كتاب شرح نهج البلاغة الجزء ١٩

كتاب شرح نهج البلاغة0%

كتاب شرح نهج البلاغة مؤلف:
تصنيف: أمير المؤمنين عليه السلام
الصفحات: 430

كتاب شرح نهج البلاغة

مؤلف: ابن أبي الحديد
تصنيف:

الصفحات: 430
المشاهدات: 35703
تحميل: 4566


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 430 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 35703 / تحميل: 4566
الحجم الحجم الحجم
كتاب شرح نهج البلاغة

كتاب شرح نهج البلاغة الجزء 19

مؤلف:
العربية

278

وَ قَالَ ع لَوْ قَدِ اِسْتَوَتْ قَدَمَايَ مِنْ هَذِهِ اَلْمَدَاحِضِ لَغَيَّرْتُ أَشْيَاءَ لسنا نشك أنه كان يذهب في الأحكام الشرعية و القضايا إلى أشياء يخالف فيها أقوال الصحابة نحو قطعه يد السارق من رءوس الأصابع و بيعه أمهات الأولاد و غير ذلك و إنما كان يمنعه من تغير أحكام من تقدمه اشتغاله بحرب البغاة و الخوارج و إلى ذلك يشير بالمداحض التي كان يؤمل استواء قدميه منها و لهذا

قال لقضاته اقضوا كما كنتم تقضون حتى يكون للناس جماعة فلفظة حتى هاهنا مؤذنة بأنه فسح لهم في اتباع عادتهم في القضايا و الأحكام التي يعهدونها إلى أن يصير للناس جماعة و ما بعد إلى و حتى ينبغي أن يكون مخالفا لما قبلهما.فأما أصحابنا فيقولون إنه كان فيما يحاول أن يحكم بين الناس مجتهدا و يجوز لغيره من المجتهدين مخالفته.و الإمامية تقول ما كان يحكم إلا عن نص و توقيف و لا يجوز لأحد من الناس مخالفته.و القول في صحة ذلك و فساده فرع من فروع مسألة الإمامة

١٦١

279

اِعْلَمُوا عِلْماً يَقِيناً أَنَّ اَللَّهَ لَمْ يَجْعَلْ لِلْعَبْدِ وَ إِنْ عَظُمَتْ حِيلَتُهُ وَ اِشْتَدَّتْ طَلِبَتُهُ وَ قَوِيَتْ مَكِيدَتُهُ أَكْثَرَ مِمَّا سُمِّيَ لَهُ فِي اَلذِّكْرِ اَلْحَكِيمِ وَ لَمْ يَحُلْ بَيْنَ اَلْعَبْدِ فِي ضَعْفِهِ وَ قِلَّةِ حِيلَتِهِ وَ بَيْنَ أَنْ يَبْلُغَ مَا سُمِّيَ لَهُ فِي اَلذِّكْرِ اَلْحَكِيمِ وَ اَلْعَارِفُ لِهَذَا اَلْعَامِلُ بِهِ أَعْظَمُ اَلنَّاسِ رَاحَةً رَحْمَةً فِي مَنْفَعَةٍ وَ اَلتَّارِكُ لَهُ اَلشَّاكُّ فِيهِ أَعْظَمُ اَلنَّاسِ شُغُلاً شُغْلاً فِي مَضَرَّةٍ وَ رُبَّ مُنْعَمٍ عَلَيْهِ مُسْتَدْرَجٌ بِالنُّعْمَى وَ رُبَّ مُبْتَلًى مَصْنُوعٌ لَهُ بِالْبَلْوَى فَزِدْ أَيُّهَا اَلْمُسْتَنْفِعُ اَلْمُسْتَمِعُ فِي شُكْرِكَ وَ قَصِّرْ مِنْ عَجَلَتِكَ وَ قِفْ عِنْدَ مُنْتَهَى رِزْقِكَ قد تقدم القول في الحرص و الجشع و ذمهما و ذم الكادح في طلب الرزق و مدح القناعة و الاقتصار و نذكر هنا طرفا آخر من ذلك قال بعض الحكماء وجدت أطول الناس غما الحسود و أهنأهم عيشا القنوع و أصبرهم على الأذى الحريص و أخفضهم عيشا أرفضهم للدنيا و أعظمهم ندامة العالم المفرط.و قال عمر الطمع فقر و اليأس غنى و من يئس مما عند الناس استغنى عنهم.

١٦٢

و قيل لبعض الحكماء ما الغنى قال قلة تمنيك و رضاك بما يكفيك و لذلك قيل العيش ساعات تمر و خطوب تكر.

و قال الشاعر:

اقنع

بعيشك ترضه

و اترك هواك و أنت حر

فلرب حتف فوقه

ذهب و ياقوت و در

و قال آخر :

إلى متى أنا في حل و ترحال

من طول سعي و إدبار و إقبال

و نازح الدار لا أنفك مغتربا

عن الأحبة لا يدرون ما حالي

بمشرق الأرض طورا ثم مغربها

لا يخطر الموت من حرص على بالي

و لو قنعت أتاني الرزق في دعة

إن القنوع الغنى لا كثرة المال

و جاء في الخبر المرفوع أجملوا في الطلب فإنه ليس لعبد إلا ما كتب له و لن يخرج عبد من الدنيا حتى يأتيه ما كتب له في الدنيا و هي راغمة

١٦٣

280

وَ قَالَ ع لاَ تَجْعَلُوا عِلْمَكُمْ جَهْلاً وَ يَقِينَكُمْ شَكّاً إِذَا عَلِمْتُمْ فَاعْمَلُوا وَ إِذَا تَيَقَّنْتُمْ فَأَقْدِمُوا هذا نهي للعلماء عن ترك العمل يقول لا تجعلوا علمكم كالجهل فإن الجاهل قد يقول جهلت فلم أعمل و أنتم فلا عذر لكم لأنكم قد علمتم و انكشف لكم سر الأمر فوجب عليكم أن تعملوا و لا تجعلوا علمكم جهلا فإن من علم المنفعة في أمر و لا حائل بينه و بينه ثم لم يأته كان سفيها

١٦٤

281

وَ قَالَ ع إِنَّ اَلطَّمَعَ مُورِدُ غَيْرُ مُصْدِرٍ وَ ضَامِنٌ غَيْرُ وَفِيٍّ وَ رُبَّمَا شَرِقَ شَارِبُ اَلْمَاءِ قَبْلَ رِيِّهِ وَ كُلَّمَا عَظُمَ قَدْرُ اَلشَّيْ‏ءِ اَلْمُتَنَافَسِ فِيهِ عَظُمَتِ اَلرَّزِيَّةُ لِفَقْدِهِ وَ اَلْأَمَانِيُّ تُعْمِي أَعْيُنَ اَلْبَصَائِرِ وَ اَلْحَظُّ يَأْتِي مَنْ لاَ يَأْتِيهِ قد تقدم القول في هذه المعاني كلها و قد ضرب الحكماء مثالا لفرط الطمع فقالوا إن رجلا صاد قبرة فقالت ما تريد أن تصنع بي قال أذبحك و آكلك قالت و الله ما أشفي من قرم و لا أشبع من جوع و لكني أعلمك ثلاث خصال هن خير لك من أكلي أما واحدة فأعلمك إياها و أنا في يدك و أما الثانية فإذا صرت على الشجرة أما الثالثة فإذا صرت على الجبل فقال هاتي الأولى قالت لا تلهفن على ما فات فخلاها فلما صارت على الشجرة قال هاتي الثانية قالت لا تصدقن بما لا يكون أنه يكون ثم طارت فصارت على الجبل فقالت يا شقي لو ذبحتني لأخرجت من حوصلتي درتين وزن كل واحدة ثلاثون مثقالا فعض على يديه و تلهف تلهفا شديدا و قال هاتي الثالثة فقالت أنت قد أنسيت الاثنتين فما تصنع بالثالثة أ لم أقل لك لا تلهفن على

١٦٥

ما فات و قد تلهفت و أ لم أقل لك لا تصدقن بما لا يكون أنه يكون و أنا و لحمي و دمي و ريشي لا يكون عشرين مثقالا فكيف صدقت أن في حوصلتي درتين كل واحدة منهما ثلاثون مثقالا ثم طارت و ذهبت.و قوله و ربما شرق شارب الماء قبل ريه كلام فصيح و هو مثل لمن يخترم بغتة أو تطرقه الحوادث و الخطوب و هو في تلهية من عيشه.و مثل الكلمة الأخرى قولهم على قدر العطية تكون الرزية.و القول في الأماني قد أوسعنا القول فيه من قبل و كذلك في الحظوظ

١٦٦

282

وَ قَالَ ع اَللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ أَنْ تُحَسِّنَ تَحْسُنَ فِي لاَمِعَةِ اَلْعُيُونِ عَلاَنِيَتِي وَ تُقَبِّحَ تَقْبُحَ فِيمَا أُبْطِنُ لَكَ سَرِيرَتِي مُحَافِظاً عَلَى رِثَاءِ رِيَاءِ اَلنَّاسِ مِنْ نَفْسِي بِجَمِيعِ مَا أَنْتَ مُطَّلِعٌ عَلَيْهِ مِنِّي فَأُبْدِيَ لِلنَّاسِ حُسْنَ ظَاهِرِي وَ أُفْضِيَ إِلَيْكَ بِسُوءِ عَمَلِي تَقَرُّباً إِلَى عِبَادِكَ وَ تَبَاعُداً مِنْ مَرْضَاتِكَ قد تقدم القول في الرياء و أن يظهر الإنسان من العبادة و الفعل الجميل ما يبطن غيره و يقصد بذلك السمعة و الصيت لا وجه الله تعالى.و قد جاء

في الخبر المرفوع أخوف ما أخاف على أمتي الرياء و الشهوة الخفية قال المفسرون و الرياء من الشهوة الخفية لأنه شهوة الصيت و الجاه بين الناس بأنه متين الدين مواظب على نوافل العبادات و هذه هي الشهوة الخفية أي ليست كشهوة الطعام و النكاح و غيرهما من الملاذ الحسية.

و في الخبر المرفوع أيضا أن اليسير من الرياء شرك و أن الله يحب الأتقياء الأخفياء الذين هم في بيوتهم إذا غابوا لم يفتقدوا و إذا حضروا لم يعرفوا قلوبهم مصابيح الهدى ينجون من كل غبراء مظلمة

١٦٧

283

وَ قَالَ ع : لاَ وَ اَلَّذِي أَمْسَيْنَا مِنْهُ فِي غُبْرِ غُبَّرِ لَيْلَةٍ دَهْمَاءَ تَكْشِرُ عَنْ يَوْمٍ أَغَرَّ مَا كَانَ كَذَا وَ كَذَا

قد روي تفتر عن يوم أغر و الغبر البقايا و كذلك الأغبار و كشر أي بسم و أصله الكشف.و هذا الكلام إما أن يكون قاله على جهة التفاؤل أو أن يكون إخبارا بغيب و الأول أوجه

١٦٨

284

وَ قَالَ ع قَلِيلٌ تَدُومُ عَلَيْهِ أَرْجَى مِنْ كَثِيرٍ مَمْلُولٍ مِنْهُ لا ريب أن من أراد حفظ كتاب من الكتب العلمية فحفظ منه قليلا قليلا و دام على ذلك فإن ذلك أنفع له و أرجى لفلاحه من أن يحفظ كثيرا و لا يدوم عليه لملاله إياه و ضجره منه و التجربة تشهد بذلك.و القول في غير الحفظ كالقول في الحفظ نحو الزيارة القليلة للصديق و نحو العطاء اليسير الدائم الذي هو خير من الكثير المنقطع و نحو ذلك

١٦٩

285

وَ قَالَ ع إِذَا أَضَرَّتِ اَلنَّوَافِلُ بِالْفَرَائِضِ فَارْفُضُوهَا قد تقدم القول في النافلة هل تصح ممن عليه فريضة لم يؤدها و ذكرنا مذاهب الفقهاء في ذلك.و لا ريب أن من استغرق الوقت بالنوافل حتى آن أوقات الفرائض لم يفعل الفرائض فيها و شغلها بالعبادة النفلية فقد أخطأ و الواجب أن يرفض النافلة حيث يتضيق وقت الفريضة لا خلاف بين المسلمين في ذلك و يصلح أن يكون هذا مثلا ظاهره ما ذكرنا و باطنه أمر آخر

١٧٠

286

وَ قَالَ ع مَنْ تَذَكَّرَ بُعْدَ اَلسَّفَرِ اِسْتَعَدَّ هذا مثل قولهم في المثل الليل طويل و أنت مقمر و قال أيضا عش و لا تغتر.و قال أصحاب المعاني مثل الدنيا كركب في فلاة وردوا ماء طيبا فمنهم من شرب من ذلك الماء شربا يسيرا ثم أفكر في بعد المسافة التي يقصدونها و أنه ليس بعد ذلك الماء ماء آخر فتزود منه ماء أوصله إلى مقصده و منهم من شرب من ذلك الماء شرب عظيما و لها عن التزود و الاستعداد و ظن أن ما شرب كاف له و مغن عن ادخار شي‏ء آخر فقطع به و أخلفه ظنه فعطش في تلك الفلاة و مات.وقد روي عن النبي ص أنه قال لأصحابه إنما مثلي و مثلكم و مثل الدنيا كقوم سلكوا مفازة غبراء حتى إذا لم يدروا ما سلكوا منها أكثر أم ما بقي أنفدوا الزاد و حسروا الظهر و بقوا بين ظهراني المفازة لا زاد و لا حمولة فأيقنوا بالهلكة فبينما هم كذلك خرج عليهم رجل في حلة يقطر رأسه ماء فقالوا هذا قريب عهد بريف و ما جاءكم هذا إلا من قريب فلما انتهى إليهم و شاهد حالهم قال أ رأيتم إن هديتكم إلى ماء رواء و رياض خضر ما تعملون قالوا لا نعصيك شيئا

١٧١

قال عهودكم و مواثيقكم بالله فأعطوه ذلك فأوردهم ماء رواء و رياضا خضرا و مكث بينهم ما شاء الله ثم قال إني مفارقكم قالوا إلى أين قال إلى ماء ليس كمائكم و رياض ليست كرياضكم فقال الأكثرون منهم و الله ما وجدنا ما نحن فيه حتى ظننا أنا لا نجده و ما نصنع بمنزل خير من هذا و قال الأقلون منهم أ لم تعطوا هذا الرجل مواثيقكم و عهودكم بالله لا تعصونه شيئا و قد صدقكم في أول حديثه و الله ليصدقنكم في آخره فراح فيمن تبعه منهم و تخلف الباقون فدهمهم عدو شديد البأس عظيم الجيش فأصبحوا ما بين أسير و قتيل

١٧٢

287

وَ قَالَ ع لَيْسَتِ اَلرُّؤْيَةُ كَالْمُعَايَنَةِ مَعَ اَلْإِبْصَارِ فَقَدْ تَكْذِبُ اَلْعُيُونُ أَهْلَهَا وَ لاَ يَغُشُّ اَلْعَقْلُ مَنِ اِسْتَنْصَحَهُ هذا مثل قوله تعالى( فَإِنَّها لا تَعْمَى اَلْأَبْصارُ وَ لكِنْ تَعْمَى اَلْقُلُوبُ اَلَّتِي فِي اَلصُّدُورِ ) أي ليس العمى عمى العين بل عمى القلب.كذلك قول أمير المؤمنين ع ليست الرؤية مع العيون و إنما الرؤية الحقيقية مع العقول و قد ذهب أكابر الحكماء إلى أن اليقينيات هي المعقولات لا المحسوسات قالوا لأن حكم الحس في مظنة الغلط و طال ما كذب الحس و اعتقدنا بطريقة اعتقادات باطلة كما نرى الكبير صغيرا و الصغير كبيرا و المتحرك ساكنا و الساكن متحركا فأما العقل فإذا كان المعقول به بديهيا أو مستندا إلى مقدمات بديهية فإنه لا يقع فيه غلط أصلا

١٧٣

288

وَ قَالَ ع بَيْنَكُمْ وَ بَيْنَ اَلْمَوْعِظَةِ حِجَابٌ مِنَ اَلْغِرَّةِ قد تقدم ذكر الدنيا و غرورها و أنها بشهواتها و لذاتها حجاب بين العبد و بين الموعظة لأن الإنسان يغتر بالعاجلة و يتوهم دوام ما هو فيه و إذا خطر بباله الموت و الفناء وعد نفسه رحمة الله تعالى و عفوه هذا إن كان ممن يعترف بالمعاد فإن كثيرا ممن يظهر القول بالمعاد هو في الحقيقة غير مستيقن له و الإخلاد إلى عفو الله تعالى و الاتكال على المغفرة مع الإقامة على المعصية غرور لا محالة و الحازم من عمل لما بعد الموت و لم يمن نفسه الأماني التي لا حقيقة لها

١٧٤

289

وَ قَالَ ع جَاهِلُكُمْ مُزْدَادٌ وَ عَالِمُكُمْ مُسَوِّفٌ هذا قريب مما سلف يقول إن الجاهل من الناس مزداد من جهله مصر على خطيئته مسوف من توهماته و عقيدته الباطلة بالعفو عن ذنبه و ليس الأمر كما توهمه.( لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَ لا أَمانِيِّ أَهْلِ اَلْكِتابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَ لا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اَللَّهِ وَلِيًّا وَ لا نَصِيراً )

١٧٥

290

وَ قَالَ ع قَطَعَ اَلْعِلْمُ عُذْرَ اَلْمُتَعَلِّلِينَ هذا أيضا قريب مما تقدم يقول قطع العلم عذر الذين يعللون أنفسهم بالباطل و يقولون إن الرب كريم رحيم فلا حاجة لنا إلى إتعاب أنفسنا بالعبادة كما قال الشاعر:

قدمت على الكريم بغير زاد

من الأعمال ذا ذنب عظيم

و سوء الظن أن تعتد زادا

إذا كان القدوم على الكريم

و هذا هو التعليل بالباطل فإن الله تعالى و إن كان كريما رحيما عفوا غفورا إلا أنه صادق القول و قد توعد العصاة و قال( وَ إِنَّ اَلْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ يَصْلَوْنَها يَوْمَ اَلدِّينِ وَ ما هُمْ عَنْها بِغائِبِينَ ) و قال( لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَ قَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ ما يُبَدَّلُ اَلْقَوْلُ لَدَيَّ وَ ما أَنَا بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ ) و يكفي في رحمته و عفوه و كرمه أن يغفر للتائب أو لمن ثوابه أكثر مما يستحقه من العقاب فالقول بالوعيد معلوم بأدلة السمع المتظاهرة المتناصرة التي قد أطنب أصحابنا في تعدادها و إيضاحها و إذا كان الشي‏ء معلوما فقد قطع العلم به عذر أصحاب التعلل و التمني و وجب العمل بالمعلوم و رفض ما يخالفه

١٧٦

291

وَ قَالَ ع كُلُّ مُعَاجَلٍ يَسْأَلُ اَلْإِنْظَارَ وَ كُلُّ مُؤَجَّلٍ يَتَعَلَّلُ بِالتَّسْوِيفِ قال الله سبحانه( حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ اَلْمَوْتُ قالَ رَبِّ اِرْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها وَ مِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى‏ يَوْمِ يُبْعَثُونَ ) فهذا هو سؤال الإنظار لمن عوجل فأما من أجل فإنه يعلل نفسه بالتسويف و يقول سوف أتوب سوف أقلع عما أنا عليه فأكثرهم يخترم من غير أن يبلغ هذا الأمل و تأتيه المنية و هو على أقبح حال و أسوئها و منهم من تشمله السعادة فيتوب قبل الموت و أولئك الذين ختمت أعمالهم بخاتمة الخير و هم في العالم كالشعرة البيضاء في الثور الأسود

١٧٧

292

وَ قَالَ ع مَا قَالَ اَلنَّاسُ لِشَيْ‏ءٍ طُوبَى لَهُ إِلاَّ وَ قَدْ خَبَّأَ لَهُ اَلدَّهْرُ يَوْمَ سَوْءٍ قد تقدم هذا المعنى و ذكرنا فيه نكتا جيدة حميدة

نبذ من الأقوال الحكمية في تقلبات الدهر و تصرفاته

كان محمد بن عبد الله بن طاهر أمير بغداد في قصره على دجلة يوما و إذا بحشيش على وجه الماء في وسطه قصبة عليها رقعة فأمر بأخذها فإذا فيها:

تاه الأعيرج و استولى به البطر

فقل له خير ما استعملته الحذر

أحسنت ظنك بالأيام إذ حسنت

و لم تخف سوء ما يأتي به القدر

و سالمتك الليالي فاغتررت بها

و عند صفو الليالي يحدث الكدر

فما انتفع بنفسه مدة.و في المثل الدهر إذا أتى بسحواء سحسح يعقبها بنكباء زعزع و كذاك شرب العيش فيه تلون بيناه عذبا إذ تحول آجنا.

١٧٨

يحيى بن خالد أعطانا الدهر فأسرف ثم مال علينا فأجحف.و قال الشاعر :

فيا لنعيم ساعدتنا رقابه

و خاست بنا أكفاله و الروادف

إسحاق بن إبراهيم الموصلي :

هي المقادير تجري في أعنتها

فاصبر فليس لها صبر على حال

يوما تريش خسيس الحال ترفعه

إلى السماء و يوما تخفض العالي

إذا أدبر الأمر أتى الشر من حيث كان يأتي الخير.هانئ بن مسعود :

إن كسرى أبى على الملك النعمان

حتى سقاه أم الرقوب

كل ملك و إن تصعد يوما

بأناس يعود للتصويب

أحيحة بن الجلاح :

و ما يدري الفقير متى غناه

و ما يدري الغني متى يعيل

و ما تدري إذا أضربت شولا

أ تلقح بعد ذلك أم تحيل

و ما تدري إذا أزمعت سيرا

بأي الأرض يدركك المقيل

آخر :

فما درن الدنيا بباق لأهله

و لا شرة الدنيا بضربة لازم

آخر :

رب قوم غبروا من عيشهم

في سرور و نعيم و غدق

١٧٩

سكت الدهر زمانا عنهم

ثم أبكاهم دما حين نطق

و من الشعر المنسوب إلى محمد الأمين بن زبيدة :

يا نفس قد حق الحذر

أين الفرار من القدر

كل امرئ مما يخاف

و يرتجيه على خطر

من يرتشف صفو الزمان

يغص يوما بالكدر

١٨٠