الحديث النبوي بين الرواية والدراية

الحديث النبوي بين الرواية والدراية0%

الحديث النبوي بين الرواية والدراية مؤلف:
تصنيف: دراسات
الصفحات: 676

الحديث النبوي بين الرواية والدراية

مؤلف: الشيخ جعفر السبحاني
تصنيف:

الصفحات: 676
المشاهدات: 80833
تحميل: 4603

توضيحات:

الحديث النبوي بين الرواية والدراية
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 676 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 80833 / تحميل: 4603
الحجم الحجم الحجم
الحديث النبوي بين الرواية والدراية

الحديث النبوي بين الرواية والدراية

مؤلف:
العربية

وقال ابن المديني: صالح، وليس بقوي.(١)

وقد أخرج الخطيب روايات أُخرى لا تنتهي إلى الرسول وإنّما تحكي عمل بعض الصحابة والتابعين من محو الكتابة.

هذه هي المناقشات في سند الرواية ومضامينها، وهناك أمر آخر وهو انّ هذه الروايات لا يساعدها الذكر الحكيم أوّلاً ، وتخالف السنة القولية و الفعلية ثانياً، والتاريخ الصحيح ثالثاً.

أمّا عدم مساعدة الكتاب فلانّه سبحانه اهتم بكتابة الدين اهتماماً بالغاً، وقال:( يا أَيُّهَا الّذينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسمَّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ بِالعَدْلِوَلا يَأْبَ كاتِبٌ أَنْيَكْتُبَ كَما عَلّمَهُ اللّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الّذِي عَلَيْهِ الْحَقّ ) ثمّ عاد وأكّد على الموَمنين أن لا يسأموا من الكتابة، فقال سبحانه:( وَلا تسأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبيراً إِلى أَجَلِهِ ) .

فإذا كان الدَّين بهذه المنزلة من الاَهمية، فكيف بأقوال النبيوأفعاله وتقاريره التي تعتبر تالي القرآن الكريم حجية وبرهاناً؟

وثمة كلمة قيمة للخطيب البغدادي نأتي بنصِّها، قال: «وقد أدّب اللّه سبحانه عباده بمثل ذلك في الدين فقال عزّوجلّ:( وَلا تسأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلى أَجَلِهِ ذِلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ وَأَدْنى أَلاّ تَرْتابُوا ) (٢)

فلما أمر اللّه تعالى بكتابة الدين حفظاً له واحتياطاً عليه وإشفاقاً من دخول الريب فيه، كان العلم الذي حفظه أصعب من حفظ الدّين أحرى أن تباح كتابته خوفاً من دخول الريب والشكّ فيه(٣)

____________________

١ ميزان الاعتدال: ٣/٤٠٤ برقم ٦٩٣٨.

٢ البقرة: ٢٨٢.

٣ تقييد العلم: ٧٠ - ٧١ ولكلامه صلة: فراجع.

٢١

وأمّا مخالفتها للسنّة القولية والفعلية، فكما عرفت ممّا مضى من الروايات.

وأمّا مخالفتها للتاريخ الصحيح فلما ثبت من أنّ الخليفة لمّا حاول كتابة الحديث استشار أصحاب رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فلو كان هناك حظر من رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على ما في هذه الروايات لم يبق موضوع للاستشارة، ولما صحّ للاَصحاب أن يشيروا إلى الخليفة بالكتابة.

أخرج الخطيب البغدادي باسناده عن عروة بن الزبير : انّ عمر بن الخطاب أراد أن يكتب السنن، فاستشار في ذلك أصحاب رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فأشاروا عليه أن يكتبها، فطفق عمر يستخير اللّه فيها شهراً، ثمّ أصبح يوماً وقد عزم اللّه له، فقال: إنّي كنت أردت أن أكتب السنن، وإنّي ذكرت قوماً كانوا قبلكم كتبوا كتباً، فأكبّوا عليها وتركوا كتاب اللّه، وإنّي واللّه لا أُلبس كتاب اللّه بشيء أبداً.(١)

وأخرج أيضاً بالاسناد عن القاسم بن محمد: انّ عمر بن الخطاب بلغه أنّه قد ظهر في أيدي الناس كتب، فاستنكرها وكرهها، وقال: أيّها الناس انّه قد بلغني انّه قد ظهرت في أيديكم كتب، فأحبها إلى اللّه أعدلها وأقومها، فلا يبقين أحد عنده كتاب إلاّأتاني به فأرى فيه رأيي.

قال: فظنوا انّه يريد ينظر فيها ويقومها على أمر لا يكون فيه اختلاف، فأتوه بكتبهم فأحرقها بالنار، ثمّ قال: أمنية كأمنية أهل الكتاب.(٢)

كل ذلك يدل على أنّالحظر الشرعي أُسطورة تاريخية صنعتها يد الجعل تبريراً لاَعمال الخلفاء حيث قاموا بوجه تدوين الحديث ونشره والتحدّث به كما سيوافيك بيانه، و مرّت الاِشارة إليه آنفاً.

____________________

١ تقييد العلم: ٤٩و ٥٢.

٢ تقييد العلم: ٤٩و ٥٢.

٢٢

٤- العلل المزعومة لقلة الاهتمام بالتدوين

قد عرفت أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم اهتمّ بكتابة حديثه ورغّب إليها، وانّ لفيفاً من الصحابة قاموا بتدوين صحف وكتب ورسائل حول حديثه وحفظوا بها سنّة الرسول في عصره وبعده، فصارت كالنواة لعصر التدوين.

كما أنّ أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام وشيعتهم لم يعيروا أهمية لمنع كتابة الحديث، وقد دونوا كتباً ورسائل في عصر الرسول وبعده.

ولكن هنا نكتة جديرة بالاِشارة، وهي انّ المسلمين لم يبذلوا عناية كافية بتدوين الحديث، وكان المترقب منهم - بعد رحيل الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - هو بذل المزيد من العناية بذلك في كلّعصر، وتشكيل حلقات الدراسة والمذاكرة في مسجد النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وخارجه كما شكّلوه في القرن الثاني.

وبذلك تعرّض تدوين الحديث لنكسة عرقلت خطاه.

فيقع الكلام في بيان ما هو السبب من وراء هذه النكسة؟ فقد ذكروا لها مبرّرات، وسنقوم بدراستها على وجه الاِيجاز.

الاَوّل: الاحتراز عن المضاهاة بكتاب اللّه تعالى

إنّ عدم الاهتمام بتدوين الحديث كان لغاية مقدسة وهي عدم اختلاط الحديث بالقرآن الكريم، فلذلك انصبَّ اهتمام المسلمين على تدوين القرآن ، دون تدوين الحديث وذلك لئلا يختلطا.

٢٣

قال الخطيب: قد ثبت انّكراهة من كره الكتاب من الصدر الاَوّل إنّما هي لئلا يضاهىَ بكتاب اللّه تعالى غيره...ونُهي عن كتب العلم في صدر الاِسلام وجِدّته، لقلة الفقهاء في ذلك الوقت والمميزين بين الوحي وغيره، لاَنّ أكثر الاَعراب لم يكونوا فقهوا في الدين ولا جالسوا العلماء العارفين، فلم يُوَمن أن يُلْحِقوا ما يجدون من الصحف بالقرآن ويعتقدوا أنّما اشتملت عليه كلام الرحمن.(١)

أقول: هذا الوجه مخدوش جداً وأشبه بدفع الفاسد بالاَفسد، وبالاعتذار الاَقبح، من الذنب القبيح، وذلك لاَنّ القرآن الكريم أُسلوبه وبلاغته يغاير أُسلوب الحديث وبلاغته فلا يخاف عليه من الاختلاط بالقرآن مهما بلغ غيره من الفصاحة بمكان، فقبول هذا التبرير يلازم إبطال إعجاز القرآن الكريم وهدم أُصوله من القواعد، قال سبحانه:( قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الاِنْسُ وَالجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا القُرآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَ لَو كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً ) (الاِسراء/٨٨).

ومعنى هذا الاعتذار انّ كلام الرسول كان بنحو ربما لا يُميّز عن كلام ربِّ العزة، فيتصوره العرب الاَقحاح - الذين يخاطبهم القرآن بالآية الكريمة - انّه من القرآن الكريم.

وبعبارة أُخرى: انّ المراد من المضاهاة - كما عبرّ بها الخطيب، أو الاختلاط بالقرآن كما عبّر به غيره(٢) - إمّا هي المضاهاة الصورية، أو المضاهاة الواقعية الجوهرية.

أمّا الاُولى فيكفي في دفعها أن يكتب كلٌ على حدة، فيكون لكلّ موضع خاص وهو أمر سهل.

____________________

١ تقييد العلم: ٥٧.

٢ وهو الظاهر من حديث أبي هريرة حيث روى: امحضوا كتاب اللّه. ومعناه المنع عن تدوين الحديث مع القرآن.

٢٤

وأمّا الثانية فهي غيرممكنة وذلك لاَنّ للقرآن بلاغة تختص به ويتميز بها عن غيره مهما بلغ الغير من البلاغة والفصاحة بمكان، فلا تحصل المضاهاة مهما اختلطا.

على أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يتكلم بأُسلوب متعارف بين الناس في مقام التحديث، فلم يكن أيّ تشابه بين الحديث والقرآن حتى يحصل الاختلاط.

الثاني: عدم الاشتغال عن القرآن

وهذا هو العذر الثاني، وحاصله انّه لم يُدون الحديث النبوي لئلاّ يشتغل المسلمون عن القرآن بسواه أو «مخافة أن ينصرف الناس عن القرآن إلى سنته وسيرته وينظروا إليهما كما ينظرون إلى القرآن ، وعلى مرور الزمن تحلّ محله كما حلّت أقوال المسيح وسيرته محل الاِنجيل الذي أنزله اللّه عليه».(١)

ولعلّه إلى ذلك الوجه يشير قول عمر على ما أخرجه الخطيب بقوله: أراد عمر أن يكتب السنن، فاستخار اللّه شهراً، ثمّ أصبح وقد عزم له، فقال: ذكرت قوماً كتبوا كتاباً، فأقبلوا عليه وتركوا كتاب اللّه.(٢)

أقول: إذا كان الاشتغال بالحديث سبباً للاِعراض عن القرآن فالاشتغال بسائر العلوم الطبيعية والرياضية والاَدبية أولى بأن تكون موجبة للاِعراض عنه، وذلك لاَنّ الصلة الموجودة بين القرآن والحديث ليست موجودة بينه وبين سائر العلوم، أفيصح لعالم واع أن يفتي بتحريم الاشتغال بمطلق العلوم بذريعة انّ الاشتغال بها موجب للاِعراض عن القرآن؟!

____________________

١ انظر تقييد العلم: ٥٧ ولاحظ علوم الحديث للدكتور صبحي الصالح: ٢٠.

٢ هاشم معروف الحسني، الموضوعات في الآثار والاخبار : ١٩.ويظهر من كلامه انّه رضي بذلك العذر.

٢٥

وأمّا قياس الاشتغال بالحديث باشتغال أهل الكتاب بغير كتاب اللّه تعالى فهو قياس مع الفارق، لاَنّ الاشتغال بحديث يُقيّد مطلقاته، ويبيّن مفاهيمه، ويوضح أسباب نزوله، إلى غير ذلك من الحقائق الكامنة في الحديث، اشتغال - في الواقع - بالقرآن، وهذا بخلاف اشتغال أهل الكتاب بغير التوراة والاِنجيل، فقد اشتغلوا بما كان على طرف النقيض ممّا نزل على أنبيائهم.

على أنّ التجربة أثبتت خلاف ذلك، لاَنّ المسلمين اشتغلوا منذ أوائل القرن الثاني بتدوين الحديث بجد ومثابرة، ولم يُشغلهم عن القرآن وحفظه أيّ شاغل.

الثالث: قلّة من يجيد القراءة والكتابة

وهذا الوجه يهدف إلى القول بأنّ الاَُمّية السائدة في الجزيرة العربية عاقتهم عن كتابة الحديث، وأعانهم على ذلك سعة حفظهم وسيلان أذهانهم، وقد أشار إليه الخطيب.(١)

قال ابن قتيبة: كان الصحابة أُميين لا يكتب منهم إلاّالواحد والاثنان وإذا كتب لم يُتقن ولم يُصب التهجي.(٢)

أقول: إنّ ما ذكر من الفرض باطل جداً فإنّ الاَُمية لم تمنع من كتابة القرآن الكريم وتدوينه، فكيف تمنع عن كتابة الحديث؟ فهوَلاء الكُتّاب الذين بلغ عددهم نحواً من سبعة عشر كاتباً كان في وسعهم القيام بكتابة الحديث النبوي، وقد ثبت في التاريخ انّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان حريصاً على مكافحة الاُمية التي كانت متفشية بين العرب في مطلع فجر الاِسلام، وقد فرض

____________________

١ تقييد العلم: ٥٧؛ وعبّر عنه بقلّة الفقهاء، ولعلّ مراده ما ذكرناه.

٢ تأويل مختلف الحديث: ٢٨٧.

٢٦

على كلّأسير كان يحسن القراءة والكتابة تعليم عشرة من الاَُميين كفدية له في مقابل الفدية النقدية التي فرضها يوم بدر على الاَسرى في حين انّه كان أحوج ما يكون إلى المال في تلك الفترة من تاريخ الاِسلام.(١)

ثمّ إنّ النهي عن كتابة الحديث دال على إمكانها وكثرة من يمارسها، وإلاّلعاد النهي لغواً والتأكيد على المنع عبثاً.

وبالجملة هذه فروض ذهنية لا تنطبق على الواقع، وهناك فرض رابع ربما يكون هو السبب الحقيقي من وراء عدم بذل العناية بكتابة الحديث، وقد أوضحناه في موسوعتنا «بحوث في الملل والنحل»(٢) ولنأت في المقام بصورة واضحة مقرونة بالشواهد.

الرابع: حظر التدوين لدافع سياسي

الظاهر انّ السبب الواقعي لعدم الاهتمام بالكتابة، هو نهي الخلفاء عنها لدافع سياسي، وقد حظي هذا الدافع من الاَهمية بمكان حتى انّ عمر ابن الخطاب، قال لقرظة بن كعب: جرّدوا القرآن، وأقلّوا الرواية عن رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٣)

ولما نهض عمر بأعباء الخلافة نهى عن كتابة الحديث، وكتب إلى الآفاق: انّ من كتب حديثاً فليمحه(٤) ثمّ نهى عن التحدّث فتركت عدة من الصحابة الحديث عن رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٥)

____________________

١ السيرة الحلبية:٢/١٩٣، دار احياء التراث العربي.

٢ بحوث في الملل والنحل:١/٦٨-٧٢.

٣ الحاكم النيسابوري: المستدرك:١/١٠٢.

٤ تقييد العلم:٥٣؛ و كنز العمال:١٠/٢٩٢ برقم ٢٩٤٧٦.

٥ راجع مستدرك الحاكم: ١/١٠٢.

٢٧

وأغلب الظن انّ الوجه في منع تدوين الحديث ونشره ومدارسته ومذاكرته وكتابته بعد رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو نفس الوجه الذي منع من كتابة الصحيفة يوم الخميس عند احتضار النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فالغاية بداية ونهاية وقبل رحلته وبعدها لم تتغير، وقد مضى حديث ابن عباس في ذلك(١)

وثمة سوَال يطرح نفسه وهو ماذا كان يريد رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من كتابة وصيته؟ فلو عُلم ذلك، لعُلم وجه المنع عن كتابة وصيته، كما عُلم أيضاً وجه المنع عن تدوين سنته بعد رحيله.

فنقول: لم يكن هدف النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلاّ دعم موقفه من الوصية وتعيين الخليفة بعده، ويعلم هذا من مقارنة هذا الحديث الذي نقله ابن عباس مع حديث الثقلين المتفق عليه بين محدّثي السنّة والشيعة.

وذلك انّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال في شأن الكتاب الذي مُنع عن كتابته: إئتوني بدواة وصحيفة أكتب لكم كتاباً لا تضلون بعده.

وقد جاءت هذه العبارة بعينها في حديث الثقلين، إذ يقول فيهص: إنّي تارك فيكم الثقلين ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا كتاب اللّه وعترتي.

فالتشابه الموجود بين الحديثين يعرب عمّا كان يهدفه النبيمن وراء طلب الدواة والصحيفة، وكان الهدف دعم مفاد حديث الثقلين وتعزيز ولاية الاِمام عليعليه‌السلام وتعيين الخليفة، فقد وقف بعض الحاضرين في المجلس على أنّوصية النبيستشكّل خطراً على مصالحهم، فمنعوا عن كتابة الحديث لئلا يرد نصّمكتوب من النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على خليفة واحد بعينه.

يقول: سفيان بن عيينة: أراد أن ينصّ على أسامي الخلفاء بعده حتى لا يقع

____________________

١ لاحظ ص ١٣.

٢٨

بينهم الاختلاف(١)

وهذا الوجه نفسه صار سبباً لمنع تدوين الحديث بعد رحيله لما في أحاديث الرسول من التركيز على ولاية عليعليه‌السلام ، فإنّ رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم منذ ان صدّع بالدعوة وأجهر بها، نص على فضائل علي ومناقبه في مناسبات شتى، فقدعرّفه في يوم الدار الذي ضم فيه أكابر بني هاشم وشيوخهم، بقولهص: «إنّ هذا أخي ووصيي وخليفتي فيكم، فاسمعوا له وأطيعوا».

وفي يوم الاَحزاب بقولهص: «ضربة عليّ يوم الخندق أفضل من عبادة الثقلين».

وفي اليوم الذي غادر فيه المدينة متوجهاً إلى تبوك، وقد ترك عليّاً خليفته على المدينة، عرّفه بقوله: «أما ترضى أن تكون منّي بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنّه لا نبي بعدي».

إلى أن عرّفه في حجّة الوداع في غدير خم، بقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من كنت مولاه فهذا عليٌّ مولاه».

إلى غير ذلك من المناقب والفضائل المتواترة، وقد سمعها كثيرمن الصحابة فوعوها.

فكتابة حديث رسول اللّه بمعناها الحقيقي، لا تنفك عن ضبط ماأثر عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حقّ أوّل الموَمنين به، وأخلص المناصرين له في المواقف الحاسمة، وليس ضبط ما أثر ، أمراً يلائم ذوق الذين منعوا عن الكتابة.

إنّ هذا الوجه هو الذي اخترناه في سالف الزمان، وقد ذكر المحقّق السيد محمد رضا الجلالي (حفظه اللّه) شواهد تاريخية تدعم الموضوع، وتثبت انّ هذا الوجه هو القول الفصل.

____________________

١ ابن حجر العسقلاني: فتح الباري: ١/١٦٩.

٢٩

ومن جملة تلك الشواهد التاريخية:

١. جاء علقمة بكتاب من مكة - أو اليمن - صحيفة فيها أحاديث في أهل البيت، بيت النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فاستأذنا على عبد اللّه[بن مسعود]، فدخلنا عليه، قال: فدفعنا إليه الصحيفة.

قال: فدعا الجارية، ثمّ دعا بطست فيها ماء.

فقلنا له: يا أبا عبد الرحمان، أنظر فيها، فانّ فيها أحاديث حساناً، قال:فجعل يميثها فيها، ويقول: (نَحْنُ نقصُّ عليكَ أَحْسَنَ الْقصص بِما أَوحَيْنا إليكَ هذا القُرآن) القلوب أوعية فاشغلوها بالقرآن ولا تشغلوها ما سواه(١)

إنّ الصحيفة المعرضة للابادة ترتبط بأهل البيتعليهم‌السلام ، وكأنّ الراوي اعتنى بهذه النقطة، فاستعمل عطف البيان للتأكيد على المراد بأهل البيت، وليلفت نظر عبد اللّه بن مسعود إلى أنّهم أهل بيت النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

ولكن عبد اللّه لم يعر اهتماماً وأباد الصحيفة.

والتبريرات المذكورة لمنع التدوين لا يجري شيء منها هنا، فلا اختلاط لما في الصحيفة بالقرآن ولا الاشتغال بأحاديث في صحيفة، تلهي عن القرآن، و مع ذلك فانّ عبد اللّه بن مسعود أباد الصحيفة لما فيها ما يرجع إلى أهل البيت، بيت النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وان برّر عمله بانّ الاشتغال بالحديث هو اشتغال بما سوى القرآن، ولكن هذا التبرير كان واجهة لما ارتكب، وفي الواقع كان المحتوى يسلب الشرعية عن السلطة الحاكمة وينافي سياستها القائمة، لاَنّ الاَحاديث النبوية الواردة في أهل البيتعليهم‌السلام إنّما تدل على فضلهم وتوَكد على خلافتهم عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وتجعلهم قرناء للقرآن ليكونوا هم وهو خليفتين له من بعده. وكان عبد اللّه بن مسعود من حماة

____________________

١ تقييد العلم: ٥٤ وقد رواه بأسانيد وصور مختلفة تشترك الجميع في غسل الصحيفة التي فيها أحاديث الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

٣٠

السلطة الحاكمة إلى عصر الخليفتين الاَوّلين(١) وإن تراجع عن موقفه في عصر الخليفة الثالث كما سيوافيك عند ترجمته وسيرته.

٢. أخرج ابن كثير عن عمر انّه قال: أقلّوا الرواية عن رسول اللّه إلاّفيما يعمل به.(٢)

فإذا كان التحديث بحديث رسول اللّه موجباً للاشتغال به عن القرآن أو غير ذلك، فلماذا جوز التحديث في الفرائض والاَحكام دون غيره؟ أو ليس ذلك قرينة على أنّ الحديث في الاَحكام لا يمس كيان السلطة، بخلاف التحديث في غيرها خصوصاً فيما يرجع إلى الفضائل والمناقب.

٣. ما روى من انّخالد القسري - أحد ولاة بني أُمية - طلب من أحدهم أن يكتب له السيرة، فقال الكاتب: فانّه يمرّ بي الشيء من سير علي بن أبي طالب، فأذكره؟

فقال خالد: لا، إلاّأن تراه في قعر الجحيم.(٣)

فالحديث يكشف عن أنّ هذا هو السبب الرئيسي لمنع تدوين الحديث، فلم يكن تدوين الحديث منفكّاً عما ورد في عليٍّ وأهل بيته من الفضائل.

٤. روى الزبير بن بكار بسنده عن عبد الرحمان بن يزيد، قال: قدم علينا سليمان بن عبد الملك حاجاً، سنة ٨٢ ه- وهو ولي عهد، فمرّبالمدينة فدخل عليه الناس، فسلّموا عليه وركب إلى مشاهد النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم التي صلّ-ى فيها، وحيث أُصيب أصحابه بأُحد، ومعه أبان بن عثمان، وعمرو بن عثمان، وأبوبكر بن عبد اللّه، فأتوا به قُباء، ومسجد الفضيخ ومشربة أُمّإبراهيم،

____________________

١ انظر تدوين السنة: ٤١٢- ٤١٣.

٢ البداية والنهاية: ٨/١١٠.

٣ الاغاني: ٢٢/١٥.

٣١

وأُحد، وكل ذلك يسألهم؟ ويخبرونه عما كان.

ثمّ أمر أبان بن عثمان أن يكتب له سِيَر النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومغازيه.

فقال أبان: هي عندي قد أخذتها مصححة ممن أثق به.

فأمر بنسخها والقي فيها إلى عشرة من الكُتّاب، فكتبوها في رقٍّ فلما صارت إليه، نظر فإذا فيها ذكر الاَنصار في العقبتين،وذكر الاَنصار في بدر.

فقال: ما كنت أرى لهوَلاء القوم هذا الفضل، فأمّا أن يكون أهل بيتي غمصوا عليهم، وأمّا أن يكونوا ليس هكذا.

فقال أبان بن عثمان: أيّها الاَمير لا يمنعنا ما صنعوا...أن نقول بالحقّ، هم على ما وصفنا لك في كتابنا هذا.

قال سليمان: ما حاجتي إلى أن أنسخ ذاك حتّى أذكره لاَمير الموَمنين لعله يخالفه، فأمر بذلك الكتاب فخُرق، وقال: أسأل أمير الموَمنين إذا رجعت، فإن يوافقه فما أيسر نسخه.

فرجع سليمان بن عبد الملك فأخبر أباه بالذي كان من قول أبان.

فقال عبد الملك : وما حاجتك أن تُقدم بكتاب ليس لنا فيه فضل؟ تُعرِّف أهل الشام أُموراً لا نريد أن يعرفوها.

قال سليمان: فلذلك - يا أمير الموَمنين - أمرت بتخريق ما كنت نسخته حتى استطلع رأي أمير الموَمنين، فصوب رأيه.(١)

____________________

١ الموفقيات للزبير بن بكار : ٢٢٢- ٢٢٣.

٣٢

قال المحقق السيد الجلالي: فإذا كانوا لا يتحملون ذكر فضل الاَنصار، فكيف يتحملون ذكر فضل أهل البيت، وسيدهم أمير الموَمنين «عليه‌السلام »؟!(١)

* * *

عدم التدوين ومضاعفاته

وعلى أية حال فسواء كانت العلة ما ذكرنا أو غيره، فقد استمر الحظر إلى عهد الخليفة الاَموي عمر بن عبد العزيز (٩٩-١٠١ه-) فأحسّ بضرورة تدوين الحديث، فكتب إلى أبي بكر بن حزم في المدينة «انظر ما كان من حديث رسول اللّه فاكتبه، فانّي خفت دروس العلم وذهاب العلماء ولا تقبل إلاّ حديث النبي، ولتفشوا العلم ولتجلسوا حتى يعلم من لا يعلم، فانّ العلم لا يهلك حتى يكون سراً.(٢)

ومع هذا الاِصرار الاَكيد من قبل الخليفة، ألا أنّ رواسب الحظر السابق حالت دون القيام بما أمر به، فلم يكتب شيء من أحاديث النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، إلاّصحائف غير منظمة ولا مرتبة، إلى أن دالت دولة الاَمويين وقامت دولة العباسيين،وأخذ أبو جعفر المنصور بمقاليد الحكم، فقام المحدثون في سنة ١٤٣ه- بتدوين الحديث وفي ذلك، قال الذهبي:

«وفي سنة مائة وثلاث وأربعين شرع علماء الاِسلام في هذا العصر في تدوين الحديث والفقه والتفسير، فصنف ابن جريج بمكة، ومالك الموطأ

____________________

١ محمد رضا الجلالي، تدوين السنة الشريفة: ٤٢٠.

٢ صحيح البخاري:١/٢٧ باب كيف يقبض العلم من كتاب العلم.

٣٣

بالمدينة، والاَوزاعي بالشام، وابن أبي عروبة، وحماد بن سلمة وغيرهما بالبصرة، ومعمر باليمن،وسفيان الثوري بالكوفة، وصنف ابن إسحاق المغازي، وصنف أبو حنيفة الفقه والرأي إلى أن قال: وقبل هذا العصر كان الاَئمة يتكلمون من حفظهم أو يروون العلم من صحف صحيحة غير مرتبة.(١)

إلى هنا اتضح انّالسنّة النبوية لم تستأثر بالاهتمام في عصر الخلفاء والاَمويين وأوائل العصر العباسي إلى خلافة المنصور حيث أمر بتدوين السنة وتبويبها، نعم قام المحدثون بالتدوين في منتصف القرن الثاني بعد ما بلغ السيل الزبى واندرس العلم وأبيد الصحابة ومعظم التابعين، فلم يبق منهم إلاّصبابة كصبابة الاِناء، فعند ذلك وقفوا على الرزية العظمى التي منوا بها، فعادوا يتداركونه ببذل جهود حثيثة في تقييد شوارد الحديث. يقول ابن الاَثير: لما انتشر الاِسلام ، واتسعت البلاد وتفرّقت الصحابة في الاَقطار، وكثرت الفتوح، ومات معظم الصحابة، وتفرّق أصحابهم وأتباعهم، وقلَّ الضبط، احتاج العلماء إلى تدوين الحديث وتقييده بالكتابة، ولعمري انّها الاَصل، فانّ الخاطر يغفل والذهن يغيب، والذكر يهمل، والقلم يحفظ ولا ينسى.(٢)

____________________

١ تاريخ الخلفاء للسيوطي: ٢٦١.

٢ جامع الاُصول: ١/٤٠.

٣٤

٥- تمحيص السنّة النبوية

قد تبيّنت منزلة السنّة النبويّة ومكانتها، فلابدّ من إلفات نظر القارىَ الكريم إلى أنّ تمتعها بهذه الدرجة من الاَهمية، مردّها إلى السنة الواقعية من قول النبي وفعله وتقريره لا كل ما نسب إليه وأثر عنه من دون العلم بصحّة تلك النسبة.

وربما يقال: إنّ السنة النبوية وحي إلهي، فما معنى تمحيص الوحي أوَ يصح لبشر خاطىَ أن يمحِّص الحقّ المحض؟!

ونحن نوافق هذا القائل في أنّ السنة النبوية الواقعية فوق التمحيص ، ولكن النقطة الجديرة بالذكر هي انّ السنّة الواردة، المتبلورة في الصحاح والمسانيد، هي بحاجة إلى التمحيص لفرز صحيحها عن سقيمها، وواقعها عن زائفها، فليس كلّ من ينقل عن لسان النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بثقة، وعلى فرض كونه ثقة فليس بمصون عن الخطأ والنسيان.

فتمحيص السنة ليس لغاية التشكيك فيها، وإنّما يُطلب من وراء ذلك، إحقاق الحقّ وإبطال الباطل ولا ينبغي إضفاء طابع القداسة والصحة على كتاب غير كتاب اللّه سبحانه، وغيره - وإن بلغ من الاِتقان بمكان - خاضع للتمحيص والاِمعان والبحث في السند و المتن.

وثمة كلام قيم للاِمام أبي حنيفة بيّن فيه انّ تكذيب الحديث لا يلازم تكذيب النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإنّما يراد به تكذيب الراوي، قال:

٣٥

أُكذِّب هوَلاء ولا يكون تكذيبي لهوَلاء وردِّي عليهم تكذيباً للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، إنّما يكون التكذيب لقول النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يقول الرجل: أنا مكذب لقول نبي اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأما إذا قال الرجل: أنا موَمن بكلّ شيء تكلّم به النبي ، غير انّ النبي لا يتكلم بالجور ولا يخالف القرآن، فانّهذا القول منه هو التصديق بالنبي وبالقرآن وتنزيه له من الخلاف على القرآن، ولو خالف النبي القرآن وتقوّل على اللّه بغير الحقّ، لم يدعه اللّه حتى يأخذه باليمين ويقطع منه الوتين.(١)

وبعبارة أُخرى: اتّفق المسلمون في الكبرى، وهي انّ السنّة النبوية حجّة بلا كلام، ولو كان ثمة نقاش فإنّما هو في الصغرى، أي أنّ هذا الحديث المنقول إلينا هل هو من كلام الرسول أو لا، فالتمحيص ناظر إلى السنة الحاكية التي تتداولها الاَلسن خلف عن سلف.

وأمّا السنّة الواقعية المحكية القائمة بنفس النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلا يتردد أيّ ذي مسكة في حجيتها، فالتشكيك فيها إلحاد وكفر بالرسالة بلا ريب، وموجب للخروج عن الدين وليس التمحيص بالمعنى الذي ذكرناه بأمر غريب فانّالنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو الذي أخبر عن وجود الكذّابة في عصره كما سيوافيك.

التمحيص ، لماذا؟

إنّ هناك أسباباً كثيرة تبعث الباحث إلى التمحيص ونقد الحديث النبوي بالمعنى الذي مرّ، نشير إلى بعضها.

السبب الاَوّل: رواج الكذب على رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

قد راج الكذب على لسان رسول اللّه في حياته وبعد رحيله، وقد تنبّأ به

____________________

١ الاِمام أبو حنيفة، العالم والمتعلم: ١٠٠.

٣٦

في حديث متضافر أو متواتر وقال: «من تعمّد عليّكذباً فليتبوأ مقعده من النار».

وهذا ليس أمراً مستغرباً، فإذا استقرأ الباحث تاريخ الحديث وتدوينه وانتشاره يتضح له بسهولة وجود أرضية خصبة لجعل الحديث على لسان رسول الاِسلام ، وذلك لاَنّ حديثاً لم يهتمّ بكتابته طوال قرن ونصف، كيف يكون حاله مع أعدائه الذين كانوا له بالمرصاد، وكانوا يكذبون عليه بما يقدرون، وينشرون كلّ غث وسمين باسم الدين وباسم الرسول؟! نحن لا ننكر انّ العلماء والمحدثين قاموا بواجبهم الديني تجاه السنة النبوية وكابدوا وتحملوا المشاق في تمحيص السنة الواقعية عما ألصق بها، لكن التمحيص الحقيقي من أشق الاُمور بعد هذه الحيلولة الطويلة.

وكلما بعد الناس من عصر الرسول ازداد عدد الاَحاديث حتى أنّ الاِمام البخاري أخرج صحيحه عن ستمائة ألف حديث(١)

وانّ أبا داود قد أورد في سننه أربعة آلاف وثمانمائة حديث وقال: انتخبته من ٥٠٠ ألف حديث.(٢)

كما انّ مسلم أورد في صحيحه أربعة آلاف حديث مع حذف المكررات انتخبها من ٣٠٠ ألف حديث.(٣) ذكر الاِمام أحمد بن حنبل في مسنده قرابة ثلاثين ألف حديث، وقد انتخبها من أكثر من سبعمائة ألف حديث وكان يحفظ ألف ألف حديث.(٤) ولاَجل ذلك نرى أنّ قمة هرم الاَحاديث تتصل بزمان النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقاعدة ذلك الهرم تنتهي إلى القرون المتأخرة، فكلما قربنا من عصر النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نجد قلة

____________________

١ إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري: ١/٢٩.

٢ سنن أبي داود، قسم المقدمة:١٠.

٣ تذكرة الحفاظ للذهبي: ٢/٥٨٩.

٤ تذكرة الحفاظ:٢/٤٣١ برقم ٤٣٨.

٣٧

الحديث عنه والعكس بالعكس، وهذا يعرب عن أنّالاَحاديث عالت حسب وضع الوضاعين وكذب الكذابين.

إنّ ظاهرة التمحيص لم تكن أمراً متأخراً عن عصر الصحابة بل نجد جذورها في عصرهم، مثلاً.

لقد شاع بعد رحيل رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مسألة إمكان روَية اللّه، وانّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رآه في معراجه حتى انّ مسروقاً، سأل عائشة عن هذه المسألة عند ما سمع قولها: ثلاث من تكلّم بواحدة منهنّ، فقد أعظم على اللّه الفرية.

قال مسروق: وكنت متكئاً فجلست، فقلت: يا أُمّ الموَمنين: انظريني ولا تعجليني، ألم يقل اللّه عزّ وجلّ:( وَلَقَدْرآهُ بِالاُفُقِ المُبين ) (التكوير/٢٣)،( ولَقد رآه نَزْلَة أُخرى ) (النجم/١٣) فقالت: أنا أوّل هذه الاُمّة سأل عن ذلك رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقال: إنّما هو جبرئيل لم أره على صورته التي خُلق عليها غير هاتين المرتين، رأيته منهبطاً من السماء سادّاً عظمُ خلقه ما بين السماء إلى الاَرض.

فقالت: أو لم تسمع انّ اللّه يقول:( لا تُدْرِكُهُ الاَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الاََبصارَ وَهُوَ اللَّطيفُ الخَبير ) (الاَنعام/١٠٣) أو لم تسمع انّ اللّه يقول:( وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمهُ اللّهُ إِلاّوَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فيُوحِىَ بإذنهِ ما يَشاءُ انّهُ عَليٌّ حَكيمٌ ) (الشورى/٥١)، قالت: و من زعم ان رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كتم شيئاًمن كتاب اللّه، فقد أعظم على اللّه الفرية، واللّه يقول:( يا أَيُّها الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَوَإِنْ لَمْ تَفْعَلْفَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ ) (المائدة/٦٧) قالت: ومن زعم انّه يخبر بما يكون في غدٍ فقد أعظم على اللّه الفرية، واللّه يقول:( قُل لا يعلم من في السماوات والاَرض الغيب إلاّ اللّه ) (النمل/٦٥).(١)

____________________

١ صحيح مسلم:١/١١٠، باب معنى قول اللّه عزّ وجلّ:( وَلَقَدْرَآهُ نَزْلَة أُخرى ) .وفي استنتاج نفي علم الغيب عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالآية تأمل واضح.

٣٨

فالكذب على رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أحد الاَسباب للزوم إعمال التمحيص في السنّة الحاكية من دون أي نقاش وجدل في السنة المحكية، فانّ النقاش فيها كفر وإلحاد.

السبب الثاني: فسح المجال للاَحبار والرهبان

لقد مني الاِسلام والمسلمون من جرّاء حظر تدوين الحديث و نشره بخسائر فادحة، حيث أوجد الحظر أرضية مناسبة لظهور بدع يهودية وسخافات مسيحية وأساطير مجوسية من جانب علمائهم، فقد افتعلوا أحاديث كثيرة وبثّوها بين المسلمين كحقائق راهنة وتلقاها السُذَّج من المحدثين بالقبول.

يقول الشهرستاني: زادت المشبهة في الاَخبار أكاذيب وضعوها ونسبوها إلى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأكثرها مقتبسة من اليهود، فإنّ التشبيه فيهم طباع.(١)

يقول ابن خلدون عند البحث في التفسير النقلي وانّه يشتمل على الغث والسمين والمردود: إنّ السبب في ذلك انّ العرب لم يكونوا أهل كتاب ولا علم، وإنّما غلبت عليهم البداوة والاَُمية، وإذا تشوّقوا إلى معرفة شيء ممّا تتشوق إليه النفوسُ البشرية في أسباب المكوّنات وبدء الخليقة وأسرار الوجود، فإنّما يسألون عنه أهل الكتاب قبلهم ويستفيدون منهم وهم أهل التوراة من اليهود و من تبع دينهم من النصارى مثل كعب الاَحبار ووهب بن منبه وعبد اللّه بن سلام وأمثالهم فامتلاَت التفاسير من المنقولات عندهم وتساهل المفسرون في مثل ذلك وملاَوا كتب التفسير بهذه المنقولات وأصلها كما قلنا عن أهل التوراة .(٢)

____________________

١ الملل والنحل، للشهرستاني: ١/١٠٦.

٢ مقدمة ابن خلدون: ٤٣٩.

٣٩

يقول ابن الجوزي: إنّ عبد الكريم كان ربيباً لحماد بن سلمة، وقد دسَّ في كتب حماد بن سلمة.(١)

ولا عجب بعد ذلك إذا رأينا انّ المحدّثين يروون باسنادهم عن حماد، عن قتادة، عن عكرمة ،عن ابن عباس مرفوعاً: «رأيت ربّي جعداً أمرد عليه حلّة خضراء» و في رواية أُخرى:«انّمحمّداً رأى ربّه في صورة شاب أمرد دون ستر ، من لوَلوَ قدميه أو رجليه في خضرة».(٢)

وهذه الاَساطير المزخرفة من مفتعلات الزنادقة أمثال ابن أبي العوجاء، فقد دسّوها في كتب المحدثين.

قال ابن الجوزي: ولما لم يُمكَّن أحدٌ منهم أن يُدخل في القرآن ما ليس منه أخذ أقوام يزيدون في حديث رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وينقصون ويبدلون ويضعون عليه ما لم يقل(٣) .

السبب الثالث: التجارة بالحديث

إنّ في تاريخ الحديث الاِسلامي أُناساً عُرفوا بالوضع والكذب، وكانت الغاية من بث هذه الاَحاديث، هو الطمع بالدنيا والازدلاف إلى أهلها و الانتصار للاَهواء والعقائد المدخولة، وقد جمع العلاّمة الاَميني سبعمائة رجل من هذه الزمرة كانوا يكذبون على رسول اللّه لهذه الغاية أو لغايات أُخرى.(٤) وإليك بعض النماذج:

____________________

١ ابن الجوزي: الموضوعات: ١/٣٧، طبع بيروت.

٢ ميزان الاعتدال: ١/٥٩٣.

٣ ابن الجوزي: الموضوعات: ١/٣١.

٤ الغدير: ٥/٢٧٥.

٤٠