التربية والتعليم في الإسلام

التربية والتعليم في الإسلام0%

التربية والتعليم في الإسلام مؤلف:
الناشر: مجمع البحوث الإسلامية
تصنيف: مكتبة الأسرة والمجتمع
الصفحات: 221

التربية والتعليم في الإسلام

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: الدّكتور علي شريعتمداري
الناشر: مجمع البحوث الإسلامية
تصنيف: الصفحات: 221
المشاهدات: 141550
تحميل: 6414

توضيحات:

التربية والتعليم في الإسلام
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 221 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 141550 / تحميل: 6414
الحجم الحجم الحجم
التربية والتعليم في الإسلام

التربية والتعليم في الإسلام

مؤلف:
الناشر: مجمع البحوث الإسلامية
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

تعني الكلام المنطقي، والنقد أو التفريق بين الجيّد والردئ، وهو من جهة أُخرى نفسه القابلية على الحكم الصحيح. فشرط انتقاء الكلام المنطقي هو تربية القابلية على النقد أو القابلية على الحكم الصحيح.

تربية روح الدعوة إلى العدالة هدف تربوي

نحن نعلم بأنّ العدالة من الدعائم الأصلية للحياة الإنسانية، والمجتمع الذي يسوده الظلم والإجحاف هو مجتمع تنعدم فيه الإنسانية. إنّ المجتمع الإسلامي هو المجتمع الذي يسوده العدل الإلهي، والعمل فيه أساس الملكية، ويعتبر استغلال الناس فيه ذنباً لا يغتفر، ورسالة الأنبياء - من وجهة نظر الإسلام - هي إقامة العدل.

( لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النّاسُ بِالْقِسْطِ ) ، (الحديد: 25).

وجاء في القرآن الكريم أنّ الله (تعالى) قائم بالقسط. قال تعالى:

( شَهِدَ اللّهُ أَنّهُ لاَ إِلهَ إِلّا هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ.. ) ، (آل عمران: 18).

وورد في حديث مشهور أنّ الدنيا تبقى مع الكفر، ولا تبقى مع الظلم، وتمّ التأكيد فيه على خطر الظلم:

«الملك يبقى مع الكفر ولا يبقى مع الظلم».

وقال تعالى:( يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ للّهِ ) ، (النساء: 135).

وفي الآية الكريمة التالية، يأمر الله - تعالى - الناس بالعدل والإحسان:

( إِنّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ.. ) ، (النحل: 90).

والآية التالية، ضمن أمرها بأداء الأمانات إلى أهلها، تؤكّد على مراعاة العدالة

١٤١

عند الحكم بين الناس:

( إِنّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى‏ أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ.. ) ، (النساء: 58).

وكما نعلم، فإنّ قائد المسلمين يجب أن يكون عادلاً. قال تعالى:( قل أمَرَ ربّي بالقسط ) . والآية التالية، ضمن دعوتها الناس إلى مراعاة العدالة، تذكّر المسلمين بأن شنآن قوم لا يمنعهم عن الحكم بالعدل، بل يجب مراعاة العدل في كلِّ حال، لأنّه أقرب للتقوى من أيّ عمل آخر، قال تعالى:

( يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوّامِينَ للّهِ‏ِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى‏ أَلّا تَعْدِلُوا إِعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتّقْوَى‏ وَاتّقُوا اللّهَ إِنّ اللّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ) ، (المائدة: 8).

فينبغي - إذاً - مراعاة العدل في شؤون الحياة كافّة، وفي المجتمع - كما ذكرنا - تشكّل العدالة أساس الحياة الجماعية. ولابدّ من مراعاة العدل في البيت، وفي التعامل مع الآخرين، وفي العلاقات مع الشعوب الأُخرى:

( إِنّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى‏ وَيَنْهَى‏ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلّكُمْ تَذَكّرُونَ ) ، (النحل: 90).

كما نعلم، فإنّ القائد الديني يجب أن يكون عادلاً، وكذلك حكّام المسلمين، وعلى كلِّ مسلم مراعاة العدالة في تعامله مع الآخرين. ويجب أن يكون المربّي عادلاً، ويعمل على ترسيخ روح الدعوة إلى العدالة بين طلاّبه، كما ينبغي للوالدين مراعاة العدالة أيضاً في علاقة أحدهما بالآخر، أو في علاقتهما مع بقيّة أعضاء العائلة.

ومن أجل أن يدرك الطلاّب معنى العدالة، ويراعوها عملياً في تعاملهم مع الآخرين، لابدّ للمربين من أن يجعلوهم في ظروف محسوسة، ويساعدوهم حتى يلحظوا بأنفسهم العدالة مع الآخرين، ونتائجها. وضمن إدراكهم لمفهوم العدالة، يطابقون أعمالهم مع موازين العدل تدريجاً.

١٤٢

تكامل الإنسان كهدف تربوي

إنّ للإنسان منزلة مرموقة في الرسالة الإسلامية، يقول الباري - تعالى - في الآية السبعين من سورة الإسراء:

( وَلَقَدْ كَرّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِنَ الطّيّبَاتِ وَفَضّلْنَاهُمْ عَلَى‏ كَثِيرٍ مِمّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً ) .

هويّة الإنسان

للإنسان - من منظور إسلامي - أبعاد متنوّعة، فهو - من جانب - يقطع مراحل النمو كسائر الكائنات الحيّة، ومن جانب آخر، فإنّ الأبعاد المعنوية والفكرية لشخصيّته تميّزه عن سائر الحيوانات. قال تعالى:

( مِنْ أَيّ شَي‏ءٍ خَلَقَهُ * مِن نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدّرَهُ * ثُمّ السّبِيلَ يَسّرَهُ ) (عبس: 18 - 20).

مراحل النفس

تحدّث الإسلام حول النفس الأمّارة، التي تُرغّب الإنسان في الانجراف وراء الهوى والهوس. قال تعالى:

( إِنّ النّفْسَ لَأَمّارَةُ بِالسّوءِ.. ) ، (يوسف: 53).

( وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ.. ) ، (ق: 16).

وتحدّث أيضاً حول النفس اللّوامّة، قال تعالى:

( وَلاَ أُقْسِمُ بِالنّفْسِ اللّوّامَةِ ) ، (القيامة: 2).

وتحدّث كذلك حول النفس المطمئنّة، كما جاء في سورة الفجر، ويبدو أنّ الإنسان عندما يبلغ مرحلة النفس المطمئنّة، فإنّه يتمتع بالاطمئنان الباطني، والهدوء النفسي، بسبب الإيمان والعمل. قال تعالى:

١٤٣

( يَا أَيّتُهَا النّفْسُ الْمُطْمَئِنّةُ * ارْجِعِي إِلَى‏ رَبّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنّتِي ) ، (الفجر: 27 - 30).

والإنسان نفسه، لو خضع للبُعد الحيواني من شخصيّته، وتولّع بالظلم، والفساد، والأنانية، فإنّه يتساقط نحو أكثر المواطن وضاعة وحقارة وخسّة، قال تعالى:

( ثُمّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ ) ، (التين: 5).

الفضيلة والرذيلة في الإنسان

لم يُخلَق الإنسان عاصياً - كما يعتقد النصارى، ولم يخلق محسناً، بل خلق مستعدّاً للفضيلة والرذيلة، مع جنوح فطري نحو الإحسان. وهذا ما تنطق به الآية الكريمة التالية:

( وَنَفْسٍ وَمَا سَوّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسّاهَا ) ، (الشمس: 7 - 10).

وجاء في سورة العصر:

( وَالْعَصْرِ * إِنّ الإنسان لَفِي خُسْرٍ * إِلّا الّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقّ وَتَوَاصَوْا بِالصّبْرِ ) .

استقلال الشخص

إنّ إحدى مواصفات النظام الإسلامي هي تربية الإنسان على الاستقلال. وكما نعلم، فإنّ المسلم، بمجرّد بلوغه سنّ الرشد، حيث يستطيع تمييز الحسن من القبيح، أو ما يسمّى بالوقوف على قدميه، فعليه أن يتقصّى مبادئ الدين عن طريق التعقّل والاستدلال. وقلّما نلحظ مذهباً من المذاهب الاجتماعية يدعو أتباعه إلى تقصّي مبادئه وأُسسه عن طريق التعقّل، ومن ثمّ المبادرة إلى قبولها عن نفس

١٤٤

الطريق. وكما مرّ بنا - فيما مضى - فإنّ أغلب المذاهب الاجتماعية تلقّن أتباعها أُسسها ومبادئها. جاء في الآيات التالية:

( بَلِ الإنسان عَلَى‏ نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ ) ، (القيامة: 14).

( كُلّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ ) ، (المدّثّر: 38).

( لاَ إِكْرَاهَ فِي الدّينِ قَد تَبَيّنَ الرّشْدُ مِنَ الْغَيّ.. ) ، (البقرة: 256).

( وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنّ الْسّمْعَ وَالْبَصَرَ كُلّ أُوْلئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً ) ، (الإسراء: 36).

مسؤولية الإنسان

إنّ الإنسان - من منظور إسلامي - مسؤول عن أعماله، كما ألمحنا إلى ذلك سابقاً، فهو لم يخلق عاصياً، ولم يكن في مقدور أحد غفران ذنوبه. وكما نعلم، فإنّ أتباع(*) السيّد المسيحعليه‌السلام يعتقدون بأنّ الإنسان مذنب بطبيعته، والسيّد المسيحعليه‌السلام يتكفّل غفران ذنوب الجميع، ولذلك فهو منقذ الناس.

إنّ ما يحصل عليه الإنسان من فائدة هو عطاء عمله. قال تعالى:

( وَأَن لّيْسَ لِلاِْنسَانِ إِلّا مَا سَعَى ) ، (النجم: 39).

( وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى.. ) ، (فاطر: 18).

ويتحقّق عمل الخير أو عمل الشر على يد الإنسان نفسه. قال تعالى:

( فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرّةٍ شَرّاً يَرَهُ ) ، (الزلزلة: 7 - 8).

وقال تعالى:( وَأَنّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى ) ، (النجم: 40).

____________________

(*) لا نستطيع أن نعبّر عنهم: (أتباع)، لأنّهم لو كانوا كذلك لاتّبعوه حقّاً، في حين هم ليسوا كذلك. فالصحيح هو أن نقول: فإنّ الذين يدّعون أنّهم اتباع.. المعرِّب.

١٤٥

ويظهر الفساد في العالم بسبب الإنسان نفسه. قال تعالى:( ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النّاسِ.. )

(الروم: 41).

ويتقرّر التكليف في الإسلام وفقاً لاستعداد الإنسان نفسه، وتعود نتيجة عمله الصالح أو القبيح إليه نفسه. قال تعالى:

( لاَ يُكَلّفُ اللّهُ نَفْساً إِلّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ.. ) ، (البقرة: 286).

وللمسؤولية بعد جماعي أيضاً. قال تعالى:( وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرّ وَالتّقْوَى.. ) ، (المائدة: 2).

وقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : «كُلّكم راعٍ وكلّكم مسؤولٌ عن رعيّته».

تغيير سلوك الإنسان

يرى الإسلام بأنّ سلوك الإنسان خاضع للتغيير، فحياة الفرد أو حياة الجماعة لم تُشَيّد من قبل، حيث إنّ الإنسان، مع خضوعه للعوامل الجغرافية والبيولوجية والاجتماعية، هو سيّد مصيره، وفي مقدوره تغيير سلوكه متى شاء، بالصمود أمام العوامل المؤثّرة على السلوك، ولابدّ لنا أن نتحدث حول بعض النقاط من أجل توضيح هذا الموضوع.

يعتقد بعض علماء النفس، وعلماء الاجتماع، بأنّ سلوك الفرد والجماعة هو من نتاج البيئة أو الوسط الاجتماعي، فهم لا يقولون بأنّ للبيئة الطبيعية والاجتماعية تأثيراً على سلوك الإنسان فحسب، بل ويرون بأنّ البيئة نفسها هي التي تحدّد شكل سلوكه، مصادرين كلّ دورٍ له.

بكلمة بديلة: إنّهم يرون بإنّ شخصية الإنسان أو قدرته الفكرية والأخلاقية غير مؤثّرة في تغيير سلوكه، فالشخص الذي يعيش في وسط عائلي أو اجتماعي خاص، يعمل بشكل خاص، شئنا أم أبينا،

١٤٦

ولا سبيل له إلاّ تطبيق ماتملي عليه بيئته.

إنّ أنصار مدرسة السلوك - سواء أنصار عالم الفسلجة الروسي (بافلوف)، أو أنصار (واتسون) أو (اسكير) يعتقدون عادة بأنّ البيئة هي التي تحدّد سلوك الفرد أو الجماعة، ولا تأثير لعملية الدراسة في تغيير سلوك الإنسان، إذ هو مرغم على ما يفعله. ومن منظار هؤلاء، فإنّ الحديث حول حريّة الإرادة، وتوجيه الإنسان لأعماله وممارساته، حديث ليس له أيّ معنى.

وهنا ينبغي الالتفات إلى أنّ الإنسان يستطيع الصمود أمام البيئة، فهو قادر على أن يربّي نفسه، أو يُحبط ما تقرّرُه بيئته من خلال الأعمال التربوية، ومن هذا المنطلق، يكون مسؤولاً عن أعماله.

إنّ الإسلام - كما نعلم - يرى بأنّ الأفراد والجماعات مسؤولون عن أعمالهم. ومن وحي هذا المبدأ، يعتقد بأنّ التغييرات الاجتماعية ناتجة عن تغيير الأفراد. لاحظوا الآيات التالية:

( ذلِكَ بِأَنّ اللّهَ لَمْ يَكُ مُغَيّراً نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى‏ قَوْمٍ حَتّى‏ يُغَيّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ.. ) ، (الأنفال: 53).

( ..إِنّ اللّهَ لاَ يُغَيّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتّى‏ يُغَيّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ.. ) ، (الرعد: 11).

( تِلْكَ أُمّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَا كَسَبْتُمْ.. ) ، (البقرة: 134).

احترام الإنسان

إنّ من سمات الإسلام البارزة تقويضه المقاييس السابقة في العلاقات الإنسانية، فقد كانت مقاييس التفاضل في الماضي هي: المنصب، والثروة، والموقع الاجتماعي، والجنس واللون، والموقع العائلي، والمَحْتِد، وأمثالها. وممّا يؤسف له أنّنا في القرن العشرين نرى أنّ بعض هذه المقاييس لا يزال سائداً في أجزاء العلاقات الإنسانية أيضاً.

ونلحظ في الساحة الدولية هذا اليوم أنّ أصحاب الشركات متعدّدة الجنسيات،

١٤٧

والعصابات المتكالبة على نهب مصادر الشعوب الاقتصادية والطبيعية وثرواتها، والمتهافتة على تكريس المصادر المالية في العالم لصالحها عن هذا الطريق، هؤلاء جميعاً هم الذين يوجّهون السياسة العالمية وينظّرون لها، وما الحكومات، وعلماء الدين الدنيويّون إلاّ أدوات طيّعة بأيديهم.

ونرى في الأقطار التي تقوّضت فيها سيادة المال، أنّ الذين يشغلون المناصب الرسمية التي حصلوا عليها بواسطة التكتلات، وكمّ الأفواه، والاستعانة بالعسكر، يحظون باحترام خاص، وأنّ كلمة: القوّة العظمى، ودور القوى العظمى في السياسة الدوليّة تكشف لنا هذه الحقيقة، التي تفصح عن سيطرة مثل هذه المفردات على العلاقات الدولية. ونلحظ كذلك أنّ الحديث يدور في الأوساط الدولية عن الديمقراطية وحقوق الإنسان، بيد أنّ التمييز العنصري، والحرمان الذي تعيشه النساء، والمستضعفون في العالم، ماثلان للعيان في كلِّ مكان. وتظن بعض الشعوب أنّها أفضل من شعوب أُخرى نتيجة الإيحاءات السّيئة.

أمّا في الإسلام، فقد فقدت جميع هذه المقاييس أهميّتها واعتبارها، فلا المال مجلبة للاحترام، ولا المنصب، ولا تأثير للمنسوبية، والموقع الاجتماعي، والعنصرية، والقومية على منزلة الإنسان سلباً أو إيجاباً. فمقياس التفاضل في الإسلام منذ البداية هو الفضيلة والتقوى. وتصرّح الآية الكريمة التالية بذلك فتقول:

( يَا أَيّهَا النّاسُ إِنّا خَلَقْنَاكُم مِن ذَكَرٍ وَأُنثَى‏ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللّهِ أَتْقَاكُمْ.. ) ، (الحجرات: 13).

وقد تمّ التأكيد مراراً على هذا المبدأ - القاضي بأن يكون احترام الناس على أساس التقوى والفضيلة - في كلام رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله .

وما احترامهصلى‌الله‌عليه‌وآله لسلمان الفارسي، وبلال الحبشي، وأبي ذر، وكذلك احترامه للنساء الاّ معالم لهذا المبدأ.

١٤٨

الإيمان بكفاءة الناس

يدعم الإسلام مسألة كفاءة الناس في تسيير شؤونهم. وفي عصرنا الحاضر، وبالرغم من أنّ معظم الكتّاب والحكّام يتحدثون حول الشعب وكفاءته، بيد أنّهم يحدّون من تدخّله في الأُمور عمليّاً. وفي البلدان التي تنتهج إيديولوجية خاصّة، يحدّد أعضاء الحزب والكادر القيادي خطّة العمل التي تسير عليها البلاد غالباً، فيصبح تدخّل الشعب في الشؤون السياسية محدوداً. وفي الدول التي تدّعي الديمقراطية، أو حكم الشعب للشعب، يخضع الشعب للدعايات التي يبثّها الجهاز الحاكم، وما القرارات التي تتّخذها مجالس النوّاب في القضايا المتنوّعة إلاّ دليل ساطع على ما نقول، فالتصويت على الحرب الفيتنامية من قِبَل الكونغرس الأميركي، والتصويت على قرارات حكومة العمّال أو المحافظين في إنجلترا في المجالات المتنوّعة، وما يجري في فرنسا أو إيطاليا أو السويد، كلّه يمثّل كيفيّة تأثير الحكومات على الرأي العام لشعوبها بصورة غير مباشرة، ومن ثمّ تنفيذ ما تريده باسم الشعب.

طبيعياً، في حالات تُطرح فيها المصالح الملموسة للشعب، يُحتمل أن تتّخذ البرلمانات قرارات لصالح الشعب. لكنْ يرى الإسلام أنَّ الناس يمتلكون الكفاءة والجدارة في تسيير شؤون بلادهم، وفقاً لصريح الآيتين التاليتين:

( ..وَأَمْرُهُمْ شُورَى‏ بَيْنَهُمْ.. ) ، (الشورى: 38).

( ..وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ.. ) ، (آل عمران: 159).

وفي عهد الإمام عليعليه‌السلام إلى مالك الأشتر (رضي الله عنه) نقطة ينبّه عليها وهي: أنّه يمكن معرفة المحسنين ممّا يجري على ألسنة الناس بشأنهم. وفي هذه الفقرة من العهد، يطلب الإمام من مالك أن يشاور الناس في تسيير أمور البلاد.

١٤٩

الأُخوّة والتعاون كهدفين تربويين

ينظر الإسلام إلى الوحدة، والتفاهم، والمساواة، والتعاون بين الناس على أنّها أُمور أساسية. إنّ الإنسان كائن اجتماعي، وهذه الكينونة الاجتماعية تثير مسائل، لا مندوحة أمام الأفكار والنظم التربوية، من ترك الاهتمام بها للحياة الجماعية حالة خاصّة بها.

بكلمة بديلة: إنّ الحياة الجماعية منفصلة عن الحياة الفردية، فأعضاء المجتمع خاضعون للحسّ الشخصي، وفي الآن ذاته، خاضعون للحسّ الجماعي. والحياة الفردية تختلف عن الحياة الجماعية من حيث الظروف، والامكانيات، والأهداف. وهناك بعض الأشخاص يهتمّون بحياتهم الخصوصية والشخصية، ولا يهتمّون بعلاقاتهم مع الآخرين، ولا بالحياة الجماعية ومشاكلها ومتمخضاتها، فهم يرون أنّه لو عولجت المشاكل الشخصية، فإنّ الأرضية الاجتماعية سوف تكون مساعدة بذاتها. وتتركز جهود هؤلاء على تأمين الرفاه والمصالح الفردية. ولو كان جميع أعضاء المجتمع يحملون هذا اللون من التفكير، لأُهملت الحياة الجماعية ومشاكلها، ولظّلت المشاكل المنبثقة عن الحياة الجماعية مستعصية في مثل هذا المجتمع، بل وتتضاعف يوماً بعد يوم.

بإيجاز: فإنّ الذين يعيشون معاً، يواجهون مسائل وقضايا مصدرها الحياة الجماعية، مضافاً إلى المسائل الشخصية التي يعيشونها. وبما أنّ أحداً لا يأتي من وراء الحجب لعلاج المشاكل الاجتماعية، لذلك تقع المسؤولية على أفراد المجتمع ليبذلوا جهودهم من أجل علاجها.

وينبغي أن يسود التفاهم والانسجام بين الأفراد والجماعات ليتسنّى لهم علاج مشاكلهم. فالحاجات المشتركة والمسائل المتماثلة يجب أن توجِد - لا محالة - وحدةً بين أفراد المجتمع. وعندما يعيش المجتمع حياة سليمة، فإنّ التعاون يشكّل الأُسلوب الأساس للحياة فيه، مضافاً إلى وجود التفاهم والوحدة بين أفراده.

وكما قلنا سابقاً، فإنّ وحدة الهدف، وتقسيم العمل، وتحمّل المشؤولية من قبل جميع الأفراد، وتنسيق

١٥٠

النشاطات، والاستمتاع المشترك بنتائج الأعمال الجماعية، كل ذلك يجري على أفضل صورة في عملية التعاون.

من هذا المنطلق يؤكّد الإسلام على أهميّة مبدأ الأُخوّة، ومبدأ التعاون، وقد أوصت الآيتان التاليتان برعاية هذين المبدأين:

( إِنّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ.. ) ، (الحجرات: 10).

( وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرّ وَالتّقْوَى‏.. ) ، (المائدة: 2).

وكما نعلم، فإنّ الناس - في الإسلام - جميعهم أُمّة واحدة(*) .

بكلمة بديلة: إنّ انتماء الأشخاص غير محدود بوحدة العامل الجغرافي، ووحدة اللغة، والعنصر، والقومية. فالهدف هو تأمين مصالح الجميع، وكذلك فإنّ الثقافة المشتركة، والمثل المشتركة ترسّخ دعائم الحياة الجماعية.

الصداقة مع الشعوب الأُخرى إحدى الأهداف التربوية الأساسية أيضاً

كانت المجتمعات البشرية في الماضي تعيش منفصلة عن بعضها البعض، بسبب تأثير الاتّجاهات القومية، والشوفينيّة، والعقائد الدينية. وفي حالات متنوّعة، كانت هذه العوامل بمعيّة المصالح الاقتصادية تشعل فتيل الاختلاف والتناحر بين الشعوب، فتؤدّي إلى نشوب الحرب فيما بينها. ولا زلنا نشهد في عصرنا الحاضر أيضاً تأثير الاتّجاهات الوطنية والمصالح القومية على بعض الشعوب، ومن بينها شعوب الكتلة الاشتراكية، من نحو: ألبانيا، ويوغسلافيا، والصين، والاتّحاد السوفيتي (المنحل)، فتنجم عن اندلاع نار الصراعات والتناقضات فيما بينها.

ومنذ زمن سحيق، وقادة البلدان المختلفة يضربون على وتر التعايش السلمي، ويدافع ميثاق الأُمم المتّحدة عن هذا المبدأ أيضاً، بيد أنّ الواقع العملي يشهد بأنّ

____________________

(*) في الإسلام، المسلمون أُمّة واحدة وليس الناس جميعهم، هذا مع أنّ القرآن صرّح بأنّ الناس كانوا أُمّة واحدة، لكن هذا له معنى آخر غير المعنى الذي يقصده المؤلّف هنا.

١٥١

الدول الرأسمالية والشيوعية جميعها لا تعمل به في كافّة المواضع والحالات.

أمّا الإسلام، فهو لا يوصي بمبدأ التعايش السلمي فحسب، بل تخطّاه إلى أبعد من ذلك، فحثّ أتباعه على إقامة وشائج الصداقة والمحبّة مع الشعوب غير المسلمة كافّة(*) . قال تعالى:

( لَا يَنْهَاكُمُ اللّهُ عَنِ الّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنّ اللّهَ يُحِبّ الْمُقْسِطِينَ ) ، (الممتحنة: 8).

وفي عهد مالك الأشتر، عندما يوصي الإمام عليعليه‌السلام مالكاً بمحبّة الناس والرأفة بهم، لم يفرِّق الإمامعليه‌السلام بين المسلم الذي عبّر عنه بالأخ في الدين، وغير المسلم الذي عبّر عنه بالنظير في الخَلْق.

تربية قوّة التفكّر هدف تربوي أساس

ذكرنا فيما سبق أنّ تربية قوّة التفكّر، والقدرة العقلية، من الأهداف الأساسية للنظام التربوي. يرغّب الله - تعالى - الناس أن يتفكّروا في خلق الكون، فيقول:

( ...وَيَتَفَكّرُونَ فِي خَلْقِ السّموَات وَالْأَرْضِ... ) ، (آل عمران: 191).

ولا يرى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله عبادة تبلغ من الأهميّة كما يبلغه التفكّر، فيقول: «لا عبادة كالتفكّر». ويرى أنّ تفكّر ساعة أفضل من عبادة سبعين سنة: «تفكّر ساعة أفضل من عبادة سبعين سنة». ومرّبنا أنّ الإمام عليّاًعليه‌السلام يرى أنّ التفكّر أفضل من العلم، وأكثر منه قيمة، فيقول: «لا علم كالتفكّر».

____________________

(*) طبعاً بشرط أن لا تعتدي على المسلمين، ولا تحاربهم، ولا تخرجهم من ديارهم.. المعرِّب.

١٥٢

تربية الروح الاجتماعية هدف تربوي أساس

تحدّثنا حول تربية الروح الاجتماعية في القسم الخاص بالبعد الاجتماعي من شخصية الإنسان. ويدلُّ تعبير الأُمّة، وتعبير الأخ، الواردان في القرآن بشأن المسلمين، على أهميّة التضامن والترابط بين أفراد المجتمع. ويذكر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله الالتزام الاجتماعي بصراحة في الحديث المعروف الذي مرّبنا ذكره:

«من أصبح لا يهتم بأمور المسلمين فليس منهم».

تربية الشخصية الأخلاقية هدف أساس آخر للتربية

إنّ النظام الإسلامي - من جهة - نظام أخلاقي. ولو نظرنا إلى الأخلاق - سواء من الناحية الفردية أو الجماعية - على أنّها هي المبادئ، والمعايير، والأهداف، والحركة تلقاء الكمال المطلق، ففي هذه الحالة، تعتبر الرسالة الإسلامية رسالة أخلاقية، يقول النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله :

«إنما بُعثت لأُتمّم مكارم الأخلاق».

وتعتبر العبادات عاملاً مؤثّراً في تهذيب الأخلاق:

( ...إِنّ الصّلاَةَ تَنْهَى‏ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ... ) ، (العنكبوت: 45).

ذكرنا فيما سبق أنّ التقوى هدف تربوي أساس في الرسالة الإسلامية، وثمّة أهداف أُخرى أيضاً، يمكن استنباطها من القرآن الكريم والمصادر الإسلامية الموثوقة، بيد أنّا نكتفي بذكر ما ارتأيناه من أهداف مذكورة.

إنّ الأهداف التربوية في كلِّ مرحلة من مراحل النموّ، يجب أن تمثّل الحاجات الفردية والاجتماعية للأفراد، وكذلك الأهداف التربوية للمواد الدراسية، عندما تكون ذا بُعد تربويّ حقيقي، فإذا كانت كذلك، فإنّها تحظى بتأييد الإسلام، لذلك فإنّ كلَّ ما يحدث في مرحلة الحضانة، والطفولة، والبلوغ، والكبر، فإنّه ينال نصيبه من الاهتمام والعناية في النظام التربوي للإسلام.

١٥٣

إنّ تعزيز الروح العلمية، والتعرّف على المفاهيم والفرضيات والمبادئ والقوانين في الفروع العلمية، والتعرّف على المجتمع وحضارته وتراثه الثقافي، وتوسيع العلوم والتكنولوجيا، وإيجاد المودّة والمحبّة على صعيد أفراد الأُمّة الإسلامية، وعلى الصعيد العالمي، كلّها من الأهداف الأساسية للرسالة الإسلامية.

الأساليب التربوية في الإسلام

إنّ إحدى خصائص النظام التربوي في الإسلام: تنوّع أساليبه التربوية، حيث تستعمل أساليب متنوّعة في الإسلام لتربية أفراد المجتمع.

ومن بين أساليب التربية الإسلامية، نتحدّث حول الأساليب التالية:

1 - دمج العلم في العمل.

2 - الجمع بين الإيمان والعمل.

3 - التربية العلمية.

4 - المنهج العقلي في التربية الإسلامية.

5 - الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

6 - الجهاد أُسلوب تربوي حاسم.

7 - المكافأة والعقوبة.

8 - التوبة أُسلوب تربوي.

9 - أُسلوب النصح والوعظ.

10 - التربية عن طريق ذكرالأمثال.

11 - التربية عن طريق قصص الأُمم والشعوب.

12 - الدعاء والابتهال.

دمج العلم في العمل

لا ينفصل العلم عن العمل في الإسلام، لاحظوا الآية التالية:

( ..إِنّمَا يَخْشَى اللّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ.. ) ، (فاطر: 28).

وجاء في (ص67) من الجزء الأوّل من كتاب الكافي، كلام للإمام الصادقعليه‌السلام في تفسير كلمة العلماء:

«يعني بالعلماء من صدّق فعلُه قولَه، ومن لم يصدّق فعلُه قولَه فليس بعالم».

١٥٤

العلم والعمل في التعليم

وفقاً للأبحاث التي قام بها بعض علماء النفس، فإنّ الطلاّب - في معظم الحالات - يتأثّرون بعمل المعلّم لا بكلامه.

بكلمة بديلة: لو تحدّث المعلّم عن الروح العلمية أو الحكم المنطقي، بيد أنّه - عمليّاً - لم يراعِ الروح العلمية عند إبداء وجهات نظره، فإنّ الطلاّب يتأثّرون بكيفية إبداء وجهات نظره أكثر من كلامه. ومن الناحية التربوية، فإنّ عمل المعلّم أكثر تأثيراً من كلامه في عملية التعليم.

وفي علم النفس، ينظرون إلى التعلّم على أنّه تغيير السلوك عن طريق التجربة.

فلو تعلّم أحد علماً، نتيجته فقط إيداع المواضيع العلمية في الذهن وحفظها، فهو لم يتعلّم ذلك العلم حقيقة. وعندما يقال بأنّ سلوك الإنسان يجب أن يتغيّر في التعليم، فالقصد من هذا التغيير هو تغيير طريقة تفكيره، وعاداته، ورغباته، ومهاراته، وفهمه للمسائل، كل ذلك مقرون مع تحصيل المعلومات.

إنّ دراسة مبحث علمي ما، تكون لها قيمتها عندما يُحدِث الفرد تغييرات أساسية في سلوكه على أثرها، فتعلّم الفيزياء غير محدود بحفظ الطالب عدداً من النظريّات التي تصعّد من مستواه العلمي، فهو يجب أن يقوم بتشخيص المسائل العلمية الأساسية ضمن تحليله للنظريات، ويتعلّم كيفية توضيح المسائل، وطريقة جمع الأدلّة عن طريق المشاهدة والتجربة، وكذلك عن طريق دراسة نظريات العلماء، واستعمال قدرته الفكرية، ويتعلّم كذلك كيفية تسجيل الفرضيات أو النظريات، وكيفية تدقيقها وتقويمها أو كيفية اختيار أفضلها، فلابدّ أن يكون الطالب فاعلاً نشيطاً في هذه العملية. ففي مثل هذه الحالة، لا يتعلّم الفرضيات العلمية فحسب، بل ويتعلّم كيفية استعمال المنهج العلمي، ويربّي في نفسه الروح العلمية أو التفكّر المنطقي خلال عملية التحقيق، ويتعلم العادات العلمية ومهارات الاستدلال الأساسية، فتصبح عنده رغبة في الفرع الذي هو موضع اهتمامه.

ويستعمل الطالب أيضاً المنهج العلمي تدريجاً عند مواجهته مسائل غير علمية، ويمتنع

١٥٥

عن إبداء وجهات نظر خاطئة حول المسائل المتنوّعة. لاحظوا كلام الإمام عليعليه‌السلام الوارد في نهج البلاغة حيث يقول:

«أوضع العلم ما وقف على اللّسان، وأرفعه ما ظهر في الجوارح والأركان».

علاقة العلم بالتفكّر والأخلاق

نقلنا - فيما سبق - كلاماً للإمام عليعليه‌السلام حول التفكّر وقيمته، وهو: «لا علم كالتفكّر». وأُثر عن الإمام علي والإمام الرضاعليهما‌السلام كلام رواه صاحب الكافي في الجزء الأول من كتابه، (ص67). وذِكرُ هذا الكلام مفيد في توضيح العلاقة القائمة بين العلم والتفكّر والأخلاق.

إنّ ما يُنتظر من عالم ما - عادةً - هو أن لا يدّخر علماً فحسب، بل ويتحلّى بالتفكّر المنطقي، والروح العلمية أيضاً، ويكون أُسوةً وقدوةً من الناحية الأخلاقية.

تحدّثنا - فيما مضى - عن تربية التفكّر في تعلّم العلم، والآن ينبغي أن ننبّه على نقاط جوهرية في المجال الأخلاقي أيضاً.

إنّ تربية الضمير الأخلاقي، والسير وفق معايير أساسية في العلاقات مع الآخرين، هما من الأهداف الأساسية للتربية والتعليم، وينتظر الناس من الدارسين أو العلماء - عادةً - أن يكونوا قدوة في المجال الأخلاقي أيضاً. ويُتوقّع من العلماء أن يقرنوا العلم بالفهم، وأن تكون لهم سيطرة متواصلة على عواطفهم. يقول الإمام عليعليه‌السلام :

«ألا لا خير في علم ليس فيه تفهّم، ألا لا خير في قراءة ليس فيها تدبّر، ألا لا خير في عبادة ليس فيها تفكّر»، (أصول الكافي 1/67).

وجاء عن الإمام الرضاعليه‌السلام بعد هذا الحديث قوله:

«إنّ من علامات الفقه الحلم والصمت».

ويقول الإمام عليعليه‌السلام :

«لا يكون السفه والغِرَّة في قلب العالم».

١٥٦

وجاء في (ص68) من الكافي الجزء الأول، كلام مأثور عن السيّد المسيحعليه‌السلام يقول فيه:

«إنّ أحقّ الناس بالخدمة العالم».

ويقول الإمام عليعليه‌السلام :

«يا طالب العلم، إنّ للعالم ثلاث علامات: العلم، والحلم، والصمت».

الجمع بين الإيمان والعمل

قال تعالى:( وَالّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحَاتِ أُولئِكَ أَصْحَابُ الْجَنّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ) ، (البقرة: 82).

وقال جلّ من قائل:( لَيْسَ الْبِرّ أَنْ تُوَلّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلكِنّ الْبِرّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَومِ الآخِرِ وَالْمَلاَئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنّبِيّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى‏ حُبّهِ ذَوي الْقُرْبَى‏ وَالْيَتَامَى‏ وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ الْسّبِيلِ وَالسّائِلِينَ وَفِي الرّقابِ وَأَقَامَ الصّلاَةَ وَآتَى الزّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضّرّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولئِكَ الّذِينَ صَدَقُوْا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتّقُونَ ) (البقرة: 177).

وجاء في سورة العصر:( وَالْعَصْرِ * إِنّ الإنسان لَفِي خُسْرٍ * إِلّا الّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقّ وَتَوَاصَوْا بِالصّبْرِ ) .

وفي الآيات (130 إلى 136) من سورة آل عمران، يمنع الله المؤمنين من الربا، ويدعوهم إلى التقوى، ويذكّرهم بأن يحذروا من النار التي أُعدّت للكافرين، وأن يطيعوا الله ورسوله، ويسارعوا إلى مغفرة من الله، وجنّة عرضها السموات والأرض أُعدّت للمتّقين، ويصف هؤلاء المتّقين، فيقول:

( الّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السّرّاءِ وَالضّرّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النّاسِ وَاللّهُ يُحِبّ الْمُحْسِنِينَ * وَالّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ

١٥٧

وَمَن يَغْفِرُ الذّنُوبَ إِلاّ اللّهُ وَلَمْ يُصِرّوا عَلَى‏ مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ ) ، (آل عمران: 134 - 135).

وتمّ تبيان أعمال المؤمنين أيضاً في الآيات التالية:

الجهاد في سبيل الله والكفاح ضدّ الطاغوت:

( الّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشّيْطَانِ إِنّ كَيْدَ الشّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً ) ، (النساء: 76).

القيام بالقسط:

( يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوّامِينَ بِالْقِسْطِ... ) ، (النساء: 135).

( يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوّامِينَ للّهِ‏ِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى‏ أَلّا تَعْدِلُوا إِعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتّقْوَى‏ وَاتّقُوا اللّهَ إِنّ اللّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ) ، (المائدة: 8).

حرمة أكل أَموال الناس ومنع الكنز وتكديس الثروة:

( يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا إِنّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَالّذِينَ يَكْنِزُونَ الذّهَبَ وَالْفِضّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللّهِ فَبَشّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ) (التوبة: 34).

الجهاد في سبيل الحق واحتقار الدنيا في مقابل الآخرة:

( يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ اثّاقَلْتُمْ إلى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلّا قَلِيلٌ ) ، (التوبة: 38).

١٥٨

تضامن المؤمنين ومودّة بعضهم البعض:

( وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضَهُمْ أَولِياءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ... ) ، (التوبة: 71).

الإيمان بالله والرسول والجهاد في سبيل الله:

( إِنّمَا الْمُؤْمِنُونَ الّذِينَ آمَنُوا بِاللّهِ وَرَسُولِهِ ثُمّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أُولئِكَ هُمُ الصّادِقُونَ ) ، (الحجرات: 15).

دمج الإيمان في العقل

ثمّة حدّ بين العقل والإيمان في الثقافة المسيحية عادةً، فمعظم المتكلّمين المسيحيّين، والعلماء في البلدان الغربية، يفصلون نطاق العقل عن نطاق الإيمان. وبعد ظهور التناقض بين بعض النظريات العلمية، والعقائد الواردة في التوراة والإنجيل، قام بعض المتكلّمين والفلاسفة المسيحيين بالتمييز بين الموضوعين في طُرق دراستهما، وذلك من أجل إزالة التناقض القائم بين العلم والدين المسيحي. فخوّلوا العقل والمنهج العقلي أمر العلم والفلسفة، وخوّلوا الإيمان والشعور والاستنباط الشخصي، أمر الدين والأخلاق، والمُثُل بعامّة.

ومحصّلة هذا الفرز هي المحافظة على العقائد العلمية والمنطقية، وفي نفس الوقت، دعم العقائد التي عليها مسحة دينية ظاهرية، وفي الآن ذاته، منسجمة مع الأُسس العلمية والمنطقيّة.

نحن نعلم أنّ أغلب المسيحيّين يعتقدون بالتثليث والوحدة. فمن جهة، يعتقدون بالأقانيم الثلاثة: الله، عيسى، روح القُدُس، ومن جهة أُخرى، يعتبرون هذه الأقانيم الثلاثة أُقنوماً واحداً.

وقد سُمعتْ هذه العبارة الواردة على لسان بعض القساوسة، في أكثر المرّات، وهي قوله: (أنا لا أُدرك مسألة التثليث والوحدة - البُعد العقلي - بيد أنّي أعتقد بهما - البُعد الإيماني -).

١٥٩

ويطرحون هذه القضية نفسها فيما يخصّ القيم الأخلاقية، فيفرضون مبدأ الحسن والقبح مبدأً إيمانياً أو مبدأً متوكّئاً على الشعور والاستنباط الشخصي، ويعتبرون القضايا العلمية أحكاماً حِسيَّة مادية ملموسة.

ويدور الحديث في الكتب الفلسفية وكتابات المتكلّمين المسيحيّين، حول ضربين من الحُكْم: الحكم المادّي أو التقويم العلمي، والحُكْم المثالي أو التقويم المثالي. فيمكن أن يكون أمر ما قبيحاً من الناحية العقلية، بيد أنّ الإنسان يستحسنه.

وبفصل الحُكْم المثالي عن الحُكْم العقلي أو العلمي، تزول المنازعات الكلامية بين العلماء وأرباب الكنيسة. والآن لابدّ أن نلاحظ، هل يمكن - حقيقةً - التفريق بين هذين الضربين من الحكم؟

كما قلنا - فيما مضى - فإنّ الإسلام لا يفصل بين هذين اللونين من الحُكْم أو التقويم، ففي مبادئه وأُسسه، يشكّل الاستدلال والتعقّل أساس اعتقادات الناس. وما يصطلح عليه النظرة الكونية الإسلامية أو النظام التوحيدي في الإسلام، فإنّه يقوم على أساس العقل، ولذلك لا وجود لأيِّ فرق بين الأحكام العلمية والأحكام الفلسفية، ورأينا في القوانين الإسلامية أنّ العقل هو أحد مصادر الاستنباط الرئيسة في الشريعة الإسلامية. وفيما يخصّ القيم الأخلاقية أيضاً - فكما مرّبنا في فصول ماضية - يدعم الإسلام حكم العقل في هذا المجال أيضاً.

ويمتزج العقل في العاطفة في الاعتقادات الدينية أيضاً، فيعتقد الإنسان بوجود الله عن الطريق العقلي، ويضمن هذا الاعتقاد حبّه لله، يقول الإمام عليعليه‌السلام حول الإيمان كما أُثر عنه في نهج البلاغة:

«الإيمان على أربع دعائم: على الصبر واليقين والعدل والجهاد. والصبر منها على أربع شُعَب: على الشوق والشفق والزهد والترقّب. فمن اشتاق إلى الجنّة، سلا عن الشهوات. ومن أشفق من النار، اجتنب المحرّمات. ومن زهد في الدنيا، استهان بالمصيبات. من ارتقب الموت، سارع في الخيرات.

واليقين منها على أربع شُعَب:

١٦٠