نفحات عاشوراء

نفحات عاشوراء0%

نفحات عاشوراء مؤلف:
الناشر: دار الإمام الجواد (عليه السلام)
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 224

نفحات عاشوراء

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: الشيخ كاظم البهادلي
الناشر: دار الإمام الجواد (عليه السلام)
تصنيف: الصفحات: 224
المشاهدات: 41917
تحميل: 7064

توضيحات:

نفحات عاشوراء
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 224 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 41917 / تحميل: 7064
الحجم الحجم الحجم
نفحات عاشوراء

نفحات عاشوراء

مؤلف:
الناشر: دار الإمام الجواد (عليه السلام)
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

عن الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام أنّه قال: «اللّهمّ بلی، لا تخلوا الأرض من قائم لله بحُجةٍ؛ إمّا ظاهراً مشهوراً، وإمّا خائفاً مغموراً؛ لئلاّ تبطل حجج الله وبيّناته»(1) .

هذا المقطع من كلام أمير المؤمنينعليه‌السلام سيد البلغاء والمتكلّمين، الذي كلامه أمير الكلام، بل كلّ شيء فيه أمير، وهو الذي فقأ عيون البلاغة بكلمات ثلاث حسب ما عبّر العروضي الشهير الخليل بن أحمد الفراهيدي، حيث قال: لقد فقأ علي بن أبي طالبعليه‌السلام عيون البلاغة عندما قال: «إلهي، كفی بي عزّاً أن أكون لك عبداً، وكفی بي فخراً أن تكون لي ربّاً»(2) . أو قوله الآخر: «المرء مخبوء تحت طيِّ لسانه لا طيلسانه»(3) .

وعلی أيّة حال فهذا المقطع من كلامه الشريف كان من ضمن الحكم التي وجّهها لكميل بن زياد النخعي، وهي من الحكم الجامعة لمحاسن الكلام، وقد خرج بكميل نحو الجبّان - أي المقبرة - ثمّ أصحر به - أي أخذه نحو مكان صحراء - بعد ذلك تنفّس الصعداء، ثمّ قال هذه الحكمة المشهورة التي ابتدأها من قوله: «يا كميل، إنَّ هذه القلوب أوعية، فخيرها أوعاها، فاحفظ عنّي ما أقول لك».

وبدأ يستدرج معه في الحديث إلی أن وصل به المقام إلی بيان حاجة الإمام، فذكر هذا المقطع: «اللّهمّ بلی، لا تخلو الأرض من قائم لله بحجّةٍ؛ إمّا ظاهراً مشهوراً، وإمّا خائفاً مغموراً؛ لئلاّ تبطل حجج الله وبيّناته».

____________________

(1) نهج البلاغة - قسم الحكم / 147.

(2ـ3) الخصال / 420، رواه عن الشعبي لا عن الخليل.

٢١

قال ابن أبي الحديد في شرح النهج: كيلا يخلو الزمان ممّن هو يهيمن لله تعالی ومسيطر عليهم، وهذا يكاد يكون تصريحاً بمذهب الإماميّة، إلاّ أنّ أصحابنا يحملونه علی أنّ المراد به الأبدال الّذين وردت الأخبار النبوية عنهم أنّهم في الأرض سائحون(1) .

وهذا صرف لكلام أمير المؤمنينعليه‌السلام بلا قرينة حالية ‌أومقالية فلا يُعتنی به ولا يُلتفت إليه؛ فكلّ إنسان عاقل يفهم من كلام الأمير (سلام الله عليه) حاجة الأمّة إلی الإمام؛ إذ التعليل الذي ذكره الإمامعليه‌السلام لا يُناسب إلاّ ذلك؛ وذلك عند قوله: «لئلاّ تبطل حجج الله وبيّناته»، فهو يُناسب أن يكون هناك مَنْ يكون قوله حجّة لله تعالی، وليس هناك مَنْ يكون قوله حجّة علی الناس إلاّ حجج الله ومَنْ جعلوه هم. فمن هنا اتضح أنّ المقصود هو الإمامعليه‌السلام .

أضف إلی ذلك ما ورد من نصوص عديدة عن الأئمّةعليهم‌السلام بأنّهم حجّة الله علی العباد، كما ورد في كتاب الكافي الشريف روايات وروايات بهذا الخصوص في كتاب الحجّة منه الذي يأتي بعد كتاب التوحيد مباشرةً.

ومن هذه الروايات ما روي في الكافي الشريف عن أبي عبد الله الصادقعليه‌السلام أنّه قال: «إنّ الحجّة لا تقوم لله عزَّ وجلَّ علی خلقه إلاّ بإمام حتّی يُعرف»(2) .

____________________

(1) شرح نهج البلاغة 18 / 163.

(2) الكافي 1 / 177، كتاب الحجة ح2.

٢٢

الإمامة عند الشيعة

إنّ الإمامة عند الشيعة تختلف في حقيقتها وجوهرها عمّا لدی أهل السُنة؛ فهي عندنا إمرة إلهية، واستمرار لوظائف النبي والنبوّة سوی تحمّل الوحي الإلهي. ومقتضی هذا اتصاف الإمام بالشروط المشترطة في النبي، وعلی هذا سوف يَنحصر طريق ثبوت الإمامة بتنصيص من الله، وتنصيب من النبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله ، أو الإمام السابق.

أمّا عند غير الشيعة فهي لا تخضع إلی ميزان بل ليس لها ميزان؛ فتارةً يعتمدون علی تعيين السابق لللاحق، وأُخری علی الشوری، وثالثة علی السيف، إلی غير ذلك، وهي ليست عندهم من الاُصول الاعتقاديّة، أمّا عندنا فهي أصل من الاُصول الاعتقاديّة.

الأدلّة على هذا الأصل

الدليل الأوّل: الآيات والروايات

إنّ النبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله ‌ لم تكن مهمّته مقتصرة علی تلقّي الوحي الإلهي وتبليغه إلی الناس، بل كان يقوم بعدّة أمور:

منها: تفسيره للكتاب العزيز، وشرح مقاصده، وكشف أسراره، قال سبحانه وتعالی:( وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ ) (1) .

ومنها: بيان أحكام الموضوعات التي تحدث في زمن دعوتهصلى‌الله‌عليه‌وآله .

____________________

(1) سورة النحل / 44.

٢٣

ومنها: دفع الشبهات والجواب عن التساؤلات العويصة المريبة التي كان يثيرها أعداء الإسلام من يهود ونصاری.

ومنها: أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله كان يصون الدين من التحريف والدسِّ، ويراقبُ ما أخذه عنه المسلمون من اُصول وفروع حتّی لا تزلّ فيه أقدامهم.

هذه جملة من الأمور التي مارسها النبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله أيام حياته الشريفة، ومن المعلوم أنَّ رحلته تخلّف فراغاً هائلاً في هذه المجالات، فلا بُدّ من وجود مَنْ يسدّ هذا الفراغ الهائل؛ لأنّ الأمّة تحتاج إلی مَنْ يراقبها ويوضّح لها، ويأخذ بها إلی الطريق المستقيم في كُلِّ زمانٍ وفي كُلِّ مكانٍ، وإلاّ كيف يترك الله تبارك وتعالی هذه الأمّة بلا شخصٍ يُِرشدها ويفسرُّ لها، ويردّ الشبهات التي تعرَضها أو التساؤلات التي تتلقّاها، والأمّة لم تصل إلی مقام العصمة حتّی في زمن النبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله ؟!

وعليه فلا يمكن أن يكون هذا الفراغ الهائل بلا مَنْ يشغله، فلا بُدّ إذاً من وجود مَنْ يستودعه النبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله كلّ ما تلقّاه من المعارف والأحكام بالوحي، وأن تكون هذه الشخصية شخصية مثالية، لها كفاءة تقبّل هذه المعارف والأحكام وتحمّلها.

٢٤

الدليل الثاني: الأمّة الإسلاميّة ومثلّث الخطر الداهم

إنّ الدولة الإسلاميّة التي أسسها النبّي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله كانت محاصرةً حال وفاتهصلى‌الله‌عليه‌وآله من جهتي الشمال والشرق بأكبر إمبراطوريتين عرفهما تاريخ تلك الفترة، وكانتا علی جانب كبير من القوّة والبأس، وهُما: الروم والفرس.

الروم من الشمال، والفرس من الشرق، ويكفي في خطورة إمبراطورية الفرس أنّه كتب ملكها إلی عامله باليمن - بعد ما وصلت إليه رسالة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله تدعوه إلی الإسلام ومزّقها -: « ابعث إلی هذا الرجل بالحجاز رجلين من عندك جلدين فليأتياني به »(1) . هذه ‌هي الخطورة الخارجية التي تواجهها الأمّة الإسلاميّة من الخارج.

وأمّا من الداخل: فقد كان الإسلام والمسلمون يعانون من وطأة مؤامرات المنافقين الذين كانوا يشكّلون جبهة عُدوانية داخلية حتّی إنّ الباري عزّ وجلَّ أنزل فيهم سورة خاصة.

إذاً، عدّوان خارجيان وعدٌّو داخلي، فالمثلّث تام، ومن المحتمل جدّاً أن يتّحد هذا المثلث ليزلزل ما بناه النبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله . فما هي الوظيفة مع وجود هذا الخطر العظيم؟

هل الوظيفة هي تنصيب قائدٍ عارف حكيمٍ، له القدرة علی قيادة الأمّة ووظائفها حتّی يجتمع المسلمون تحت رايته، ويكونوا صّفاً واحداً في مُقابل

____________________

(1) تاريخ الطبري 2 / 296.

٢٥

ذاك الخطر؟ أو أنّ الوظيفة والمصلحة العامة تقتضي تفويض الأمر إلی الأمّة حتّی يختاروا لأنفسهم أميراً مع ما يحكيه لنا التاريخ من سيطرة الروح القبلية عليهم(1) ؟

إنَّ القائد العارف البصير هو مَنْ يعتني بالأوضاع الاجتماعية لأمتّه، ويلاحظ الظروف المحيطة بها، ويرسم علی ضوئها ما يراه صالحاً لمستقبلها، وعليه فلا بدّ من تعيين القائد والمدّبر، لا دفع الأمر إلی الأمّة، ومتی عرفت الأمّة مصلحتها؟!

الدليل الثالث: نصب الإمام لُطفٌ إلهي

والدليل الثالث والمهم في المقام هو ما سلكه السيد المرتضیرحمه‌الله في الاستدلال، بأنَّ نصب الإمام لطف من الله علی العباد، واللطف واجبٌ علی الله تعالی؛ لِما تقتضيه حكمته؛ وذلك لأنَّ اللطف ما يُقّرب إلی الطاعة ويُبعّد عن المعصية ولو بالإعداد، وبالضرورة أن نصب الإمام كذلك؛ لِما به من بيان المعارف والأحكام الإلهية، وحفظ الشريعة من الزيادة والنقصان، وتنفيذ الأحكام، ورفع الظلم والفساد ونحوها.

وأمّا كونه واجباً عليه تعالی؛ فلأنّ ترك اللطف من الله سبحانه وتعالی إخلال بغرضه ومطلوبه، وهو طاعة العباد له وترك معصيته فيجب نصبه لئلاّ

____________________

(1) الكامل في التاريخ 2 / 145، وانظر الإلهيات / 361.

٢٦

يخلّ بغرضه(1) .

ولذا استدلّ أصحاب الأئمّةعليهم‌السلام بأدلّة قوية لبيان أهمّية الإمام، منها هذه الرواية الشريفة: روى عليُّ بن إبراهيم عن أبيه، عن الحسن بن إبراهيم، عن يونس بن يعقوب قال: كان عند أبي عبد اللهعليه‌السلام جماعة من أصحابه، منهم: حمران بن أعين، ومحمد بن النعمان، وهشام بن سالم، والطيّار، وجماعة فيهم هشام بن الحكم، وهو شابٌّ، فقال أبو عبد اللهعليه‌السلام : «يا هشام، ألا تخبرني كيف صنعت بعمرو بن عبيد، وكيف سألته؟».

فقال هُشام: يابن رسول الله، إنّي أجلُّك وأستحييك، ولا يعمل لساني بين يديك.

فقال أبو عبد الله: «إذا أمرتكم بشيء فافعلوا».

قال هشام: بلغني ما كان فيه عمرو بن عبيد وجلوسه في مسجد البصرة، فعظم ذلك عليّ، فخرجتُ إليه، ودخلتُ البصرة يوم الجُمعة، فأتيتُ مسجد البصرة فإذا أنا بحلقةٍ كبيرة فيها عمرو بن عبيد، وعليه شملةٌ سوداء متّزر بها من صُوفٍ، وشملة مرتد بها، والناس يسألونه، فاستفرجتُ الناس فأفرجوا لي، ثمّ قعدتُ في آخر القوم علی ركبتيّ، ثمّ قُلتُ: أيُّها العالم، إنّي رجلٌ غريبٌ تأذن لي في مسألة؟

فقال لي: نعم.

فقلتُ له: ألك عينٌ؟

‌فقال: يا بُني، أي شيء هذا من السؤال؟! وشيء تراه كيف تسأل عنه؟!

فقلتُ: هكذا مسألتي.

فقال: يا بُني، سَلْ وإن كانت مسألتك حمقاء.

قُلتُ: أجبني فيها.

قال لي: سل.

____________________

(1) نقلنا ذلك من كتاب الإلهيات - للشيخ جعفر السبحاني / 357 - 364.

٢٧

قُلتُ: ألك عينٌ؟ قال: نعم. قُلتُ: فما تصنع بها؟ قال: أری بها الألوان والأشخاص. قُلتُ: فلك أنفٌ؟ قال: نعم. قُلتُ: فما تصنع به؟ قال: أشمُّ به الرائحة. قُلتُ: ألك فمٌ؟ قال: نعم. قُلتُ: فما تصنع به؟ قال: أذوقُ به الطعام. قُلتُ: فلك اُذنٌ؟ قال: نعم. قُلتُ: فما تصنع بها؟ قال: أسمعُ بها الصوت.‌ قلتُ: ألك قلبٌ؟ قال: نعم. قلتُ: فما تصنع به؟ قال: اُميزُّ به كلّما ورد علی هذه الجوارح والحواسّ. قُلتُ: أوَليس في هذه الجوارح غنیً عن القلب؟ فقال:‌ لا. قُلتُ: وكيف ذلك وهي صحيحة ٌ سليمة؟ قال: يا بُني، إنَّ الجوارح إذا شكّت في شيءٍ شمّته أو رأته أو ذاقته أو سمعته ردّته إلی القلب؛ فيستيقن اليقين ويُبطل الشكّ. قال هُشام: فقُلت له: فإنّما أقام الله القلب لشك الجوارح؟ قال: نعم. قُلتُ: لا بُدّ من القلب وإلاّ لم تستيقن الجوارح؟ قال: نعم.

فقلتُ له: يا أبا مروان، فالله تبارك وتعالی لم يترك جوارحك حتّی جعل لها إماماً يُصحّحُ لها الصحيح، ويتيقن به ما شكّ فيه، ويترك هذا الخلق كُلهم في حيرتهم وشكّهم واختلافهم لا يقيمُ لهم إماماً يردّون إليه شكّهم وحيرتهم، ويقيمُ لك إماماً لجوارحك تردُّ إليه حيرتك وشكّك!

قال: فسكت ولم يقُلْ شيئاً، ثمّ التفت إليّ فقال لي: أنت هُشام بن الحكم؟

فقلتُ: لا. قال: أمن جُلسائه؟ قُلت: لا. قال: فمن أين أنت؟ قال: قُلتُ من أهل الكوفة.

قال: فأنت إذاً هو. ثمّ ضمنّي إليه، وأقعدني في مجلسه، وزال عن مجلسه وما نطق حتّی قُمت.

٢٨

قال: فضحك أبو عبد اللهعليه‌السلام وقال: «يا هُشام، مَنْ علَّمكَ هذا؟».

قُلتُ: شيءٌ أخذته مِنْكَ وألَّفته.

فقال: «هذا والله مكتوبٌ في صُحف إبراهيم وموسی»(1) .

فهكذا هو حال الإمام المعصومعليه‌السلام قلبُ الإنسان، فهو بلا إمام كأنّما بلا قلب، وكيف بالإنسان إذا كان بلا قلب، أو دخل السهم المثلّث إلی قلبه؟!

قال أربابُ المقاتل: كان الحسينعليه‌السلام يقول: عندما برز إلی القتال:

أنـا الحسينُ بنُ علي

آلـيت أن لا أنـثني

أحـمي عـيالات أبي

أمضي علی دين النبيّ

وأخذ يضرب فيهم يميناً وشمالاً حتّی قتل منهم خلقاً كثيراً، فلّما نظر الشمر إلی ذلك أقبل إلی عمر بن سعد وقال: أيُّها الأمير، إنَّ هذا الرجل يفنينا عن آخرنا مبارزةً. قال: كيف نصنعُ به؟

قال: نفترق عليه من كلِّ مكانٍ، فافترقوا عليه؛ فرقةٌ ترميه بالنبال والسهام والحجارة، وفرقة يطعنونه بالرماح، وفرقة يضربونه بالسيوف حتّی أثخنوه بالجراح.

قال في اللهوف: حتّی أصابته اثنان وسبعون جُراحة.

فوقف ليستريح ساعةً وقد ضعف عن القتال، فبينما هو واقفٌ إذ أتاه حجرٌ فوقع في جبهته، فسالت الدماء علی‌ وجهه ولحيته.

____________________

(1) الكافي 1 / 169 - 171، كتاب الحجة ح3.

٢٩

فأخذ الثوب ليمسح الدم عن وجهه إذ أتاه سهمٌ محدّد له ثلاث شُعب فوقع في قلبه، ثمّ أخذ السهم وأخرجه من وراء ظهره، فانبعث الدم كالميزاب، فوضع يده علی الجرح، فلّما امتلأت رمی بها إلی السماء فما رجع من ذلك الدم قطرة، ثمّ وضع يده تحت الجُراح، فلّما امتلأت دماً لطخ بها رأسه ولحيته، وقال: «هكذا والله أكونُ حتّی ألقی جدّي محمداً وأنا مخضوبٌ، وأقولُ: يا رسولَ الله، قتلني فلان وفلان»(1) .

هذا وزينبعليها‌السلام تنظر أخاها بلا معين، ولا مؤازر، ولا عشيرة بعد ما خرجت مع أهل بيتها:

دنـظر لـلعشيره اشـكثر حلوه

تـحلّ الـموزمه أو تكشف البلوه

أدّوا لـبو اليمه اشـروط الأخوه

أو سـوّوا يـوم إله للحشر تذكار

الـفواطم لـو اثلاثه مـن زلمها

عگب احسين كون احضرت يمّها

چا مـحّد جـسر يـحرك خيمها

ولا سـلبوا يتيمه ولا نهب صار

أنـه اتمنيت هالنهضه انهضوها

الـزينب يـوم اجـوها ايسلبّوها

والـذيـج الـيتيمه الـروّعوها

ابـضربها أوتلتهب بذيالها النار

____________________

(1) مجمع المصائب 1 / 253 - 255.

٣٠

(بحراني):

فـرّت يـتيمة امدوهنة امن اخيام الحسين

تـبچي أوتنادي ياخلكَ درب الغري منين

گلـها عـدوا من الگوم اسـمعي ياحزينه

ابـعيد الـغري ويـنچ يـهالحرة ويـنه

مـمشه ثـلث تـيّام چانچ تـوصلينه

واشـلون بـس وحدچ إبهذا البر تسيرين

گالـت أبـوي حـسين دلـيني بـجسمه

إيگولـون من فوگ الثری امخضّب إبدمه

إبـيا كتر صارت صيحته أرد أصل يمّه

بلچت يحاچيني أمن أنادي ابصوت يحسين

* * *

أحـبايَ لو غيرُ الحِمام أصبابَكُم

عتبتُ ولكن ما على الموتِ معَتَبُ

* * *

إنّا لله وإنّا إليه راجعون، ولا حول ولا قوّة إلاّ بالله العليّ العظيم،

وسيعلم الذين ظلموا آل محمّد أيَّ مُنقلبٍ ينقلبون

والعاقبة للمتقين.

٣١

٣٢

المجلس الثاني

معجزات الحسينعليه‌السلام

٣٣

٣٤

المجلس الثاني

معجزات الحسينعليه‌السلام

اللهُ أيُّ دمٍ في كـربـلا سُـفكا

لم يجرِ في الأرض حتّى أوقف الفلكا

وأيُّ خيلِ ضلالٍ في الطفوفِ عدت

عـلى حـريمِ رسـولِ اللهِ فانتهكا

يـومٌ بـحاميةِ الإسـلامِ قد نهضتْ

لهُ حـمـيةُ ديـنِ اللهِ إذ تـركا

رأى بأنّ سـبيلَ الـغي مـتّبعٌ

والـرشدَ لـم تـدرِ قـومٌ أيّةً سُلكا

والـناسَ عـادت إلـيهم جاهليتهمْ

كـأنَّ مَـنْ شـرّع الإسلامَ قد أفكا

وقد تـحكّمَ بـالإسلامِ طـاغيةٌ

يُـمسي ويُـصبحُ بالفحشاءِ منهمكا

لـم أدرِ أين رجالُ المسلمينَ مضوا

وكـيفَ صـارَ يـزيدٌ بـينهم ملكا

الـعاصرُ الـخمرَ من لؤمٍ بعنصره

ومـن خـساسةِ طبعٍ يعصرُ الودكا

لـئن جـرت لفظةُ التوحيدِ في فمهِ

فـسيفهُ بـسوى الـتوحيدِ مـا فتكا

قـد أصـبحَ الدينُ منه يشتكي سقماً

ومـا إلـى أحـدٍ غيرَ الحسينِ شكا

فـما رأى السبطُ للدينِ الحنيفِ شفا

إلاّ إذا دمـهُ فـي كـربلا سُفكا(1)

____________________

(1) القصيدة للسيد جعفر الحلّيرحمه‌الله ، قال عنه السيّد جواد شبّررحمه‌الله في أدب الطفّ: السيد جعفر كمال الدين الحلّي النجفي. عُرفت هذه الأسرة بالانتماء إلى الجدّ السادس لصاحب هذه الترجمة، وهو السيد كمال الدين بن منصور، فهو جدّ الأسرة الكمالية المنتشرة في الحلّة وضواحيها، والنجف والكوفة، وقد كتب عنها مفصّلاً الخطيب اليعقوبي في (البابليات).

كما أقام الشواهد على شاعريته، وسرعة البديهة عنده، وديوانه أصدق شاهد على سموّ شعوره، وكان من حقّه أن يطلق اسم (سحر بابل وسجع البلابل) على ديوانه قبل أن يُجمع، والذي جمعه أخوه السيد هاشم بعد وفاة الشاعر. توفي فجأة في شعبان لسبع بقين من سنة 1315 هـ، ودُفن في وادي السلام بالنجف الأشرف عند قبر والده على مقربة من مقام الإمام المهدي (عجّل الله تعالى فرجه)...

نشأ السيد جعفر فاستطرف قدر حاجته من مبادئ النحو والصرف، والمنطق والمعاني والبيان، وصار يختلف إلى مدارس العلماء وحوزاتها الحافلة بالفقه، وهو في كل ذلك حلو المحاضرة، سريع البداهة، حسن الجواب، نبيه الخاطر، متوقد القريحة، جريّ اللسان...

برع في نظم الشعر وهو دون الثلاثين، وأصبح من الشعراء المعدودين الذين تلهج الألسن بذكرهم وتتغنى بشعرهم... وأشهر قصيدة له رائعته التي مطلعها:

وجهُ الصباح عليّ ليلٌ مظلمُ

وربيعُ أيامي عليّ محرّمُ

وهذه القصيدة التي تزيد على السبعين بيتاً كلّها من الشعر المنسجم. (أدب الطفّ 8 / 99 - 110).

٣٥

ولسان حال الزهراءعليها‌السلام لمّا نظرت إلى ولدها، يصفها الشاعر:

(فايزي):

شـلتك ابـطني تسعة أشهر يا حنيني

وسـهرت لـيلي اُووسديتك عن يميني

تـاليها مرمي عله الثرى تنظرك عيني

عگب الدلال على التريبه اتنام يحسين

***

يـحسين يـبني مصرعك گطّع گليبي

يـاريت دونـك يـذبحوني يا حبيبي

أبـروحي فديتك وشربت صافي حليبي

اُو برباك يوليدي اسهرت يا گرة العين

(أبو ذيّة):

الحراير من لهيب النار هاجن

ولعد جسمك يبو السجاد هاجن

تگللك عـلينه الـليل هاجن

وانـته امـوسد الغبره رميه

وكأنّي بالحرائر:

يفترّن خوات احسين من خيمة لعد خيمه

ينخن وين راحوا وين ما كو بالكفر شيمه

كلّ خيمه تشبّ ابنار ردّن ضربن الهيمه

والسجّاد إجوسحبوه أودمعه على الوجن ساله

٣٦

روى محمّد بن مسلم عن الإمامين الباقر والصادقعليهما‌السلام ، قال: سمعتهما يقولان: «إنّ الله تعالى عوّض الحسينعليه‌السلام من قتله أن جعل الإمامة في ذرّيته، والشفاء في تربته، وإجابة الدعاء عند قبره، ولا تعدّ أيام زائره جائياً وراجعاً من عمره».

قال محمّد بن مسلم: فقلت لأبي عبد اللهعليه‌السلام : هذه الخلال تنال بالحسين، فما له هو في نفسه؟

قال: «إنّ الله تعالى ألحقه بالنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله فكان معه في درجته ومنزلته». ثمّ تلا أبو عبد اللهعليه‌السلام :( وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُم ) (1) .

الإمام الحسينعليه‌السلام مدهش للعقول، محيرٌّ للألباب؛ لكثرة ما صدر منه من معجزات ظاهرات، وكرامات باهرات، حتّى نُقل عن السيد البحراني أنّه ذكر مئتين في كتابه « مدينة المعاجز ».

ويمكن تقسيم تلك المعجزات إلى عدّة أقسام من حيث كونها قبل الولادة وبعد الولادة وبعد الشهادة إلى غير ذلك.

روى الأوزاعي عن عبد الله بن شدّاد، عن اُمّ الفضل أنّها دخلت على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فقالت: يا رسول الله، رأيت الليلة حُلماً منكراً!

قال: «وما رأيت؟».

فقالت: إنّه شديد!

قال: «وما هو؟».

قالت: رأيت كأنَّ قطعةً من جسدك قُطعت ووضِعت في حجري.

فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : «خيراً رأيتِ؛ تلد فاطمة غلاماً فيكون في حجرك».

فولدت الحسينعليه‌السلام وكان في حجري كما قال (صلوات الله عليه وآله). قالت: دخلت به يوماً على النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله فوضعته في حجره، ثمّ حانت منّي التفاتة فإذا عينا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله تهرقان بالدموع، فقلت: بأبي أنت واُمّي يا رسول الله! ما لك؟!

____________________

(1) إعلام الورى 1 / 431، والآية من سورة الطور / 21.

٣٧

قال: «أتاني جبرئيل فأخبرني أنّ اُمّتي ستقتل ابني هذا، وأتاني بتربة من تربة حمراء»(1) .

وعن اُمّ سلمة (رضي الله عنها) قالت: إنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله خرج من عندنا ذات ليلة فغاب عنّا طويلاً، ثمّ جاءنا وهو أشعث أغبر، ويده مضمومة، فقلت له: يا رسول الله، ما لي أراك شعثاً مغبرّاً؟!

فقال: «أُسِري بي في هذه الليلة إلى موضع من العراق يُقال له: كربلاء، فاُريت فيه مصرع الحسين ابني، وجماعة من ولدي وأهل بيتي، فلم أزل ألقط من دمائهم، فها هي في يدي»، وبسطها فقال: «خذيه واحتفظي به».

فأخذته فإذا هو شبه تُراب أحمر، فوضعته في قارورة، وشدّدت رأسها واحتفظت بها، فلمّا خرج الحسينعليه‌السلام متوجّهاً نحو العراق كنت أخرج تلك القارورة في كلّ يوم وليلة فأشمّها، وأنظر إليها ثمّ أبكي لمصابه.

فلمّا كان يوم العاشر من المحرّم - وهو اليوم الذي قُتل فيه - أخرجتها أوّل النهار وهي بحالها، ثمّ عُدت إليها آخر النهار فإذا هي دم عبيط، فصحت في بيتي، وكظمت غيظي؛ مخافة أن يسمع أعداؤهم بالمدينة فيسرعوا بالشماتة، فلم أزل حافظة للوقت واليوم حتّى جاء الناعي ينعاه فحقّق ما رأيت(2) .

وأمّا معجزاته في يوم عاشوراء فهي عديدة، نذكر بعضاً منها:

فمنها: دعاعليه‌السلام على أحد أعدائه « حويزة » الذي قال للإمامعليه‌السلام : تعجّلت

____________________

(1) إعلام الورى 1 / 427.

(2) المصدر نفسه / 429.

٣٨

بالنار قبل يوم القيامة؟

فقالعليه‌السلام : «الَّلهُمّ حزه إلى النار». فوقع في النار(1) .

ودعاعليه‌السلام على ذاك الذي قال: يا حسين، لن تذوق الماء حتّى ترد الحامية فتشرب من حميمها.

فقالعليه‌السلام : «الَّلهُمّ اقتله عطشاً». فما زال يشرب حتّى فتقت بطنه(2) .

ودعاعليه‌السلام على ذاك الذي اعترضه في خطابه، فقالعليه‌السلام : «الّلهمّ أرنا فيه ذلاً بارزاً». فمضى لقضاء حاجته فلسعته عقرب، فسقط وهو يستغيث ويتقلّب على حدثه(3) . وغيرها من المعجزات الباهرة، والكرامات التي حيّرت العقول، وأذهلت البشر، وكيف لا وهو ابن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ؟!

ويكفيه فخراً (صلوات الله عليه) ما ذكرناه في الحديث الذّي افتتحنا به المجلس أن جعل الله الأئمّة من ذرّيته، والشفاء في تربته لكثير من الأمراض المستعصية وغيرها، حتّى روي عن العلاّمة السيد نعمة الله الجزائري أنّه كان يُطالع على ضوء القمر؛ لأنّه كان لا يمتلك ثمن زيت للسراج؛ لشدّة فقره، فكان يضعف بصره، فيكتحل بتربة سيد الشهداءعليه‌السلام فيتضاعف بصره أضعافاً مضاعفةً.

ومن هنا ينبغي الالتفات جيداً إلى الاهتمام بتربة الأئمّةعليهم‌السلام ، وبالخصوص تربة سيد الشهداءعليه‌السلام ؛ فقد ظهرت من التربة الشريفة كرامات مشاهدة

____________________

(1) تاريخ الطبري4 / 327، مناقب آل أبي طالب 3 / 214.

(2) تاريخ الطبري 4 / 312.

(3) مناقب آل أبي طالب 3 / 215، بحار الأنوار 45 / 302.

٣٩

قال في البحار: روى شيخنا الطوسيعليه‌السلام عن موسى بن عبد العزيز قال: لقيني يوحنّا بن سراقيون النصراني الطبيب فأستوقفني، وقال لي: بحقّ نبيّك ودينك، مَنْ هذا الذي يزور قبره قوم منكم بناحية قصر بن هبيرة؟ مَنْ هو من أصحاب نبيّكم؟

قلت: هو ابن بنت نبيّنا، فما دعاك إلى المسألة عنه؟

فقال: عندي حديث طريف.

قلت: حدّثني به.

فقال: وجّه إليّ خادم الرشيد شابور الكبير في الليل، فصرت إليه، فقال: تعال معي. فمضى وأنا معه حتّى دخلنا على موسى بن عيسى الهاشمي، فوجدناه زائل العقل، متكئاً على وسادة، وإذا بين يديه طشت فيها حشو جوفه، فأقبل شابور على خادم موسى وسأله عن سبب تغيّر حاله، وقال له: ويحك فأخبره!

فقال له: أخبرك؛ إنّه كان من ساعته جالساً وحوله ندماؤه، وهو من أصح الناس جسماً وأطيبهم نفساً؛ إذ جرى ذكر الحسين بن عليعليه‌السلام ، فقال موسى: إنّ الرافضة ليغلون فيه حتّى أنّهم يجعلون تربته دواءً يتداوون به!

فقال لهم رجل من بني هاشم كان حاضراً: قد كانت بي علّة غليظة فتعالجت لها بكلّ علاج فما نفعني حتّى وصف لي كاتب أن آخذ من هذه التربة، فأخذتها فنفعني الله بها، وزال ما كنت أجده.

فسأله موسى: هل بقي منها عندك شيء؟

قال: نعم.

فوجّه فجيء منها بقطعة، فناولها إيّاه، فأخذها موسى وأدخلها في دبره؛ استهزاءً بمَنْ تداوى بها، واحتقاراً وتصغيراً بالحسينعليه‌السلام ، فما

٤٠