لكن هؤلاء المؤرّخين لم يدركوا كما يبدو أنهم، وهم يجهدون في تبرير عمل السلطة والذبّ عمّا ارتكبته في حق أولئك العرب المسلمين، قد شوّهوا صورة الإسلام وطعنوا في سيرة النبي وحطّوا من شأن العرب.

فماذا سيجيبون لو طرح عليهم السؤال، ولِمَ ارتدّ هؤلاء العرب بعد محمّد؟

ليس أمامي أو بالأحرى ليس أمامهم إلاّ أحد جوابين: إمّا أن يكون العرب أو الغالبية التي ارتدّت منهم قد دخلوا في الإسلام كرهاً عن غير اقتناع ولا رغبة وإنّما خوف القتل وهرباً منه فهم ينتظرون الفرصة ليرجعوا إلى ما كانوا فيه من دين. وقد جاءتهم الفرصة، أو هكذا تصوّروا، بموت محمد فتركوا دينه الّذي فرضه عليهم بحدّ السيف.

وما أظن هذا ممّا يقبله مسلم لدينه ونبيّه ولا عربي لقومه.

وإمّا ألاّ يكونوا قد آمنوا مطلقاً ولم يعرفوا الإسلام ولم يدينوا به، ومات النبي وهم على ذلك. وفي هذا الفرض ليس هناك مجال للحديث عن ردّة ومرتدّين. وهو ما يتضمّن بالضرورة سبق الدخول في الإسلام والإيمان به.

فإذا استبعدنا هذين الفرضين، ومن الأفضل استبعادهما. فلا يبقى أمامنا إلاّ خيار واحد يبدو أقرب إلى طبيعة الأشياء وأحرى أن يحافظ على روعة الإسلام ونقائه ويصونه عمّا يمكن أن يلحقه من مطاعن وعيوب. وهو أنّ ما حصل بعد وفاة النبي لم يكن في عمومه ردّة عن الإسلام ولا إنكاراً لنبوّة محمّد ولا طعناً فيه أو فيها، وإنّما موقف من الخليفة بعده واجتهاداً في أسلوب التطبيق لمسألة من مسائل الدين هي الزكاة.

وفرق كبير بين موقف من الإسلام وبين موقف من الخليفة الّذي لا يعدو أن يكون ـ مع التسليم بفضله وهو ما لا نشك فيه ـ رجلاً يخطئ ويصيب لا عصمة له ولا لغيره.

وفرق كبير أيضاً بين موقف من الزكاة الّتي هي فريضة من فرائض الإسلام وركن من أركانه، وبين اجتهاد ـ وإن اعتبر مخطئاً ـ في كيفيّة إجراء هذه الفريضة، وهو أمر ما كان أيسر تلافيه حينذاك.

٢٤

على أنّي لو صدّقت هؤلاء المؤرّخين فيما يذهبون إليه وأريد أن أصدّقهم، وأقبل مثلاً ما يرويه الطبري عن ردّة العرب وكفرهم وتحوّل المسلمين إلى ما يشبه الغنم في الليلة المطيرة الشاتية لقلّتهم وكثرة عدوّهم كما مرّ بنا.

فكيف سأقبل رواية الطبري أنّ أشباه الغنم هؤلاء قد انتصروا على غطفان يقودهم خارجة بن حصن(١) ومنظور بن زبان(٢) .

وغطفان كما نعرف من أقوى قبائل العرب وأحد جناحي قيس، وتضم فيما تضم عبساً وذبيان، وفي فزارة من ذبيان بيت قيس في الجاهلية(٣) .

ولأنقل لك نص الطبري في هذا (... وكان نوفل بن معاوية الديلي بعثه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فلقيه خارجة بن حصن بالشرية فأخذ ما في يديه فردّه على بني فزارة فرجع نوفل إلى أبي بكر بالمدينة قبل قدوم أسامة على أبي بكر فأوّل حرب كانت في الردّة بعد وفاة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله هي حرب العنسي وقد كانت حرب العنسي باليمن ثم حرب خارجة بن حصن ومنظور ابن زبان بن سيار في غطفان والمسلمون غارّون فانحاز أبو بكر إلى أجمة فاستتر بها ثم هزم الله المشركين)(٤) .

فالنص لا يكتفي بالإشارة إلى انتصار أشباه الغنم على غطفان القوية الكبيرة، بل يهمّه أن يحدّد أنّ هذا الانتصار قد تحقّق وأشباه الغنم غارّون أي غافلون. ولا أدري ماذا كانوا سيفعلون بغطفان لو أنّهم لم يكونوا غافلين عنهم وأنّهم قد تهيّئوا للقائهم.

____________________

(١) ابن حذيفة بن بدر، جدّه حذيفة كان يدعى (رب معد) لجلالة قدره وعلوّ منزلته وهو صاحب داحس والغبراء. وأبوه حصن بن حذيفة الّذي قال زهير بن أبي سلمى في مديحه حياً ورثائه ميتاً ما يعتبر بحق من أروع شعره. وأخوه عيينة بن حصن أحد المؤلّفة قلوبهم وكان النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله يدعوه (الأحمق المطاع)، وابنه وحفيده أسماء بن خارجة ومالك بن أسماء من أشراف قيس ورؤسائهم في العهد الأموي.

(٢) ابن سيار الفزاري أحد سادات فزارة في الجاهلية والإسلام، تزوّج عبد الله بن الزبير ابنته.

(٣) وبيوت العرب (التي تتسلسل فيها الرئاسة بثلاثة آباء متتالين) أربعة. ثلاثة في عدنان هي آل زرارة بن عدس من دارم بيت تميم، وآل بدر بن عمرو من فزارة بيت قيس، وآل ذي الجدين من شيبان بيت ربيعة، وواحد في قحطان آل عبد المدان من بني الحارث بن كعب.

(٤) تأريخ الطبري ج ٣ ص ٢٧٦.

٢٥

كل هذا وجيش أسامة لم يعد بعد. ولم أجد حديثاً عن الملائكة لأقول إنّ الملائكة كانت تحارب مع المسلمين أو بدلاً عنهم. وإن كانت عبارة الطبري الأخيرة قد توحي بشيء من هذا.

اسمعه يقول (فانحاز أبو بكر إلى أجمة فاستتر بها ثم هزم الله المشركين) فهو لا يتحدّث عن قتال جرى بين الطرفين ولا عن قتلى سقطوا بينهم. وإنّما عن انحياز أبي بكر إلى أجمة واستتاره بها. ثم فجأة وخلافاً لما يتوقّعه القارئ بعد هذا، تنهزم غطفان. هزمهم الله دون أن تسيل قطرة دم من كلا الطرفين. وكأن غطفان ما جاءوا إلاّ لينهزموا.

ومع ذلك فسأترك غطفان وهزيمتها، وأترك معها الغنم وأشباه الغنم، لأتوقّف عند نقطة أخرى أولى أن تثير الانتباه.

فإذا كان العرب قد ارتدّوا وكفروا ولم يبق على الإسلام غير قريش وثقيف وخواص أو عوام هنا وهناك. فكيف استطاع أبو بكر أن يجند أحد عشر جيشاً عليهم أحد عشر أميراً ويوجّههم لقتال من ارتدّ من العرب.

يحاربون غطفان وينتصرون عليها كما رأينا.

ويحاربون غطفان وأسداً وطيئاً وينتصرون عليها كما سنرى.

ويحاربون تميماً وينتصرون عليها.

ويحاربون حنيفة وينتصرون عليها.

ويحاربون جيوش العنسي وينتصرون عليها.

ويحاربون اليمن وحضرموت وعمان ومهرة والبحرين و و و وينتصرون عليها.

فمن أين جاء هؤلاء الّذين يحاربون وينتصرون، وليس في العرب كما يذكر الطبري نفسه، من ثبت على إسلامه غير قريش وثقيف وخواص أو عوام من قبائل العرب؟!

سؤال سأحاول الإجابة عليه في فصل ثان.

٢٦

ولكن قبل ذلك أود أن أسأل عن موقف قبائل عربية أهمل المؤرّخون، وهم يصنّفون العرب إلى مرتدّين وغير مرتدّين، أمرها فلم يشيروا إليها عمداً أو سهواً. وقبائل عربية أخرى بدت وكأنها مرتدّة حيناً وثابتة على إسلامها حيناً آخر. أو لكي أكون دقيقاً، بدا المؤرّخون متناقضين في الحديث عنها وعن مواقفها بين الردّة وبين البقاء على الإسلام. فأنت لا تدري مع من ستصنّفها، وإن كان المؤرّخون رحمهم الله قد أصدروا حكمهم على جميع القبائل العربية بالردّة بعدما حصروا الالتزام بالإسلام والإقامة عليه بقريش وثقيف فقط وخواص أو عوام من هذه القبيلة أو تلك.

ولأبدأ بالأنصار: ألم يخطر ببالك يا سيدي أن تسأل عن الأنصار بأوسهم وخزرجهم: هؤلاء الذين آووا وآزروا ونصروا وضحّوا بالأموال والأنفس دفاعاً عن الإسلام وتمكيناً له وتحمّلوا في ذلك ما تحمّلوا.

هؤلاء الأنصار. هل كانوا هم أيضاً بين القبائل المرتدّة أم من الّذين أقاموا على الإسلام فساووا قريشاً وثقيفاً وخواصّاً وعواماً من القبائل الأخرى. ذلك أن الطبري، يتبعه ابن الأثير، لم يعرض لهم بكلمة ولم يحدّد موقفهم من الردّة، مع ثقل الأنصار وخطورة شأنهم وهم أهل المدينة وذوو العدد والبأس وفي الذروة بين قبائل العرب في تلك الجهة.

لكن سكوت الطبري ومن تبعه من المؤرّخين لم يمنعهم من الاعتراف بدور الأنصار وحسن بلائهم فيما خاض المسلمون من حروب (الردّة) رغم أن موقف الأنصار في تلك الحروب لم يكن ليخلو من شك وحيرة وعدم اقتناع بما هم مشاركون فيه.

فيروي لنا الطبري وهو يسوق حديث ما سمّي بردّة مالك بن نويرة (... وقد تردّدت الأنصار على خالد وتخلّفت عنه...)(١) .

ويعود إلى الأنصار ودورهم في حرب اليمامة فيذكر أنّه (... لما قدم خالد على أبي بكر من البطاح رضي أبو بكر عن خالد ووجّهه إلى مسيلمة وأوعب معه الناس وعلى الأنصار ثابت بن قيس والبراء بن فلان...)(٢) .

____________________

(١) المصدر السابق ج ٣ ص ٢٨١.

(٢) المصدر السابق ج ٣ ص ٢٨٨.

٢٧

ثم يعود مرة أخرى ليؤكّد هذا الدور حين يقول (... وكانت راية الأنصار مع ثابت بن قيس بن شماس وكانت العرب على راياتها...)(١) .

ولا يختلف ابن الأثير إلاّ في يسير لفظ عمّا أورده الطبري بشأن موقف الأنصار وبلائهم في حروب الردّة(٢) .

كل هذا والطبري وابن الأثير يصرّان على أن قريشاً وثقيفاً أقامتا وحدهما على الإسلام دون ذكر للأنصار على الأقل.

وبعد الأنصار تستوقفنا قبيلة عربية أخرى يتردّد اسمها في أحداث الردّة هي طئ. فما هو موقف هذه القبيلة التي يختلف النظر إليها لا بين مؤرّخ وآخر، وهو اختلاف قد يكون مقبولاً أحياناً رغم خطورة النتائج التي تترتّب عليه، ولكن عند المؤرّخ الواحد نفسه.

فهذا الطبري مثلاً يتحدّث عن هذه القبيلة باعتبارها من القبائل المرتدّة طوراً والمحاربة للردّة والمرتدّين طوراً.

ويكفي لذلك أن ترجع إلى نص الحوار بين عدي بن حاتم وبين قبيلته طيء المنقول لنا في ص ٢٥٣ من ج ٣ من تاريخ الطبري. ثم ما أورده الطبري نفسه في ص ٢٥٥ وص ٢٦٤ وص ٢٧٦.

يقول النص الأول (وقدم عليهم ـ أي طيء ـ عدي فدعاهم فقالوا لا نبايع أبا الفصيل أبداً ـ يعنون أبا بكر ـ فقال لقد أتاكم قوم ليبيحنّ حريمكم ولتكنّونه بالفحل الأكبر فشأنكم به...).

____________________

(١) تاريخ ابن الأثير ج ٢ ص ٢١٦ و ٢١٩ و ٢٢٠.

(٢) و انظر ما يؤكّد ردّة طيء أيضاً وانضمامها إلى أسد وغطفان ص ٢٦٢ من ج ٣ من تاريخ الطبري ففيها (وأقبلت بنو عامر بعد هزيمة أهل بزاخة يقولون: ندخل فيما خرجنا منه فبايعهم ـ يعني خالداً ـ على ما بايع عليه أهل بزاخة من أسد وغطفان وطيء..) وكذلك ص ٢٦٤ وفيها (فتجمع إليها ـ يعني أم زمل سلمى بنت مالك بن حذيفة بن بدر ـ كل فل ومضيق عليه من تلك الأحياء من غطفان وهوازن وسليم وأسد وطيء..) وكذلك ص ٢٧٦ وقد جاء فيها (لما أراد خالد السير خرج من ظفر وقد استبرأ أسد وغطفان وطيئاً وهوازن فسار يريد البطاح..). وكل هذا يؤكّد أنّ موقف طيء لم يكن مختلفاً عن موقف أسد وغطفان وهوازن المرتدّة.

٢٨

وهذا نص واضح الدلالة كما ترى على أن طيّاً كانت بين القبائل المرتدّة(١) .

ولكن الطبري يعود إلى طيء بعد صفحتين فقط من حديثه عن ردّتها ليؤكّد أنها بقيت على إسلامها ولم تعرف الردّة ولم تكن بين القبائل المرتدّة.

ولنسمع ما يقوله في هذا (... أنّ خالداً لما رأى ما بأصحابه من الجزع عند مقتل ثابت وعكاشة قال لهم هل لكم إلى أن أميل بكم إلى حيٍّ من أحياء العرب كثير عددهم شديدة شوكتهم لم يرتد منهم عن الإسلام أحد فقال له الناس ومن هذا الحي قال لهم طيء فقالوا وفّقك الله نعم الرأي رأيت. فانصرف بهم حتى نزل بالجيش في طيء).

ثم يضيف إلى هذا النص نصّاً آخر لا يقل عن سابقه دلالة على إسلام طيء وثباتها إذ يروي (أن خيل طيء كانت تلقى خيل بني أسد وفزارة قبل قدوم خالد عليهم فيتشامون ولا يقتتلون فتقول أسد وفزارة لا والله لا نبايع أبا الفصيل أبداً فتقول لهم خيل طيء: اشهد ليقاتلنّكم حتى تكنّوه أبا الفحل الأكبر).

فطيء الصفحة المائتين والثلاث والخمسين من تاريخ الطبري مرتدّة ترفض أن تبايع أبا الفصيل(٢) .

أمّا طيء الصفحة المائتين والخمس والخمسين فثابتة على إسلامها لم يرتد منها أحد، بل وكانت تحذّر أسداً وفزارة من قتل آت لا يجدون معه إلاّ أن يكنّوا أبا الفصيل أبا الفحل الأكبر.

ولكن ماذا كنت تسمع من طيء (المرتدّة) وهي تحاور عدي بن حاتم. ومن أسد وفزارة (المرتدّتين) أيضاً، وهم يردّون على طيء (المسلمة) أو ترد عليهم؟

هل غير حديث عن رفض البيعة لأبي بكر ـ أبي الفصيل كما كانوا يسمّونه ـ وهل ورد في كل ما نقله الطبري عنهم شيء ممّا يخصّ الزكاة أو غير الزكاة من فروض الدين وأركان الإسلام، وممّا يعتبر إنكاره أو الشك فيه ارتداداً وخروجاً عليه. وهو ما سبق أن لاحظناه، وهو ما سنلاحظه بشكل أوضح فيما يأتي من حديث (الردّة).

____________________

(١) وانظر ابن الأثير ج ٢ ص ٢٠٥ و ٢٠٦ و ٢١١.

(٢) تاريخ الطبري ج٢

٢٩

وعلى كلٍّ فهذه النصوص المتعارضة لا تقرؤها عند مؤرّخين مختلفين ولو قرأتها عندهم لتحيّرت وتساءلت أيّها الصحيح وبأيّها تأخذ وأنت تريد أن تحدّد موقف قبيلة واحدة في مناسبة واحدة. فكيف وأنت تواجه هذا التعارض عند نفس المؤرّخ، خصوصاً وأن هذا المؤرّخ هو شيخ المؤرّخين ومعتمدهم.

وإذا كنت قد عرضت للموقف من الأنصار وطئ، فهذا لا يعني مطلقاً أن موقف المؤرّخين من القبائل العربية الأخرى كان واضحاً لا يشوبه الغموض ولا يبعث على الشك ولو شئت السير في هذا الطريق لتعبت وأتعبت. لكنني أردت أن أنبّه القارئ ليكون على حذر وحيطة ولا يستسلم بسهولة لما يقرأ. فقد طالما تعرّضت إلى ما أنبّه عليه الآن، وربّما كانت تجربة غيري ممّن عالجوا بعض مواضيع التاريخ العربي أقسى وأشد من تجربتي.

كان الله في عوننا وعون القارئ.

٣٠

الفصل الثالث

(في معنى الردّة)

يبدو أنني تأخّرت كثيراً في تحديد المقصود بالردّة مع أنها تؤلّف عنوان الكتاب وعليها يدور الحديث فيه.

الردّة اسم من الارتداد والردّة عن الإسلام تعني اصطلاحاً الرجوع عنه. وارتدّ فلان إذا ترك الإسلام إلى غيره.

وهذا المعنى اتفق عليه أهل اللغة والفقهاء والمفسّرون وأصحاب الحديث(١) .

وحكم الردّة لو ثبتت قتل المرتد بعد استتابته.

ولكن متى يعتبر المسلم مرتدّاً ومستحقّاً القتل بذلك؟ وهو السؤال الّذي سيتوقّف عليه الحكم فيما سمّي بالردّة وأصحابها بالمرتدّين.

تكاد تجمع المذاهب الإسلامية ـ إذا تجاوزنا بعض التفاصيل التي يختص بها مذهب دون آخر ـ على أن الردّة بالمعنى الّذي عرفنا يمكن أن يتحقّق بالقول بلفظ الكفر أو إنكار ما علم من أحكام الإسلام ضرورة كالصلاة والصوم والزكاة، كما يمكن أن تتحقّق بالفعل ممّا يقتضي الكفر ويقود إليه كإلقاء المصحف في قذارة قصداً(٢) .

فالردّة كما ترى مفهوم يرتبط بالإسلام ويدور معه، ولا يجوز بالتالي التوسّع فيها وإدخال ما هو خارج عنها برأي أو اجتهاد لا يقتضيه معناها.

والآن وفي ضوء ما ذكرنا فهل كان المؤرّخون المسلمون منصفين في الحديث عن العرب ووصفهم بالمرتدّين بعد وفاة النبي محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله كما تقدّم؟

أكان العرب المسلمون قد أعلنوا الكفر حقّاً وأنكروا شريعة محمّد أو فرضاً من فروضها؟

سأرجئ الجواب على هذا السؤال إلى ما بعد.

____________________

(١) نصوص الردّة في تاريخ الطبري للشيخ محمد حسن آل ياسين ـ نشر مكتبة النهضة ببغداد ط أولى ١٩٧٣ ص ٤٣ ـ ٤٤.

(٢) المصدر السابق ص ٤٥ ـ ٤٧.

٣١

لكن ملاحظة خطرت لي، وأنا أتابع ما كتب المؤرّخون عن ردّة الأسود العنسي التي لا أنوي الحديث عنها هنا؛ لأن العنسي قتل وانتهى أمره في حياة النبي وقبل استخلاف أبي بكر وردّة العرب. ولأني حاولت أن أقتصر من حديث الردّة، على ردّة مالك كما ذكرت. على أن هذا لا يمنع من تسجيل الملاحظة التي أشرت إليها آنفاً، ليعرف القارئ أيّة ثقة يمكن أن يمنحها، وأي حذر يجب أن يلتزمه وهو يتابع لدى المؤرّخين أخبار نبي عنس أو غيره، وهم يختلفون فيما لا يقع الاختلاف فيه عادة وهو لقب هذا (النبي) الّذي بسط سلطانه على أرض اليمن كلّها وتجاوزها. إذ يسمّيه بعضهم (ذا الحمار) بالحاء المهملة ويسمّيه آخرون (ذا الخمار) بالخاء المعجمة بواحدة من فوق.

ثم يعلّل كل فريق التسمية الّتي اختارها لنبي اليمن. فالمسعودي مثلاً يقول إنه (كان يدعى ذا الحمار لحمار كان معه وقد راضه وعلّمه يقول له اسجد فيسجد ويقول له اجث فيجثو)(١) .

أمّا ابن الأثير فيذهب إلى أنه كان يلقّب (ذا الخمار) بالمعجمة لأنه معتمّ متخمّر أبداً(٢) .

وإذا كنّا قد اعتدنا الاختلاف بين المؤلّفين عندنا في مسائل التاريخ وأحداثه، وهو أمر مؤسف يسد منافذ الرؤية الصحيحة أمامنا. وقد شاركت فيه أسباب كثيرة ليس هنا محل الحديث عنها، فإن ما يلفت النظر في هذا الاختلاف الجديد بين الحمار المروّض كما يقول المسعودي، وبين الخمار الملازم كما يذهب ابن الأثير، هو دلالته الواضحة على قلّة اكتراث مؤرّخينا وعدم تحرّيهم عن صحّة ما يروونه في كتبهم. وإن نقطة وردت خطأ لدى ناسخ أو هكذا أظن استطاعت ان تبدل تاريخاً وتجعل صاحب الحمار صاحب خمار أو بالعكس، ثم تدفع كل مؤلّف أن يخترع واقعة يبرّر بها الوجه الّذي ذهب إليه في التسمية تبعاً لوجود أو عدم وجود هذه النقطة كما تصوّر. مع أن ذا الحمار أو ذا الخمار هذا، كان من خطورة الشأن بحيث فرض سيطرته على أجزاء كبيرة من اليمن.

____________________

(١) التنبيه والإشراف ص ٢٤٠.

(٢) تاريخ ابن الأثير ج ٢ ص ٢٠١ وهو كذلك عند الطبري ج ٣ ص ٢٣١.

٣٢

و لا أستبعد أن أجد يوماً مؤرّخاً يلقّب الأسود العنسي بـ (ذي الجمار) بالجيم المعجمة بواحدة من تحت مبرّراً ذلك وما أسهله، بالجمر أو مشتقّاته، أو بأيّ لفظ يتألّف من الجيم والميم والراء أو حتى بغير الجيم والميم والراء، ما دامت كتابة التاريخ تجري عندنا ـ وربّما حتى اليوم ـ بالأسلوب الّذي رأينا.

٣٣

الباب الثاني

(حرب طليحة)

٣٤

الباب الثاني

(حرب طليحة)

كانت أولى الحروب التي خاضتها جيوش الخلافة ضدّ من يسمّون بالمرتدّين هي الحرب ضد طليحة.

ولن أدخل في تفاصيل المعارك التي دارت والخطط التي اتبعت في هذه الحرب، فليس كتابي هذا كتاب سياسة أو حرب لتكون تلك التفاصيل ضمن ما يتناوله.

لكنّي سأقتصر في بحثي على نقطة واحدة هي التي تتعلّق بالردّة. وهل كانت الحرب ضد طليحة حرباً ضد مرتدّين كفروا بمحمد وجحدوا دينه.

هذا ما سأحاول بحثه والوصول إلى نتيجة مقنعة إن استطعت، في هذه الحرب وفيما تلاها من حروب أخرى، ضد القبائل العربية المتّهمة بالردّة والتي سنتناولها تباعاً.

وطليحة كما يقول النسّابون هو ابن خويلد بن نوفل من بني فقعس من قعين بالتصغير أهمّ بطون أسد بن خزيمة وأكثرها عدداً.

وكانت بداية أمره أنه قدم على النبي محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله في وفد بني أسد عام (٩) للهجرة ولكنّه ارتدّ بعد ذلك وادّعى النبوة، والنبي بعد حيٌّ فوجّه إليه ضرار بن الأزور وأمره أن يشتدّ بمن نهض معه من بني أسد على من ارتدّ، فضعف أمر طليحة ولم يبق إلاّ أخذه فضربه ضرار بسيف معه لم يصنع فيه شيئاً. فشاع ذلك في الناس وقالوا إنّ السلاح لا يحيك فيه فكثر جمعه واستغلظ أمره.

هذه قصّة طليحة ونبوّته، كما تجدها في الطبري وفي غير الطبري ممّن عرضوا لموضوع الردّة(١) .

وقد ضحكت كثيراً وأنا اقرأها، وعجبت من أمر هؤلاء المؤرّخين، و رثيت في نفس الوقت لهذا التاريخ الذي كتبه هؤلاء، ولو قدر له أن يتكلّم لسخر منهم وضحك كما ضحكت.

فلأفترض أنّ سيف ضرار نبا بيده فلم يصنع شيئاً، وطليحة كما تقول الرواية في أضعف حالاته حتى (لم يبق أحد إلاّ أخذه)(٢) .

____________________

(١) تاريخ الطبري ج ٣ ص ٢٤٤ - ٢٤٨ و ٢٥٣ - ٢٦١ وابن الأثير ج ٢ ص ٢٠٦ - ٢١٠.

(٢) تاريخ الطبري ج ٢ ذكر بقية الخبر عن غطفان حين انضمت إلى طليحة وما آل إليه أمر طليحة.

٣٥

أفكان صعباً على ضرار أن يجد سيفاً آخر أو شخصاً آخر ممّن كانوا معه ـ ولا بدّ أنه لم يكن وحده ـ يتولّى ذلك عنه، وأصحابه وسيوفهم معهم؟ أكان صعباً عليهم أن يقتلوه بها أو بغيرها إن نبت هي أيضاً؟ فلم يكن قتله بالسيف شرطاً عليهم، وكانوا يستطيعونه بأيّة وسيلة، وما أكثر وسائل القتل عندهم وعند غيرهم.

هذا إذا لم يريدوا أخذه حيّاً. وهو ـ كما تقول الرواية ـ في أضعف حالاته حتى لم يبق إلاّ أخذه.

ثم أكان ضرار وحده من بين جميع العرب ينبو سيفه بيده فلا يصنع شيئاً؟.

كم من واحد غير ضرار ضربوا فنبت سيوفهم ولم تصنع شيئاً فيمن ضربوا. فهل كان كل هؤلاء أنبياء أو مدّعي نبوّة؟!.

لقد ضرب حر بن الحارث العبسي حذيفة بن بدر سيّد فزارة في بعض وقائع داحس والغبراء فلم يصنع شيئاً ولم يدّع حذيفة النبوّة.

وضرب ورقاء بن زهير بن جذيمة العبسي خالد بن جعفر الكلابي يوم النقراوات فلم يغن شيئاً. ولم يتنبّأ خالد.

وضرب الفرزدق روميّاً أسيراً في مجلس عبد الملك بن مروان فلم يحك السيف فيه وما سمعت أنّ الرومي ادّعى النبوّة وما سمعت أنّ أحداً من المسلمين ترك دينه لذلك. لكنّي سمعت بيتاً لجرير في هجاء الفرزدق، وآخر للفرزدق يردّ فيه على جرير ويعتذر عن نبو سيفه.

ولقد قال العرب في مأثور كلامهم (لكل سيف نبوة) وما ذاك إلاّ لأنّ تجربةً طويلة علّمتهم أنّ السيف قد ينبو ولو كان صاحبه من أبطال الرجال وفرسانهم. ولو أنّ كل من نبا عنه السيف ادّعى النبوّة، لكان لدينا من الأنبياء الجدد أكثر ممّا لدينا من الأنبياء المعروفين. فما أكثر معارك العرب، وما أكثر من ينبو عنهم السيف فيها.

٣٦

ولأترك السيف والفرسان وابن الأزور لأعود إلى التاريخ والمؤرّخين فأرى الطبري يقول في ص ٢٥٨ من تاريخه (فلما أجمعت غطفان على المطابقة لطليحة... وقدمت عليه ـ يعني أبا بكر ـ وفود بني أسد وغطفان وهوازن وطيء... فاجتمعوا في المدينة فنزلوا على وجوه المسلمين لعاشر من متوفّى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فعرضوا الصلاة على أن يعفوا من الزكاة وأجمع ملأ من أنزلهم على قبول ذلك حتى يبلغوا ما يريدون فلم يبق من وجوه المسلمين أحدٌ إلاّ أنزل منهم نازلاً إلاّ العباس ثم أتوا أبا بكر فأخبروه خبرهم وما أجمع عليه ملؤهم إلاّ ما كان من أبي بكر فإنه أبى إلاّ ما كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يأخذ وأبوا...)(١) .

وفي هذا النص يؤكّد الطبري ما سبق أن أورده بتفصيل أقل في ص ٢٤٤ وإن كان يضيف هناك إلى جمع طليحة بعض بطون كنانة التي لا يشير إليها هنا، وفي ص ٢٤١ حيث يقول (وقد جاءته ـ يعني أبا بكر ـ وفود العرب مرتدّين يقرّون بالصلاة ويمنعون الزكاة فلم يقبل ذلك منهم وردّهم).

فماذا ستلاحظ وأنت تقرأ نصّ الطبري هذا أو نصوصه الأخرى التي يشاركه قليلاً أو كثيراً فيها بقية المؤرّخين.

أول ما نلاحظ أنّ وفود غطفان وأسد وطئ وغيرها من القبائل التي تؤلّف جمع طليحة، قد جاءت المدينة طوعاً واختياراً، وقبل نشوب القتال بين الطرفين أو بالأحرى، قبل اضطرارهم لهذا القتال.

وأنهم جاءوا كمسلمين، لا مرتدّين ولا منكرين ولا متستّرين. جاؤوا إلى المدينة كأيّ جماعة من المسلمين لهم مطالب يريدون عرضها على أولي الشأن هناك، وكانوا في ذلك موضع الحفاوة والترحيب من قبل إخوانهم المسلمين الّذين بلغ من إكرامهم لهم أن أنزلوهم عندهم في دورهم دون أن يحسّوا في ذلك حرجاً أو مأثماً، ولا فيما جاؤوا مطالبين به تعارضاً مع الدّين وأحكامه.

____________________

(١) ودون الدخول في التفاصيل التي نجدها عند الطبري، يذكر ابن الأثير ص ٢٠٦ من ج ٢ من تاريخه أنّ أصحاب طليحة (... أرسلوا إلى المدينة يبذلون الصلاة ويمنعون الزكاة) وهو ما نجده أيضاً عند خليفة بن خياط في تاريخه ص ٦٥ - ٦٦.

٣٧

وإلاّ فلو كان هناك ارتدادٌ عن الإسلام أو إنكارٌ لنبوّة محمد أو جحدٌ لفريضة من فرائض الدّين، لما جاءت الوفود ولما استقبلهم وجوه المسلمين إلاّ بما يستقبل به المرتد. وحكم الشريعة فيه واضح ومعروفٌ.

كيف يستقبلهم وجوه المسلمون وخيارهم، وربّما كان بينهم عمر وعلي وغيرهما من كبار الصحابة؟! فنصّ الطبري لا يستثني منهم إلاّ العبّاس بن عبد المطلب.

كيف يستقبل هؤلاء وفود المرتدّين وينزلونهم عندهم وينهضون معهم فيما جاؤوا له، ويتقدّمون إلى أبي بكر بإجابتهم إلى ما طلبوا، لو كانوا مرتدّين وكان ما يطلبونه ويدعون إليه ارتداداً بأيّ وجه من الوجوه.

ثم لنفترض أنّ طليحة كان مرتدّاً وأنّ وفوده التي قصدت المدينة كانت مرتدةً طبعاً؛ فماذا جاءت تفعل هناك؟ وعلى ماذا تتفاوض؟ أكانوا يطمعون في أن يردّوا عليّاً وعمر ووجوه الصحابة عن الإسلام لينضمّوا إلى طليحة ويدينوا بدينه.

ما هو إذن الأمر الّذي قدّمت وفود طليحة للتباحث فيه والمطالبة بتحقيقه؟ ولا بد أن يكون هناك أمرٌ مّا، ولا بدّ أن يكون هذا الأمر بعيداً عن الردّة لا صلة له بها أساساً ليمكن التباحث فيه.

لقد تولّى الطبري نفسه الإجابة على هذا السؤال حين قال (.. على أن يعفوا ـ يعني طليحة وأتباعه ـ من الزكاة وأجمع ملأ من أنزلهم على قبول ذلك) وحين قال (يقرّون بالصلاة ويمنعون ـ ولم يقل ينكرون ـ الزكاة).

فبتحديد واضح لا غموض فيه ولا لبس يعرض الطبري مطلب هذه الوفود، أي مطلب طليحة وأصحابه. وهو إعفاؤهم من إرسال مال الزكاة إلى المدينة، واتّفاق وجوه الصحابة معهم في هذا.

فالوفود لم تأت منكرةً للزكاة كفريضة من فرائض الإسلام، وهذا واضحٌ في نصوص الطبري وغيره، وإلاّ لأصبحوا مرتدّين ولما (أجمع ملأ من أنزلهم ـ وهم جلّة الصحابة ـ على قبول ذلك) منهم. وإنّما أتت طالبةً إعفاءها من إرسال أموال الزكاة إلى المدينة والقبول بتوزيعها على الفقراء والمعوزين من قبائلهم.

٣٨

وكأنّي بهم وقد رأوا المسلم يستطيع أن يؤدّي الصلاة وهي أهم من الزكاة وتقبل منه في أيّ مكان ما دام متّجهاً إلى الكعبة. فما الّذي يمنعه من أداء الزكاة وتوزيع مبالغها بين المستحقّين من قومه وعشيرته في منازلهم وهم أولى بها، وليس من نص يفرض توزيعها في مكان بعينه.

فالموضوع كلّه لما ترى يتعلّق بأسلوب توزيع الزكاة، لا بوجوبها أو عدم وجوبها، وهذا ما لا نقاش فيه إذ هو الارتداد نفسه.

والإسلام دينٌ يقوم على الشهادتين من نطق بهما كان واحداً من المسلمين، له ما لهم وعليه ما عليهم، وأوّل ما له هو حقن دمه إلاّ بالحق. ولم يكن من بين الأسباب التي يحلّ بها دم المسلم حبس مال الزكاة لدى صاحبه لتوزيعه على فقراء قومه المسلمين.

وأظن هذا ما كان يفكّر فيه طليحة وأصحابه وهم يرسلون وفودهم إلى المدينة يعرضون الصلاة ويمنعون الزكاة، خصوصاً وأنّ فكرة الدولة بما تتضمّنه من سلطة مركزية وموارد مالية لم تكن قد ألّفها العرب بعد مع قرب عهدهم بالجاهلية.

وحديث قرّة بن هبيرة القشيري مع عمرو بن العاص قد يوضح ذلك.

يقول الطبري (نزل عمرو بن العاص منصرفه من عمّان بعد وفاة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بقرّة بن هبيرة بن سلمة بن قشير وحوله عسكرٌ من بني عامر من إفنائهم فذبح له وأكرم مثواه فلما أراد الرحلة خلا به قرّة فقال يا هذا إنّ العرب لا تطيب لكم نفساً بالإتاوة فإن أنتم أعفيتموها من أخذ أموالها فستسمع لكم وتطيع وإن أبيتم فلا أرى أن تجتمع عليكم...)(١) .

ثم إنّ الخليفة ـ حتى لو كان أبا بكر في سابقته وفضله ـ ليس رسول الله صاحب الوحي والمفترض الطاعة في أوامره ونواهيه. بل يبقى رجلاً من قريش. ولأمرٍ ما تصوّر العرب أنّ الخلافة بعد وفاة النبي قد تحوّلت إلى حكم لقريش، وما أحسبهم كانوا مغالين في هذا التصوّر.

____________________

(١) تاريخ الطبري ج ٣ ص ٢٥٩ وابن الأثير ج ٢ ص ٢١٢.

٣٩

وربّما كان في سابقة أبي بكر مع أبي سفيان بعض العذر لأصحاب طليحة وغيرهم من العرب، في موقفهم وحبس زكاتهم في أيديهم وعدم إرسالها إلى المدينة، وهم يرون أموال الزكاة قد تركت لأبي سفيان فلم يصل منها شيء إلى هناك. فيروي ابن عبد ربّه أنّ أبا سفيان لما قدم المدينة بعد وفاة النبي محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله واستخلاف أبي بكر، (جعل يطوف في أزقّتها ويقول:

بني هاشم لا تطمعوا الناس فيكم

ولا سيّما تيم بن مرة أو عدي

فما الأمر إلاّ فيكم وإليكم

وليس لها إلاّ أبو حسن علي

فقال عمر لأبي بكر إنّ هذا قد قدم وهو فاعلٌ شرّاً. وقد كان النبي يتآلفه على الإسلام، فدع له ما بيده من الصدقة ففعل، فرضي أبو سفيان وبايعه(١) .

فأنت ترى أنّ الخليفة أبا بكر (رض)، لأسباب هو أعرف بها طبعاً، قد ترك لأبي سفيان ما في يديه من صدقات قوم غير قومه، على ثرائه وسابق عدائه للإسلام. ولا بد أنّ العرب قد سمعوا بهذا وعلموه وإلاّ لما وصل إلينا خبره. وأظنهم رأوا أنّ ما سمح به الخليفة لأبي سفيان وأجازه أولى أن ينفّذ بحقّهم ويسري عليهم والصدقات صدقاتهم والمستحقّون لها ، هم من فقرائهم، وليس فيما يطالبون به ويفعلونه شيء يزيد على ما سبق للخليفة نفسه أن فعله مع من لا يستحقّه مثلهم(٢) .

الآن وقد أوشكت أن أنتهي من حديث طليحة وأصحاب طليحة والمؤمنين به. يبقى سؤالٌ أريد أن أختم به حديثه، وهو سؤالٌ لا يمكن أن يغفله الّذين كتبوا عن (النبي) طليحة ولا يمكن أن يغفله قبلهم الّذين آمنوا به ولا يمكن أخيراً أن تغفله أنت يا سيّدي كما أظن.

أيكون نبي بلا معجزة ولا حجّة ولا دليل، ولا شيء دون ذلك يؤكّد نبوّته ويصدّقه فيما يدّعي ويقول؟ إذن لجاز لكل أحد أن يدّعي النبوّة، ولما كان طليحة أولى بها من غيره. ولرأيت صفوف (الأنبياء) وهي تتدافع طولاً وعرضاً أكثر بكثير من الّذين يؤمنون بهم.

____________________

(١) انظر ص ١٠ من ج ٥ من العقد الفريد - تحقيق محمد سعيد العريان نشر دار الفكر.

(٢) لم أسمع أنّ واحدةً من قبائل قريش الكثيرة، على وفرة مالها، قد أرسلت زكاتها إلى المدينة، وأنها تعرّضت بسبب هذا لبعض ما تعرّضت له القبائل الفقيرة والمحتاجة من غزو وسبي واتهام بالردّة عن الإسلام.

٤٠