كتاب شرح نهج البلاغة الجزء ٩

كتاب شرح نهج البلاغة0%

كتاب شرح نهج البلاغة مؤلف:
تصنيف: أمير المؤمنين عليه السلام
الصفحات: 334

كتاب شرح نهج البلاغة

مؤلف: ابن أبي الحديد
تصنيف:

الصفحات: 334
المشاهدات: 49706
تحميل: 4641


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 334 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 49706 / تحميل: 4641
الحجم الحجم الحجم
كتاب شرح نهج البلاغة

كتاب شرح نهج البلاغة الجزء 9

مؤلف:
العربية

و في حديث أنس أن رسول الله ص قال في يوم صوم إن فلانة و فلانة كانتا تأكلان اليوم شحم امرأة مسلمة يعني الغيبة فمرهما فلتتقيئا فقاءت كل واحدة منهما علقة دم و في الصحاح المجمع عليها أنه ع مر بقبرين جديدين فقال إنهما ليعذبان و ما يعذبان بكبير أما أحدهما فكان يغتاب الناس و أما الآخر فكان لا يتنزه من البول و دعا بجريدة رطبة فكسرها اثنتين أو قال دعا بجريدتين ثم غرسهما في القبرين و قال أما إنه سيهون من عذابهما ما دامتا رطبتين و في حديث ابن عباس أن رجلين من أصحابه اغتابا بحضرته رجلا و هو يمشي ع و هما يمشيان معه فمر على جيفة فقال انهشا منها فقالا يا رسول الله أ و ننهش الجيفة فقال ما أصبتما من أخيكما أنتن من هذه و في حديث أبي هريرة من أكل لحم أخيه حيا قرب إليه لحمه في الآخرة فقيل له كله ميتا كما أكلته حيا فيأكله و يضج و يكلح و روي أن رجلين كانا عند باب المسجد فمر بهما رجل كان مخنثا فترك ذلك فقالا لقد بقي عنده منه شي‏ء فأقيمت الصلاة فصليا مع الناس و ذلك يجول في أنفسهما فأتيا عطاء بن أبي رباح فسألاه فأمرهما أن يعيدا الوضوء و الصلاة و إن كانا صائمين أن يقضيا صيام ذلك اليوم.و عن مجاهد( وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ ) الهمزة الطعان في الناس و اللمزة النمام.و عن الحسن و الله للغيبة أسرع في دين المؤمن من الأكلة في الجسد.

٦١

بعضهم أدركنا السلف و هم لا يرون العبادة في الصوم و لا في الصلاة و لكن في الكف عن أعراض الناس.ابن عباس إذا أردت أن تذكر عيوب صاحبك فاذكر عيوبك و هذا مشتق من كلام أمير المؤمنين ع.أبو هريرة يبصر أحدهما القذى في عين أخيه و لا يبصر الجذع في عين نفسه و هذا كالأول.الحسن يا ابن آدم إنك إن قضيت حقيقة الإيمان فلا تعب الناس بعيب هو فيك حتى تبدأ بإصلاح ذلك العيب من نفسك فإذا فعلت ذلك كان شغلك في خاصة نفسك و أحب العباد إلى الله من كان هكذا.و يروى أن المسيح ع مر على جيفة كلب فقال بعض التلامذة ما أشد نتنه فقال المسيح ما أشد بياض أسنانه كأنه نهاهم عن غيبة الكلب و نبههم إلى أنه لا ينبغي أن يذكر من كل شي‏ء إلا أحسنه.و سمع علي بن الحسين ع رجلا يغتاب آخر فقال إن لكل شي‏ء إداما و إدام كلاب الناس الغيبة و في خطبة حجة الوداع أيها الناس إن دماءكم و أموالكم و أعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا إن الله حرم الغيبة كما حرم المال و الدم عمر : ما يمنعكم إذا رأيتم من يخرق أعراض الناس أن تعربوا عليه أي تقبحوا قالوا نخاف سفهه و شره قال ذلك أدنى ألا تكونوا شهداء

أنس يرفعه من مات على الغيبة حشر يوم القيامة مزرقة عيناه ينادى بالويل و الندامة يعرف أهله و لا يعرفونه

٦٢

و قال هشام بن عبد الملك في بعض ولد الوليد بن عقبة:

أبلغ أبا وهب إذا ما لقيته

بأنك شر الناس غيبا لصاحب

فتبدي له بشرا إذا ما لقيته

و تلسعه بالغيب لسع العقارب

مر الشعبي بقوم يغتابونه في المسجد و فيهم بعض أصدقائه فأخذ بعضادتي الباب و قال:

هنيئا مريئا غير داء مخامر

لعزة من أعراضنا ما استحلت

و من كلام بعض الحكماء أبصر الناس بالعوار المعوار هذا مثل قول الشاعر:

و أجرأ من رأيت بظهر غيب

على عيب الرجال ذوو العيوب

قيل لشبيب بن شبة بن عقال ما بال عبد الله بن الأهتم يغتابك و ينتقصك قال لأنه شقيقي في النسب و جاري في البلد و شريكي في الصنعة.دخل أبو العيناء على المتوكل و عنده جلساؤه فقال له يا محمد كلهم كانوا في غيبتك منذ اليوم و لم يبق أحد لم يذممك غيري فقال:

إذا رضيت عني كرام عشيرتي

فلا زال غضبان علي لئامها

قال بعضهم بت بالبصرة ليلة مع المسجديين فلما كان وقت السحر حركهم واحد فقال إلى كم هذا النوم عن أعراض الناس و قيل لشاعر وصله بعض الرؤساء و أنعم عليه ما صنع بك فلان قال ما وفت نعمته بإساءته منعني لذة الثلب و حلاوة الشكوى.أعرابي من عاب سفلة فقد رفعه و من عاب شريفا فقد وضع نفسه.

٦٣

نظر بعض السلف إلى رجل يغتاب رجلا و قال يا هذا إنك تملي على حافظيك كتابا فانظر ما ذا تقول.ابن عباس ما الأسد الضاري على فريسة بأسرع من الدني‏ء في عرض السري بعضهم:

و مطروفة عيناه عن عيب نفسه

فإن لاح عيب من أخيه تبصرا

و قالت رابعة العدوية إذا نصح الإنسان لله أطلعه الله تعالى على مساوئ عمله فتشاغل بها عن ذكر مساوئ خلقه.قال عبد الله بن عروة بن الزبير لابنه يا بني عليك بالدين فإن الدنيا ما بنت شيئا إلا هدمه الدين و إذا بنى الدين شيئا لم تستطع الدنيا هدمه أ لا ترى علي بن أبي طالب و ما يقول فيه خطباء بني أمية من ذمه و عيبه و غيبته و الله لكأنما يأخذون بناصيته إلى السماء أ لا تراهم كيف يندبون موتاهم و يرثيهم شعراؤهم و الله لكأنما يندبون جيف الحمر.و من كلام بعض الصالحين الورع في المنطق أشد منه في الذهب و الفضة لأنك إذا استودعك أخوك مالا لم تجد بك نفسك لخيانة فيه و قد استودعك عرضه و أنت تغتابه و لا تبالي.كان محمد بن سيرين قد جعل على نفسه كلما اغتاب أحدا أن يتصدق بدينار و كان إذا مدح أحدا قال هو كما يشاء الله و إذا ذمه قال هو كما يعلم الله.الأحنف في خلتان لا أغتاب جليسي إذا قام عني و لا أدخل بين القوم فيما لم يدخلوني فيه.قيل لرجل من العرب من السيد فيكم قال الذي إذا أقبل هبناه و إذا أدبر اغتبناه.

٦٤

قيل للربيع بن خيثم ما نراك تعيب أحدا فقال لست راضيا على نفسي فأتفرغ لذكر عيوب الناس ثم قال:

لنفسي أبكي لست أبكي لغيرها

لنفسي في نفسي عن الناس شاغل

عبد الله بن المبارك قلت لسفيان ما أبعد أبا حنيفة من الغيبة ما سمعته يغتاب عدوا قال هو و الله أعقل من أن يسلط على حسناته ما يذهب بها.سئل فضيل عن غيبة الفاسق فقال لا تشتغل بذكره و لا تعود لسانك الغيبة أشغل لسانك بذكر الله و إياك ذكر الناس فإن ذكر الناس داء و ذكر الله دواء.بعض الشعراء:

و لست بذي نيرب في الصديق

خئون العشيرة سبابها

و لا من إذا كان في مجلس

أضاع القبيلة و اغتابها

و لكن أبجل ساداتها

و لا أتعلم ألقابها

و كان يقال الغيبة فاكهة القراء و قيل لإسماعيل بن حماد بن أبي حنيفة أي اللحمان أطيب قال لحوم الناس هي و الله أطيب من لحوم الدجاج و الدراج يعني الغيبة.ابن المغيرة لا تذكر الميت بسوء فتكون الأرض أكتم عليه منك.و كان عبد الملك بن صالح الهاشمي إذا ذكر عنده الميت بسوء يقول كفوا عن أسارى الثرى.و في الأثر سامع الغيبة أحد المغتابين.

٦٥

أبو نواس:

ما حطك الواشون من رتبة

عندي و ما ضرك مغتاب

كأنهم أثنوا و لم يعلموا

عليك عندي بالذي عابوا

الحسن ذم الرجل في السر مدح له في العلانية.

علي ع الغيبة جهد العاجز أخذه المتنبي فقال:

و أكبر نفسي عن جزاء بغيبة

و كل اغتياب جهد من ما له جهد

بلغ الحسن أن رجلا اغتابه فأهدى إليه طبقا من رطب فجاءه الرجل معتذرا و قال أصلحك الله اغتبتك فأهديت لي قال إنك أهديت إلي حسناتك فأردت أن أكافئك.أتى رجل عمرو بن عبيد الله فقال له إن الأسواري لم يزل أمس يذكرك و يقول عمرو الضال فقال له يا هذا و الله ما رعيت حق مجالسة الرجل حين نقلت إلينا حديثه و لا رعيت حقي حين بلغت عن أخي ما أكرهه أعلمه أن الموت يعمنا و البعث يحشرنا و القيامة تجمعنا و الله يحكم بيننا

حكم الغيبة في الدين

و اعلم أن العلماء ذكروا في حد الغيبة أن تذكر أخاك بما يكرهه لو بلغه سواء ذكرت نقصانا في بدنه مثل أن تقول الأقرع أو الأعور أو في نسبه نحو أن تقول ابن النبطي و ابن الإسكاف أو الزبال أو الحائك أو خلقه نحو سيئ الخلق أو بخيل

٦٦

أو متكبر أو في أفعاله الدنيئة نحو قولك كذاب و ظالم و متهاون بالصلاة أو الدنيوية نحو قولك قليل الأدب متهاون بالناس كثير الكلام كثير الأكل أو في ثوبه كقولك وسخ الثياب كبير العمامة طويل الأذيال.و قد قال قوم لا غيبة في أمور الدين لأن المغتاب إنما ذم ما ذمه الله تعالى و احتجوا بما روي أنه ذكر لرسول الله ص امرأة و كثرة صومها و صلاتها و لكنها تؤذي جارتها فقال هي في النار و لم ينكر عليهم غيبتهم إياها.

و روي أن امرأة ذكرت عنده ع بأنها بخيلة فقال فما خيرها إذن.و أكثر العلماء على أن الغيبة في أمور الدين محرمة أيضا و ادعوا الإجماع على أن من ذكر غيره بما يكرهه فهو مغتاب سواء أ كان في الدين أو في غيره قالوا و المخالف مسبوق بهذا الإجماع و قالوا و قد روي عن النبي ص أنه قال هل تدرون ما الغيبة قالوا الله و رسوله أعلم قال ذكرك أخاك بما يكرهه فقائل قال أ رأيت يا رسول الله إن كان ذلك في أخي قال إن كان فيه فقد اغتبته و إن لم يكن فقد بهته.قالوا و روى معاذ بن جبل أن رجلا ذكر عند رسول الله ص فقال قوم ما أعجزه فقال ع اغتبتم صاحبكم فقالوا قلنا ما فيه فقال إن قلتم ما ليس فيه فقد بهتموه.قالوا و ما احتج به الزاعمون أن لا غيبة في الدين ليس بحجة لأن الصحابة إنما ذكرت ذلك في مجلس رسول الله ص لحاجتها إلى تعرف الأحكام بالسؤال و لم يكن غرضها التنقص.و اعلم أن الغيبة ليست مقصورة على اللسان فقط بل كل ما عرفت به صاحبك

٦٧

نقص أخيك فهو غيبة فقد يكون ذلك باللسان و قد يكون بالإشارة و الإيماء و بالمحاكاة نحو أن تمشي خلف الأعرج متعارجا و بالكتاب فإن القلم أحد اللسانين.و إذا ذكر المصنف شخصا في تصنيفه و هجن كلامه فهو غيبة فأما قوله قال قوم كذا فليس بغيبة لأنه لم يعين شخصا بعينه.و كان رسول الله ص يقول ما بال أقوام يقولون كذا فكان لا يعين و يكون مقصوده واحدا بعينه و أخبث أنواع الغيبة غيبة القراء المراءين و ذلك نحو أن يذكر عندهم إنسان فيقول قائلهم الحمد لله الذي لم يبلنا بدخول أبواب السلطان و التبذل في طلب الحطام و قصده أن يفهم الغير عيب ذلك الشخص فتخرج الغيبة في مخرج الحمد و الشكر لله تعالى فيحصل من ذلك غيبة المسلم و يحصل منه الرياء و إظهار التعفف عن الغيبة و هو واقع فيها و كذلك يقول لقد ساءني ما يذكر به فلان نسأل الله أن يعصمه و يكون كاذبا في دعوى أنه ساءه و في إظهار الدعاء له بل لو قصد الدعاء له لأخفاه في خلوة عقب صلواته و لو كان قد ساءه لساءه أيضا إظهار ما يكرهه ذلك الإنسان.و اعلم أن الإصغاء إلى الغيبة على سبيل التعجب كالغيبة بل أشد لأنه إنما يظهر التعجب ليزيد نشاط المغتاب في الغيبة فيندفع فيها حكاية يستخرج الغيبة منه بذلك و إذا كان السامع الساكت شريك المغتاب فما ظنك بالمجتهد في حصول الغيبة و الباعث على الاستزادة منها و قد روي أن أبا بكر و عمر ذكرا إنسانا عند رسول الله فقال أحدهما إنه لنئوم ثم أخرج رسول الله ص خبزا قفارا فطلبا منه أدما فقال قد ائتدمتما قالا ما نعلمه قال بلى بما أكلتما من لحم صاحبكما فجمعهما في الإثم و قد

٦٨

كان أحدهما قائلا و الآخر مستمعا فالمستمع لا يخرج من إثم الغيبة إلا بأن ينكر بلسانه فإن خاف فبقلبه و إن قدر على القيام أو قطع الكلام بكلام آخر لزمه ذلك فإن قال بلسانه اسكت و هو مريد للغيبة بقلبه فذلك نفاق و لا يخرجه عن الإثم إلا أن يكرهه بقلبه و لا يكفي أن يشير باليد أي اكفف أو بالحاجب و العين فإن ذلك استحقار للمذكور بل ينبغي أن يذب عنه صريحا

فقد قال رسول الله ص من أذل عنده مؤمن و هو يقدر على أن ينصره فلم ينصره أذله الله يوم القيامة على رءوس الخلائق

فصل في الأسباب الباعثة على الغيبة

و اعلم أن الأسباب الباعثة على الغيبة على أمور منها شفاء الغيظ و ذلك أن يجري من الإنسان سبب يغضب به عليه آخر فإذا هاج غضبه تشفى بذكر مساوئه و سبق إليها لسانه بالطبع إن لم يكن هناك دين وازع و قد يمنع تشفي الغيظ عند الغضب فيحتقن الغضب في الباطن فيصير حقدا ثابتا فيكون سببا دائما لذكر المساوئ.و منها موافقة الأقران و مساعدتهم على الكلام فإنهم إذا اجتمعوا ربما أخذوا يتفكهون بذكر الأعراض فيرى أنه لو أنكر أو قطع المجلس استثقلوه و نفروا عنه فيساعدهم و يرى ذلك من حسن المعاشرة و يظن أنه مجاملة في الصحبة و قد يغضب رفقاؤه من أمر فيحتاج إلى أن يغضب لغضبهم إظهارا للمساهمة في السراء و الضراء فيخوض معهم في ذكر العيوب و المساوئ.

٦٩

و منها أن يستشعر من إنسان أنه سيذمه و يطول لسانه فيه و يقبح حاله عند بعض الرؤساء أو يشهد عليه بشهادة فيبادره قبل أن يقبح حاله فيطعن فيه ليسقط أثر شهادته عليه.و قد يبتدئ بذكر بعض ما فيه صادقا ليكذب عليه بعد ذلك فيروج كذبه بالصدق الأول.و منها أن ينسب إلى أمر فيريد التبرؤ منه فيذكر الذي فعله و كان من حقه أن يبرئ نفسه و لا يذكر الذي فعله لكنه إنما يذكر غيره تأكيدا لبراءة نفسه و كيلا يكون تبرؤا مبتورا و ربما يعتذر بأن يقول فلان فعله و كنت شريكا في بعض الأمر ليبرئ نفسه بعض البراءة.و منها المباهاة و حب الرئاسة مثل أن يقول كلام فلان ركيك و معرفته بالفن الفلاني ناقصة و غرضه إظهار فضله عليه.و منها الحسد و إرادة إسقاط قدر من يمدحه الناس بذكر مساوئه لأنه يشق عليه ثناء الناس عليه و لا يجد سبيلا إلى سد باب الثناء عليه إلا بذكر عيوبه.و منها اللعب و الهزل و المطايبة و تزجية الوقت بالضحك و السخرية فيذكر غيره بما يضحك الحاضرين على سبيل الهزء و المحاكاة.و اعلم أن الذي يقوى في نفسي أن الغيبة لا تكون محرمة إلا إذا كانت على سبيل القصد إلى تنقص الإنسان فقط و غض قدره فأما إذا خرجت مخرجا آخر فليست بحرام كمن يظلمه القاضي و يأخذ الرشوة على إسقاط حقوقه فإن له أن يذكر حاله للسلطان متظلما من حيف الحاكم عليه إذ لا يمكنه استيفاء حقوقه إلا بذلك

فقد قال ص مطل الغني ظلم و قال لي الواجد يحل عقوبته و عرضه

٧٠

و كذلك النهي عن المنكر واجب و قد يحتاج الإنسان إلى الاستعانة بالغير على تغييره و رد القاضي إلى منهج الصلاح فلا بد له أن يشرح للغير حال ذلك الإنسان المرتكب المنكر و من ذكر الإنسان بلقب مشهور فعرف عن عيبه كالأعرج و الأعمش المحدثين لم يكن مغتابا إذا لم يقصد الغض و النقص.و الصحيح أن المجاهر بالفسق لا غيبة له كصاحب الماخور و المخنث و من يدعو الناس إلى نفسه أبنة و كالعشار و المستخرج بالضرب فإن هؤلاء غير كارهين لما يذكرون به و ربما تفاخروا بذلك و

قد قال النبي ص من ألقى جلباب الحياء عن وجهه فلا غيبة له و قال عمر ليس لفاجر حرمة و أراد المجاهر بالفسق دون المستتر.و قال الصلت بن طريف قلت للحسنرحمه‌الله الرجل الفاجر المعلن بالفجور غير مراقب هل ذكري له بما فيه غيبة فقال لا و لا كرامة له

طريق التوبة من الغيبة

و اعلم أن التوبة من الغيبة تكفر عقابها و التوبة منها هي الندم عليها و العزم على ألا يعود فإن لم يكن الشخص المذكور قد بلغته الغيبة فلا حاجة إلى الاستحلال منه بل لا يجوز إعلامه بذلك هكذا قال شيخنا أبو الحسينرحمه‌الله لأنه لم يؤلمه فيحتاج إلى أن يستوهب منه إثم ذلك الإيلام و في إعلامه تضييق صدره و إدخال مشقة عليه و إن كان الشخص المذكور قد بلغته الغيبة وجب عليه أن يستحله و يستوهبه فإن كان قد مات سقط بالتوبة عقاب ما يختص بالبارئ سبحانه من ذلك الوقت و بقي ما يختص بذلك الميت لا يسقط حتى يؤخذ العوض له من المذنب يوم القصاص

٧١

141 و من كلام له ع

أَيُّهَا اَلنَّاسُ مَنْ عَرَفَ مِنْ أَخِيهِ وَثِيقَةَ دِينٍ وَ سَدَادَ طَرِيقٍ فَلاَ يَسْمَعَنَّ فِيهِ أَقَاوِيلَ اَلرِّجَالِ أَمَا إِنَّهُ قَدْ يَرْمِي اَلرَّامِي وَ تُخْطِئُ اَلسِّهَامُ وَ يُحِيلُ اَلْكَلاَمُ وَ بَاطِلُ ذَلِكَ يَبُورُ وَ اَللَّهُ سَمِيعٌ وَ شَهِيدٌ أَمَا إِنَّهُ لَيْسَ بَيْنَ اَلْحَقِّ وَ اَلْبَاطِلِ إِلاَّ أَرْبَعُ أَصَابِعَ فَسُئِلَ ع عَنْ مَعْنَى قَوْلِهِ هَذَا فَجَمَعَ أَصَابِعَهُ وَ وَضَعَهَا بَيْنَ أُذُنِهِ وَ عَيْنِهِ ثُمَّ قَالَ اَلْبَاطِلُ أَنْ تَقُولَ سَمِعْتُ وَ اَلْحَقُّ أَنْ تَقُولَ رَأَيْتُ هذا الكلام هو نهي عن التسرع إلى التصديق بما يقال من العيب و القدح في حق الإنسان المستور الظاهر المشتهر بالصلاح و الخير و هو خلاصة قوله سبحانه( إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى‏ ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ ) ثم ضرب ع لذلك مثلا فقال قد يرمي الرامي فلا يصيب الغرض و كذلك قد يطعن الطاعن فلا يكون طعنه صحيحا و ربما كان لغرض فاسد أو سمعه ممن له غرض

٧٢

فاسدا كالعدو و الحسود و قد يشتبه الأمر فيظن المعروف منكرا فيعجل الإنسان بقول لا يتحققه كمن يرى غلام زيد يحمل في إناء مستور مغطى خلا فيظنه خمرا.قال ع و يحيل الكلام أي يكون باطلا أحال الرجل في منطقه إذا تكلم الذي لا حقيقة له و من الناس من يرويه و يحيك الكلام بالكاف من قولك ما حاك فيه السيف و يجوز أحاك بالهمزة أي ما أثر يعني أن القول يؤثر في العرض و إن كان باطلا و الرواية الأولى أشهر و أظهر.و يبور يفسد و قوله و باطل ذلك يبور مثل قولهم للباطل جولة و للحق دولة و هذا من قوله تعالى( وَ قُلْ جاءَ اَلْحَقُّ وَ زَهَقَ اَلْباطِلُ إِنَّ اَلْباطِلَ كانَ زَهُوقاً ) .و الإصبع مؤنثة و لذلك قال أربع أصابع فحذف الهاء.فإن قلت كيف يقول ع الباطل ما يسمع و الحق ما يرى و أكثر المعلومات إنما هي من طريق السماع كعلمنا الآن بنبوة محمد ص بما بلغنا من معجزاته التي لم نرها و إنما سمعناها.قلت ليس كلامه في المتواتر من الأخبار و إنما كلامه في الأقوال الشاذة الواردة من طريق الآحاد التي تتضمن القدح فيمن قد غلبت نزاهته فلا يجوز العدول عن المعلوم بالمشكوك

٧٣

142 و من كلام له ع

وَ لَيْسَ لِوَاضِعِ اَلْمَعْرُوفِ فِي غَيْرِ حَقِّهِ وَ عِنْدَ غَيْرِ أَهْلِهِ مِنَ اَلْحَظِّ فِيمَا أَتَى إِلاَّ مَحْمَدَةُ اَللِّئَامِ وَ ثَنَاءُ اَلْأَشْرَارِ وَ مَقَالَةُ اَلْجُهَّالَ مَا دَامَ مُنْعِماً عَلَيْهِمْ مَا أَجْوَدَ يَدَهُ وَ هُوَ عَنْ ذَاتِ اَللَّهِ بِخَيْلٌ فَمَنْ آتَاهُ اَللَّهُ مَالاً فَلْيَصِلْ بِهِ اَلْقَرَابَةَ وَ لْيُحْسِنْ مِنْهُ اَلضِّيَافَةَ وَ لْيَفُكَّ بِهِ اَلْأَسِيرَ وَ اَلْعَانِيَ وَ لْيُعْطِ مِنْهُ اَلْفَقِيرَ وَ اَلْغَارِمَ وَ لْيَصْبِرْ نَفْسَهُ عَلَى اَلْحُقُوقِ وَ اَلنَّوَائِبِ اِبْتِغَاءَ اَلثَّوَابِ فَإِنَّ فَوْزاً بِهَذِهِ اَلْخِصَالِ شَرَفُ مَكَارِمِ اَلدُّنْيَا وَ دَرْكُ فَضَائِلِ اَلآْخِرَةِ إِنْ شَاءَ اَللَّهُ هذا الكلام يتضمن ذم من يخرج ماله إلى الفتيان و الأقران و الشعراء و نحوهم و يبتغي به المدح و السمعة و يعدل عن إخراجه في وجوه البر و ابتغاء الثواب قال ع ليس له من الحظ إلا محمدة اللئام و ثناء الأشرار و قولهم ما أجود يده أي ما أسمحه و هو بخيل بما يرجع إلى ذات الله يعني الصدقات و ما يجري مجراها من صلة الرحم و الضيافة و فك الأسير و العاني و هو الأسير بعينه و إنما اختلف اللفظ.

٧٤

و الغارم من عليه الديون و يقال صبر فلان نفسه على كذا مخففا أي حبسها قال تعالى( وَ اِصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ اَلَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ ) .و قال عنترة يذكر حربا:

فصبرت عارفة لذلك حرة

ترسو إذا نفس الجبان تطلع

و في الحديث النبوي في رجل أمسك رجلا و قتله آخر فقال ع اقتلوا القاتل و اصبروا الصابر أي احبسوا الذي حبسه للقتل إلى أن يموت.و قوله فإن فوزا أفصح من أن يقول فإن الفوز أو فإن في الفوز كما قال الشاعر:

إن شواء و نشوة

و خبب البازل الأمون

من لذة العيش و الفتى

للدهر و الدهر ذو شئون

و لم يقل إن الشواء و النشوة و السر في هذا أنه كأنه يجعل هذا الشواء شخصا من جملة أشخاص داخلة تحت نوع واحد و يقول إن واحدا منها أيها كان فهو من لذة العيش و إن لم يحصل له كل أشخاص ذلك النوع و مراده تقرير فضيلة هذه الخصال في النفوس أي متى حصل للإنسان فوز ما بها فقد حصل له الشرف و هذا المعنى و إن أعطاه لفظة الفوز بالألف و اللام إذا قصد بها الجنسية إلا أنه قد يسبق إلى الذهن منها الاستغراق لا الجنسية فأتى بلفظة لا توهم الاستغراق و هي اللفظة المنكرة و هذا دقيق و هو من لباب علم البيان

٧٥

143 و من خطبة له ع في الاستسقاء

إِلاَّ وَ إِنَّ اَلْأَرْضَ اَلَّتِي تَحْمِلُكُمْ وَ اَلسَّمَاءَ اَلَّتِي تُظِلُّكُمْ مُطِيعَتَانِ لِرَبِّكُمْ وَ مَا أَصْبَحَتَا تَجُودَانِ لَكُمْ بِبَرَكَتِهِمَا تَوَجُّعاً لَكُمْ وَ لاَ زُلْفَةً إِلَيْكُمْ وَ لاَ لِخَيْرٍ تَرْجُوَانِهِ مِنْكُمْ وَ لَكِنْ أُمِرَتَا بِمَنَافِعِكُمْ فَأَطَاعَتَا وَ أُقِيمَتَا عَلَى حُدُودِ مَصَالِحِكُمْ فَقَامَتَا إِنَّ اَللَّهَ يَبْتَلِي عِبَادَهُ عِنْدَ اَلْأَعْمَالِ اَلسَّيِّئَةِ بِنَقْصِ اَلثَّمَرَاتِ وَ حَبْسِ اَلْبَرَكَاتِ وَ إِغْلاَقِ خَزَائِنِ اَلْخَيْرَاتِ لِيَتُوبَ تَائِبٌ وَ يُقْلِعَ مُقْلِعٌ وَ يَتَذَكَّرَ مُتَذَكِّرٌ وَ يَزْدَجِرَ مُزْدَجِرٌ وَ قَدْ جَعَلَ اَللَّهُ سُبْحَانَهُ اَلاِسْتِغْفَارَ سَبَباً لِدُرُورِ اَلرِّزْقِ وَ رَحْمَةِ اَلْخَلْقِ فَقَالَ سُبْحَانَهُ( اِسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً يُرْسِلِ اَلسَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً وَ يُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَ بَنِينَ وَ يَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَ يَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهاراً ) فَرَحِمَ اَللَّهُ اِمْرَأً اِسْتَقْبَلَ تَوْبَتَهُ وَ اِسْتَقَالَ خَطِيئَتَهُ وَ بَادَرَ مَنِيَّتَهُ اَللَّهُمَّ إِنَّا خَرَجْنَا إِلَيْكَ مِنْ تَحْتِ اَلْأَسْتَارِ وَ اَلْأَكْنَانِ وَ بَعْدَ عَجِيجِ اَلْبَهَائِمِ وَ اَلْوِلْدَانِ رَاغِبِينَ فِي رَحْمَتِكَ وَ رَاجِينَ فَضْلَ نِعْمَتِكَ وَ خَائِفِينَ مِنْ عَذَابِكَ وَ نِقْمَتِكَ

٧٦

اَللَّهُمَّ فَاسْقِنَا غَيْثَكَ وَ لاَ تَجْعَلْنَا مِنَ اَلْقَانِطِينَ وَ لاَ تُهْلِكْنَا بِالسِّنِينَ وَ لاَ تُؤَاخِذْنَا بِمَا فَعَلَ اَلسُّفَهَاءُ مِنَّا يَا أَرْحَمَ اَلرَّاحِمِينَ اَللَّهُمَّ إِنَّا خَرَجْنَا إِلَيْكَ نَشْكُو إِلَيْكَ مَا لاَ يَخْفَى عَلَيْكَ أَلْجَأَتْنَا اَلْمَضَايِقُ اَلْوَعْرَةُ وَ أَجَاءَتْنَا اَلْمَقَاحِطُ اَلْمُجْدِبَةُ وَ أَعْيَتْنَا اَلْمَطَالِبُ اَلْمُتَعَسِّرَةُ وَ تَلاَحَمَتْ عَلَيْنَا اَلْفِتَنُ اَلْمَسْتَصْعَبَةُ اَلْمُسْتَصْعِبَةُ اَللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ أَلاَّ تَرُدَّنَا خَائِبِينَ وَ لاَ تَقْلِبَنَا وَاجِمِينَ وَ لاَ تُخَاطِبَنَا بِذُنُوبِنَا وَ لاَ تُقَايِسَنَا بِأَعْمَالِنَا اَللَّهُمَّ اُنْشُرْ عَلَيْنَا غَيْثَكَ وَ بَرَكَتِكَ وَ رِزْقَكَ وَ رَحْمَتَكَ وَ اِسْقِنَا سُقْيَا نَاقِعَةً مُرْوِيَةً مُعْشِبَةً تُنْبِتُ بِهَا مَا قَدْ فَاتَ وَ تُحْيِي بِهَا مَا قَدْ مَاتَ نَافِعَةَ اَلْحَيَا كَثِيرَةَ اَلْمُجْتَنَى تُرْوِي بِهَا اَلْقِيعَانَ وَ تُسِيلُ اَلْبُطْنَانَ وَ تَسْتَوْرِقُ اَلْأَشْجَارَ وَ تُرْخِصُ اَلْأَسْعَارَ إِنَّكَ عَلَى مَا تَشَاءُ قَدِيرٌ تظلكم تعلو عليكم و قد أظلتني الشجرة و استظللت بها و الزلفة القربة يقول إن السماء و الأرض إذا جاءتا بمنافعكم أما السماء فبالمطر و أما الأرض فبالنبات فإنهما لم تأتيا بذلك تقربا إليكم و لا رحمة لكم و لكنهما أمرتا بنفعكم فامتثلتا الأمر لأنه أمر من تجب طاعته و لو أمرتا بغير ذلك لفعلتاه و الكلام مجاز و استعارة لأن الجماد لا يؤمر و المعنى أن الكل مسخر تحت القدرة الإلهية و مراده تمهيد قاعدة الاستسقاء كأنه يقول إذا كانت السماء و الأرض أيام الخصب و المطر و النبات لم يكن ما كان منهما محبة لكم و لا رجاء منفعة منكم بل طاعة الصانع الحكيم سبحانه فيما سخرهما له

٧٧

فكذلك السماء و الأرض أيام الجدب و انقطاع المطر و عدم الكلأ ليس ما كان منهما بغضا لكم و لا استدفاع ضرر يخاف منكم بل طاعة الصانع الحكيم سبحانه فيما سخرهما له و إذا كان كذلك فبالحري ألا نأمل السماء و لا الأرض و أن نجعل آمالنا معلقة بالملك الحق المدبر لهما و أن نسترحمه و ندعوه و نستغفره لا كما كانت العرب في الجاهلية يقولون مطرنا بنوء كذا و قد سخط النوء الفلاني على بني فلان فأمحلوا.ثم ذكر ع أن الله تعالى يبتلي عباده عند الذنوب بتضييق الأرزاق عليهم و حبس مطر السماء عنهم و هذا الكلام مطابق للقواعد الكلامية لأن أصحابنا يذهبون إلى أن الغلاء قد يكون عقوبة على ذنب و قد يكون لطفا للمكلفين في الواجبات العقلية و هو معنى قوله ليتوب تائب إلى آخر الكلمات و يقلع يكف و يمسك.ثم ذكر أن الله سبحانه جعل الاستغفار سببا في درور الرزق و استدل عليه بالآية التي أمر نوح ع فيها قومه بالاستغفار يعني التوبة عن الذنوب و قدم إليهم الموعد بما هو واقع في نفوسهم و أحب إليهم من الأمور الآجلة فمناهم الفوائد العاجلة ترغيبا في الإيمان و بركاته و الطاعة و نتائجها كما قال سبحانه للمسلمين( وَ أُخْرى‏ تُحِبُّونَها نَصْرٌ مِنَ اَللَّهِ وَ فَتْحٌ قَرِيبٌ ) فوعدهم بمحبوب الأنفس الذي يرونه في العاجل عيانا و نقدا لا جزاء و نسيئة و قال تعالى في موضع آخر( وَ لَوْ أَنَّ أَهْلَ اَلْقُرى‏ آمَنُوا وَ اِتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ اَلسَّماءِ وَ اَلْأَرْضِ ) و قال سبحانه( وَ لَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا اَلتَّوْراةَ وَ اَلْإِنْجِيلَ وَ ما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ )

٧٨

و قال تعالى:( وَ أَنْ لَوِ اِسْتَقامُوا عَلَى اَلطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً )

الثواب و العقاب عند المسلمين و أهل الكتاب

و كل ما في التوراة من الوعد و الوعيد فهو لمنافع الدنيا و مضارها أما منافعها فمثل أن يقول إن أطعتم باركت فيكم و كثرت من أولادكم و أطلت أعماركم و أوسعت أرزاقكم و استبقيت اتصال نسلكم و نصرتكم على أعدائكم و إن عصيتم و خالفتم اخترمتكم و نقصت من آجالكم و شتت شملكم و رميتكم بالجوع و المحل و أذللت أولادكم و أشمت بكم أعداءكم و نصرت عليكم خصومكم و شردتكم في البلاد و ابتليتكم بالمرض و الذل و نحو ذلك.و لم يأت في التوراة وعد و وعيد بأمر يتعلق بما بعد الموت و أما المسيح ع فإنه صرح بالقيامة و بعث الأبدان و لكن جعل العقاب روحانيا و كذلك الثواب أما العقاب فالوحشة و الفزع و تخيل الظلمة و خبث النفس و كدرها و خوف شديد و أما الثواب فما زاد على أن قال إنهم يكونون كالملائكة و ربما قال يصعدون إلى ملكوت السماء و ربما قال أصحابه و علماء ملته الضوء و اللذة و السرور و الأمن من زوال اللذة الحاصلة لهم هذا هو قول المحققين منهم و قد أثبت بعضهم نارا حقيقية لأن لفظة النار وردت في الإنجيل فقال محققوهم نار قلبية أي نفسية روحانية و قال الأفلون نار كهذه النار و منهم من أثبت عقابا غير النار و هو بدني فقال الرعدة و صرير الأسنان فأما الجنة بمعنى الأكل و الشرب و الجماع فإنه لم يقل منهم قائل به أصلا و الإنجيل صرح بانتفاء ذلك في القيامة تصريحا لا يبقى بعده ريب لمرتاب و جاء خاتم الأنبياء محمد

٧٩

ص فأثبت المعاد على وجه محقق كامل أكمل مما ذكره الأولان فقال إن البدن و النفس معا مبعوثان و لكل منهما حظ في الثواب و العقاب.و قد شرح الرئيس أبو علي الحسين بن عبد الله بن سينا هذا الموضع في رسالة له في المعاد تعرف بالرسالة الأصحوبة شرحا جيدا فقال إن الشريعة المحمدية أثبتت في القيامة رد النفس إلى البدن و جعلت للمثاب و المعاقب ثوابا و عقابا بحسب البدن و النفس جميعا فكان للمثاب لذات بدنية من حور عين و ولدان مخلدين و فاكهة يشتهون و كأس لا يصدعون عنها و لا ينزفون و جنات تجري من تحتها الأنهار من لبن و عسل و خمر و ماء زلال و سرر و أرائك و خيام و قباب فرشها من سندس و إستبرق و ما جرى مجرى ذلك و لذات نفسانية من السرور و مشاهدة الملكوت و الأمن من العذاب و العلم اليقيني بدوام ما هم فيه و أنه لا يتعقبه عدم و لا زوال و الخلو عن الأحزان و المخاوف و للمعاقب عقاب بدني و هو المقامع من الحديد و السلاسل و الحريق و الحميم و الغسلين و الصراخ و الجلود التي كلما نضجت بدلوا جلودا غيرها و عقاب نفساني من اللعن و الخزي و الخجل و الندم و الخوف الدائم و اليأس من الفرج و العلم اليقيني بدوام الأحوال السيئة التي هم عليها.قال فوفت الشريعة الحكمة حقها من الوعد الكامل و الوعيد الكامل و بهما ينتظم الأمر و تقوم الملة فأما النصارى و ما ذهبوا إليه من أمر بعث الأبدان ثم خلوها في الدار الآخرة من المطعم و الملبس و المشرب و المنكح فهو أرك ما ذهب إليه أرباب الشرائع و أسخفه و ذلك أنه إن كان السبب في البعث هو أن الإنسان هو البدن أو أن البدن شريك النفس في الأعمال الحسنة و السيئة فوجب أن يبعث فهذا القول بعينه إن أوجب ذلك فإنه يوجب أن يثاب البدن و يعاقب بالثواب و العقاب البدني المفهوم عند العالم و إن كان الثواب و العقاب روحانيا فما الغرض في بعث الجسد ثم ما ذلك

٨٠