شيء عن الردة

شيء عن الردة0%

شيء عن الردة مؤلف:
تصنيف: مكتبة التاريخ والتراجم
الصفحات: 119

شيء عن الردة

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: أحمد عبدالله
تصنيف: الصفحات: 119
المشاهدات: 13451
تحميل: 4905

توضيحات:

بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 119 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 13451 / تحميل: 4905
الحجم الحجم الحجم
شيء عن الردة

شيء عن الردة

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

ولكن إذا قد انتهينا من مسيلمة النبي، فإنّ بحثنا عنه سيبقى قاصراً إن نحن وقفنا عند ذاك ولم نحاول أن نعالج ولو بإيجاز، أسباب الحرب التي خاضها مسيلمة وبنو حنيفة كما نراها في ضوء الوقائع التي سبقت. لا كما يراها المتحكّمون بالتأريخ من خصوم العقل وأعدائه.

لقد شهدت اليمامة في نهاية عام ١١ للهجرة أقسى وأعنف حرب عرفها المسلمون حتى ذلك التأريخ. استقتل فيها بنو حنيفة وفقدوا وحدهم دون حساب قتلى المسلمين، أكثر من عشرين ألف، بينهم عددٌ من أبرز رجالهم، على رأسهم مسيلمة نفسه(١) .

ولا يمكن أن يدفع بنو حنيفة هذا العدد الكبير من خيرة رجالهم، ثمناً لنبوّة كاذبةٍ أو شهادة كاذبة جاء بها الرجال بن عنفوة الذي قتل هو أيضاً في هذه الحرب. وكان سهلاً عليه حين استحرّ القتل في قومه، أن يعلن كذب شهادته ومعها كذب مسيلمة، وينجو بنفسه وبقومه من القتل والسبي، ومن ذل وعار يلحق الأجيال من بني حنيفة ما بقي منهم أحد.

لقد كانت حرب بني حنيفة في اليمامة أقسى وأعنف بكثير مما سبقها. لكنها لم تكن لتختلف عمّا سبقها من حيث الدوافع والأسباب.

كانت حرب طليحة وغطفان كما رأينا، بسبب الزكاة التي لم يريدوا إرسالها إلى المدينة، مفضّلين إبقاءها وتوزيعها على فقرائهم، وهم كما يتصوّرون، أحقّ بها ممّن في المدينة.

وكانت الحجّة في الحملة على مالك وقومه من تميم، حبس زكاتهم وعدم إرسالها إلى المدينة.

وكانت الحرب ضد كِندة، كما سنرى، بسبب الزكاة أيضاً والاستيلاء على ناقةٍ لا زكاة عليها.

____________________

(١) تاريخ الطبري حوادث سنة ١١ ج ٣ ص ٢٩٧، وتأريخ ابن الأثير حوادث نفس السنة ج ٢ ص ٢٢٣.

١٠١

وما أظن حرب بني حنيفة، كانت لها أسباب أخرى غير ما رأينا، وغير الرفض الذي يشاركهم فيه سواهم من (المرتدّين) لهذا التكتّل القرشي الذي بدأ بالظهور وفرض سيطرته على الحياة الإسلاميّة، وهو تكتّل ضمّ العديد من رجال قريش من غير ذوي السابقة في الدين، ومن أصحاب العصبيّة والجاه قبل الإسلام الذي لم يدخلوا فيه، إلاّ بعد اليأس من مقاومته والانتصار عليه، إذ كان دخولهم في الإسلام يمثّل الضمان الوحيد لاستعادة مجدهم ونفوذهم، وبلوغ السلطة التي كانوا يطمعون فيها ويخشون أن تفلت من أيديهم إلى غيرهم، ممّن سبقوهم إلى الإسلام. وقد سبق أن تحدّثنا عن هذا بتفصيل في مقدّمة الكتاب.

وإن كان هذا التكتّل قد بدأ بـ (قرشية) الخليفة فإنه لم ينته بـ(السواد، بستان قريشٍ) إذ استمرّت قرشيّة الخليفة، واستعمر معها كل سواد بستاناً للخليفة من قريش ولأهله وذويه.

على أنّ الحديث عن ردّة مسيلمة وبني حنيفة، لن يكمل، وسنشعر بالتقصير إزاء بطل حروب الردّة، إذا نحن لم نبارك له زواجه الثاني أثناء المعركة مع مسيلمة، من ابنة مجاعة بن مرارة، أحد قادة الردّة من بني حنيفة، وعلى أرض المعركة جثث ألف ومائتين من قتلى المسلمين لم تجف دماؤهم بعد.

لقد أعجبته ابنة مجاعة بن مرارة، ولم تكن ذات زوج يمنعه الزواج منها ليقتله، فغفر لأبيها ردّته وتركه حيّاً بعد أن قتل من كان معه من بني حنيفة.

وقد سارع الخليفة أبو بكر فبارك قبلي الزواج الثاني لسيف الإسلام بكتاب أنقل لك بعض ما جاء فيه (لعمري يا بن أم خالد إنك لفارغ تنكح النساء وبفناء بيتك دم ألف ومائتي رجلٍ من المسلمين لم يجف بعد)(١) .

وقبل كتاب أبي بكر بتهنئه خالد بزواجه الجديد، كان هناك ما هو أهم وأخطر، مما يلقي الضوء على سلوك خالد فيما سُمّي بحروب الردّة.

____________________

(١) يتهم بعض المؤرخين خالد بن الوليد بأنه (كان فيه تقدم على رأي أبي بكر يفعل أشياء لا يراها أبوبكر: تقدم على قتل مالك بن نويرة وصالح أهل اليمامة ونكح ابنة مجاعة بن مرارة) = = أنظر كتاب نسب قريش لمصعب بن عبدالله الزبيري - نشر وتعليق ليفي بروفنسال - طبعة دار المعارف للطباعة ص ٣٢١ وثمار القلوب في المضاف والمنسوب لأبي منصور الثعالبي طبعة القاهرة ١٩٠٨ ص ١٨ والذي يضيف (... ونكاحة امرأته - يعني امرأة مالك بن نويرة - من غير أن ترجع عن ردتها).

١٠٢

كان هناك محمد بن عبدالله: رسول الله ونبي المسلمين، وهو يستقبل القبلة قائماً شاهراً يديه حتى أنه يرى بياض ما تحت منكبيه وهو يقول (اللّهمّ إني أبرأ إليك مما صنع خالد بن الوليد)(١) يكرّرها ثلاثاً. وذلك حين أرسله إلى بني جذيمة من كنانة داعياً لا مقاتلاً، فصنع بهم ما صنعه بمالك وأصحابه فيما بعد: طلب منهم أن يضعوا السلاح (فإن الناس قد أسلموا) كما قال لهم. فلّما وضعوا السلاح ثقةً به، أمر بهم فكتفوا ثم قتل منهم من قتل.

وهي قصّة تجدها في كل كتب السيرة والتأريخ في حوادث عام ٨ للهجرة، مع تفصيل أسباب حقد خالد على بني جذيمة، منذ أن قتلوا عمّه الفاكه بن المغيرة في الجاهلية.

____________________

(١) سيرة ابن هشام ج ١ ص ٤٣٠ وتأريخ الطبري ج ٣ ص ٦٧ - ٦٨ وابن الأثير ج ٢ ص ١٢٨ وعيون الأثر لابن سيد الناس ج ٢ ص ١٨٥ - ١٨٧ والمعارف لابن قتيبة ط دار الكتب ١٩٦٠ ترجة خالد بن الوليد ص ٢٦٧ وصحيح البخاري (باب رفع الأيدي بالدعاء) وحديث ٦٣٤١.

١٠٣

الباب السادس

( ردّة حضرموت وكِندة )

١٠٤

الباب السادس

( ردّة حضرموت وكِندة )

ما قرأت ما يكتبه المؤرّخون عن ردّة حضرموت وكِندة إلاّ أسرع ذهني إلى حرب البسوس.

فبسبب ناقة قامت هذه الحرب في الجاهليّة بين أكبر حييّن من ربيعة: بكر وتغلب، وقتل فيها من قتل.

وبسبب ناقة، قامت حربٌ ما يزال اسمها (الردّة) بين المسلمين من أهل اليمن وبين المسلمين من جيش السلطة وأنصارها. قتل فيها من قتل وأسر أو سبي من نجا من القتل.

وإذا كانت الحرب الأولى عرفت في التأريخ باسم صاحبة الناقة: البسوس التي أصبحت فيما بعد رمزاً للشؤم بين الناس، فما أحرى الحرب الثانية أن تعرف بحرب (شذرة) نسبة إلى اسم الناقة التي قامت بسببها هذه الحرب، وما أحرى هذه الناقة أن تكون هي الأخرى رمزاً للشؤم بين الناس فلا تستقل ناقة البسوس وحدها بذلك (الفضل).

وإليك باختصار رواية حرب شذرة أو ردّة اليمن كما يصطلح على تسميتها المؤرّخون(١) .

كان زياد بن لبيد البياضي الأنصاري قد ولّي صدقات بني عمرو بن معاوية من كِندة، فقدم عليهم وهم بالرياض(٢) . فكان أوّل من أتاه وصدّقه منهم غلام يقال له شيطان بن حجر(٣) .

فأعجبت زياداً بكرة من إبل الصدقة التي قدم بها الغلام، فدعا بها فوضع عليها الميسم الخاص بهذه الإبل. ولم تكن الناقة لشيطان بل لأخيه وليس عليه صدقةٌ. وكان شيطان قد وهم حين أخرجها ضمن إبل الصدقة وظنّها غيرها، فقال العداء ـ صاحب الناقة ـ : هذه شذرة باسمها. واعترف شيطان بصدق أخيه وبأنّها ناقته وطلب من زياد ردّها وأخذ غيرها بدلاً عنها، فرفض زياد ذلك و(اتّهمه بالكفر ومباعدة الإسلام) ومنعهما عنها.

____________________

(١) تاريخ الطبري ج ٣ ص ٣٣٢، وابن الأثير ج ٢ ص ٢٣٤.

(٢) الرياض أرض باليمن بين مهرة وحضرموت. مراصد الاطلاع ج ٢ ص ٦٤٦.

(٣) أشك أن يكون هذا هو اسمه الحقيقي فربما كان من وضع بعض المتعصّبين ضد ما دعي بردّة اليمن فاختاروا لمن ظنوه سبباً فيها بعض الأسماء الى المسلمين وأشدّها اتصالاً بالشر تنفيراً منها وتبغيضاً لمن قام بها. ويقوّي هذا الشك عندي أن (شيطان) ليس من الأسماء الشائعة عند العرب.

١٠٥

وترادّوا الكلام فاستصرخ العداء آل عمرو فأقبل من رؤسائهم حارثة بن سراقة وكلّم زياداً في إطلاق ناقة الرجل مقابل ما يختار من غيرها من الإبل. لكن زياداً أصرّ على الرفض فعمد حارثة إلى الناقة وأطلقها. فلم يكن من زياد إلاّ أن أمر شباباً من حضرموت والسكون فنالوه بأيديهم وكتفوه وكتفوا أصحابه وارتهنوهم واستردّوا الناقة.

وتستطيع أن تتصوّر النتيجة: غضبت بنو معاوية لحارثة وغضبت حضرموت والسكون لزياد، وتوافى جمع كثيف من الفريقين ولكن دون أن يحصل قتال بينهما حتى الآن. أمّا بنو معاوية فلمكان أسراهم عند زياد، وأما زياد وأصحابه فلأنهم لم يجدوا سبباً يتعلقّون به على بني معاوية.

وكان من الممكن أن يقف الأمر عند هذا الحد وأن تحل المشكلة بالحسنى، لولا أن يرسل زياد إلى بني معاوية يطلب منهم أن يضعوا السلاح أو يؤذنوا بحرب، دون أن يعيد إليهم أسراهم.

وردّ بنو معاوية بأنهم لن يضعوا السلاح قبل عودة أصحابهم المرتهنين عند زياد.

فماذا كان جواب الأمير إلى بني معاوية؟ قال إنهم (لا يرسلون أبداً حتى ترفضوا وأنتم صغرة قمأة يا أخابث الناس ...)(١) .

هكذا كان جواب زياد إلى بني معاوية، وهم يطالبون بعودة أسراهم الذين لم يفعلوا شيئاً يثير غضب الأمير. وهو جواب فيه الكثير ـ كما ترى ـ من الاستلاء والاستهانة ببني معاوية. ثم لم يكتف زياد بذاك فزحف إليهم ليلاً وقتل فيهم وتفرّق الباقون. وعند ذاك فقط أمر بإطلاق سراح الأسرى الثلاثة لديه.

ولما رجع هؤلاء إلى أصحابهم حرّضوهم على زياد ومن معه فاجتمع بنو معاوية على منع الصدقة.

وتتابعت المعارك بين الطرفين، وشارك الأشعث بن قيس زعيم كِندة مع قومه من بني الحارث بن معاوية فيها، حميّة وانتصاراً لقومه. وكانت آخر معاركهم معركة النجير(٢) : حصن لكِندة. لم يدع المسلمون حين اقتحموه (مقاتلاً إلاّ قتلوه وضربوا أعناقهم صبراً وأخذوا الأموال والسبي ...)(٣) .

____________________

(١) تاريخ الطبري ج ٣ ص ٣٣٣.

(٢) حصن لكِندة باليمن قرب حضرموت.

(٣) تاريخ الطبري ج ٣، وابن الأثير ج ٢ ص ٢٣٦.

١٠٦

إلى هنا أنتهي من رواية هذه الردّة.

ولا بدّ أنّ أسئلة كثيرة أثارتها لديك. وهي أسئلة حاولت أن أتجاوزها فلم أستطع. وحاولت أن أجد مخرجاً لها أو عذراً عنها فلم أستطع.

فأوّل ما يواجهك فيما يُسمّى بردّة كِندة أنّ المتّهمين بها هم الذين جاؤوا بصدقاتهم إلى زياد بن لبيد. لم يمتنعوا ولم يختلفوا، ولم يتحدّث المؤرّخون عن أيّة مشكلة أثارها بنو عمرو بن معاوية في تسليم صدقاتهم كبعض العرب الآخرين.

فأين وجه الردّة هنا، وهم لم ينكروا نبوّة محمد ولا فرضاً من الإسلام ولم يحملوا السيف ولم يثوروا ولم يحاربوا.

وإذا كان هناك بين العرب من امتنع عن إرسال الزكاة إلى المدينة مفضّلاً توزيعها على فقراء قومه واستحقّ بهذا، الاتهام بالردّة عند المؤرّخين، فإنّ بني عمر وهؤلاء جاءوا طائعين مختارين لدفع صدقاتهم إلى عامل الخليفة.

فما اصطلح المؤرّخون على تسميته ردّة أهل اليمن، لم يكن في الحقيقة إلاّ نزاعاً أثاره زياد بن لبيد نفسه، حين أصرّ على أخذ ناقةٍ ليس له الحقّ في أخذها؛ لأنها لم تكن خاضعةً أصلاً للصدقة.

أكان الله سيقبل لزياد أو لغير زياد أن يظلم الناس في جباية حقوقه فيدخل في مال الصدقة ما لا حق فيه؟

ما كان عليه لو قبل ما عرض شيطان من استبدال ناقة أخرى بناقة أخيه وجنّب المسلمين حرباً كلّفتهم الكثير!!

ولم هذا التعالي والاستهانة بالمسلمين، والإسلام هو دين المساواة والتسامح والعدل، والوالي أحقّ من يطبّق تعاليمه وأحرى أن يأخذ الناس، خصوصاً وهم حديثو عهدٍ به، بالرفق واللين فيكون بذلك المثال الطيّب للمسلم، وقد يهدي الله للإسلام، برفقه ولينه، من لا يصنع معه السيف ولا يجدي

١٠٧

وكيف أجزت لنفسك يا ابن لبيد أن تتّهم بالكفر ثلاثة مسلمين يشهدون أن لا إله إلا الله وأنّ محمّداً رسول الله ويؤتون فروض الله، ومنها الزكاة، طائعين مختارين. وكل ذنبهم أنّهم أرادوا إبدال ناقةٍ بناقةٍ ، لهم الحقّ في إبدالها؟!

ولم أمرت بتقييدهم وضربهم وهم بين يديك وفي عسكرك لا يستطيعون أن يدافعوا عن أنفسهم ولا أن يهربوا من أسرهم؟!

أكانت مطالبة الأمير بشيء، حقّاً أو باطلاً تساوي في نظرك الكفر بالله وبرسوله وتعدل عندك الدماء التي سالت؟!

ولو قبلت أن تضرب حارثة الذي تجرّأ فعمد إلى إطلاق الناقة تأديباً له وتخويفاً لغيره. فأيّ ذنبٍ ارتكبه شيطان وأخوه ولم يفعل أيّ منهما ما يستحقّ عليه الضرب والتأديب.

ولم حبستهم فلم تطلق سراحهم بعد ضربهم وتأديبهم وبعد أن استرجعت الناقة التي أعجبتك، من أصحابها وأعدتها إلى مكانها من إبل الصدقة الذاهبة إلى المدينة.

ولأقبل بكل هذا، وليس القبول به أمراً سهلاً، فلماذا بيّت بني عمرو بن معاوية وشننت الغارة عليهم فقتلت وأصبت ولم ينج منهم إلاّ من أطاق الهرب في ظلام الليل؟!

ما ذنب بني عمرو غير أنهم عشيرة صاحب الناقة ورهطه. وبأيّ حق قتل من قتل وشرّد من شرّد، وهم مسلمون لم يصدر عنهم ما يخالف الإسلام؟!

أكنت ـ كما فعل خلفك زياد بن أبيه بعد أكثر من ثلاثة عقود ـ تأخذ المحسن بالمسيء والمقبل بالمدبر، حتى لو كان المقبل والمدبر كلاهما مسلمين بريئين لم يقترفا ذنباً ولم يرتكبا جرماً؟

أتلومهم أو يلومهم أحدٌ لو صحّ ما يرويه الرواة من أنهم منعوا بعد ذاك الزكاة، وقد جلب لهم الوفاء بها القتل والظلم والإهانة، وهم بعد ليسوا بعيدي عهدٍ بالجاهلية وعصبيّتها وبين أهلهم وعشائرهم.

أظنني لو كنت أحدهم لشاركتهم منع الصدقة، أو لما لمت على الأقل من شارك منهم في منعها.

تعجبك ناقة فتتهم أصحابها بالردّة وتقتلهم هم وعشيرتهم.

١٠٨

وتعجب صاحبك امرأة فيتهم زوجها بالردّة ويقتله هو وعشيرته.

ليس لهذا يا ابن لبيد جئت، ولا بهذا أمرك خليفة المسلمين وهو يستودعك أمورهم ويوصيك بالرفق بهم.

ولكنك محظوظ يا ابن لبيد فما يزال المؤرّخون عندنا حتى اليوم يدافعون عنك ويبرّئونك ويبرّرون فعلك، صنعهم مع صاحبك أو أصحابك. وهم على استعداد لاتّهام الألوف وعشرات الألوف ومئات الألوف من المسلمين بالردّة وباستحقاق القتل لتبرئة واحدٍ من ذوي الحظوة والسلطان أمثالك.

ويكفيك أنّهم يبحثون موضوع الناقة تحت عنوان (ردّة حضرموت وكِندة) مع أنهم حين يدخلون في أمر هذه الردّة وتفاصيل أحداثها يجعلون حضرموت والسكون، وهي إحدى بطون كِندة، من بين جندك والمحاربين إلى جانبك ضدّ (المرتدّين) حضرموت وكِندة.

١٠٩

الخاتمة

١١٠

« الخاتمة »

وبعد فتلك كانت أهمّ حروب الردّة التي لا تعني اصطلاحاً عند الكاتب والقارئ غير الارتداد عن الإسلام وإنكار نبوّة محمد واتباع دين أو أديان جديدة ونبي أو أنبياء جدد أو العودة إلى ما كان عليه العرب قبل الإسلام.

وتعمّدت ألاّ أتحدّث عن أسود بني عنس. فالمؤرّخون يذكرون أنّ قتله كان في حياة النبي وقبل استخلاف أبي بكر، وارتداد العرب إثر ذاك بما يصوّره المؤرّخون وباءً كاد أن يقضي على الإسلام ويذهب به.

ولقد حاولت من خلال ذلك كلّه أن أجد ردّةً ورجوعاً عن الإسلام بالشكل الذي يجري الحديث عنه في كتب التأريخ فلم أفلح. دون أن يفهم من هذا أنه لم يكن هناك مرتدٌّ أو مرتدّون، كما سنعرض له فيما بعد.

ولأبدأ بالأديان الجديدة والأنبياء الجدد الذين لم يترك الرواة من هجر القول وسخفه وما يعقل وما لا يعقل إلاّ أضافوه وألصقوه بهم.

فما هي الأديان التي جاء بها من سمّاهم المؤرّخون أنبياء وهم يواجهون الإسلام بكل عظمته ديناً ونبيّاً.

ما هو دين طليحة؟ ما أركانه ما أحكامه وتعاليمه؟ أين كتابه الذي نزل به الوحي عليه وهو يدّعي النبوّة في عصر محمد وفي ظل القرآن. ولا يجمع (المؤمنين) حوله وحول أمثاله مثل دعوى الوحي والكتاب المنزل، تشبّهاً بمحمد والقرآن ومحاكاة لهما.

ولأترك ذلك كلّه. لأترك الأحكام والتعاليم والأخلاق وتنظيم العلاقات في الأسرة وفي المجتمع عموماً، ولأترك الدين: ما تعلّق بالدنيا والآخرة منه، ولأقتنع بحدٍ أدنى من حياة عربية بسيطة تمثّل كل دين طليحة. فأين بلاغة العرب في القول: هذه التي أجدها عند أيّ عربي دون مرتبة (الأنبياء) وهو يتحدّث في أي شأنٍ من شؤون قبيلته في تلك الحياة العربية البسيطة.

إنني ما أزال أطرب لحديث العرب كلما سمعته إذا تحدّثوا قبل طليحة وبعده، وأجد فيه من سحر البلاغة والبيان ما يشدّني إليه. فما لي لا أجد أيّة بلاغةٍ وأيّ بيان في قرآن طليحة، وهو المنزل ـ كما يزعم أو يزعم الرواة ـ من الله الذي أنزل القرآن على محمد.

١١١

أترى عربياً رأى محمداً أو قرأ القرآن أو سمعه سيتركه، لغير عصبيةٍ أو طمع، إلى طليحة وهو يهذي بـ(والحمام واليمام والصرد الصوام قد صمن قبلكم بأعوام ...) أو (أمرت أن تصنعوا رحا ذات عرا ...) أو (ابعثوا فارسين على فرسين أدهمين من بني نصر بن قعين يأتيانكم بعين).

وأظن هذا كل ما تضمّنه (كتابه الكريم) قبل (آية) (إنّ لك رحاً كرحاه وحديثاً لا تنساه) التي نزلت عليه آخر شيء أثناء المعركة التي انتهت بهزيمته وهربه وتنازله عن النبوّة.

ألم يكن بين أتباع طليحة من يسأله عن دينه وكتابه ووحيه أو هذيانه.

ولأفترض أنّ أتباعه غفلوا فلم يسألوا. ألم يسألهم المسلمون عن كتاب نبيّهم، هذا الذي آمنوا به، ولا بدّ أن يكون في مستوى يتناسب مع جلال (النبوّة) ورسالتها التي حملها طليحة، خصوصاً والقرآن ترتفع به أصوات المسلمين صباح مساء ليس بعيداً عن أتباع ابن خويلد.

أكان الذين قاتلوا مع طليحة مؤمنين بنبوّته وبأنّ ما يسمعونه من هذيانٍ هو كلامٌ من كلام الله نزل به الوحي على نبيّهم طليحة؟!

أهذه الأسطر الأربعة أو الخمسة التي لو نطق بها طفل لاستعجل به أهله إلى أقرب مستشفى للأمراض العقليّة، هي كل قرآن طليحة وكل دينه الذي جاء يحارب به دين محمد ويصرف العرب عنه.

لقد رفض العرب دعوة محمّدٍ وحاربوها، على عظمة محمد وعظمة دعوته فلم يقبلوا على الإسلام ولم يدخلوا فيه ولم ينتشر بينهم إلاّ بعد أكثر من عشرين عاماً، كان محمد خلالها موضع امتحانٍ طويل. فكيف استطاع طليحة بكلام غبي أحمق أن يجمع كل هذه الألوف وراءه خلال أيام، ومع وجود الإسلام.

رحم الله مؤرّخينا الذين لم يرحموا طليحة ولم يرحموا الذين يريدون أن يرفعوا طليحة.

وبعد طليحة، نأتي إلى سجاح التي لا بدّ أن جاءت بشيء ممّا يصح وصفه ولو توسّعاً بالدين، وهي ترفض دين محمد وترتد عنه وتدعو العرب إلى رفضه والارتداد عنه كما يذكر الذاكرون.

١١٢

ماذا يروي الرواة عن دينها حتى لو قبلت أن يكذّبوا عليها ويضيفوا إليها ما يريدون.

بِمَ تنبّأت وهم يعدّونها بين الذين ادّعوا النبوّة بعد وفاة محمد؟ أي كتاب نزل به الوحي عليها؟

ربما كان (به أجمع) حين سألها مسيلمة ما سألها، وليس معهما في الخيمة غيرهما، هو ما نزل به الوحي عليها؟

ولكن كيف عرف الرواة هذا الوحي ونقلوه، وما أظن الزوجين (النبيّين) قد أعلناه وصرّحا به، فهو ليس جزءاً من النبوّة ولا دليلاً على صدقها، وليس ممّا يحسن بالمرء، عربيّاً كان أو غير عربي، حتى من لم يبلغ رتبة النبوّة، أن يكشف عمّا جرى بينه وبين زوجته ليلة البناء بها. والزوجة عادةً تكون أشدّ حياءً وأحرص ألاّ تبوح بشئ مما جرى في تلك الليلة. وهكذا أجدني مضطرّاً لأن أرفض هذه الرواية، وأرفض ما يورده المؤرّخون من حديث سجاح، التي يجعلون منها نبيّاً مرّةً وبغيّاً أخرى، ويجعلون من قومها وأصحابها، مجموعة حمقى ومجانين، وهم رؤوس العرب وفرسانهم.

ومن سجاح أنتقل إلى زوجها ـ لثلاث ليال فقط ـ مسيلمة الذي قاتل وقاتل معه أربعون ألف من اليمامة، قتل أكثر من نصفهم كما يذكر الرواة، لينصروا نبيّاً كان من أفضل ما نزل به الوحي عليه (يا ضفدعة ابنة ضفدع) التي تنق كما تشاء، دون أن تمنع الشارب أو تكدّر الماء.

أرأيتم أروع بياناً وأبلغ معنى من هذا الذي أتى به نبيّ بني حنيفة قومه.

أراد أن يحاكي القرآن في(أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت) فماذا صنع. ترك كل الحيوانات: الخيل والأسود والنمور وما هو أملأ للعين وأدعى للرهبة فلم يختر لبني حنيفة إلا أخسّ الحيوانات: الضفدعة، ولم يكونوا هم بأخسّ القبائل.

هذا يا سيّدي حديث الذين يصرّ المؤرّخون على أن يسمّوهم أنبياء ويجعلوا منهم أصحاب رسالات وأديان جديدةٍ تمثّل تحدّياً للإسلام وبديلاً عنه. ولا أعرف حتى الآن فرقاً بين دينٍ ودين منها. بل لا أعرف فيها ديناً أو شيئاً قريباً من الدين، إذا جاز أن يكون في الدين قريبٌ أو بعيد

١١٣

ولا أدري كيف احتملت جزيرة العرب كل هذه الأديان مرّةً واحدة، وهي التي لم تعرف على امتداد مئات السنين غير نبي واحد هو محمد ودينٍ واحدٍ هو الإسلام.

وعلى كلٍّ فهذا هو كلام المؤرّخين لست في حاجةٍ إلى نفيه وهو ينفي بعضه بعضاً. لكن الغريب أنه ما زال مقروءاً ومسموعاً. وهذا ما دفعني إلى ما رأيت من محاولةٍ لتصحيح بعض وقائع التأريخ التي طال تشويهها والعبث بها، وإنصاف بعض الأشخاص الذين كانوا وما يزالون، ضحايا لهؤلاء الذين امتهنوا تشويه التأريخ والعبث به.

وإذا كنت أنكر الردّة كما يصوّرها المؤرّخون، فأنا لا أنكر أنه كان بين المسلمين مرتدّون. لكنّ هؤلاء لم يكونوا بحاجةٍ إلى أنبياء جدد وأديان جدد، وكان لهم في محمد ودينه لو شاءوا، غنىً عن السخف الذي رأينا ممّا يسمّى أدياناً. لقد كانوا ضدّ كل نبيّ وكل دينٍ غير ما كانوا عليه في الجاهليّة، وهذا ما لا يحتاجون إلى من يذكّرهم به أو يدلّهم عليه.

ولم يكن ارتدادهم لأنّ نبياً أفضل من محمد قد جاء بدينٍ أفضل من الإسلام، بل لأنّ الإسلام كثورة ضخمة شملت حياة العرب بكل جوانبها، كان لا بدّ له أن يثير حفيظة العديد من أصحاب المصالح الذين تضرّرت مصالحهم ومن أصحاب البيوتات وذوي الجاه والنفوذ الذين ساوى الإسلام بينهم وبين غيرهم، أو من الأعراب الذين لم يستطيعوا الانفصال عن جاهليّتهم وقيمها وما ألفوا من حياتها. هذا إلى أنّ الذين أسلموا لم يكونوا كلّهم على درجةٍ واحدة من اليقين ورسوخ الإيمان.

لكنّ هؤلاء المرتدّين لم يكونوا من القوّة بما يمكّنهم من محاربة الإسلام والانتصار عليه بعدما ثبت وتأكّد وانتشر خلال ثلاثٍ وعشرين سنة ونشأ جيلٌ لم يعرف غيره وغير محمد ديناً ونبيّاً وما كان أولئك المرتدّون ليجهلوا هذا طبعاً.

وإذا كنت لا أستطيع أن أشخّص الذين ارتدّوا. وإذا كنت لا أتجاوز حدود الفرض في ذلك، فإنّ هذا الفرض يمثّل إحدى الحقائق الأساسية التي عليّ أن أؤمن بها. فأنا لا أنفي وجود مرتدّين، ولكني لست مطالباً بأن أعرف أسماءهم، وإن كنت لا أعطيهم أكثر من دورٍ ثانويّ في الأحداث التي أعقبت وفاة النبي محمد.

١١٤

ما الذي جرى بعد وفاة النبي وما هي أسبابه؟ هل انتفض العرب وثاروا؟ وهل كانت الثورات ردّةً عن الإسلام واتّباعاً لأديان وأنبياء جدّد كما يذكر المؤرّخون؟

أمّا بالنسبة للشقّ الأوّل، فأنا أتّفق مع المؤرّخين في أنّ أحداثاً كبيرة وصلت حدّ الحروب التي ذهب ضحيّتها الألوف قد شهدتها الساحة الإسلامية بعد وفاة النبي محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله .

حرب مع طليحة. وحرب مع سجاح ومالك. وحرب مع مسيلمة. وحرب مع كِندة. وحروب أخرى لم أعرض لها ولم أتناولها.

ولكني أختلف معهم فيما يذهبون إليه من أنّ الحروب كانت بسبب (الردّة) عن الإسلام كما يسمّونها في كتبهم. ولا أرى فيها أكثر من موقف من السلطة التي خلفت النبي محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله في بعض ما ترى من شؤون، لها طابعٌ سياسيّ أو ماليّ أو قبلي، أكثر ممّا لها من طابع إيماني إسلامي، وقد يعزّز هذا الرأي، أنّ الصلاة لم تثر مشكلةً اسمها الردّة. وأنّ هذه انحصرت في الزكاة، أي في المال وإرساله الذي يمثّل دعماً للسلطة الجديدة واعترافاً بها وخضوعاً لها، وهو ما يرفضه هؤلاء (المرتدّون) من المسلمين.

فلم يكن هناك ردّة ولا خروجٌ بأيّ شكلٍ عن الإسلام، بل ضمن الإسلام وتحت خيمته، جرى ما جرى.

صحيح أنّ الخلاف بين الطرفين قد تطوّر حتى وصل حدّ الحرب، كما ذكرنا، ولكنّه يبقى خلافاً بين مسلمين تستطيع أن تصف أحد طرفيه بأيّ وصفٍ وتطلق عليه أي اسم إلاّ الكفر والردّة وإنكار نبوّة محمد.

قد يكون في بعضه إنكارٌ لخلافة أبي بكر وتفضيل غيره عليه، أو رفضٌ للأسلوب الذي اتّبع فيما أسفرت عنه سقيفة بني ساعدة، وهو رأي عددٍ من الصّحابة أو كبارهم وما يزال موضع خلافٍ حتى الآن بين المسلمين.

ولكنّ أبا بكر ـ مع التسليم بكل فضله وسابقته وجهاده ـ ليس هو الإسلام، ولا الإيمان به وبخلافته ركناً فيه ولا جزءاً منه، والخلاف معه ورفض بيعته لا يمكن أن يكون رفضاً للإسلام وارتداداً عنه، فهو واحدٌ من المسلمين حتى لو قلنا بأنه أفضلهم، وليس في نقد الأسلوب الذي وصل به إلى الخلافة أو عدم الرضا به واتخاذ موقف بشأنه، ما يستوجب الخروج عن الإسلام واتّهام الناقد لتلك التصرّفات أو الرافض لها بالردّة وشنّ الحرب عليه واستحلال دمه وماله وسبي ذريّته، وكأنّه منكرٌ لنبوّة محمدٍ رافض لدينه.

١١٥

ماذا بقي إذن من فرقٍ بين محمد وبين غيره من المسلمين وقد ساوينا في الموقف منهما وجعلنا المنكر للنبوّة والطاعن فيها والمنكر للخلافة والطاعن فيها في نفس المنزلة.

ماذا ستكون عقوبة من أنكر نبوّة محمد وطعن فيها وكفر بها؟ أهناك ما هو أكثر من القتل واستحلال المال وسبي الذرّية؟

وقبل حرب (المرتدّين) من قبائل العرب خارج المدينة. أظنه كان يجب أن تشنّ الحرب أولاً على (المرتدّين) في المدينة من بعض كبار الصحابة الذين أنكروا طريقة استخلاف أبي بكر في السقيفة وطعنوا فيها ورفضوا بيعته، قبل أن تنكرها وتطعن فيها وترفضها طيء وفزارة وأسد وغيرها من قبائل العرب.

بماذا طالب طليحة وماذا كانت تهمة مالك ورهطه، غير أنهم أرادوا توزيع الزكاة على فقرائهم وما أكثرهم، ولم يروا إرسالها إلى المدينة.

إنهم لم ينكروا الزكاة كفرضٍ من فروض الإسلام ليمكن وصفهم بالكفرة والمرتدّين. وما أظنك تجرؤ على وصف من كان هذا شأنه بالكافر والمرتد، وهو يشهد ألاّ إله إلاّ الله وأنّ محمّداً رسول الله ويقيم الصلاة ويؤتي الزكاة، لكنه يؤثر توزيعها على فقراء قومه في ظرف بذاته.

وفيم كانت الحرب مع كِندة؟! أين الردّة في أن يطالب شخصٌ بناقته التي لا زكاة عليها فتشتعل بسبب ذلك حربٌ يقتل فيها الكثيرون ويشرّد الكثيرون؟!

وقبل هذه الحروب أريد أن أقف عند حدثٍ سابقٍ لها ما أحسبه بعيداً عنها وعمّا أريق فيها من دماءٌ، بل ربّما كان من بين أهمّ أسبابها.

سأرجع إلى سقيفة بني ساعدة في المدينة التي شهدت أوّل خلافٍ علنيّ، ولا أريد أن أقول أوّل صراع، على السلطة بين المسلمين، وهو خلافٌ لم يكن ما جرى فيه سرّاً، وقد انتصرت فيه وجهة النظر القرشية وتمّت البيعة للخليفة أبي بكر (رض).

وأسأل ماذا كان سيحصل لو تمّسك الأنصار بموقفهم وأصرّوا على دعمهم سعد بن عبادة في طموحه للخلافة. أو لو رفضوا على الأقل أن يبايعوا أبا بكر.

ماذا ستسمّي الأنصار عندئذٍ ، وهم من هم في نصرهم للإسلام وذبّهم عنه. وهم الذين آووا وضحّوا بأرواحهم وأموالهم من أجله.

١١٦

وقد تجيب بأنهم لم يفعلوا فكفونا عناء التفكير بالأسماء، وما تختار وما لا تختار لهم منها.

ولكن بقي سعد الذي لم يبايع وبقي الذين مع سعد وبقي ابن الجموح (جذيلها المحكك وعذيبها المرجّب ...).

فأيّ اسم ستختار لسعد ومن تابعه وبقي معه، وهم لم يمنعوا الخليفة عقالاً ممّا كانوا يعطونه لرسول الله فقط، ولم يمسكوا صدقاتهم في أيديهم لتوزيعها على فقرائهم فقط، ولم يطلبوا استبدال ناقةٍ بناقة فقط، وكل هؤلاء سمّوهم مرتدّين وكفرة واستباحوا دماءهم وأموالهم وذراريهم. وإنّما نازعوا الخليفة خلافته لرسول الله ورفضوها وطعنوا فيها وظلّوا رافضين لها طاعنين فيها.

ولولا أن يلهمهم الله المجتمعين في السقيفة الهداية والرشد، ولولا أن يستجيب الأنصار لنداء الدّين والعقل ولم يصرّوا على موقفهم، لتعرّض الإسلام لخطرٍ لا يعلمه إلاّ الله.

وكم كان بودّي أن أعرض للسقيفة وما جرى فيها وما سبقها. والعلاقة بين كل ذلك وبين حروب الردّة، لولا خشيتي من أن يخرجني الموضوع بعيداً، وتصبح الخاتمة غير خاتمة.

لقد كانت حروب (الردّة) رسالة إرهاب من قريش قوية واضحة، شديدة القوّة، بالغة الوضوح، إلى جميع العرب، بأنهم سيعرّضون أنفسهم واهلهم لما تعرّض له (المرتدّون) ولأكثر منه إن فكّروا يوماً بمنازعة الحكم الجديد أو الخلاف عليه أو عدم الخضوع والطاعة له.

يبقى الجواب عمّا سألني يوماً بعض الإخوان، وأنا في حديث الردّة: لماذا الزكاة لا غيرها. لماذا قامت تلك الحروب بسبب الزكاة لا الصلاة مثلاً وهي أهمّ من الزكاة في الاسلام وأعظم خطراً، ألأنّ المال في الزكاة وليس في الصلاة؟! ألأنّ الحكم الجديد وأنصاره ومؤيّديه والداعمين له والملتفّين حوله كانوا مستعجلين إلى المال؟!

ولم أجد ما أجيب به سوى بيتي قيس بن عاصم المنقري السعدي: للذين يمثّلان الموقف آنذاك خير تمثيل وأصدقه:

فمن مبلغ عنّي قريشاً رسالةً

إذا ما أتتها محكمات الودائع

حبوت بما صدقت في العام منقراً

وأيأست منها كل أطلس طامع

والأطلس هو الذئب. والمعنى واضح .

١١٧

وأظن أي رأي لي أو لغيري، وأي تفسير أو تعليق سيكون عبثاً من القول وهما أوضح وأبين من أيّ إيضاح وبيان. وقائلهما قيس بن عاصم، سيّد أهل الوبر كما سمّاه النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله .

وسكت السائل، وسكتّ لقد أغنانا بيتا قيس عن كل جوابٍ. كانا فيهما الجواب.

وإني لأعتذر أخيراً للقارئ الذي سيضطر إلى قراءة ما بين السطور وما وراءها، فأنا لم أستطع أن أحمّل السطور كل ما كنت أريد.

١١٨

الفهرس

« المقدّمة ». ٢

الباب الأول. ٦

الفصل الأول: (موقف المسلمين بعد وفاة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله) ٧

الفصل الثاني: (موقف العرب بعد وفاة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله) ٢٢

الفصل الثالث: (في معنى الردّة) ٣١

الباب الثاني: (حرب طليحة) ٣٤

الباب الثالث: (مأساة مالك بن نويرة) ٤٢

الباب الرابع: ( سجاح ) ٧٤

الباب الخامس: (مسيلمة) ٨٩

الباب السادس: ( ردّة حضرموت وكِندة ) ١٠٤

الخاتمة ١١٠

١١٩