لأكون مع الصادقين

لأكون مع الصادقين0%

لأكون مع الصادقين مؤلف:
الناشر: ستارة
تصنيف: مناظرات وردود
الصفحات: 449

لأكون مع الصادقين

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: الدكتور محمد التيجاني السماوي
الناشر: ستارة
تصنيف: الصفحات: 449
المشاهدات: 51198
تحميل: 5919

توضيحات:

لأكون مع الصادقين
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 449 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 51198 / تحميل: 5919
الحجم الحجم الحجم
لأكون مع الصادقين

لأكون مع الصادقين

مؤلف:
الناشر: ستارة
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

الرحبة عندما ناشد أصحاب محمّد ممّن حضر عيد الغدير أن يقوموا فيشهدوا أمام الناس ببيعة الخلافة ، فقام ثلاثون صحابياً منهم ستّة عشر بدريَّاً وشهدوا(1) ، والذي كتم الشهادة وادّعى النسيان ، كأنس ابن مالك الذي أصابتْه دعوى عليّ بن أبي طالب ، فلم يقم من مقامه ذلك إلاّ أبرص ، فكان يبكي ويقول : أصابتني دعوة العبد الصالح ، لأني كتمتُ شهادته(2) .

__________________

1 ـ مسند أبي يعلى 1 : 429 ح 567 ، مسند أحمد 1 : 88 و 119 وعنه في مجمع الزوائد 9 : 104 وقال : « رجاله رجال الصحيح » ، تاريخ دمشق 42 : 206 ، المعجم الكبير 5 : 175 ، أُسد الغابة 4 : 28 ، ذخائر العقبى : 68 ، مع اختلاف في عدد البدريين.

2 ـ قريب منه الفضائل لشاذان بن جبرئيل : 164 وعنه في البحار 41 : 218 ح 31 ، الإرشاد للمفيد 1 : 351.

وجاء في أنساب الأشراف للبلاذري : 157 ح 169 : عن أبي وائل قال : قال عليّ على المنبر : « نشدت اللّه رجلا سمع رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول يوم غدير خم : اللهمّ وال من والاه وعاد من عاده ، إلاّ قام فشهد » ، وتحت المنبر أنس ابن مالك والبراء ابن عازب وجرير بن عبد اللّه ، فأعادها فلم يجبه منهم ، فقال : « اللهمّ من كتم هذه الشهادة وهو يعرفها فلا تخرجه من الدنيا حتى تجعل به آية يُعرف بها » قال أبو وائل : فبرص أنس ، وعمي البراء ، ورجع جريراً أعرابياً ...

وقال ابن أبي الحديد في شرح النهج 19 : 218 : « ذكر ابن قتيبة حديث

١٤١

وبذلك أقام أبو الحسن الحجّة على هذه الأُمّة ، ومنذ ذلك العهد وحتّى يوم الناس هذا وإلى قيام الساعة يحتفل الشيعة بذكرى يوم الغدير ، وهو عندهم العيد الأكبر ، كيف لا وهو اليوم الذي أكمل اللّه لنا فيه الدين ، وأتمّ فيه علينا النعمة ، ورضي بالإسلام لنا ديناً ، وهو يوم عظيم الشأن عند اللّه ورسوله والمؤمنين.

ذكر بعض علماء أهل السنّة عن أبي هريرة أنه قال : لّما أخذ رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بيد علي وقال : « من كنتُ مولاه فعليّ مولاه » إلى آخر الخطبة ، فأنزل اللّه عزّ وجلّ :( اليَوْمَ أكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسْلامَ دِيناً ) ، قال أبو هريرة : وهو يوم غدير خم ، من صام يوم ثمان عشر من ذي الحجّة كتب له

__________________

البرص والدعوة التي دعا بها أمير المؤمنينعليه‌السلام على أنس بن مالك في كتاب المعارف في باب البرص من أعيان الرجال ، وابن قتيبة غير منهم في حقّ عليّعليه‌السلام على المشهور من انحرافه عنه ».

وجاء في مسند أحمد 1 : 119 : « فقام إلاّ ثلاثة لم يقوموا ، فدعا عليهم فأصابتهم دعوته ».

وفي المجمع الكبير للطبراني 5 : 175 : « قال زيد : وكنت أنا فيمن كتم فذهب بصري ».

وفي تاريخ دمشق 42 : 208 : « وكتم قوم فما فنوا من الدنيا حتى عموا وبرصوا ».

١٤٢

صيام ستّين شهراً(1) .

أمّا روايات الشيعة عن أئمة أهل البيتعليهم‌السلام في فضائل ذلك اليوم فحدّث ولا حرج ، والحمد للّه على هدايته أن جعلنا من المتمسّكين بولاية أمير المؤمنين ، والمحتفلين بعيد الغدير.

وخلاصة البحث : إنّ حديث الغدير « من كنتُ مولاه فعلي مولاه ، اللّهمّ وال من والاه ، وعاد من عاداه ، وانصر من نصره واخذل من خذله ، وأدر الحقّ معه حيث دار » هو حديث ، أو بالأحرى هي حادثة تاريخية عظيمة أجمعت الأُمّة الإسلامية على نقلها ، فقد مرّ علينا ذكر ثلاثمائة وستّين من علماء أهل السنّة والجماعة ، وأكثر من ذلك من علماء الشيعة.

ومن أراد البحث والمزيد فعليه بكتاب الغدير للعلاّمة الأميني.

وبعد الذي عرضناه لا يُستغربُ أنْ تنقسمَ الأُمّة الإسلامية إلى سنّة وشيعة : تمسّكت الأُولى بمبدأ الشورى في سقيفة بني ساعدة ، وتأوّلت النصوص الصريحة ، وخالفت بذلك ما أجمع عليه الرواة من حديث الغدير ، وغيره من النصوص.

__________________

1 ـ تاريخ بغداد 8 : 284 ح 4392 ، وقال : « اشتهر هذا الحديث من رواية حبشون ، وكان يقال : إنّه تفرّد به ، وقد تابعه عليه أحمد بن عبد اللّه بن النيري ».

١٤٣

وتمسكت الثانية بتلك النصوص ، فلم ترض عنها بدلاً ، وبايعت الأئمة الإثني عشر من أهل البيت ولم تبغ عنهم حولاً.

والحقّ أنّني عندما أبحث في مذهب أهل السنّة والجماعة خصوصاً في أمر الخلافة أجد المسائل مبنيةً على الظنّ والاجتهاد ؛ لأنّ قاعدة الانتخاب ليس فيها دليل قطعي على أنّ الشخص الذي نختاره اليوم هو أفضل من غيره؛ لأنّنا لا نعلمُ خائنة الأعين وما تُخفي الصدور ، ولأنّنا في الحقيقية مركّبون من عواطف وعصبيات ، وأنانية كاملة في نفوسنا ، وستلعب هذه المركّبات دورها إذا ما أُوكل إلينا اختيار شخص من بين أشخاص.

وليست هذه الأطروحة خيالاً أو أمراً مبالغاً فيه ، فالمتتبّع لهذه الفكرة ، فكرة اختيار الخليفة ، سيجد أن هذا المبدأ الذي يطبّل له لم ينجح ولا يمكن له أن ينجح أبداً.

فهذا أبو بكر زعيم الشورى بالرغم من وصوله إلى الخلافة ( بالاختيار والشورى ) ، نراه عندما شارف على الوفاة أسرع إلى تعيين عمر بن الخطاب خليفةً له دون استعمال طريقة الشورى. وهذا عمر بن الخطاب الذي ساهم في تأسيس خلافة أبي بكر نراه بعد وفاة أبي بكر يُعلن على الملأ بأنّ بيعة أبي بكر كانت فلتةً

١٤٤

وقى اللّه المسلمين شرّها(1) .

ثم بعد ذلك نرى أنّ عمراً عندما طُعن وأيقن بدنو أجله ، عينّ ستّة أشخاص ، ليختاروا بدورهم واحداً منهم ليكون خليفة ، وهو يعلم علم اليقين أنّ هؤلاء النفر على قلّتهم سيختلفون رغم الصحبة والسبق للإسلام والورع والتقوى ، فستثور فيهم العواطف البشرية التي لا ينجو منها إلاّ المعصوم ، ولذلك نراه ـ لحسم الخلاف ـ رجّح كفّه عبدالرحمن بن عوف فقال : إذا اختلفتُم فكونوا في الشقّ الذي فيه عبدالرحمن بن عوف ، ونرى بعد ذلك بأنّهم اختاروا الإمام عليّاً ليكون خليفة ، ولكنّهم اشترطوا عليه أن يحكم فيهم بكتاب اللّه وسنّة رسوله وسنّة الشيخين أبي بكر وعمر ، وقَبِلَ علىُّ كتاب اللّه وسنّة رسوله ورفض سنّة الشيخين(2) ، وقَبلَ عثمان هذه الشروط فبايعوه بالخلافة. وقال علي في ذلك :

« فيا للّه وللشورى متى اعترض الريبُ فيَّ مع الأوّل منهم حتّى صرتُ أُقرنُ إلى هذه النظائر ، لكنّي أسففتُ إذا أسفّوا وطرت إذ

__________________

1 ـ صحيح البخاري 8 : 26 ، كتاب المحاربين ، باب 17 ، في رجم الحبلى من الزنا.

2 ـ تاريخ الطبري 3 : 301 ، حوادث سنة 23 ، قصة الشورى ، وكذلك في الكامل لابن الأثير3 : 74 في نفس الموضع.

١٤٥

طاروا ، فصغى رجل منهم لضغنه ومال الآخر لصهره مع هن وهن »(1) .

وإذا كان هؤلاء ـ وهم نخبة المسلمين وهم خاصّة الخاصّة ـ تلعبُ بهم العواطف ، فيكون فيهم الحقد ، وتكون فيهم العصبية بين هن وهن. يقول محمّد عبده في شرحه لهذه الفقرة : ( يشير الإمام عليّ إلى أغراض أُخرى يكره ذكرها ) ؛ فعلى الدنيا بعد ذلك السلام.

على أنّ عبدالرحمن بن عوف ندم فيما بعد على اختياره ، وغَضبَ على عثمان واتّهمه بخيانه العهد لمّا حدث في عهده ماحدث ، وجاءه كبار الصحابة يقولون له : يا عبدالرحمن هذا عمل يديك. فقال لهم : ما كنتُ أظنّ هذا به ، ولكنّ للّه علىَّ أن لا أُكلّمه أبداً. ثمّ مات عبدالرحمن بن عوف وهو مهاجر لعثمان ، حتى رووا أنّ عثمان دخل عليه في مرضه يعوده فتحول بوجهه إلى الحائط ولم يكلّمه(2) .

ثمّ كان بعد ذلك ما كان ، وقامت الثورة على عثمان وانتهت بقتله ، ورجعت الأُمّة بعد ذلك للاختيار من جديد ، وفي هذه المرّة اختاروا عليّاً ، ولكنْ يا حسرة على العباد : فقد اضطربت الدولة الإسلامية ،

__________________

1 ـ نهج البلاغة : الخطبة 3 المعروفة بالشقشقية.

2 ـ شرح نهج البلاغة لمحمّد عبده 1 : 35.

١٤٦

وأصبحت مسرحاً للمنافقين ، ولأعدائه المُناوئين والمستكبرين ، والطامعين لارتقاء منصّة الخلافة بأىّ ثمن وعلى أيّ طريق ولو بإزهاق النفوس البريئة.

وقد تغيرت أحكام اللّه ورسوله على مرّ تلك السنين الخمس والعشرين ، ووجد الإمام عليّ نفسه وسط بحر لجي وأمواج متلاطمة ، وظلمات حالكة ، وأهواء جامحة ، وقضى خلافته في حروب دامية فُرضتْ عليه فرضاً من الناكثين والقاسطين والمارقين ، ولم يخرج منها إلاّ باستشهاده سلام اللّه عليه وهو يتحسّر على أُمّة محمّد ، وقد طمع فيها الطليق بن الطليق معاوية بن أبي سفيان ، وأضرابه كعمرو بن العاص ، والمغيرة بن شعبة ، ومروان بن الحكم ، وغيرهم كثيرون ، وما جرّأ هؤلاء على مافعلوه إلاّ فكرة الشورى والاختيار.

وغرقت أُمّة محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في بحر من الدماء ، وتحكّم في مصيرها سفهاؤها وأرذالُها ، وتحوّلت الشورى بعد ذلك إلى الملك العضوض ، إلى القيصرية والكسروية.

وانتهت تلك الفتره التي أطلقوا عليها اسم الخلافة الراشدة ، وبها سمّوا الخلفاء الأربعة بالراشدين ، والحقّ إنّه حتّى هؤلاء الأربعة لم يكونوا خلفاء بالانتخاب والشورى سوى أبي بكر وعليّ ، وإذا استثنينا أبا بكر لأنّ بيعته كانت فلتَة على حين غفلة ولم يحضرها

١٤٧

« الحزب المعارض » كما يقال اليوم ، وهم عليّ وسائر بني هاشم ومن يرى رأيهم ، لم يبق معنا من عُقدتْ له بيعة بالشورى والاختيار إلاّ علي بن أبي طالب الذي بايعه المسلمون رغم أنفه ، وتخلّف عنه بعض الصحابة فلم يفرض عليهم ولا هدّدهم.

وقد أراد اللّه سبحانه وتعالى أن يكون علي بن أبي طالب خليفة لرسول اللّه بالنصّ من اللّه وكذلك بالانتخاب من المسلمين ، وقد أجمعت الأُمّة الإسلامية قاطبة سنّة وشيعة على خلافة عليّ ، واختلفوا على خلافة غيره كما لا يخفى.

أقول : ياحسرة على العباد لو أنّهم قبلوا ما اختاره اللّه لهم؛ لأكلوا من فوق رؤوسهم ومن تحت أرجلهم ، ولأنزل اللّه عليهم بركات من السماء ، ولكان المسلمون اليوم أسياد العالم وقادته كما أراد اللّه لهم لو اتّبعوه( وَأنْتُمُ الأعْلَوْنَ إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ) (1) .

ولكنّ إبليس اللّعين عدوُنا المبين قال مخاطباً ربّ العزّة :( فَبِمَا أغْوَيْتَنِي لأقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ المُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لاَتِيَـنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ ) (2) .

__________________

1 ـ آل عمران : 139.

2 ـ الأعراف : 16 ـ 17.

١٤٨

فلينظر العاقل اليوم إلى حالة المسلمين في العالم ، وهم أذلاّء لا يقدرون على شيء ، يركضون وراء الدول معترفين بإسـرائيل ، وهي ترفض الاعتراف بهم ولا تسمح لهم حتى بالدخول إلى القدس التي أصبحت عاصمة لها ، وإذا مارأيت بلاد المسلمين اليوم ترى أنهّم تحت رحمة أمريكا وروسيا ، وقد أكل الفقر شعوبهم ، وقتلهم الجوع والمرض ، في حين تأكل كلاب أُوربا شتّى أنواع اللحوم والأسماك ، فلا حول ولا قوة إلاّ باللّه العليّ العظيم.

وقد تنبأت سيدة النساء فاطمة الزهراء سلام اللّه عليها عندما خاصمتْ أبا بكر ، وخطبت خطبتها في نساء المهاجرين والأنصار ، وقالت في آخرها مُخبرةً عن مآل الأُمّة :

« أما لعمري لقد لقحت فنظرة ريثما تُنتج ، ثم احتلبوا ملأ القعب دماً عبيطاً وزُعافاً مبيداً ، هناك يخسر المبطلون ويعرف التَالون غبّ ما أسسّه الأوّلون ، ثمّ طيبوا عن دنياكم أنفساً واطمئنّوا للفتنة جأشاً ، وأبشروا بسيف صارم وسطوة معتد غاشم وهرج شامل ، واستبداد من الظالمين ، يدعُ فيئكم زهيداً ، وجمعكم حصيداً ، فيا حسرةً لكم ، وأنّى بكم ، وقد عُمّيت عليكم أنلزمكموها وأنتم لها كارهون »(1) .

__________________

1 ـ دلائل الإمامة للطبري الشيعي : 129 ، أمالي الطوسي : 376 ح 804 ، الاحتجاج للطبرسي 1 : 148 ، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 16 : 234.

١٤٩

صدقت سيّدة النساء فيما تنبأت به وهي سليلة النبوّة ومعدن الرسالة ، وقد تجسّدت أقوالها في حياة الأُمّة ، ومن يدري لعلّ الذي ينتظرها أبشّع ممّا انقضى ، ذلك بأنّهم كَرهوا ما أنزل اللّه فأحبط أعمالهم.

١٥٠

العنصر المهم في البحث

بَقِيَ عنصرٌ واحدٌ مهمّ في كلّ هذا البحث يستحقّ العناية والدرس ، وربما هو الاعتراض الوحيد الذي كثيراً ما يثار عندما يُفحمُ المعاندون بالحُجج الدامغة ، فتراهم يلجأون إلى الاستغراب واستبعاد أن يكون قد حضر تنصيب الإمام عليّ مائة ألف صحابي ، ثمّ يتواطؤون كلّهم على مخالفته والإعراض عنه ، وفيهم خيرة الصحابة وأفضل الأمّة!

وهذا ماوقع لي بالذات عند اقتحام البحث ، فلم أُصدّق ولا يمكن لأحد أن يصدّق إذا ماطُرحت القضية بهذا الطرح ، ولكن عندما ندرُس القضية من جميع الجوانب يزول الاستغراب؛ لأنّ المسألة ليست كما نتصوّرها أو كما يعرضها أهل السنّة ، فحاشى أن يكون مائة ألف صحابي خالفوا أمر الرسول ، فكيف وقعت الواقعة إذن؟

أوّلاً : لم يكن يسكن المدينة المنورة كلّ من حضر بيعة الغدير ، وإنّما كان كما هو المفروض وعلى أكبر تقدير ثلاثة أو أربعة الآف منهم يسكنون المدينة ، وإذا عرفنا أنّ هؤلاء فيهم الكثير من الموالي

١٥١

والعبيد والمستضعفين الذين قدموا على رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من مناطق عديدة ، وليس لهم في المدينة قبيلة ولا عشيرة أمثال أهل الصفة ، فلا يبقى معنا إلاّ نصفهم يعني الفين فقط ، وحتّى هؤلاء فهم خاضعون لرؤساء القبيلة ونظام العشيرة التي ينتمون إليها ، وقد أقرّهم رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على ذلك ، فكان إذا قدم عليه وفدٌ ولىّ عليهم زعيمهم وسيّدهم ، ولذلك وجدنا اصطلاحاً على تسميتهم في الإسلام بأهل الحلّ والعقد.

وإذا مانظرنا إلى مؤتمر السقيفة الذي انعقد عند وفاة الرسول مباشرة ، وجدنا أنّ الحاضرين الذين اتخذوا قرار اختيار أبي بكر خليفة لا يزيد على مائة شخص على أكثر تقدير؛ لأنّه لم يحضر من الأنصار ـ وهم أهل المدينة ـ إلاّ أسيادهم وزعماؤهم ، كما لم يحضر من المهاجرين ـ وهم أهل مكة الذين هاجروا مع الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ إلاّ ثلاثة أو أربعة أشخاص يمثّلون قريش.

ويكفي دليلاً أن نتصوّر ماهو حجم السقيفة ، فكلّنا يعرف ما هي السقيفة التي ما كانت تخلو منها أيّ دار ، فليست هي قاعة الحفلات ولا قصر المؤتمرات ، فإذا ماقُلنا بحضور مائة شخص في سقيفة بني ساعدة ، فذلك مبالغة مّنا حتّى يفهم الباحث بأنّ المائة ألف لم يكونوا حاضرين ، ولا سمعوا حتى مادار في السقيفة إلاّ بعد زمن بعيد ، فلم

١٥٢

تكن هناك مواصلات جوية ، ولا هواتف لاسلكية ، ولا أقمار صناعية.

وبعد اتّفاق هؤلاء الزعماء على تعيين أبي بكر ، ورغم معارضة سيّد الأنصار سعد بن عبادة زعيم الخزرج وابنه قيس ، إلاّ أن الأغلبية الساحقة ( كما يقال اليوم ) أبرمتْ العقد وتصافقتْ عليه ، في حين كان أغلب المسلمين غائبين عن السقيفة ، وكان بعضهم مشغولاً بتجهيز الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو مذهولاً بخبر موته ، وقد أرعبهم عمر بن الخطاب وخوّفهم إن قالوا بموته(1) .

أضف إلى ذلك أنّ أغلب الصحابة عبّأهم رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في جيش أُسامة ، وأكثرهم كانوا معسكرين بالجرف ، ولم يحضروا وفاة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولا حضروا مؤتمر السقيفة.

فهل يُعقلُ بعد هذا الذي وقع أن يعارض أفراد القبيلة أو العشيرة زعيمهم فيما أبرمه ، خصوصاً وأن فيما أبرمه الفضل العميم والشرف الكبير الذي تسعى إليه كلّ قبيلة منهم ، ومن يدري لعلّه يلحقهم في يوم من الأيام شرف الرئاسة على كلّ المسلمين ، ما دام صاحبها الشرعي قد أُبعِدَ وأصبح الأمر شورى يتداولونه بينهم بالتناوب ، فكيف لا يفرحون بذلك وكيف لا يؤيدونه؟

__________________

1 ـ صحيح البخاري 4 : 192 ، كتاب فضائل الصحابة ، باب فضل أبي بكر.

١٥٣

ثانياً : إذا كان أهل الحلّ والعقد من سكّان المدينة قد أبرموا أمراً ، فليس للقاصين البعيدين من أطراف الجزيرة أن يعارضوا ، وهم لا يدرون مايدور في غيابهم ، فوسائل النقل في ذلك العهد كانت بدائية ، ثمّ إنهم يتصوّرون بأنّ سكّان المدينة يعيشون مع رسول اللّه ، فهم أعلم بما يستجد من أحكام قد ينزل بها الوحي في أيّ ساعة وفي أيّ يوم.

ثمّ بعد ذلك ما يهمّ رئيس القبيلة البعيد عن العاصمة من أمر الخلافة شيئاً ، فبالنسبة إليه سواء أكان أبو بكر خليفة أم عليّ أم أيّ شخص آخر ، فأهل مكة أدرى بشعابها ، والمهم عنده هو بقاؤه هو على رئاسة عشيرته ولا ينازعه فيها أحد.

ومن يدري لعلّ البعض منهم تسائل عن الأمر وأراد أن يستطلع الخبر ، غير أنّ أجهزة الحكم أسكتته سواء بالترغيب أو بالترهيب ، ولعلَّ في قصة مالك بن نويرة الذي امتنع عن دفع الزكاة إلى أبي بكر مايؤكّد حصول ذلك.

والمتتبّع لتلك الأحداث التي وقعت في حرب مانعي الزكاة أيام أبي بكر يجد كثيراً من التناقضات ، ولا يقتنع بما أورده بعض المؤرّخين للحفاظ على كرامة الصحابة؛ وخصوصاً الحاكمين منهم.

ثالثاً : عنصر المفاجئة في القضية لعبَ دورا كبيراً في قبول

١٥٤

مايُسمّى اليوم « بالأمر الواقع » فلقد عُقد مؤتمر السقيفة على حين غفلة من الصحابة الذين شُغلوا بالرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ومن هؤلاء الإمام عليّ ، والعباس ، وسائر بني هاشم ، والمقداد ، وسلمان ، وأبي ذر ، وعمّار ، والزبير وغير هؤلاء كثير ، ولمّا خرج أصحاب السقيفة يزفّون أبا بكر إلى المسجد داعين إلى البيعة العامّة والناس يُقبلون على البيعة أفواجاً وزرافات طوعاً وكرهاً ، لم يكن عليّ وأتباعه قد فرغوا بعد من واجبهم المقدّس الذي فرضته عليهم أخلاقهم السامية ، فلا يمكن لهم أنْ يتركوا رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بدون تغسيل وتكفين وتجهيز ودفن ، ويتسارعوا إلى السقيفة ليتنازعوا حول الخلافة.

وما أن فرغوا من واجبهم حتّى استتبّ الأمر لأبي بكر ، وبات من يتخلّف عن بيعته معدوداً من أصحاب الفتنة الذي يشقّ عصا المسلمين ، فيجب على المسلمين مقاومته أو حتّى قتله إن لزم الأمر.

ولذلك نرى عمر قد هدّد سعد بن عبادة بالقتل لما امتنع عن بيعة أبي بكر ، وقال : اقتلوه إنّه صاحب فتنة(1) ، وهدّد بعد ذلك المتخلّفين في بيت عليّ بحرق الدار ومن فيها ، وإذا عرفنا رأي عمر بن

__________________

1 ـ صحيح ابن حبان 2 : 157 ، وفيه : « قال عمر : فقلت وأنا مغضب : قتل اللّه سعداً فإنّه صاحب فتنة وشرّ » ، ونحوه في تاريخ دمشق 30 : 283 ، والنهاية لابن الأثير 4 : 13.

١٥٥

الخطاب في خصوص البيعة فهمنا بعد ذلك كثيراً من الألغاز التي بقيت محيّرة.

فعُمر يرى بأنّه يكفي لصحة البيعة أن يسبق إليها أحد المسلمين فيجب على الآخرين متابعته ، ومن عصا منهم فهو خارج من ربقة الإسلام ويجبُ قتلُه.

فلنستمع إليه يتحدّث عن نفسه في خصوص البيعة ، كما أخرجه البخاري في صحيحه(1) ، قال يحكي عمّا وقع في السقيفة :

« فكثُر اللّغطُ وارتفعت الأصواتُ حتّى فرقت من الاختلاف ، فقلتُ : أبسط يدك يا أبابكر ، فبسط يدَهُ فبايعتهُ وبايعَهُ المهاجرون(2) والأنصار ، ونزونا على سعد بن عباده ، فقال قائل منهم : قتلتم سعد بن عبادة ، فقلتُ : قتل اللّه سعد بن عبادة ، قال عمر : وإنا واللّه ماوجدنا فيما حضرنا من أمر أقوى من مبايعة أبي بكر ، خشينا إن فارقنا القوم ولم تكن بيعةٌ أن يبايعوا رجُلاً منهم بعدنا ، فَإمّا بايعناهم على ما لا

__________________

1 ـ صحيح البخاري 8 : 26 ، كتاب المحاربين ، باب رجم الحبلى من الزنا إذا أحصنت.

2 ـ ذكر كلّ المؤرخين بأنّه لم يحضر في السقيفة إلاّ أربعة من المهاجرين ، فقوله : « فبايعته وبايعه المهاجرون يعارضه قوله : »وخالف عنّا علي والزبير ومن معهما » ، قاله في نفس الخطبة ، انظر : صحيح البخاري باب رجم الحبلى من الزنا ، من كتاب المحاربين ( المؤلف ).

١٥٦

نرضى وإمّا نخالفهم فيكون فسادٌ ، فمن بايع رجُلاً على غير مشورة من المسلمين فلا يبايعُ هو ولا الذي بايعه تَغِرَّةً أنْ يقُتْلا ».

فالمسأله عند عمر ليست انتخاباً واختياراً وشورى ، وإنّما يكفي أن يبادر أحد المسلمين بالبيعة لتكون حجّة على الباقين ، ولذلك قال لأبي بكر : أبسط يدك يا أبا بكر ، فبسط يده فبايعه بدون مشورة ولا ترّيث خوفاً من أن يسبق إليها أحد آخر.

وقد عبّر عمر عن هذا الرأي بقوله : خشينا إن فارقنا القوم ولم تكن بيعة أن يبايعوا رجُلاً منهم بعدنا ( خشي عمر أن يسبقه الأنصار فييايعوا رجُلاً منهم ) ويزيدنا وضوحاً أكثر عندما يقول : فإمَّا بايعناهم على ما لا نرضى وإمّا نخالفهم فيكون فسادُ(1) .

وحتى نكون منصفين في الحكم ومدقّقين في البحث ، يجبُ علينا أن نعترفَ بأنّ عمر بن الخطاب غيّر رأيه في البيعة في آخر أيام حياته ، وذلك عندما جاءه رجلٌ بمحضر عبدالرحمن بن عوف في آخر حجّة حجّها فقال : يا أمير المؤمنين هل لك في فلان يقول : لو قد مات عمرُ لقد بايعتُ فلاناً ، فواللّه ما كانت بيعة أبي بكر إلاّ فلتة فتمّتْ. فغضب عمر ، ولهذا قام في الناس خطيباً فور رجوعه إلى المدينة ، فقال من جملة ما قال في خطبته :

__________________

1 ـ صحيح البخاري 8 : 26 ، كتاب المحاربين ، باب رجم الحبلى من الزنا.

١٥٧

« إنّه بلغني أنّ قائلاً منكم يقول : واللّه لو مات عمر بايعتُ فلاناً ، فلا يغترنّ أمرؤ أن يقول إنّما كانت بيعةُ أبي بكر فلتةَ وتمّتْ ، ألاَ وإنّها كانتْ كذلك ولكنّ اللّه وقَى شرّها(1) ثمّ يقول : من بايع رجلاً عن غير مشورة من المسلمين فلا يُبايعُ هو ولا الذي بايَعهُ تَغِرَّةً أنْ يُقْتلاَ »(2) (3) .

__________________

1 ـ صحيح البخاري 8 : 26 ، كتاب المحاربين ، باب رجم الحبلى من الزنا.

2 ـ نفس المصدر السابق.

3 ـ أراد المؤلّف أن يوضح المنهجيّة المضطربة التي يتمتّع بها عمر بن الخطاب ومن يحذو حذوه ، إذ بينما يبايع أبا بكر لوحده يوم السقيفة ، ويسارع في مدّ يده للبيعة من دون أن يستشير المسلمين في ذلك ، نراه في آخر عمره يعرض عن ذلك الفعل ويحكم على فعله ومن يقلّده فيه بالقتل ، فللمؤلّف مؤاخذة على عمر بن الخطاب في التذبذب والاضطراب المنتهج الذي سلكه مع حزبه يوم السقيفة والذي شطب عليه نفسه في أُخريات حياته ، وما حذفه المؤلّف من الرواية ـ وهو : « وليس فيكم من تقطع الأعناق إليه مثل أبي بكر » ـ فلا مدخلية له في موضع استشهاده بكلام عمر بن الخطاب ، لأن ذلك شهادة من عمر في حقّ أبي بكر ، وهذا غير مرتبط بكلام المؤلّف؛ لأنّ كلامه عن فعل عمر يوم السقيفة من مبايعته أبي بكر من دون سبق مشورة من المسلمين ، وإذا به في آخر عمره يحكم على من يفعل الذي ارتكبه يوم السقيفة بالقتل.

وما هذا الاعتراض الذي اعترضه صاحب كشف الجاني في كتابه : 155

١٥٨

ليتَ عمر بن الخطاب كان على هذا الرأي يوم السقيفة ، ولم يستبدّ على المسلمين ببيعته لأبي بكر التي كانت فَلتَةٌ وقى اللّه شرّها ، كما شهد هو بذلك. ولكنْ أنّى لعمر أن يكون على هذا الرأي الجديد؛ لأنّه حكمَ على نفسه وعلى صاحبه بالقتل ، إذ يقول في رأيه الجديد : « من بايع رجلاً من غير مشورة من المسلمين فلا يُبايعُ هو وَلا الذي بايعَه تغرّةً أن يُقتلاً ».

بقي علينا أن نعرف لماذا غيّر عمر رأيه في آخر حياته بالرغم من أنّه يعرف أكثر من غيره بأنّه برأيه الجديد نسف بيعة أبي بكر من أساسها ، إذ إنّه هو الذي سبق لبيعته من غير مشورة من المسلمين فكانت فلتَةً ، ونسفَ أيضاً بيعتَه هو لأنّه وصل للخلافه بنصّ أبي بكر عليه عند الموت من غير مشورة من المسلمين ، حتّى إنّ بعض الصحابة دخلوا على أبي بكر مستنكرين عليه أن يولي عليهم فضَّاً غليظاً(1) .

ولمّا خرج عمر ليقرأ على الناس كتاب أبي بكر سأله رجلٌ : ما في

__________________

ليس له منشأ إلاّ الجهل ومحاولة تمويه القارئ بأنّ المؤلّف يبتر الكلام ويأخذ ما ينفعه.

1 ـ المصنّف لابن أبي شيبة 7 : 485 ح 46 ، تاريخ دمشق 30 : 413 ، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 1 : 164.

١٥٩

الكتاب يا أبا حفص؟ قال : لا أدري ، ولكنّي أوّل من سمع وأطاع ، قال الرجل : لكنّي واللّه أدري مافيه ، أمّرتَهُ عام أول ، وأمّرك العام(1) .

وهذا نظير قول الإمام عليّ لعمر عندما رآه يحمِلُ الناس قهراً لبيعة أبي بكر : « أحلب حلباً لك شطره ، واشدد له اليوم أمره يردده عليك غداً »(2) .

والمهم أنْ نعرف لماذا غيّر عمر رأيه في البيعة! أكادُ أعتقدُ بأنّه سمع بأنّ بعض الصحابة يريد بيعة عليّ بن ابي طالب بعد موت عمر ، وهذا ما لا يرضاه عمر أبداً ، وهو الذي عارض النصوص الصريحة ، وعارض أن يكتب رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ذلك الكتاب؛ لأنّه عرف فحواه حتىّ اتهمه بالهجر(3) ، وخوف الناس حتّى لا يقـولوا بموته(4) وذلك

__________________

1 ـ الإمامة والسياسية لابن قتيبة 1 : 38.

2 ـ الإمامة والسياسية لابن قتيبة 1 : 29 ، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 6 : 11.

3 ـ أمّا بالنسبة إلى منعه الكتابة فراجع : صحيح البخاري 1 : 37 ، كتاب العلم ، باب 40 و 7 : 9 كتاب المرضى ، باب 17 ، صحيح مسلم 5 : 76 ، كتاب الوصية ، باب 5 ، المصنّف لعبد الرزاق 5 : 439 ، صحيح ابن حبان 14 : 562 ، وغيره من المصادر الكثيرة.

أمّا عن اتهام عمر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالهجر فراجع : سرّ العالمين للغزالي : 40 وقال : « قال عمر : دعوا الرجل فإنّه يهجر ، وقيل : يهدر ».

١٦٠