كتاب شرح نهج البلاغة الجزء ١٩

كتاب شرح نهج البلاغة0%

كتاب شرح نهج البلاغة مؤلف:
تصنيف: أمير المؤمنين عليه السلام
الصفحات: 430

كتاب شرح نهج البلاغة

مؤلف: ابن أبي الحديد
تصنيف:

الصفحات: 430
المشاهدات: 35720
تحميل: 4572


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 430 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 35720 / تحميل: 4572
الحجم الحجم الحجم
كتاب شرح نهج البلاغة

كتاب شرح نهج البلاغة الجزء 19

مؤلف:
العربية

215

وَ قَالَ ع أَكْثَرُ مَصَارِعِ اَلْعُقُولِ تَحْتَ بُرُوقِ اَلْمَطَامِعِ قد تقدم منا قول في هذا المعنى و منه قول الشاعر:

طمعت بليلى أن تريع و إنما

تقطع أعناق الرجال المطامع

و قال آخر:

إذا حدثتك النفس أنك قادر

على ما حوت أيدي الرجال فكذب

و إياك و الأطماع إن وعودها

رقارق آل أو بوارق خلب

٤١

216

وَ قَالَ ع لَيْسَ مِنَ اَلْعَدْلِ اَلْقَضَاءُ عَلَى اَلثِّقَةِ بِالظَّنِّ هذا مثل قول أصحاب أصول الفقه لا يجوز نسخ القرآن و السنة المتواترة بخبر الواحد لأن المظنون لا يرفع المعلوم.و لفظ الثقة هاهنا مرادف للفظ العلم فكأنه قال لا يجوز أن يزال ما علم بطريق قطعية لأمر ظني.فإن قلت أ ليس البراءة الأصلية معلومة بالعقل و مع ذلك ترفع بالأمارات الظنية كأخبار الآحاد.قلت ليست البراءة الأصلية معلومة بالعقل مطلقا بل مشروطة بعدم ما يرفعها من طريق علمي أو ظني أ لا ترى أن أكل الفاكهة و شرب الماء معلوم بالعقل حسنه و لكن لا مطلقا بل بشرط انتفاء ما يقتضي قبحه فإنا لو أخبرنا إنسان أن هذه الفاكهة أو هذا الماء مسموم لقبح منا الإقدام على تناولهما و إن كان قول ذلك المخبر الواحد لا يفيد العلم القطعي

٤٢

217

وَ قَالَ ع بِئْسَ اَلزَّادُ إِلَى اَلْمَعَادِ اَلْعُدْوَانُ عَلَى اَلْعِبَادِ قد تقدم من قولنا في الظلم و العدوان ما فيه كفاية.و كان يقال عجبا لمن عومل فأنصف إذا عامل كيف يظلم و أعجب منه من عومل فظلم إذا عامل كيف يظلم.و كان يقال العدو عدوان عدو ظلمته و عدو ظلمك فإن اضطرك الدهر إلى أحدهما فاستعن بالذي ظلمك فإن الآخر موتور

٤٣

218

وَ قَالَ ع مِنْ أَشْرَفِ أَفْعَالِ أَعْمَالِ اَلْكَرِيمِ غَفْلَتُهُ عَمَّا يَعْلَمُ كان يقال التغافل من السؤدد و قال أبو تمام:

ليس الغبي بسيد في قومه

لكن سيد قومه المتغابي

و قال طاهر بن الحسين بن مصعب:

و يكفيك من قوم شواهد أمرهم

فخذ صفوهم قبل امتحان الضمائر

فإن امتحان القوم يوحش منهم

و ما لك إلا ما ترى في الظواهر

و إنك إن كشفت لم تر مخلصا

و أبدى لك التجريب خبث السرائر

و كان يقال بعض التغافل فضيلة و تمام الجود الإمساك عن ذكر المواهب و من الكرم أن تصفح عن التوبيخ و أن تلتمس ستر هتك الكريم

٤٤

219

وَ قَالَ ع مَنْ كَسَاهُ اَلْحَيَاءُ ثَوْبَهُ لَمْ يَرَ اَلنَّاسُ عَيْبَهُ قد سبق منا قول كثير في الحياء

فصل في الحياء و ما قيل فيه

و كان يقال الحياء تمام الكرم و الحلم تمام العقل.و قال بعض الحكماء الحياء انقباض النفس عن القبائح و هو من خصائص الإنسان لأنه لا يوجد في الفرس و لا في الغنم و البقر و نحو ذلك من أنواع الحيوانات فهو كالضحك الذي يختص به نوع الإنسان و أول ما يظهر من قوة الفهم في الصبيان الحياء و قد جعله الله تعالى في الإنسان ليرتدع به عما تنزع إليه نفسه من القبيح فلا يكون كالبهيمة و هو خلق مركب من جبن و عفة و لذلك لا يكون المستحي فاسقا و لا الفاسق مستحيا لتنافي اجتماع العفة و الفسق و قلما يكون الشجاع مستحيا و المستحي شجاعا لتنافي اجتماع الجبن و الشجاعة و لعزة وجود ذلك ما يجمع الشعراء بين المدح بالشجاعة و المدح بالحياء نحو قول القائل:

يجري الحياء الغض من قسماتهم

في حين يجري من أكفهم الدم

٤٥

و قال آخر:

كريم يغض الطرف فضل حيائه

و يدنو و أطراف الرماح دوان

و متى قصد به الانقباض فهو مدح للصبيان دون المشايخ و متى قصد به ترك القبيح فهو مدح لكل أحد و بالاعتبار الأول قيل الحياء بالأفاضل قبيح و بالاعتبار الثاني ورد إن الله ليستحيي من ذي شيبة في الإسلام أن يعذبه أي يترك تعذيبه و يستقبح لكرمه ذلك.فأما الخجل فحيرة تلحق النفس لفرط الحياء و يحمد في النساء و الصبيان و يذم بالاتفاق في الرجال.فأما القحة فمذمومة بكل لسان إذ هي انسلاخ من الإنسانية و حقيقتها لجاج النفس في تعاطي القبيح و اشتقاقها من حافر و قاح أي صلب و لهذه المناسبة قال الشاعر:

يا ليت لي من جلد وجهك رقعة

فأعد منها حافرا للأشهب

و ما أصدق قول الشاعر:

صلابة الوجه لم تغلب على أحد

إلا تكامل فيه الشر و اجتمعا

فأما كيف يكتسب الحياء فمن حق الإنسان إذا هم بقبيح أن يتصور أجل من نفسه أنه يراه فإن الإنسان يستحيي ممن يكبر في نفسه أن يطلع على عيبه و لذلك لا يستحيي من الحيوان غير الناطق و لا من الأطفال الذين لا يميزون و يستحيي من العالم أكثر مما يستحيي من الجاهل و من الجماعة أكثر مما يستحيي من الواحد و الذين يستحيي الإنسان منهم ثلاثة البشر و نفسه و الله تعالى أما البشر فهم أكثر

٤٦

من يستحيي منه الإنسان في غالب الناس ثم نفسه ثم خالقه و ذلك لقلة توفيقه و سوء اختياره.و اعلم أن من استحيا من الناس و لم يستحي من نفسه فنفسه عنده أخس من غيره و من استحيا منهما و لم يستحي من الله تعالى فليس عارفا لأنه لو كان عارفا بالله لما استحيا من المخلوق دون الخالق أ لا ترى أن الإنسان لا بد أن يستحيي من الذي يعظمه و يعلم أنه يراه أو يستمع بخبره فيبكته و من لا يعرف الله تعالى كيف يستعظمه و كيف يعلم أنه يطلع عليه وفي قول رسول الله ص استحيوا من الله حق الحياء أمر في ضمن كلامه هذا بمعرفته سبحانه و حث عليها و قال سبحانه( أَ لَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اَللَّهَ يَرى) تنبيها على أن العبد إذا علم أن ربه يراه استحيا من ارتكاب الذنب.و سئل الجنيدرحمه‌الله عما يتولد منه الحياء من الله تعالى فقال أن يرى العبد آلاء الله سبحانه و نعمه عليه و يرى تقصيره في شكره.فإن قال قائل فما معنى قول النبي ص من لا حياء له فلا إيمان له.قيل له لأن الحياء أول ما يظهر من أمارة العقل في الإنسان و أما الإيمان فهو آخر المراتب و محال حصول المرتبة الآخرة لمن لم تحصل له المرتبة الأولى فالواجب إذن أن من لا حياء له فلا إيمان له.

و قال ع الحياء شعبة من الإيمان.

و قال الإيمان عريان و لباسه التقوى و زينته الحياء

٤٧

220

وَ قَالَ ع بِكَثْرَةِ اَلصَّمْتِ تَكُونُ اَلْهَيْبَةُ وَ بِالنَّصَفَةِ يَكْثُرُ اَلْمُوَاصِلُونَ وَ بِالْإِفْضَالِ تَعْظُمُ اَلْأَقْدَارُ وَ بِالتَّوَاضُعِ تَتِمُّ اَلنِّعْمَةُ وَ بِاحْتِمَالِ اَلْمُؤَنِ يَجِبُ اَلسُّودَدُ اَلسُّؤْدُدُ وَ بِالسِّيرَةِ اَلْعَادِلَةِ يُقْهَرُ اَلْمُنَاوِئُ وَ بِالْحِلْمِ عَنِ اَلسَّفِيهِ تَكْثُرُ اَلْأَنْصَارُ عَلَيْهِ قال يحيى بن خالد ما رأيت أحدا قط صامتا إلا هبته حتى يتكلم فإما أن تزداد تلك الهيبة أو تنقص و لا ريب أن الإنصاف سبب انعطاف القلوب إلى المنصف و أن الإفضال و الجود يقتضي عظم القدر لأنه إنعام و المنعم مشكور و التواضع طريق إلى تمام النعمة و لا سؤدد إلا باحتمال المؤن كما قال أبو تمام:

و الحمد شهد لا ترى مشتاره

يجنيه إلا من نقيع الحنظل

غل لحامله و يحسبه الذي

لم يوه عاتقه خفيف المحمل

و السيرة العادلة سبب لقهر الملك الذي يسير بها أعداءه و من حلم عن سفيه و هو قادر على الانتقام منه نصره الناس كلهم عليه و اتفقوا كلهم على ذم ذلك السفيه و تقبيح فعله و الاستقراء و اختبار العادات تشهد بجميع ذلك

٤٨

221

وَ قَالَ ع اَلْعَجَبُ لِغَفْلَةِ اَلْحُسَّادِ عَنْ سَلاَمَةِ اَلْأَجْسَادِ إنما لم يحسد الحاسد على صحة الجسد لأنه صحيح الجسد فقد شارك في الصحة و ما يشارك الإنسان غيره فيه لا يحسده عليه و لهذا أرباب الحسد إذا مرضوا حسدوا الأصحاء على الصحة.فإن قلت فلما ذا تعجب أمير المؤمنين ع قلت لكلامه ع وجه و هو أن الحسد لما تمكن في أربابه و صار غريزة فيهم تعجب كيف لا يتعدى هذا الخلق الذميم إلى أن يحسد الإنسان غيره على ما يشاركه فيه فإن زيدا إذا أبغض عمرا بغضا شديدا ود أن تزول عنه نعمته إليه و إن كان ذا نعمة كنعمته بل ربما كان أقوى و أحسن حالا.و يجوز أن يريد معنى آخر و هو تعجبه من غفلة الحساد على أن الحسد مؤثر في سلامة أجسادهم و مقتض سقمهم و هذا أيضا واضح

٤٩

222

وَ قَالَ ع اَلطَّامِعُ فِي وِثَاقِ اَلذُّلِّ من أمثال البحتري قوله

و اليأس إحدى الراحتين و لن ترى

تعبا كظن الخائب المكدود

و كان يقال ما طمعت إلا و ذلت يعنون النفس.و في البيت المشهور

تقطع أعناق الرجال المطامع

و قالوا عز من قنع و ذل من طمع.و قد تقدم القول في الطمع مرارا

٥٠

223

وَ قَالَ ع وَ قَدْ سُئِلَ عَنِ اَلْإِيمَانِ فَقَالَ اَلْإِيمَانُ مَعْرِفَةٌ بِالْقَلْبِ وَ إِقْرَارٌ بِاللِّسَانِ وَ عَمَلٌ بِالْأَرْكَانِ قد تقدم قولنا في هذه المسألة و هذا هو مذهب أصحابنا المعتزلة بعينه لأن العمل بالأركان عندنا داخل في مسمى الإيمان أعني فعل الواجبات فمن لم يعمل لم يسم مؤمنا و إن عرف بقلبه و أقر بلسانه و هذا خلاف قول المرجئة من الأشعرية و الإمامية و الحشوية.فإن قلت فما قولك في النوافل هل هي داخلة في مسمى الإيمان أم لا قلت في هذا خلاف بين أصحابنا و هو مستقصى في كتبي الكلامية

٥١

224

وَ قَالَ ع مَنْ أَصْبَحَ عَلَى اَلدُّنْيَا حَزِيناً فَقَدْ أَصْبَحَ لِقَضَاءِ اَللَّهِ سَاخِطاً وَ مَنْ أَصْبَحَ يَشْكُو مُصِيبَةً نَزَلَتْ بِهِ فَقَدْ أَصْبَحَ فَإِنَّمَا يَشْكُو رَبَّهُ وَ مَنْ أَتَى غَنِيّاً فَتَوَاضَعَ لَهُ لِغِنَاهُ ذَهَبَ ثُلُثَا دِينِهِ وَ مَنْ قَرَأَ اَلْقُرْآنَ فَمَاتَ فَدَخَلَ اَلنَّارَ فَهُوَ مِمَّنْ كَانَ مِمَّنْ يَتَّخِذُ آيَاتِ اَللَّهِ هُزُواً وَ مَنْ لَهِجَ قَلْبُهُ بِحُبِّ اَلدُّنْيَا اِلْتَاطَ قَلْبُهُ مِنْهَا بِثَلاَثٍ هَمٍّ لاَ يُغِبُّهُ وَ حِرْصٍ لاَ يَتْرُكُهُ وَ أَمَلٍ لاَ يُدْرِكُهُ إذا كان الرزق بقضاء الله و قدره فمن حزن لفوات شي‏ء منه فقد سخط قضاء الله و ذلك معصية لأن الرضا بقضاء الله واجب و كذلك من شكا مصيبة حلت به فإنما يشكو فاعلها لا هي لأنها لم تنزل به من تلقاء نفسها و فاعلها هو الله و من اشتكى الله فقد عصاه و التواضع للأغنياء تعظيما لغناهم أو رجاء شي‏ء مما في أيديهم فسق.و كان يقال لا يحمد التيه إلا من فقير على غني فأما قوله ع و من قرأ القرآن فمات فدخل النار فهو ممن كان يتخذ آيات الله هزوا.فلقائل أن يقول قد يكون مؤمنا بالقرآن ليس بمتخذ له هزوا و يقرؤه ثم

٥٢

يدخل النار لأنه أتى بكبيرة أخرى نحو القتل و الزنا و الفرار من الزحف و أمثال ذلك.و الجواب أن معنى كلامه ع هو أن من قرأ القرآن فمات فدخل النار لأجل قراءته القرآن فهو ممن كان يتخذ آيات الله هزوا أي يقرؤه هازئا به ساخرا منه مستهينا بمواعظه و زواجره غير معتقد أنه من عند الله.فإن قلت إنما دخل من ذكرت النار لا لأجل قراءته القرآن بل لهزئه به و جحوده إياه و أنت قلت معنى كلامه أنه من دخل النار لأجل قراءته القرآن فهو ممن كان يستهزئ بالقرآن.قلت بل إنما دخل النار لأنه قرأه على صفة الاستهزاء و السخرية أ لا ترى أن الساجد للصنم يعاقب لسجوده له على جهة العبادة و التعظيم و إن كان لو لا ما يحدثه مضافا للسجود من أفعال القلوب لما عوقب.و يمكن أن يحمل كلامه ع على تفسير آخر فيقال إنه عنى بقوله إنه كما كان ممن يتخذ آيات الله هزوا أنه يعتقد أنها من عند الله و لكنه لا يعمل بموجبها كما يفعله الآن كثير من الناس.قوله ع التاط بقلبه أي لصق و لا يغبه أي لا يأخذه غبا بل يلازمه دائما و صدق ع فإن حب الدنيا رأس كل خطيئة و حب الدنيا هو الموجب للهم و الغم و الحرص و الأمل و الخوف على ما اكتسبه أن ينفد و للشح بما حوت يده و غير ذلك من الأخلاق الذميمة

٥٣

225

وَ قَالَ ع كَفَى بِالْقَنَاعَةِ مُلْكاً وَ بِحُسْنِ اَلْخُلُقِ نَعِيماً قد تقدم القول في هذين و هما القناعة و حسن الخلق.و كان يقال يستحق الإنسانية من حسن خلقه و يكاد السيئ الخلق يعد من السباع.و قال بعض الحكماء حد القناعة هو الرضا بما دون الكفاية و الزهد الاقتصار على الزهيد أي القليل و هما متقاربان و في الأغلب إنما الزهد هو رفض الأمور الدنيوية مع القدرة عليها و أما القناعة فهي إلزام النفس الصبر عن المشتهيات التي لا يقدر عليها و كل زهد حصل عن قناعة فهو تزهد و ليس بزهد و كذلك قال بعض الصوفية القناعة أول الزهد تنبيها على أن الإنسان يحتاج أولا إلى قدع نفسه و تخصصه بالقناعة ليسهل عليه تعاطي الزهد و القناعة التي هي الغنى بالحقيقة لأن الناس كلهم فقراء من وجهين أحدهما لافتقارهم إلى الله تعالى كما قال( يا أَيُّهَا اَلنَّاسُ أَنْتُمُ اَلْفُقَراءُ إِلَى اَللَّهِ وَ اَللَّهُ هُوَ اَلْغَنِيُّ اَلْحَمِيدُ ) .

و الثاني لكثرة حاجاتهم فأغناهم لا محالة أقلهم حاجة و من سد مفاقره بالمقتنيات فما في انسدادها مطمع و هو كمن يرقع الخرق بالخرق و من يسدها بالاستغناء عنها بقدر وسعه و الاقتصار على تناول ضرورياته فهو الغني المقرب من الله سبحانه كما أشار إليه في قصة طالوت( إِنَّ اَللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَ مَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلاَّ مَنِ اِغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ ) قال أصحاب المعاني و الباطن هذا إشارة إلى الدنيا

٥٤

226

وَ سُئِلَ ع عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى قَوْلِ اَللَّهِ عزوجل( فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً ) فَقَالَ هِيَ اَلْقَنَاعَةُ لا ريب أن الحياة الطيبة هي حياة الغنى و قد بينا أن الغني هو القنوع لأنه إذا كان الغنى عدم الحاجة فأغنى الناس أقلهم حاجة إلى الناس و لذلك كان الله تعالى أغنى الأغنياء لأنه لا حاجة به إلى شي‏ء و على هذا

دل النبي بقوله ص ليس الغنى بكثرة العرض إنما الغنى غنى النفس.و قال الشاعر:

فمن أشرب اليأس كان الغني

و من أشرب الحرص كان الفقيرا

و قال الشاعر:

غنى النفس ما يكفيك من سد خلة

فإن زاد شيئا عاد ذاك الغنى فقرا

و قال بعض الحكماء المخير بين أن يستغني عن الدنيا و بين أن يستغني بالدنيا كالمخير بين أن يكون مالكا أو مملوكا.و لهذا

قال ع تعس عبد الدينار و الدرهم تعس فلا انتعش و شيك فلا انتقش.

٥٥

و قيل لحكيم لم لا تغتم قال لأني لم أتخذ ما يغمني فقده.و قال الشاعر:

فمن سره ألا يرى ما يسوءه

فلا يتخذ شيئا يخاف له فقدا

و قال أصحاب هذا الشأن القناعة من وجه صبر و من وجه جود لأن الجود ضربان جود بما في يدك منتزعا و جود عما في يد غيرك متورعا و ذلك أشرفهما و لا يحصل الزهد في الحقيقة إلا لمن يعرف الدنيا ما هي و يعرف عيوبها و آفاتها و يعرف الآخرة و افتقاره إليها و لا بد في ذلك من العلم أ لا ترى إلى قوله تعالى( قالَ اَلَّذِينَ يُرِيدُونَ اَلْحَياةَ اَلدُّنْيا يا لَيْتَ لَنا مِثْلَ ما أُوتِيَ قارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ وَ قالَ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوابُ اَللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَ عَمِلَ صالِحاً وَ لا يُلَقَّاها إِلاَّ اَلصَّابِرُونَ ) .و لأن الزاهد في الدنيا راغب في الآخرة و هو يبيعها بها كما قال الله تعالى( إِنَّ اَللَّهَ اِشْتَرى‏ مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ ) الآية.و الكيس لا يبيع عينا بأثر إلا إذا عرفهما و عرف فضل ما يبتاع على ما يبيع

٥٦

227

وَ قَالَ ع شَارِكُوا اَلَّذِي اَلَّذِينَ قَدْ أَقْبَلَ عَلَيْهِمُ عَلَيْهِ اَلرِّزْقُ فَإِنَّهُ أَخْلَقُ لِلْغِنَى وَ أَجْدَرُ بِإِقْبَالِ اَلْحَظِّ عَلَيْهِ قد تقدم القول في الحظ و البخت.و كان يقال الحظ يعدي كما يعدي الجرب و هذا يطابق كلمة أمير المؤمنين ع لأن مخالطة المجدود ليست كمخالطة غير المجدود فإن الأولى تقتضي الاشتراك في الحظ و السعادة و الثانية تقتضي الاشتراك في الشقاء و الحرمان.و القول في الحظ وسيع جدا.و قال بعضهم البخت على صورة رجل أعمى أصم أخرس و بين يديه جواهر و حجارة و هو يرمي بكلتا يديه.و كان مالك بن أنس فقيه المدينة و أخذ الفقه عن الليث بن سعد و كانوا يزدحمون عليه و الليث جالس لا يلتفتون إليه فقيل لليث إن مالكا إنما أخذ عنك فما لك خاملا و هو أنبه الناس ذكرا فقال دانق بخت خير من جمل بختي حمل علما.و قال الرضي:

أسيغ الغيظ من نوب الليالي

و ما يحفلن بالحنق المغيظ

و أرجو الرزق من خرق دقيق

يسد بسلك حرمان غليظ

و أرجع ليس في كفي منه

سوى عض اليدين على الحظوظ

٥٧

228

وَ قَالَ ع : فِي قَوْلِهِ تَعَالَى عَزَّوَجَلَّ( إِنَّ اَللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَ اَلْإِحْسانِ ) اَلْعَدْلُ اَلْإِنْصَافُ وَ اَلْإِحْسَانُ اَلتَّفَضُّلُ هذا تفسير صحيح اتفق عليه المفسرون كافة و إنما دخل الندب تحت الأمر لأن له صفة زائدة على حسنه و ليس كالمباح الذي لا صفة له زائدة على حسنه.و قال الزمخشري العدل هو الواجب لأن الله عزوجل عدل فيه على عباده فجعل ما فرضه عليهم منه واقعا تحت طاقتهم و الإحسان الندب و إنما علق أمره بهما جميعا لأن الفرض لا بد أن يقع فيه تفريط فيجبره الندب و لذلك

قال رسول الله ص لإنسان علمه الفرائض فقال و الله لا زدت فيها و لا نقصت منها أفلح إن صدق فعقد الفلاح بشرط الصدق و السلامة من التفريط وقال ص استقيموا و لن تحصوا فليس ينبغي أن يترك ما يجبر كسر التفريط من النوافل.و لقائل أن يقول إن كان إنما سمي الواجب عدلا لأنه داخل تحت طاقة المكلف فليسم الندب عدلا لأنه داخل تحت طاقة المكلف و أما قوله إنما أمر بالندب لأنه يجبر ما وقع فيه التفريط من الواجب فلا يصح على مذهبه و هو من أعيان المعتزلة لأنه لو جبرت النافلة بالتفريط في الواجب لكانت واجبة مثله و كيف يقول الزمخشري هذا و من قول مشايخنا إن تارك صلاة واحدة من الفرائض لو صلى مائة ألف ركعة من النوافل لم يكفر ثوابها عقاب ترك تلك الصلاة

٥٨

229

وَ قَالَ ع : مَنْ يُعْطِ بِالْيَدِ اَلْقَصِيرَةِ يُعْطَ بِالْيَدِ اَلطَّوِيلَةِ قال الرضيرحمه‌الله تعالى و معنى ذلك أن ما ينفقه المرء من ماله في سبيل الخير و البر و إن كان يسيرا فإن الله تعالى يجعل الجزاء عليه عظيما كثيرا و اليدان هاهنا عبارة عن النعمتين ففرق ع بين نعمة العبد و نعمة الرب تعالى ذكره بالقصيرة و الطويلة فجعل تلك قصيرة و هذه طويلة لأن نعم الله أبدا تضعف على نعم المخلوقين أضعافا كثيرة إذ كانت نعم الله أصل النعم كلها فكل نعمة إليها ترجع و منها تنزع هذا الفصل قد شرحه الرضيرحمه‌الله فأغنى عن التعرض بشرحه

٥٩

230

وَ قَالَ ع لاِبْنِهِ اَلْحَسَنِ ع لاَ تَدْعُوَنَّ إِلَى مُبَارَزَةٍ وَ إِنْ فَإِنْ دُعِيتَ إِلَيْهَا فَأَجِبْ فَإِنَّ اَلدَّاعِيَ إِلَيْهَا بَاغٍ وَ اَلْبَاغِيَ مَصْرُوعٌ

مثل من شجاعة علي

قد ذكر ع الحكمة ثم ذكر العلة و ما سمعنا أنه ع دعا إلى مبارزة قط و إنما كان يدعى هو بعينه أو يدعو من يبارز فيخرج إليه فيقتله دعا بنو ربيعة بن عبد بن شمس بني هاشم إلى البراز يوم بدر فخرج ع فقتل الوليد و اشترك هو و حمزة ع في قتل عتبة و دعا طلحة بن أبي طلحة إلى البراز يوم أحد فخرج إليه فقتله و دعا مرحب إلى البراز يوم خيبر فخرج إليه فقتله.فأما الخرجة التي خرجها يوم الخندق إلى عمرو بن عبد ود فإنها أجل من أن يقال جليلة و أعظم من أن يقال عظيمة و ما هي إلا كما قال شيخنا أبو الهذيل و قد سأله سائل أيما أعظم منزلة عند الله علي أم أبو بكر فقال يا ابن أخي و الله لمبارزة علي عمرا يوم الخندق تعدل أعمال المهاجرين و الأنصار و طاعاتهم كلها و تربي عليها فضلا عن أبي بكر وحده و قد روي عن حذيفة بن اليمان ما يناسب هذا بل ما هو أبلغ منه

روى قيس بن الربيع عن أبي هارون العبدي عن ربيعة بن مالك السعدي قال أتيت حذيفة بن اليمان فقلت يا أبا عبد الله إن الناس يتحدثون عن علي بن أبي طالب و مناقبه فيقول لهم أهل

٦٠