نفحات عاشوراء

نفحات عاشوراء0%

نفحات عاشوراء مؤلف:
الناشر: دار الإمام الجواد (عليه السلام)
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 224

نفحات عاشوراء

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: الشيخ كاظم البهادلي
الناشر: دار الإمام الجواد (عليه السلام)
تصنيف: الصفحات: 224
المشاهدات: 41919
تحميل: 7064

توضيحات:

نفحات عاشوراء
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 224 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 41919 / تحميل: 7064
الحجم الحجم الحجم
نفحات عاشوراء

نفحات عاشوراء

مؤلف:
الناشر: دار الإمام الجواد (عليه السلام)
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

الاختبار لعِباده، وهو العالم بكلِّ الخفايا والأسرار؟! وهل هناك شيء خفي عنه سبحانه وتعالى حتّى يظهر له بهذا الامتحان؟!

والجواب: إنّ مفهوم الاختبار الإلهي يختلف عن الاختبار البشري؛ فاختباراتنا البشرية بين بعضنا والبعض الآخر هي - كما ذُكر آنفاً - لرفع الإبهام والجهل، وأمّا الاختبار الإلهي فالأمر فيه ليس كذلك، بل المقصود منه التربية.

فالاختبار الإلهي يشبه عمل زارعٍ خبيرٍ ينثر البذور الصالحة في الأرض الصالحة كي تستفيد هذه البذور من مواهب الطبيعة وتبدأ بالنمو، ثمّ تصارع هذه البذور كلّ المشاكل والصعاب بالتدريج، وتقاوم الحوادث المختلفة كالرياح العاتية والبرد الشديد والحرّ اللافح؛ لتخرج بعد ذلك نبتة مزهرة، أو شجرة مثمرة تستطيع أن تواصل حياتها أمام الصعاب. وهذا هو سرّ الاختبارات الإلهية.

قال سبحانه وتعالى:( وَلِيَبْتَلِيَ اللهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحَّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ) (1) ، مع أنّه تبارك وتعالى عليم بذات الصدور ولا تخفى عليه خافية في السماوات ولا في الأرض، وما تسقط من ورقة ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلاّ وهو تعالى مطّلع عليه وحاضر لديه، ومع هذا يبتلي عباده لا ليفهم ويطّلع بل ليربّي ويروّض.

ومن هنا يقول أمير المؤمنينعليه‌السلام في نهج البلاغة مبيّناً سبب الاختبارات

____________________

(1) سورة آل عمران / 154.

١٨١

الإلهية: «... وإن كان سبحانه أعلم بهم من أنفسهم، ولكن لتظهر الأفعال التي بها يُستحقُ الثواب والعقاب»(1) .

أي إنّ الصفات الكامنة لا يمكن أن تكون وحدها معياراً للثواب والعقاب، فلا بدّ أن تظهر من خلال أعمال الإنسان، والله يختبر عِباده ليتجلّى ما يضمرونه في أعمالهم، ولكي تنتقل قابليّاتهم من القوّة إلى الفعل؛ وبذلك يستحقون الثواب أو العقاب.

فإذا صبر الإنسان على ما أصابه به الله تبارك وتعالى من خوف أو جوعٍ، أو نقصٍ في الثمرات أو الأنفس، إلى غير ذلك أعطى الصبرُ نتائجَه؛ لأنّ لكلّ زرعٍ ثمراً، ولكلّ فعل ردّ فعل.

وأوّل نتائج الصبر هذا هي ما ذكرته الآية الأخيرة التي صدّرنا بها المجلس، وهي قوله تعالى:( أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ ) .

هذه الصلوات والرحمة تجعل هؤلاء على بصيرةٍ من أمرهم في مسيرتهم الحياتية المحفوفة بالمزالق والأخطار؛ لذلك تقول الآية:( وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ ) (2) .

والنتيجة الثانية المترتبة على الصبر أيضاً: هي الراحة في دار الدنيا، والثواب العظيم في الآخرة.

والنتيجة الثالثة: هي حبّ الله تبارك وتعالى للصابرين. قال تعالى:( واللهُ يُحِبُّ

____________________

(1) نهج البلاغة، الكلمات القصار 4 / 645 رقم الكلمة 93.

(2) تفسير الأمثل 1 / 441.

١٨٢

الصَّابِرِينَ ) (1) .

والنتيجة الرابعة: هي كون الله تبارك وتعالى معهم. قال تعالى:( وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ) (2) .

والنتيجة الخامسة: هي التحيّة من الله (عزّ وجلّ) والسّلام. قال تعالى:( سَلاَمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ ) (3) . إلى غير ذلك من النتائج.

هذا فيض من غيضٍ، وقطرة من بحر متلاطم، وقليل من كثير من النتائج المترتّبة على التمسّك بالصبر، وإلاّ فالآيات عديدة والروايات كثيرة، وكثيرة جدّاً في الصبر وأجره، وما أعدّ الله للصابرين فقد تخرج عن حدّ الإحصاء.

منها ما روي عن نبي الله عيسىعليه‌السلام أنّه مرَّ برجلٍ أعمى وأبرص ومقعد مضروب الجنبين بالفالج، قد تناثر لحمه من الجذام، وهو يقول: الحمد لله الذي عافاني ممّا ابتلى به كثيراً من خلقه.

فقال له نبي الله عيسىعليه‌السلام : يا هذا! وأيّ شيء من البلاء تراه مصروفاً عنك؟

فقال: يا روح الله، أنا خير ممّن لم يجعل الله في قلبه ما جعل في قلبي من معرفته.

فقال: صدقت، هات يدك. فناوله يده فإذا هو أحسن الناس وجهاً، وأفضلهم هيئة، قد أذهب الله عنه ما كان به(4) .

____________________

(1) سورة آل عمران / 146.

(2) سورة الأنفال / 46.

(3) سورة الرعد / 24.

(4) مُسكنُ الفؤاد / 87، وبحار الأنوار 79 / 153 - 154.

١٨٣

هذا الرجل الذي سمعتم حكايته كان يحمد الله على معرفته به، لكن من المقطوع به لم يُصب كما أصاب الدهر صاحب المصيبة والرزية العظمى، حيث ورد عنهعليه‌السلام أنّه قال - بعد أن تفاقم الخطب أمامه في كربلاء، واستشهد أصحابه وأهل بيته -: «هوّن عليّ ما نزل بي أنّه بعين الله»(1) .

ما أعظمكم يا آل محمّدٍ! انظروا أنّه يقول - بأبي وأمّي! -: إنّ الذي خفّف عليّ هذه المصائب وهذه الرزايا والمحن هو كونها في منظر الله تبارك وتعالى، فهو يعلم بها ويحتسبها عنده ليوم لا ريب فيه.

ولكن يقول كما يقول جدّه المصطفىصلى‌الله‌عليه‌وآله : «العين تدمع، والقلب يحزن، وإنّا بفراقِك يا إبراهيم لَمحزونون»(2) .

وكذلك وإنّا بفراقك يا عليّ الأكبر لمحزونون، وخاصّة أنّه أشبه الناس خَلقاً وخُلقاً ومنطقاً بالنبيِّ الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فالحسينعليه‌السلام يوم عاشوارء - بالحقيقة - فقد النظر إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وهذا ما يعظم الخطب.

ولذا قالوا: إنّ أبا عبد الله الحسينعليه‌السلام صار في حالة احتضار عند مصرع ولده عليّ الأكبر، زينبعليها‌السلام تعلم بأنّه إذا بقي الحسينعليه‌السلام عند مصرع ولده علي واضعاً خدّه على خدّ ولده سوف تفارق روحه الدنيا، فأرادت زينبعليها‌السلام أن تحافظ على حياة أخيها الحسينعليه‌السلام ، وأن تشغله عن مصيبة ولده، فلمّا رأت ذلك خرجت من الخيمة تنادي: وا علياه! وا نور بصراه! وا ثمرة فؤاداه!

لمّا سمع الحسينعليه‌السلام صوت

____________________

(1) اللهوف / 69، عنه البحار 45 / 46.

(2) صحيح البخاري 2 / 85.

١٨٤

زينب قام إليها قائلاً: «اُخيّه زينب، ارجعي إلى الخيمة، لا تُشمتي بنا الأعداء».

ولكن زينب أقبلت حتّى رمت بنفسها على جسد علي الأكبر، وهي تنادي: وا علياه!

هـوت فـوگه تحب خدّه وتشمّه

وغدت تصبغ وجهها ابفيض دمه

عـسه ابـعيد الـبله تگله يعمّه

عـله الـتربان نايم ليش بالحر

بعد ذلك خرجت إليه اُمّه ليلى بعدما أتوا به إلى المخيّم، وقعت عليه، احتضنته، تشمه وتضمّه، أحطن به عماته وأخواته يبكينه ويندبن عليه، وكذلك حضر والده الحسينعليه‌السلام ، وكأنّي به يخاطب ولده الأكبرعليه‌السلام :

يـبويه اشـلون ما تبچي الزچيه

أوگطـع يبني الدهر وصلك عليّه

يـبويه جـدّك أوجـدّتك هـيه

اعتنوا يبني يعزّوني على فگدك

يـبويه يـا لفجعني ابفگدك البين

يا روحي اوچبدتي اوشوفت العين

اشـحال اُمّك الظلّت بالصواوين

تـهل اعيونها اُوتربي أعله دربك

١٨٥

أمّا اُمّه ليلى فكأنّي بها تخاطبه:

گلبي إبيا سبب يبني وداعي

تصد عنّي أولا تسمع وداعي

أنـا ما أطلب بحگي وداعي

گلي اُوداعة الله اُوهاي هيّه

* * *

يا كوكباً ما كان أقصر عمرَه

وكذا تكون كواكبُ الأسحارِ

* * *

إنّا لله وإنّا إليه راجعون، ولا حول ولا قوّة إلاّ بالله العليّ العظيم،

وسيعلم الذين ظلموا آل محمّد أيَّ مُنقلبٍ ينقلبون

والعاقبة للمتقين.

١٨٦

المجلس الثالث عشر

حسن الظنّ وسُوء الظنّ

١٨٧

١٨٨

المجلس الثالث عشر

حسن الظن وسُوء الظن

أيـطيبُ عـيشي بعدَ وقعةِ كربلا

وأكونُ فـيـما أرتـديهِ أنـيقا

وأذوقُ طـعمَ الـماءِ وابـنُ محمّدٍ

مـا ذاقَـهُ حتّى الـحمامَ أُذيـقا

لا عـذرَ لـلشيعيِّ يـرقى دمـعُه

ودمُ الـحـسينِ بـكربلاءِ اُريـقا

فـيكَ اسـتُبيحَ حـريمُ آلِ مـحمّد

وتـمـزّقتْ أسـبـابُهم تـمـزيقا

قـتلوا الحسينَ وروّعوا قلبَ الهُدى

ظُـلـماً وفُـرّقَ شـملُه تـفريقا

تـركـوهُ عـارٍ بـالفلاةِ وأقـبلوا

نـحـو الـمخيّمِ ألـهبوه حـريقا

لـهفي لـزينبَ بـعدَ فـقدِ حمُاتِها

قطعتْ معَ الخصمِ المشومِ طريقا(1)

____________________

(1) الأبيات الأربعة الاُولى للشاعر محمّد السوسي ذكرها العلاّمة المجلسيرحمه‌الله في البحار 45 / 245، مع تغيير في بعض الكلمات، وما عداها فهي لاُستاذنا الشيخ محمّد سعيد المنصوريرحمه‌الله ، ذكرها في ميراث المنبر / 67 الطبعة الحديثة. قال السيد جواد شبّررحمه‌الله في أدب الطفّ مترجماً للشاعر السوسي: الأمير أبو عبد الله محمّد بن عبد الله بن عبد العزيز بن محمّد السوسي، توفي في حدود سنة 370، ودُفن بحلب. كان فاضلاً أديباً كاتباً بحلب، وسافر إلى فارس، ثمّ عاد إلى محلّه. ذكره ابن شهر آشوب في معالم العلماء في شعراء أهل البيتعليهم‌السلام المجاهرين... والسوسي نسبة إلى السوس: كورة بالأهواز فيها قبر دانيالعليه‌السلام ، معرب شوش، وبلد بالمغرب، وبلد آخر بالروم. (أدب الطفّ 2 / 119). وأما شيخنا الاُستاذ المنصوري فهو الخطيب الكبير، وشيخنا واُستاذنا محمّد سعيد ابن الشيخ موسى المنصوري. ولد في النجف الأشرف، ثمّ هاجر إلى إيران في حدود الستّينيات، وسكن مدينة عبادان، وبقي ينتقل بينها وبين البصرة وبقية محافظات العراق إلى زمان مجيء زمرة البعثيين المجرمة، ثمّ انتقل إلى مدينة قم المقدّسة في سنة 1980 م. تلمذ على يد مجموعة من فطاحل الخطابة، أمثال اُستاذه المرحوم السيد محمّد سعيد العدناني الغريفي. لاُستاذنا المنصوري حسّ شعري رائع، وخطابة حسينية فريدة، ونغمة حنين نادرة، وعبرات وآهات تبكي صمّ الصخور قبل رقائق القلوب. انتقل إلى رحمة الله وإلى جوار مَنْ أحبّهم وندبهم ورثاهم وبكى عليهم ليلاً ونهاراً، إلى جوار رسول الله وآله الأطهار إن شاء الله تعالى، وذلك في يوم الأربعاء السابع والعشرين من شهر جمادى الأوّل عام 1428 هـ ق، فشُيّع تشييعاً مهيباً من قِبل العلماء وطلاب العلم وطلابه، ودُفن في مثواه الأخير بجنب ولده الخطيب المرحوم الشيخ عبد الحسين المنصوري الذي سبقه إلى القضاء، فتركه بحسرةٍ شديدة، وألمٍ لطالما قرأتُه على صفحات محيّاه، وذلك في قم المقدّسة في مقبرة (باغ بهشت). للشيخ المنصوريرحمه‌الله أسفار تبليغية في شتّى بقاع العالم الإسلامي؛ فقد سافر إلى الكويت، والبحرين، وقطر، وعمان، والإمارات، وسوريا، ولبنان، فضلاً عن العراق وإيران وغيرهما من الدول الاُخرى.

ترك آثاراً خالدة وصدقات جارية، منها: تدريسه ثلّة من الخطباء وخدمة المنبر الحسيني، وترك مؤلّفات قيّمة في الشعر والأدب، منها: (مفاتيح الدموع)، و(ميراث المنبر)، و(مصابيح المنبر)، و(ديوان السعيد)، و(تحفة الفن)، و(خلاصة مقتل الحسين). فسلامٌ عليه يوم ولد ويوم مات يلهج بذكر أبي عبد الله الحسينعليه‌السلام ويوم يبعثُ حياً.

١٨٩

وكأنّي بها تخاطب حماتها، وهم مجزّرون كالأضاحي:

أنه أمشيت درب الما مشيته

وچتـال أخـيّ رافگيـته

مـن جـلّت الوالي نخيته

شـتم والدي وانكر وصيته

* * *

ولسان حالها:

بـس ما غبت وكفيت يحسين

عـن كربله صرنه مضعنين

خـذوني يسيره وتدمع العين

ومـدري وجوه الگوم لا وين

لـلكوفة يـو لـلشام ناوين

والدرب تدري يريد له اثنين

أنـصار يـو إخـوة المبينين

ولـويّاي مـا غير النساوين

أبـاري الضعن ماليش تمكين

عاد أرضه والله يريحني البين

* * *

١٩٠

قال تعالى:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ ) (1) .

ينقسم الظنّ كانقسام أوّلي إلى قسمين، هما: حُسن الظنّ وسوء الظنّ.

ولا شك في أنّ الأوّل منهما راجح شرعاً وعقلاً، ولا غبار عليه، بل هو من صفات المؤمنين المخلصين. وهذا الحُسن - أعني حسن الظنّ - لا يختص بحسن ظنّ إنسان بآخر، بل هو يشمل حتّى حُسن الظنّ بالله تبارك وتعالى، حتّى روي أنّ الله سبحانه وتعالى يقول: «أنا عند حسن ظنِّ عبدي المؤمن؛ إنْ خيرٌ فخير، وإنْ شرٌّ فشرّ»(2) .

فمن هنا كان ينبغي على كلّ مؤمن أن لا ييأس من رحمة الله، ولا يظنّ أنّ الله لا يرحمه، وأنّه يعذّبه، وأنّ ما يُصيبُ الإنسان في الدنيا من المصائب والأمراض والفقر هو شرّ له وعقوبة، بل ينبغي أن يعلم أنّ الله أرحم من والديه به، وما يُصيب الإنسان من المصائب هو خير له وصلاح وذخيرة له في يوم المعاد.

رأى بعضهم في المنام صاحباً له على أحسن حال، فقال: بأيّ شيءٍ نِلتَ هذا؟ فقال: بحسنِ ظنّي بربّي، وما ينال أحدٌ خير الدنيا والآخرة إلاّ بحسن الظنّ بالله تعالى.

وكذلك لا يظنّ السوء بالمسلمين، ويفسّر كلّ عمل منهم تفسيراً غير صحيح، بل يجب عليه أن يُفسّر تصرّف الناس على أحسن الوجوه إلاّ إذا

____________________

(1) سورة الحجرات / 12.

(2) بحار الأنوار 67 / 385 - 386، ح44.

١٩١

كان متيقّناً ومتأكّداً من فعل يتطلّب منه أن يفسّره بتفسير واقعي؛ حفاظاً على حقوق الناس(1) .

فعن النبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال: «اطلُب لأخيك عذراً، فإن لم تجد له عُذراً فالتمس له عُذراً»(2) .

وقال أمير المؤمنينعليه‌السلام : «ضع أمرَ أخيك على أحسنه حتّى يأتيك منه ما يغلبك، ولا تظنّنَّ بكلمةٍ خرجت من أخيك سوءاً وأنت تجد لها في الخير محملاً»(3) .

ويجب على الإنسان أن لا يضع نفسه في موضع التهمة، ثمّ يعترض على الناس حيث يظنّون به سوءاً، فمَنْ صدّق المفُسدين وجالسهم سوف يظنّ به سوءاً.

قال أمير المؤمنينعليه‌السلام : «ومَنْ عرض نفسه للتهمة فلا يلومنَّ مَنْ أساء به الظنّ»(4) .

في أوّل الأمر نلفت الانتباه إلى التفريق بين الشك والظنّ والعلم، فنحن تارةً نصف إنساناً ما بأنّه شاك، واُخرى بأنّه ظانّ، وثالثة بأنّه عالم بالأمر الكذائي، فما هو الفرق؟ وما هو المناط والمبرر لإمكانية وصف الإنسان بأحد هذه الصفات؟

____________________

(1) الأخلاق والآداب الإسلاميّة / 469.

(2) الخصال / 622.

(3) الكافي 2 / 362، باب التهمة وسُوء الظنّ، ح3.

(4) نهج البلاغة 4 / 41، ح159.

١٩٢

فالشك: هو استواء كفّتي الاحتمالين إثباتاً ونفياً.

والظنّ: بترجيح كفّة أحدهما على الآخر مع بقاء الطريق مفتوحاً للذي خفّ ميزانه.

والعلم: تعيين أحدهما مع سدِّ الطريق على الآخر من الأساس.

وقد تظنّ بإنسان خيراً أو شرّاً، وقد تكون مُصيباً في ظنّك أو مخطئاً، ولا بأس عليك إطلاقاً في حسن الظنّ بأخيك؛ أصبت أو أخطأت، ظهر أثر ذلك في أقوالك أو أفعالك أو لم يظهر.

فإذا صدر من الإنسان عمل من الأعمال، أو قول من الأقوال يمكن حمله على وجه صحيح وعلى وجه فاسد، فهل يحمل على الصحة أو على الفساد، أو يجب التوقف وعدم الحكم بشيءٍ إلاّ بدليل قاطع؟

ومثال ذلك: أن ترى رجلاً مع امرأة لا تدري هل هي زوجته أو أجنبية عنه، أو تسمع كلاماً وأنت لا تدري هل أراد به المتكلّم النيل منك أو لم يرد ذلك، فما هو الحكم حينئذ؟

والجواب: هو أنّه قد اتفق الفقهاء على وجوب الحمل على الصحة في ذلك وأمثاله.

وهذا مبدأ إنساني بحت؛ لأنّه يُكرّس كرامة الإنسان، ويؤكّد علاقة التعاون والتعاطف بين الناس، ويبتعد بهم عمّا يثير الكراهية والنفور.

وبهذا يتبيّن أنّ الإسلام لا يقتصر على العقيدة والعبادة، وأنّه يهتم بالإنسانيّة وخيرها، ويرسم لها الطرق التي تؤدّي بها إلى الحياة المثمرة الناجحة.

١٩٣

ثمّ إنّ الجملة قالت:( كَثِيراً مِّنَ الظَّنِّ ) ، ولم تقل كلّ الظنّ، فما هو السبب في ذلك؟

السبب يرجع إلى أنّ (كلّ) من صيغ العموم، تشمل حسن الظنّ وسوء الظنّ. بخلاف كلمة كثير، فقد تستعمل بمعنى بعض وبمعنى معظم، وهذا هو المراد بكلمة كثير في الآية، والقصد هو حصر موضوع الآية ودلالتها بسوء الظنّ.

وسوء الظن من حيث هو، ودون أن يظهر أثره في قول أو فعلٍ ليس بجرم، وصاحبه غير مسؤول عنه؛ لأنّ الإنسان لا حرية له في ظنونه وتصوّراته، ولكن عليه أن لا يُعوّل على ظنّ السوء، ويعتبره كأنّه لم يكن، وإذا عوّل عليه وظهر أثر ذلك في قول أو فعل كان مسؤولاً ومستحقاً للذمّ والعقاب. وهذا هو الظنّ الذي أراده سبحانه بقوله:( إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ ) .

قال الرسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله : «ثلاثة لا يسلم منها أحدّ؛ الطيرة، والحسد، والظنّ، فإذا تطيّرت فامضِ، وإذا حسدت فلا تبغِ، وإذا ظننت فلا تحقّق»(1) .

وعلى هذا يكون معنى قوله تعالى:( اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِّنَ الظَّنِّ ) لا تعولّوا عليه ولا تعملوا به(2) .

ولذا تجد بعض الناس بمجرّد أدنى احتمال يُرتّب الأثر عليه، والبعض الآخر يتوقّف ولم يقل شيئاً إلى أن يتّضح الأمر، والبعض أكثر من ذلك، بل

____________________

(1) ميزان الحكمة 3 / 2354، ونسبه إلى العامة.

(2) آيات منتخبة من القرآن الكريم / 243 - 245.

١٩٤

يحمل عمل الإنسان الآخر على الصحة.

جاء رجلان إلى أحد المراجع؛ أحدهما يحمل أموالاً إلى هذا المرجع، والآخر جاء ليطلب المساعدة من هذا المرجع، وبينما هما خارج استقبال المرجع سأل الفقير الرجل الآخر عن سبب مجيئه، قال الرجل الذي جاء بالحقوق الشرعية: جئت لأعطي هذه الأموال من الحقوق إلى المرجع الديني.

قال الرجل الفقير في نفسه: نعم، أتركه يدخل فإذا دخل هذا الرجل وأعطى الأموال لهذا المرجع أدخل بعده وأشكو حالي له، وأقول: إنّي فقير ومحتاج.

دخل الرجل صاحب الأموال إلى هذا المرجع وبقي الآخر خارج الاستقبال، ولم يعرف ماذا حصل بعد ذلك. بعد فترة دخل الرجل الفقير إلى استقبال هذا المرجع الربّاني، وقال له: مولانا، أنا رجل محتاج وفقير، وجئت للمساعدة من الحقوق التي عندكم.

قال المرجع: عَلِم الله أنّه ليس عندي من الحقوق لا قليل ولا كثير منها.

تعجّب هذا الرجل وقال في نفسه: عجباً! الآن دخل هذا الرجل قبل قليل وهو يحمل حقوقاً شرعية إليه، والآن يقول لي: ليس عندي من الأموال لا قليل ولا كثير!

بقي هذا الرجل في حيرةٍ من أمره، أيكذّب الرجل أم يكذّب المرجع أم نفسه أم ينتظر إلى أن يتأكّد من الأمر لعلَّ الله يُحدثُ بعد ذلك أمراً.

١٩٥

مضت فترة عليه، وبعد أيام من هذه الحادثة صادف ذلك الرجل الذي كان قد جاء لإعطاء الحقوق، وسأله عن القصّة قائلاً له: ألم تقل في اليوم الذي التقينا فيه بأنّك جئت بحقوق شرعية إلى ذلك المرجع؟

قال: بلى قلت ذلك، وكنت صادقاً.

قال الرجل الفقير: ولكنّني حدث معي أمر عجيب.

قال: وما هو؟

قال الرجل الفقير: دخلت بعدك بفترةٍ وجيزة وطلبت من المرجع شيئاً يساعدني به، فقال لي: ليس عندي من الأموال والحقوق لا شيء قليل ولا كثير.

قال الرجل صاحب الأموال: صدق الرجل المرجع.

قال الفقير: وكيف ذلك؟!

قال: لأنّي في ذلك الوقت ما أعطيته الأموال؛ لأنّني وجدت عنده مجموعة من الضيوف وما أحببت أن اُزاحمه في هذا الوقت، فخرجت ورجعت في يوم آخر وأعطيتُه الأموال.

فلو لاحظنا هذه القصة وتأمّلنا فيها قليلاً لعرفنا مدى وأهمية التحقيق، ومع هذا فإنّ الرجل الفقير لم يُرتّب الأثر، ولعلّه لتقواه، ولكن ترى البعض منّا يشهّر بالأمر إلى درجة تصل إلى السبّ والشتم والنيل حتّى من العرض، وهذه مشكلة الإنسان قديماً وحديثاً.

وهناك قصص عديدة لو أردنا استعراضها لطال بنا المقام، لكنّ العاقل المتديّن والحرّ تكفيهما الإشارة.

١٩٦

ولا شك أنّ الظنّ بمثل هؤلاء المتدينين يكون أكثر إشكالاً من غيرهم؛ لأنّنا نعتبرهم قادةً لنا، ونرجع إليهم، ونجعلهم الأمناء على الدين. والإنسان الذي نجعله أميناً على ديننا من الأولى أن لا نتّهمه في دنيانا، فما قيمة الأموال حتّى نتّهم فيها مَنْ نأخذ منه الأحكام الشرعية.

ولكنّ بعض الناس من الفسقة الفجرة لا تشملهم هذه الآية، فلنا أن نظنّ بهم مثل ما ظهر منهم.

فهؤلاء الذين باعوا دينهم للشيطان، واستغلّوا هذا المبدأ الإنساني الذي ذكرناه، وهو الحمل على الصحة، وجاؤوا به ليبرّروا عمل الظالمين والقراصنة فإنّ مبدأ الحمل على الصحة لا ينطبق على أعمال السلب والنهب، والاحتيال والتضليل، وما إلى ذلك ممّا نعلم عِلمَ اليقين أنّه من المحرّمات والموبقات، وإنّما ينطبق على ما يُحتمل فيه الصدق والكذب، والصحة والفساد(1) .

فهل يُمكن لأيّ إنسان عاقل في أن يتوقّف بظنّه تجاه بني أُميّة وبني العباس ماذا صنعوا بآل البيتعليهم‌السلام ؟!

تـباً لهم من اُمّةٍ لم يحفظوا

عـهدَ الـنبيِّ بـآلهِ الأمجادِ

قـد شتتوهم بـين مأسور ومقـ

ـهورٍ ومنحورٍ بسيفِ عنادِ

فلم يتركوا منهم أحداً لا كبيراً ولا صغيراً حتّى الطفل الرضيع.

جاءت الحوراء زينبعليها‌السلام إلى أخيها الحسينعليه‌السلام تحمل عبد الله

____________________

(1) آيات منتخبة من القرآن الكريم / 244.

١٩٧

الرضيععليه‌السلام ، فدفعته إليه وهي باكية، قالت: أخي، خُذ طفلك.

قيل: فأجلسه في حجره يُقبّله، ويقول: «بُعداً لهؤلاء القوم إذا كان جدُّك المصطفى خصمُهم!».

ثم أتى به نحو القوم يطلب له الماء قائلاً: «يا قوم، قد قتلتم إخوتي وأولادي وأنصاري، وما بقي غير هذا الطفل، وهو يتلظّى عطشاً من غير ذنب أتاه إليكم، فاسقوه شربة من الماء».

فاختلف العسكر فيما بينهم؛ منهم مَنْ قال: إذا كان ذنب للكبار فما ذنب هذا الطفل؟ ومنهم مَنْ قال: اقتلوه، ولا تبقوا لأهل هذا البيت باقية.

فلمّا رأى ابن سعد ذلك صاح بحرملة: ويلك يا حرملة! اقطع نزاع القوم.

قال: فما أصنع؟

قال: ارمِ الطفلَ بسهم.

قال حرملة (لعنه الله): فرأيت رقبته تلمع على عضد أبيه الحسينعليه‌السلام ، فرميت الطفل بسهمي فذبحته من الوريد إلى الوريد، فلمّا أحسَّ الطفل الرضيع بحرارة السهم أخرج يديه من القماط واعتنق أباه، وجعل يرفرف كالطير المذبوح.

فملأ الحسينعليه‌السلام كفّه من دمه ورمى به نحو السماء قائلاً: «اللّهمّ، لا يكن أهون عليك من فصيل ناقة صالح»(1) .

____________________

(1) مجمع المصائب 1 / 205 - 206.

١٩٨

تـلگه احسين دم الطفل بيده

اشحال اليچتل ابحضنه وليده

سـال اُوترس چفه من وريده

اُوذبّـه للسمه وللگاع ما خر

أويـلي من لفت سكنه تنادي

يبويه العطش هالفتت افادي

صدّت لن اُخوها الطفل غادي

يـلوّح رگبـته اُودمّـه يفوّر

يبويه ذاب چبدي اُوچبدة أُمّه

دخـلّـيني أودعـنَّه وشـمّه

يـبويه لـيش ما تسجيه دمّه

بـلچن چبدته تبرد من الحر

يخويه عون من حبَّك اُوشمّك

يـخويه عون من راواك لمّك

لـغسلنَّك يخويه ابفيض دمّك

اُوگبرك بالگلب يا خويه لحفر

وأمّا حال أُمّه الرباب:

ردّوك يبني ابسهم مفطوم

يالرحت عن الماي محروم

بـعدك لـحرّم لـذّة النوم

واصبغ يعگلي سود الهدوم

وابچي عليك ابگلب مالوم

* * *

ورُبَّ رضيعٍ أرضعته قِسيُّهم

منَ النبلِ ثدياً درُّه الثرُّ فاطمه

* * *

إنّا لله وإنّا إليه راجعون، ولا حول ولا قوّة إلاّ بالله العليّ العظيم،

وسيعلم الذين ظلموا آل محمّد أيَّ مُنقلبٍ ينقلبون

والعاقبة للمتقين.

١٩٩

٢٠٠