كتاب شرح نهج البلاغة الجزء ١٩

كتاب شرح نهج البلاغة0%

كتاب شرح نهج البلاغة مؤلف:
تصنيف: أمير المؤمنين عليه السلام
الصفحات: 430

كتاب شرح نهج البلاغة

مؤلف: ابن أبي الحديد
تصنيف:

الصفحات: 430
المشاهدات: 35706
تحميل: 4566


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 430 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 35706 / تحميل: 4566
الحجم الحجم الحجم
كتاب شرح نهج البلاغة

كتاب شرح نهج البلاغة الجزء 19

مؤلف:
العربية

386

وَ قَالَ ع رُبَّ مُسْتَقْبِلٍ يَوْماً لَيْسَ بِمُسْتَدْبِرِهِ وَ مَغْبُوطٍ فِي أَوَّلِ لَيْلِهِ قَامَتْ بَوَاكِيهِ فِي آخِرِهِ مثل هذا قول الشاعر:

يا راقد الليل مسرورا بأوله

إن الحوادث قد يطرقن أسحارا

و مثله:

لا يغرنك عشاء ساكن

قد يوافي بالمنيات السحر

٣٢١

387

وَ قَالَ ع اَلْكَلاَمُ فِي وَثَاقِكَ مَا لَمْ تَتَكَلَّمْ بِهِ فَإِذَا تَكَلَّمْتَ بِهِ صِرْتَ فِي وَثَاقِهِ فَاخْزُنْ لِسَانَكَ كَمَا تَخْزُنُ ذَهَبَكَ وَ وَرِقَكَ فَرُبَّ كَلِمَةٍ سَلَبَتْ نِعْمَةً وَ جَلَبَتْ نِقْمَةً قد تقدم القول في مدح الصمت و ذم الكلام الكثير.و كان يقال لا خير في الحياة إلا لصموت واع أو ناطق محسن.و قيل لحذيفة قد أطلت سجن لسانك فقال لأنه غير مأمون إذا أطلق.و من أمثال العرب رب كلمة تقول دعني.و قالوا أصلها أن بعض ملوك الحيرة كان قد استراب ببعض خوله فنزل يوما و هو يتصيد على تلعة و نزل أصحابه حوله فأفاضوا في حديث كثير فقال ذلك الإنسان أ ترى لو أن رجلا ذبح على رأس هذه التلعة هل كان يسيل دمه إلى أول الغائط فقال الملك هلموا فاذبحوه لننظر فذبحوه فقال الملك رب كلمة تقول دعني.و قال أكثم بن صيفي من إكرام الرجل نفسه ألا يتكلم بكل ما يعلم.و تذاكر قوم من العرب و فيهم رجل باهلي ساكت فقيل له بحق ما سميتم خرس العرب فقال أ ما علمتم أن لسان المرء لغيره و سمعه لنفسه

٣٢٢

388

وَ قَالَ ع لاَ تَقُلْ مَا لاَ تَعْلَمُ بَلْ لاَ تَقُلْ كُلَّ مَا تَعْلَمُ فَإِنَّ اَللَّهَ سُبْحَانَهُ قَدْ فَرَضَ عَلَى جَوَارِحِكَ كُلِّهَا فَرَائِضَ يَحْتَجُّ بِهَا عَلَيْكَ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ هذا نهي عن الكذب و أن تقول ما لا تأمن من كونه كذبا فإن الأمرين كليهما قبيحان عقلا عند أصحابنا.فإن قلت كيف يقول أصحابكم أن الخبر الذي لا يأمن كونه كذبا قبيح و الناس يستحسنون الأخبار عن المظنون قلت إذا قال الإنسان زيد في الدار و هو يظنه في الدار و لا يقطع عليه فإن الحسن منه أن يخبر عن ظنه كأن يقول أخبر عن أني أظن أن زيدا في الدار و إذا كان هذا هو تقديره فالخبر إذن خبر عن معلوم لا عن مظنون لأنه قاطع على أنه ظان أن زيدا في الدار.فأما إذا فرض الخبر لا على هذا الوجه بل على القطع بأن زيدا في الدار و هو لا يقطع على أن زيدا في الدار فقد أخبر بخبر ليس على ما أخبر به عنه لأنه أخبر عن أنه قاطع و ليس بقاطع فكان قبيحا

٣٢٣

389

وَ قَالَ ع اِحْذَرْ أَنْ يَرَاكَ اَللَّهُ عِنْدَ مَعْصِيَتِهِ وَ يَفْقِدَكَ عِنْدَ طَاعَتِهِ فَتَكُونَ مِنَ اَلْخَاسِرِينَ وَ إِذَا قَوِيتَ فَاقْوَ عَلَى طَاعَةِ اَللَّهِ وَ إِذَا ضَعُفْتَ فَاضْعُفْ عَنْ مَعْصِيَةِ اَللَّهِ من علم يقينا أن الله تعالى يراه عند معصيته كان أجد الناس أن يجتنبها كما إذا علمنا يقينا أن الملك يرى الواحد منا و هو يراود جاريته عن نفسها أو يحادث ولده ليفجر به و لكن اليقين في البشر ضعيف جدا أو أنهم أحمق الحيوان و أجهله و بحق أقول إنهم إن اعتقدوا ذلك اعتقادا لا يخالطه الشك ثم واقعوا المعصية و عندهم عقيدة أخرى ثابتة أن العقاب لاحق بمن عصى فإن الإبل و البقر أقرب إلى الرشاد منهم.و أقول إن الذي جرأ الناس على المعصية الطمع في المغفرة و العفو العام و قولهم الحلم و الكرم و الصفح من أخلاق ذوي النباهة و الفضل من الناس فكيف لا يكون من الباري سبحانه عفو عن الذنوب.و ما أحسن قول شيخنا أبي عليرحمه‌الله لو لا القول بالإرجاء لما عصي الله في الأرض

٣٢٤

390

وَ قَالَ ع اَلرُّكُونُ إِلَى اَلدُّنْيَا مَعَ مَا تُعَايِنَ مِنْهَا جَهْلٌ وَ اَلتَّقْصِيرُ فِي حُسْنِ اَلْعَمَلِ إِذَا وَثِقْتَ بِالثَّوَابِ عَلَيْهِ غَبْنٌ وَ اَلطُّمَأْنِينَةُ إِلَى كُلِّ أَحَدٍ قَبْلَ اَلاِخْتِبَارِ لَهُ عَجْزٌ قد تقدم الكلام في الدنيا و حمق من يركن إليها مع معاينة غدرها و قلة وفائها و نقضها عهودها و قتلها عشاقها.و لا ريب أن الغبن و أعظم الغبن هو التقصير في الطاعة مع يقين الثواب عليها و أما الطمأنينة إلى من لم يعرف و لم يختبر فإنها عجز كما قال ع يعني عجزا في العقل و الرأي فإن الوثوق مع التجربة فيه ما فيه فكيف قبل التجربة.و قال الشاعر:

و كنت أرى أن التجارب عدة

فخانت ثقات الناس حين التجارب

٣٢٥

391

وَ قَالَ ع مِنْ هَوَانِ اَلدُّنْيَا عَلَى اَللَّهِ أَنَّهُ لاَ يُعْصَى إِلاَّ فِيهَا وَ لاَ يُنَالُ مَا عِنْدَهُ إِلاَّ بِتَرْكِهَا هذا الكلام نسبه الغزالي في كتاب إحياء علوم الدين إلى أبي الدرداء و الصحيح أنه من كلام علي ع ذكره شيخنا أبو عثمان الجاحظ في غير موضع من كتبه و هو أعرف بكلام الرجال

نبذ مما قيل في حال الدنيا و هوانها و اغترار الناس بها

و قد تقدم من كلامنا في حال الدنيا و هوانها على الله و اغترار الناس بها و غدرها بهم و ذم العقلاء لها و تحذيرهم منها ما فيه كفاية.و نحن نذكر هاهنا زيادة على ذلك.

يقال إن في بعض كتب الله القديمة الدنيا غنيمة الأكياس و غفلة الجهال لم يعرفوها حتى خرجوا منها فسألوا الرجعة فلم يرجعوا.و قال بعض العارفين من سأل الله تعالى الدنيا فإنما سأله طول الوقوف بين يديه.

٣٢٦

و قال الحسن لا تخرج نفس ابن آدم من الدنيا إلا بحسرات ثلاث أنه لم يشبع مما جمع و لم يدرك ما أمل و لم يحسن الزاد لما يقدم عليه.و من كلامه أهينوا الدنيا فو الله ما هي لأحد بأهنأ منها لمن أهانها.و قال محمد بن المنكدر أ رأيت لو أن رجلا صام الدهر لا يفطر و قام الليل لا يفتر و تصدق بماله و جاهد في سبيل الله و اجتنب محارم الله تعالى غير أنه يؤتى به يوم القيامة فيقال إن هذا مع ما قد عمل كان يعظم في عينه ما صغر الله و يصغر في عينه ما عظم الله كيف ترى يكون حاله فمن منا ليس هكذا الدنيا عظيمة عنده مع ما اقترفنا من الذنوب و الخطايا.و قد ضربت الحكماء مثلا للدنيا نحن نذكره هاهنا قالوا مثل الدنيا و أهلها كقوم ركبوا سفينة فانتهت بهم إلى جزيرة فأمرهم الملاح بالخروج لقضاء الحاجة و حذرهم المقام و خوفهم مرور السفينة و استعجالها فتفرقوا في نواحي الجزيرة فقضى بعضهم حاجته و بادر إلى السفينة فصادف المكان خاليا فأخذ أوسع المواضع و ألينها و أوفقها لمراده و بعضهم توقف في الجزيرة ينظر إلى أزهارها و أنوارها العجيبة و غياضها الملتفة و نغمات طيورها الطيبة و ألحانها الموزونة الغريبة و لحظ في تزيينها أحجارها و جواهرها و معادنها المختلفة الألوان ذوات الأشكال الحسنة المنظر العجيبة النقش السالبة أعين الناظرين بحسن زبرجها و عجائب صورها ثم تنبه لخطر فوات السفينة فرجع إليها فلم يصادف إلا مكانا ضيقا حرجا فاستقر فيه و بعضهم أكب فيها على تلك الأصداف و الأحجار و قد أعجبه حسنها و لم تسمح نفسه بإهمالها و تركها فاستصحب منها جملة فجاء إلى السفينة فلم يجد إلا مكانا ضيقا و زاده ما حمله ضيقا و صار ثقلا عليه و وبالا فندم على أخذه و لم تطعه نفسه على رميه و لم يجد موضعا له فحمله على عنقه

٣٢٧

و رأسه و جلس في المكان الضيق في السفينة و هو متأسف على أخذه و نادم و ليس ينفعه ذلك و بعضهم تولج بتلك الأنوار و الغياض و نسي السفينة و أبعد في متفرجه و متنزهه حتى أن نداء الملاح لم يبلغه لاشتغاله بأكل تلك الثمار و اشتمامه تلك الأنوار و التفرج بين تلك الأشجار و هو مع ذلك خائف على نفسه من السباع و السقطات و النكبات و نهش الحيات و ليس ينفك عن شوك يتشبث بثيابه و غصن يجرح جسمه و مروة تدمي رجله و صوت هائل يفزع منه و عوسج يملأ طريقه و يمنعه عن الانصراف لو أراده و كان في جماعة ممن كان معه في السفينة حالهم حاله فلما بلغهم نداء السفينة راح بعضهم مثقلا بما معه فلم يجد في السفينة موضعا واسعا و لا ضيقا فبقي على الشط حتى مات جوعا و بعضهم بلغه النداء فلم يعرج عليه و استغرقته اللذة و سارت السفينة فمنهم من افترسته السباع و منهم من تاه و هام على وجهه حتى هلك و منهم من ارتطم في الأوحال و منهم من نهشته الحيات فتفرقوا هلكى كالجيف المنتنة فأما من وصل إلى السفينة مثقلا بما أخذه من الأزهار و الفاكهة اللذيذة و الأحجار المعجبة فإنها استرقته و شغله الحزن بحفظها و الخوف من ذهابها عن جميع أموره و ضاق عليه بطريقها مكانه فلم تلبث أن ذبلت تلك الأزهار و فسدت تلك الفاكهة الغضة و كمدت ألوان الأحجار و حالت فظهر له نتن رائحتها فصارت مع كونها مضيقة عليه مؤذية له بنتنها و وحشتها فلم يجد حيلة إلا أن ألقاها في البحر هربا منها و قد أثر في مزاجه ما أكله منها فلم ينته إلى بلده إلا بعد أن ظهرت عليه الأسقام بما أكل و ما شم من تلك الروائح فبلغ سقيما وقيذا مدبرا و أما من كان رجع عن قريب و ما فاته إلا سعة المحل فإنه تأذى بضيق المكان مدة و لكن لما وصل إلى الوطن استراح و أما من رجع أولا فإنه وجد المكان الأوسع و وصل إلى الوطن سالما طيب القلب مسرورا.

٣٢٨

فهذا مثال أهل الدنيا في اشتغالهم بحظوظهم العاجلة و نسيانهم موردهم و مصدرهم و غفلتهم عن عاقبة أمرهم و ما أقبح حال من يزعم أنه بصير عاقل و تغره حجارة الأرض و هي الذهب و الفضة و هشيم النبت و هو زينة الدنيا و هو يعلم يقينا أن شيئا من ذلك لا يصحبه عند الموت بل يصير كله وبالا عليه و هو في الحال الحاضرة شاغل له بالخوف عليه و الحزن و الهم لحفظه و هذه حال الخلق كلهم إلا من عصمه الله.و قد ضرب أيضا لها مثال آخر في عبور الإنسان عليها قالوا الأحوال ثلاثة حال لم يكن الإنسان فيها شيئا و هي ما قبل وجوده إلى الأزل و حال لا يكون فيها موجودا مشاهدا للدنيا و هي بعد موته إلى الأبد و حالة متوسطة بين الأزل و الأبد و هي أيام حياته في الدنيا فلينظر العاقل إلى الطرفين الطويلين و لينظر إلى الحالة المتوسطة هل يجد لها نسبة إليها و إذا رأى العاقل الدنيا بهذه العين لم يركن إليها و لم يبال كيف تقضت أيامه فيها في ضر و ضيق أو في سعة و رفاهة بل لا يبني لبنة على لبنة

توفي رسول الله ص و ما وضع لبنة على لبنة و لا قصبة على قصبة و رأى بعض الصحابة بنى بيتا من جص فقال أرى الأمر أعجل من هذا و أنكر ذلك و لهذا

قال النبي ص ما لي و للدنيا إنما مثلي و مثلها كراكب سار في يوم صائف فرفعت له شجرة فقام تحت ظلها ساعة ثم راح و تركها

و إلى هذا أشار عيسى ابن مريم حيث قال الدنيا قنطرة فاعبروها و لا تعمروها و هو مثل صحيح فإن الحياة الدنيا قنطرة إلى الآخرة و المهد هو أحد جانبي القنطرة و اللحد الجانب الآخر و بينهما مسافة محدودة فمن الناس من قطع نصف القنطرة و منهم من قطع ثلثيها و منهم من لم يبق له إلا خطوة واحدة و هو غافل عنها و كيفما كان فلا بد من العبور و الانتهاء و لا ريب أن عمارة هذه القنطرة و تزيينها بأصناف الزينة لمن

٣٢٩

هو محمول قسرا و قهرا على عبورها يسوقه سائق عنيف غاية الجهل و الخذلان.

و في الحديث المرفوع أن رسول الله ص مر على شاة ميتة فقال أ ترون أن هذه الشاة هينة على أهلها قالوا نعم و من هوانها ألقوها فقال و الذي نفسي بيده للدنيا أهون على الله من هذه الشاة على أهلها و لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة لما سقى كافرا منها شربة ماء.

و قال ص الدنيا سجن المؤمن و جنة الكافر.

و قال أيضا الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ما كان لله منها.

و قال أيضا من أحب دنياه أضر بآخرته و من أحب آخرته أضر بدنياه فآثروا ما يبقى على ما يفنى.

و قال أيضا حب الدنيا رأس كل خطيئة.

و روى زيد بن أرقم قال كنا مع أبي بكر فدعا بشراب فأتي بماء و عسل فلما أدناه من فيه بكى حتى أبكى أصحابه فسكتوا و ما سكت ثم عاد ليشرب فبكى حتى ظنوا أنهم لا يقدرون على مسألته ثم مسح عينيه فقالوا يا خليفة رسول الله ما أبكاك قال كنت مع رسول الله ص فرأيته يدفع بيده عن نفسه شيئا و لم أر معه أحدا فقلت يا رسول الله ما الذي تدفع عن نفسك قال هذه الدنيا مثلت لي فقلت لها إليك عني فرجعت و قالت إنك إن أفلت مني لم يفلت مني من بعدك و قال ص يا عجبا كل العجب للمصدق بدار الخلود و هو يسعى لدار الغرور.

و من الكلام المأثور عن عيسى ع لا تتخذوا الدنيا ربا فتتخذكم الدنيا عبيدا فاكنزوا كنزكم عند من لا يضيعه فإن صاحب كنز الدنيا يخاف عليه الآفة و صاحب كنز الآخرة لا يخاف عليه

٣٣٠

392

وَ قَالَ ع مَنْ أَبْطَأَ بِهِ عَمَلُهُ لَمْ يُسْرِعْ بِهِ نَسَبُهُ : وَ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى : مَنْ فَاتَهُ حَسَبُ نَفْسِهِ لَمْ يَنْفَعْهُ حَسَبُ آبَائِهِ قد تقدم مثل هذا و قد ذكرنا ما عندنا فيه و قال الشاعر:

لئن فخرت بآباء ذوي حسب

لقد صدقت و لكن بئس ما ولدوا

و كان يقال أجهل الناس من افتخر بالعظام البالية و تبجح بالقرون 0 الماضية و اتكل على الأيام الخالية.و كان يقال من طريف الأمور حي يتكل على ميت.و كان يقال ضعة الدني‏ء في نفسه و الرفيع في أصله أقبح من ضعة الوضيع في نفسه و أصله لأن هذا تشبه بآبائه و سلفه و ذاك قصر عن أصله و سلفه فهو إلى الملامة أقرب و عن العذر أبعد.افتخر شريف بأبيه فقال خصمه لو وفقت لما ذكرت أباك لأنه حجة عليك تنادي بنقصك و تقر بتخلفك.كان جعفر بن يحيى يقول ليس من الكرام من افتخر بالعظام.و قال الفضل بن الربيع كفى بالمرء عارا أن يفتخر بغيره.

٣٣١

و قال الرشيد من افتخر بآبائه فقد نادى على نفسه بالعجز و أقر على همته بالدناءة.و قال ابن الرومي:

و ما الحسب الموروث لا در دره

بمحتسب إلا بآخر مكتسب

إذا العود لم يثمر و إن كان شعبة

من الثمرات أعتده الناس في الحطب

و قال عبد الله بن جعفر:

لسنا و إن أحسابنا كرمت

يوما على الآباء نتكل

نبني كما كانت أوائلنا

تبني و نفعل مثل ما فعلوا

و قال آخر:

و ما فخري بمجد قام غيري

إليه إذا رقدت الليل عنه

إلى حسب الفتى في نفسه انظر

و لا تنظر هديت إلى ابن من هو

و قال آخر:

إذا فخرت بآبائي و أجدادي

فقد حكمت على نفسي لأضدادي

هل نافعي إن سعى جدي لمكرمة

و نمت عن أختها في جانب الوادي

و قال آخر:

أ يقنعني كوني بمن كوني ابنه

أبا لي أن أرضى لفخري بمجده

إذا المرء لم يحو العلاء بنفسه

فليس بحاو للعلاء بجده

و هل يقطع السيف الحسام بأصله

إذا هو لم يقطع بصارم حده

و قيل لرجل يدل بشرف آبائه لعمري لك أول و لكن ليس لأولك آخر.

٣٣٢

و مثله أن شريفا بآبائه فاخر شريفا بنفسه فقال الشريف بنفسه انتهى إليك شرف أهلك و مني ابتدأ شرف أهلي و شتان بين الابتداء و الانتهاء.و قيل لشريف ناقص الأدب إن شرفك بأبيك لغيرك و شرفك بنفسك لك فافرق بين ما لك و ما لغيرك و لا تفرح بشرف النسب فإنه دون شرف الأدب

٣٣٣

393

وَ قَالَ ع مَنْ طَلَبَ شَيْئاً نَالَهُ أَوْ بَعْضَهُ هذا مثل قولهم من طلب و جد وجد.و قال بعض الحكماء ما لازم أحد باب الملك فاحتمل الذل و كظم الغيظ و رفق بالبواب و خالط الحاشية إلا وصل إلى حاجته من الملك

٣٣٤

394

وَ قَالَ ع مَا خَيْرٌ بِخَيْرٍ بَعْدَهُ اَلنَّارُ وَ مَا شَرٌّ بِشَرٍّ بَعْدَهُ اَلْجَنَّةُ وَ كُلُّ نَعِيمٍ دُونَ اَلْجَنَّةِ فَهُوَ مَحْقُورٌ وَ كُلُّ بَلاَءٍ دُونَ اَلنَّارِ عَافِيَةٌ موضع بعده النار رفع لأنه صفة خير الذي بعد ما و خير يرفع لأنه اسم ما و موضع الجار و المجرور نصب لأنه خبر ما و الباء زائدة مثلها في قولك ما أنت بزيد كما تزاد في خبر ليس و التقدير ما خير تتعقبه النار بخير كما تقول ما لذة تتلوها نغصة بلذة و لا ينقدح في ما الوجهان اللذان ذكرهما أرباب الصناعة النحوية في لا في قولهم لا خير بخير بعده النار أحدهما ما ذكرناه في ما و الآخر أن يكون موضع بعده النار جرا لأنه صفة خير المجرور و يكون معنى الباء معنى في كقولك زيد بالدار و في الدار و يصير تقدير الكلام لا خير في خير تعقبه النار و ذلك أن ما تستدعي خبرا موجودا في الكلام بخلاف لا فإن خبرها محذوف في مثل قولك لا إله إلا الله و نحوه أي في الوجود أو لنا أو ما أشبه ذلك و إذا جعلت بعده صفة خير المجرور لم يبق معك ما تجعله خبر ما.و أيضا فإن معنى الكلام يفسد في ما بخلاف لا لأن لا لنفي الجنس فكأنه

٣٣٥

نفى جنس الخير عن خير تتعقبه النار و هذا معنى صحيح و كلام منتظم و ما هاهنا إن كانت نافية احتاجت إلى خبر ينتظم به الكلام و إن كانت استفهاما فسد المعنى لأن ما لفظ يطلب به معنى الاسم كقوله ما العنقاء أو يطلب به حقيقة الذات كقولك ما الملك و لست تطيق أن تدعي أن ما للاستفهام هاهنا عن أحد القسمين مدخلا لأنك تكون كأنك قد قلت أي شي‏ء هو خير في خير تتعقبه النار و هذا كلام لا معنى له.

٣٣٦

395

وَ قَالَ ع أَلاَ وَ إِنَّ مِنَ اَلْبَلاَءِ اَلْفَاقَةَ وَ أَشَدُّ مِنَ اَلْفَاقَةِ مَرَضُ اَلْبَدَنِ وَ أَشَدُّ مِنْ مَرَضِ اَلْبَدَنِ مَرَضُ اَلْقَلْبِ أَلاَ وَ إِنَّ مِنَ اَلنِّعَمِ سَعَةَ اَلْمَالِ وَ أَفْضَلُ مِنْ سَعَةِ اَلْمَالِ صِحَّةُ اَلْبَدَنِ وَ أَفْضَلُ مِنْ صِحَّةِ اَلْبَدَنِ تَقْوَى اَلْقَلْبِ قد تقدم الكلام في الفاقة و الغنى فأما المرض و العافية

ففي الحديث المرفوع إليك انتهت الأماني يا صاحب العافية فأما مرض القلب و صحته فالمراد به التقوى و ضدها و قد سبق القول في ذلك.و قال أحمد بن يوسف الكاتب:

المال للمرء في معيشته

خير من الوالدين و الولد

و إن تدم نعمة عليك تجد

خيرا من المال صحة الجسد

و ما بمن نال فضل عافية

و قوت يوم فقر إلى أحد

٣٣٧

396

وَ قَالَ ع لِلْمُؤْمِنِ ثَلاَثُ سَاعَاتٍ فَسَاعَةٌ يُنَاجِي فِيهَا رَبَّهُ وَ سَاعَةٌ يَرُمُّ فِيهَا مَعَايِشَهُ مَعَاشَهُ وَ سَاعَةٌ يُخَلِّي فِيهَا بَيْنَ نَفْسِهِ وَ بَيْنَ لَذَّتِهَا فِيمَا يَحِلُّ وَ يَجْمُلُ وَ لَيْسَ لِلْعَاقِلِ أَنْ يَكُونَ شَاخِصاً إِلاَّ فِي ثَلاَثٍ مَرَمَّةٍ لِمَعَاشٍ أَوْ خُطْوَةٍ فِي مَعَادٍ أَوْ لَذَّةٍ فِي غَيْرِ مُحَرَّمٍ تقدير الكلام ينبغي أن يكون زمان العاقل مقسوما ثلاثة أقسام.و يرم معاشه يصلحه و شاخصا راحلا و خطوة في معاد يعني في عمل المعاد و هو العبادة و الطاعة.و كان شيخنا أبو عليرحمه‌الله يقسم زمانه على ما أصف لك كان يصلي الصبح و الكواكب طالعة و يجلس في محرابه للذكر و التسبيح إلى بعد طلوع الشمس بقليل ثم يتكلم مع التلامذة و طلبة العلم إلى ارتفاع النهار ثم يقوم فيصلي الضحى ثم يجلس فيتمم البحث مع التلامذة إلى أن يؤذن للظهر فيصليها بنوافلها ثم يدخل إلى أهله فيصلح شأنه و يقضي حوائجه ثم يخرج للعصر فيصليها بنوافلها و يجلس مع التلامذة إلى المغرب فيصليها و يصلي العشاء ثم يشتغل بالقرآن إلى ثلث الليل ثم ينام الثلث الأوسط ثم يقعد فيصلي الثلث الأخير كله إلى الصبح

٣٣٨

397

وَ قَالَ ع اِزْهَدْ فِي اَلدُّنْيَا يُبَصِّرْكَ اَللَّهُ عَوْرَاتِهَا وَ لاَ تَغْفُلْ فَلَسْتَ بِمَغْفُولٍ عَنْكَ أمره بالزهد في الدنيا و جعل جزاء الشرط تبصير الله تعالى له عورات الدنيا و هذا حق لأن الراغب في الدنيا عاشق لها و العاشق لا يرى عيب معشوقه كما قال القائل:

و عين الرضا عن كل عيب كليلة

و لكن عين السخط تبدي المساويا

فإذا زهد فيها فقد سخطها و إذا سخطها أبصر عيوبها مشاهدة لا رواية.ثم نهاه عن الغفلة و قال له إنك غير مغفول عنك فلا تغفل أنت عن نفسك فإن أحق الناس و أولاهم ألا يغفل عن نفسه من ليس بمغفول عنه و من عليه رقيب شهيد يناقشه على الفتيل و النقير

٣٣٩

398

وَ قَالَ ع تَكَلَّمُوا تُعْرَفُوا فَإِنَّ اَلْمَرْءَ مَخْبُوءٌ تَحْتَ لِسَانِهِ هذه إحدى كلماته ع التي لا قيمة لها و لا يقدر قدرها و المعنى قد تداوله الناس قال:

و كائن ترى من صامت لك معجب

زيادته أو نقصه في التكلم

لسان الفتى نصف و نصف فؤاده

فلم يبق إلا صورة اللحم و الدم

و كان يحيى بن خالد يقول ما جلس إلى أحد قط إلا هبته حتى يتكلم فإذا تكلم إما أن تزداد الهيبة أو تنقص

٣٤٠