نفحات عاشوراء

نفحات عاشوراء0%

نفحات عاشوراء مؤلف:
الناشر: دار الإمام الجواد (عليه السلام)
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 224

نفحات عاشوراء

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: الشيخ كاظم البهادلي
الناشر: دار الإمام الجواد (عليه السلام)
تصنيف: الصفحات: 224
المشاهدات: 41920
تحميل: 7064

توضيحات:

نفحات عاشوراء
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 224 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 41920 / تحميل: 7064
الحجم الحجم الحجم
نفحات عاشوراء

نفحات عاشوراء

مؤلف:
الناشر: دار الإمام الجواد (عليه السلام)
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

قال تعالى:( وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوكِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيماً ) (1) .

برّ الوالدين هو الإحسان إليهما، وهو من أفضل القربات إلى الله (عزّ وجلّ)، وضدّه عقوق الوالدين، وهو الإساة إليهما.وكلا الأمرين يتحقّق بالأعم من القول أو الفعل، بل أحياناً نجد أنّ الإيذاء باللسان أقوى تأثيراً من الإيذاء بالفعل الخارجي، فقد تكون كلمة تصدر من الإنسان تساوي جرح السيوف؛ ولذا قال الشاعر:

جراحات السنان لها التئامُ

ولا يلتام ما جـرح اللسانُ(2)

وبالفعل هذه حقيقة موجودة في التعامل مع المجتمع. فالبرّ والعقوق يحصلان بالفعل أو بالقول.

وهذا الموضوع من الموضوعات التي اهتم بها الباري (عزّ وجلّ) اهتماماً منقطع النظير، حتّى إنّه تبارك وتعالى قرن برّ الوالدين والإحسان إليهما بالتوحيد، وكأنّه (عزّ وجلّ) يريد أن يقول للمجتمع: إنّ درجة برّ الوالدين درجة بالغة الأهمية، بل لعلّها تصل في التسلسل لأن تكون بعد الإيمان بي.

____________________

(1) سورة الإسراء / 23.

(2) فيض القدير 6 / 179، ونسبه للسيد المرتضىرحمه‌الله .

١٦١

ولذا تجد أنّ أربع آيات في الكتاب العزيز قرنت برّ الوالدين بالتوحيد.

الآية الأولى في سورة البقرة آية 83، حيث قال تبارك وتعالى:( وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً... ) .

والآية الثانية في سورة الأنعام آية 151، حيث قال (عزّ وجلّ):( قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً... ) .

والآية الثالثة: في سورة النساء، حيث قال عزّ من قائل في آية 36 من السورة المذكورة:( وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً... ) .

بالإضافة إلى الآية المذكورة في صدر المجلس والتي هي محلّ البحث.

فهذه الآيات التي ذكرتها، هي الآيات التي قرنت بين الإيمان بالله تبارك وتعالى وبين برّ الوالدين.

وأمّا الآيات التي حثّت على برّ الوالدين بصورة عامّة من غير القرن بالتوحيد فهي كثيرة، منها في سورة لقمان آية 15، ومنها في سورة الأحقاف آية 150، إلى غير ذلك.

هذا كلّه ترغيب واردٌ وحثٌ مؤكدٌ من القرآن الكريم.

وأمّا ما ورد في الحثّ على برّ الوالدين، والتجنّب عن عقوقهما في لسان النبي الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله وأهل بيتهعليهم‌السلام ، فقد ورد عنهمعليهم‌السلام : «إذا كان يوم القيامة كُشف غطاء من أغطية الجنّة، فوجد ريحَها مَنْ كانت له روح من مسيرة خمسمئة عام إلاّ صنف واحد». قلت: مَنْ هم؟ قال: «العاق لوالديه»(1) .

____________________

(1) الكافي 2 / 348، ح3.

١٦٢

ولهذا أكّد الحقّ سبحانه وتعالى على قضية الإحسان لهما، فتراه جلّت عظمته تارةً يوصي وتارةً يُنذر واُخرى ينهى؛ حفظاً لعباده من العقوق وعاقبته السيئة. ألا ترى أنّه أمر بذلك بعد نهيه عن العبادة سواء؟

وهذا نفسه دليل واضح على ما لهذا الأمر من قيمة راجحة عنده تعالى، والمصلحة في كلا الأمرين ترجع للعبد لا إلى المعبود سبحانه وتعالى، وهكذا الإحسان للأبوين أو لغيرهما ترجع به الفائدة الكبرى للمحسن.

وهذا القرآن، وهذه حكمته ناطقة بذلك، معبّرة عمّا هنالك، يقول (عزّ وجلّ):( إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا ) (1) .

فإحسان الولد لأبويه وبرّهما إنّما يرجع إليه؛ سواء كان عاجلاً في دار الدنيا، أم آجلاً في دار الآخرة التي هي الحياة الأبدية،( وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ ) (2) .

لذا روي عن ابن عباس (رضي الله عنه) أنّه كان في بني إسرائيل رجل صالح له ابن طفل، وكان له عجلة، فأتى بالعجل إلى غيضة (مزرعة)، وقال: اللّهمّ إنّي استودعك هذه العجلة لابني حتّى يكبر.

ومات الرجل، فشبّت العجلة في الغيضة وصارت عواناً، وكانت تهرب من كلّ مَن رامها، فلمّا كبر الصبي كان بارّاً بوالدته، وكان يقسّم الليل ثلاثة أثلاث؛ يصلّي ثلثاً، وينام ثلثاً، ويجلس عند رأس اُمّه ثلثاً، فإذا أصبح انطلق واحتطب على ظهره، ويأتي السوق فيبيعه بما شاء، ثمّ يتصدّق بثلثه، ويأكل ثلثه، ويعطي والدته ثلثاً.

____________________

(1) من دروس شيخنا الأستاذ محمّد سعيد المنصوريرحمه‌الله ، والآية (64) من سورة العنكبوت.

(2) العنكبوت / 64.

١٦٣

فقالت له اُمّه يوماً: إنّ أباك ورَّثك عِجلةً، وذهب بها إلى غيضة كذا واستودعها، فانطلق إليها وادع إله إبراهيم وإسماعيل وإسحاق أن يردّها عليك، وإنّ من علامتها إنّك إذا نظرت إليها يخيّل إليك أنّ شعاع الشمس يخرج من جلدها، وكانت تسمّى المذهّبة لحسنها وصفرتها وصفاء لونها.

فأتى يعقوب الغيضة فرآها ترعى، فصاح بها، وقال: أعزم عليك بإله إبراهيم وإسماعيل ويعقوب. فأقبلت تسعى حتّى قامت بين يديه، فقبض على عنقها وقادها، فتكلّمت البقرة بإذن الله تعالى وقالت: أيّها الفتى البار بوالدته، اركبني؛ فإن ذلك أهون عليك.

فقال الفتى: إنّ أُمّي لم تأمرني بذلك، ولكن قالت: خذ بعنقها.

قالت البقرة: بإله إسرائيل، بنبيّ إسرائيل لو ركبتني ما كنت تقدر عليَّ أبداً، فانطلق فإنّك لو ركبتني أمرت الجبل أن يقتلع من أصله وينطلق معك لفعل؛ لبرّك بوالدتك.

فسار الفتى بها، فاستقبله عدوّ الله إبليس في صورة راع، فقال: أيّها الفتى، إنّي رجل من رعاة البقرة، اشتقت إلى أهلي، فأخذت ثوراً من ثيراني فحملت عليه زادي ومتاعي حتّى إذا بلغت شطر الطريق ذهبت لأقضي حاجتي، فقد أوسط الجبل وما قدرت عليه، وإنّي أخشى على نفسي الهلكة، فإن رأيت أن تحملني على بقرتك وتنجيني من الموت، وأعطيك أجرها بقرتين مثل بقرتك.

فلم يفعل الفتى، وقال: اذهب فتوكّل على الله، ولو علم منك اليقين لبلغك بلا زاد ولا راحلة.

فقال إبليس: إن شئت فبعنيها بحكمك، وإن شئت فاحملني عليها وأعطيك عشرة مثلها.

فقال الفتى: إنّ أُمّي لم تأمرني بذلك.

١٦٤

فبينما الفتى كذلك إذ طار طائر بين يدي البقرة فهربت البقرة في الفلاة وغاب الراعي، فدعا الفتى باسم إله إبراهيم فرجعت البقرة إليه، فقالت: أيّها الفتى البارّ بوالدته، لا تمرّ إلى الطائر الذي طار فإنّه إبليس عدوّ الله اختلسني، أما إنّه لو ركبني لما قدرت عليه أبداً، فلمّا دعوت إله إبراهيم جاء ملك فانتزعني من يد إبليس وردّني إليك؛ ببرّك بأمّك وطاعتك لها.

فجاء الفتى إلى اُمّه، فقالت له: إنّك فقير لا مال لك، ويشقّ عليك الاحتطاب بالنهار والقيام بالليل، فانطلق فبع هذه البقرة وخذ ثمنها.

قال لأمّه: بكم أبيعها؟

قالت: بثلاثة دنانير، ولا تبعها بغير رضاي ومشورتي. وكان ثمن البقرة في ذلك الوقت ثلاثة دنانير.

فانطلق الفتى إلى السوق، فعقبه الله سبحانه ملكاً ليرى خلقه وقدرته؛ ليختبر الفتى كيف برّه بوالدته، وكان الله به خبيراً. فقال له الملك: بكم تبيع هذه البقرة؟

قال: بثلاثة دنانير، وأشترط عليك رضا اُمّي.

فقال له الملك: ستة دنانير ولا تستأمر اُمّك.

فقال له الفتى: لو أعطيتني وزنها ذهباً لم آخذه إلاّ برضا اُمّي. فردّها إلى اُمّه وأخبرها بالثمن، فقالت: ارجع فبعها بستة دنانير على رضايتي. فانطلق بالبقرة إلى السوق، فأتى الملك فقال: استأمرت والدتك؟

فقال الفتى: نعم، إنّها أمرتني أن لا أنقصها عن ستة دنانير على أن أستأمرها.

قال له الملك: تأتي اُعطيك اثني عشر على أن لا تستأمرها. فأبي الفتى ورجع إلى اُمّه وأخبرها بذلك، فقالت: إنّ ذلك الرجل الذي يأتيك هو ملك من الملائكة يأتيك في صورة آدمي ليجرّبك، فإذا أتاك فقل له: أتأمر أن نبيع هذه البقرة أم لا؟

١٦٥

ففعل ذلك، فقال الملك: اذهب إلى اُمّك وقل لها: أمسكي هذه البقرة، فإنّ موسى يشتريها منك لقتيل يُقتل في بني إسرائيل، فلا تبيعوها إلاّ بملأ جلدها دنانير.

فأمسكوا تلك البقرة، وقد أراد الله تعالى على بني إسرائيل ذبح البقرة بعينها؛ مكافأة على برّه بوالدته؛ فضلاً منه ورحمة، فطلبوها فوجدوها عند الفتى، فاشتروها بملأ مسكها - جلدها - ذهباً(1) .

هذا نموذج بسيط زائل في الحياة الدنيا لمَنْ برَّ بوالدته، وأمّا ما أعدّ الله له في الآخرة فلا يعلمه إلاّ هو (عزّ وجلّ).

والآية التي افتتحنا بها المجلس جامعة مانعة، قالت:( وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ ) .أوّل ما حكمت به وألزمت وفصّلت ووضعت الحدّ والنهاية في أن لا تعبدوا إلاّ الله تبارك وتعالى، أمر منه (عزّ وجلّ) بأن لا نعبد إلاّ إيّاه جلّ جلاله.

فأمر الله تبارك وتعالى بإخلاص العبادة له (عزّ وجلّ)؛ لأنّها أوجب الواجبات، كما إنّ معصيته وهو الشرك بالله سبحانه أكبر الكبائر الموبقة، وإلى الشرك تعود جميع المعاصي بحسب التحليل؛ ولعظم هذا الأمر قدّمه الباري (عزّ وجلّ) على جميع الأحكام الخطيرة شأناً؛ كعقوق الوالدين، ومنع حقوقهما، والتبذير، وقتل الأولاد، والزنا، وقتل النفس المحترمة إلى غير ذلك.

ثمّ انتقلت الآية - بعد الأمر بالتوحيد - إلى حكم آخر يأتي بالمرتبة الثانية من الأهمية بعد التوحيد لله تبارك وتعالى، وهو( وبالوالدين إحساناً ) .

بمعنى وقضى ربّك ألا تعبدوا إلاّ إيّاه،

____________________

(1) بحار الأنوار 13 / 275، قصص الأنبياء - الجزائري / 326.

١٦٦

وقضى ربّك بأن تُحسنوا بالوالدين إحساناً. والإحسان يقابل الإساءة كما هو معلوم.

وهذا بعد التوحيد لله من أوجب الواجبات، كما إنّ عقوقهما من أكبر الكبائر على سائر الأحكام المذكورة المعدودة، وكذلك فعل عزَّ وجلَّ في عدّة مواضع من كلامه تبارك وتعالى.

ثمّ انتقلت الآية إلى أمر آخر وحقيقة أخرى حيث قالت:( إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوكِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيماً ) .

بلوغ الكبر يعني بلوغ كبر السنّ، واُف كلمة تفيد الضجر والانزجار(1) ، وقد ورد عن الإمام الرضاعليه‌السلام ، عن أبيهعليه‌السلام ، عن جدّه أبي عبد اللهعليه‌السلام قال: «لو علم الله كلمة أوجز في ترك عقوق الوالدين من (اُفٍّ) لأتى بها».

وفي رواية اُخرى قال: «أدنى العقوق أفٍّ، ولو عَلِمَ الله شيئاً أيسر وأهون منه لنهى عنه»(2) .

وتخصيص حالة الكبر بالذكر لكونها أشقّ الحالات التي تمرّ على الوالدين، فيحسّان فيها الحاجة إلى إعانة الأولاد لهما، وقيامهم بواجبات حياتهما التي يعجزان عن القيام بها، وذلك من آمال الوالدين التي يأملانها من الأولاد حين يقومان بحضانتهم وتربيتهم في حال الصغر، وفي وقت لا قدرة لهم على شيء من لوازم الحياة وواجباتها.

فالآية تدلّ على وجوب إكرامهما ورعاية الأدب التام في معاشرتهما ومحاورتهما في جميع الأوقات، وخاصة في وقت تشتدّ

____________________

(1) تفسير الميزان 13 / 79 - 80.

(2) تفسير البرهان 4 / 548، ح 12 و13.

١٦٧

حاجتهما إلى ذلك، وهو وقت بلوغ الكبر من أحدهما أوكليهما عند الولد(1) .

هذا كلّه في برّ الوالدين في حياتهما، وأمّا بعد وفاتهما وانتقالهما إلى الدار الآخرة فهناك عدّة طرق لبرّهما، منها: أن يصلّي صلاة برّ الوالدين، وهي ركعتان؛ يقرأ في الركعة الأولى - بعد سورة الحمد - عشر مرّات:( رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ ) ، وفي الركعة الثانية - بعد الحمد أيضاً - عشر مرّات:( رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ) ، ويقول بعد التسليم والانتهاء من صلاته عشر مرّات:( رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً ) (2) .

وأن يتصدّق عنهما، وأن يقضي ما فاتهما من صلاة وصيام، وما عليهما من ديون، ويحجّ عنهما ويزور المراقد الشريفة، ويدعو لهما في صلاة الليل وصلاة الفريضة، فإن فعل ذلك فقد فتح لنفسه أبواب الرحمة والسعادة في النشأتين، وتمّت أعماله بحسن العاقبة، وذلك منتهى الغاية .

ويتعهّد بزيارة قبريهما ويدعو لهما، ويرضيهما بأيّة حالٍ من الأحوال، وإلاّ إذا انتقل الإنسان من هذه الدنيا إلى الحياة الاُخروية، الله يعلم ماذا يجري هنالك ورسولُهصلى‌الله‌عليه‌وآله ؛ ولذا يروى أنّه كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله جالساً في أحد الأيام في المسجد، وفجأة هبط عليه جبرئيل الأمين، وقال له: السّلام عليك يا رسول الله، انقل أقدامك الشريفة إلى المقبرة

____________________

(1) تفسير الميزان 13 / 80.

(2) مكارم الأخلاق / 334، بحار الأنوار 88 / 220 - 221.

١٦٨

لكي تتبرّك القبور بتراب أقدامك، ولكي يشمّ حبيسو هذه القبور الضيقة المظلمة نسيم رحمتك الذي سيهبّ عليهم بقدومك عليهم.

فقام رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله مع طائفة من أصحابه ويممّوا وجوههم نحو المقبرة، وكان أصحابه يحيطون به عن يمينه وعن شماله. وفي الأثناء وصل أمير المؤمنينعليه‌السلام إلى هناك، وسأل الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله عن نيّتهم في هذا المسير، فقال له: «نريد أن نذهب إلى مقبرة البقيع».

وعندما وصلوا إلى هناك تداعى إلى أسماع الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله صوت شخص يستغيث، ويقول: الأمان يا رسول الله. فانتبه سيد الرسل إلى هذا الصوت، وقال: «يا صاحب القبر، أخبرني عن سبب عذابك».

فأجابه: يا شفيع المذنبين، وقدوة المؤمنين، إنّ سخط والدتي عليّ سبّب لي هذا العذاب؛ لأنّني آذيتها في حياتي. الأمان الأمان يا رسول الله!

فأمر الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله بلالاً أن ينادي في المدينة على الناس بأن يجتمعوا، فنادى بلال بصوت جهوري: يا أيّها الناس، اجتمعوا على قبور الآباء والاُمّهات والأقرباء بأمر من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله .

وعندما سمعوا نداء بلال هبّوا مسرعين إلى المقبرة، فغصّت المقبرة بالناس، ومن بين الحضور كانت عجوزٌ محدودبة الظهر تتوكأ على عصاتها جاءت ووقفت بالقرب من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فسلّمت عليه وقبّلت التراب بين يديه، وقالت: يا رسول الله، ما الخبر؟

فقال: «أيّتها العجوز، هذا ولدك؟».

فأجابت: نعم يا رسول الله.

١٦٩

فقال لهاصلى‌الله‌عليه‌وآله : «إنّ ولدك الآن في محنة وعذاب، اغفري له وارضي عنه».

فقالت العجوز: يا رسول الله، لا أغفر له ولا أرضى عنه أبداً.

فقال لها: «لماذا؟».

قالت: لقد غذّيته من لبني، وعاش في كنفي، وتحمّلت من أجله الصعاب، فلمّا كبر واشتدّ عوده فبدلاً من أن يحسن لي أخذ يتلذّذ بأذيتي وعذابي.

فقال لها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : «اعطفي عليه وارحميه لينجو من عذابه».

ورفع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يديه بالدعاء، وقال: «إلهي، بحقّ الخمسة من آل الكساء أسمع هذه الأمّ صوت استغاثة ولدها؛ كي يرقّ قلبها عليه، وتعطف عليه وتغفر له».

عندها أمر العجوز بأن تضع أذنها على قبر ولدها وتسمع صوت ولدها يئن بألم وحسرة، فلم تتمالك عن البكاء، وقالت: يا سيد المرسلين وشفيع المذنبين، إنّه يستغيث، ويقول: فوقي نار، وتحتي نار، وعن يميني نار، وعن شمالي نار، ومن بيني نار، الأمان الأمان الأمان!

عندها رقّ قلب العجوز بسبب سماعها استغاثة ولدها، وقالت: إلهي، لقد عفوت عن تقصير ولدي. فألبسه الله سبحانه وتعالى لباس رحمته وعفا عنه فوراً، فنادى الولد: أيّتها الوالدة، عفا الله عنك كما عفوتِ عنّي(1) .

هكذا كان أثر دعاء الوالدة لولدها؛ ولذا ترى أنّ الحسينعليه‌السلام يوصي أُمّ علي الأكبر ليلى: «ادعي لولدك؛ إنّي سمعت جدّي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يقول: دعاء

____________________

(1) الأخلاق والآداب الإسلاميّة / 123 - 124.

١٧٠

الأمّ مستجاب بحقّ ولدها».

وبالفعل دخلت ليلى إلى الفسطاط؛ نشرت شعرها، رفعت يديها إلى السماء قائلة: إلهي، بغربة أبي عبد الله، إلهي، بعطش أبي عبد الله، يا راد يوسف إلى يعقوب اردد إليَّ ولدي عليّ.

ما هي إلاّ لحظات وإذا بعليّ الأكبر يرجع سالماً، واستجاب الله دعاء ليلى بحقّ ولدها، ولكن المصيبة الكبرى عندما وقع القضاء، وشاء الله أن يراه على رمضاء كربلاء مقطّع إرباً إرباً، وكأنّي بأمّه ليلى تخاطبه:

يبني أنا ردتك ذخر ليام شيبي

يـوسفه انگطع مِنك نصيبي

(مجاريد):

فـجيده يـا عـلي يـبني فجيده

بـعيده شـوفتك صـارت بعيده

الـمدّ ايـده عـليك انشلّت ايده

اُوشرابه لا هنه ولا طاب له الزاد

* * *

يـا علي يبني النوب ذلّيت

والـموت يـاخذني تمنّيت

عمود الوسط يا شايل البيت

يـبني بعد عندي اشخلّيت

* * *

١٧١

(أبو ذيّة):

يبني أنا ردتك ما ردت دنيه ولا مال

تـحضرني لـو وگع حملي ولا مال

يـالاكبر خـابت اظـنوني والامال

عـند الـضيج يـبني اگطعت بي

* * *

رجوتُك يا عليُّ تعيش بعدي

وتوّد جثتي رمسَ اللحُودِ

* * *

إنّا لله وإنّا إليه راجعون، ولا حول ولا قوّة إلاّ بالله العليّ العظيم،

وسيعلم الذين ظلموا آل محمّد أيَّ مُنقلبٍ ينقلبون

والعاقبة للمتقين.

١٧٢

المجلس الثاني عشر

الصبر

١٧٣

١٧٤

المجلس الثاني عشر

الصبر

حـكمُ الـمنيّةِ فـي البريةِ جاري

مـا هـذه الـدُّنيا بـدارِ قـرارِ

بينا يُرى الإنسانُ فيهـا مُخبـراً

حتّى يُـرى خـبراً مـن الأخـبارِ

طُـبعت على كدرٍ وأنتَ تُريدُها

صـفواً مـن الأقـذار والأكـدارِ

ومـكلّفُ الأيـامِ ضـد طـباعها

مـتطلبٌ فـي الـماء جذوةَ نارِ

وإذا رجـوتَ الـمستحيل فـإنّما

تـبني الـرجاء على شفيرٍ هارِ

فـالعيشُ نـومٌ والـمنيّةُ يـقطةٌ

والـمرءُ بـينهما خـيالٌ سـارِ

والـنفس إن رضيتْ بذلك أوأبتْ

مـنـقـادةٌ بـأزمّـةِ الأقدارِ

إيِّـاك أن تـغتَّر بـالدهر الـذي

أودى بـآل الـمصطفى الأبرارِ

نُـحرت نحورهم بعرصة كربلا

عـطشاً ومـاءُ النهر فيها جاري

أبـكيهمُ تـحت الـعجاج وبينهم

ثـاوٍ شبيهُ الـمصُطفى الـمُختارِ

لـم أنـسه والـسبط جاثٍ حولَه

يـدعو بـدمعٍ هـاطلٍ مـدرارِ

يـا كـوكباً ما كان أقصرَ عُمرَه

وكـذا تـكونُ كـواكبُ الأسحارِ

عـجل الخسوفُ عليهٍ قبلَ أوانه

فـطـواه قـبلَ مـظنّةِ الأبـدار

فـكـأنَّ قـلـبي قـبره وكـأنّه

فـي طـيّهِ سـرٌ مـن الأسرارِ

جـاورتُ أعـدائي وجـاورَ ربّه

شـتان بـينَ جـوارهِ وجوارِ(1)

____________________

(1) القصيدة لأبي الحسن التهاميرحمه‌الله ، قال عنه الزركلي في الأعلام 4 / 327، وابن خلكان في وفيات الأعيان 3 / 378 - 471: هو علي بن محمّد بن فهد أبو الحسن التهامي الشاعر. مولده ومنشؤه باليمن، وطرأ على الشام وسافر منها إلى العراق والى الجبل، ولقي الصاحب بن عبّاد وقرأ عليه، وتقلّد الخطابة بالرملة وتزوّج بها، وكانت نفسه تحدثّه بمعالي الأمور، وكان يكتم نسبه، فيقول تارةً: إنّه من الطالبيّين، وتارة من غيرهم، ولا يتظاهر بشيء من الأمرين.

نسخ شعر البُحتري... أُعتقل بخزانة البنود بالقاهرة لأربع بقين من شهر ربيع الآخر سنة 416 هـ، ثمّ إنّه قُتل سرّاً في سجنه تاسع جمادى الأولى من السنة المذكورة، وكان أصفر اللون، ورئي بعد موته في المنام، فقيل له: ما فعل الله بك؟ قال: غفر لي. فقيل له: بأيّ الأعمال؟ قال: بقولي في مرثية ولد لي صغير، وهو:

جاورت أعدائي وجاور ربَّه

شتان بين جواره وجواري

وهذه القصية قالها في رثاء ابنه، وقد عُدت من عيون قصائد الرثاء والحكمة.

١٧٥

(أبو ذيّة):

شـافه والـنبل نابت عليّ راح

گعد عنده وصفك راحاً على راح

وگام وصاح يا زينب علي راح

يـختي أظلّمت الدُنيا عليَّ

* * *

١٧٦

قال تعالى:( وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ ) (1) .

الصبر: هو حبس النفس عمّا تُحبّ، وترك الجزع عند ما تكره. وهو أيضاً تحمّلُ الإنسانُ لحالة حدثت له تستدعي فيه التحمّل والهدوء، ومعالجة الأمور بتعقّل ولو طالت مدّة هذه الحالة، مثل: تحمّل المريض لمرضه، وصاحب المصيبة لمصيبته، وأيضاً تحمّله لترك الذنوب، وتحمل حصول الإنسان على النعمة والاستمرار في شكر الله وطاعته وعدم معصيته.

والصبر من فروع الرضا بقضاء الله وقدره، وهو من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد. وضدّه الجزع الذي هو عدم الصبر على البلاء.

وقد قسّم الصبرُ إلى أقسام وأنواع منها:

1 - الصبر على الطاعة

بمعنى أن يتحمّل المداومة التي تحتاجها الطاعة، فترى البعض من الناس ليس عنده القدرة على تحمّل ركعتي صلاة الصبح، بل أكثر من ذلك البعض لا يستطيع أن يتحمّل الزمان الذي يستغرقه الآذان أو تسغرقه الإقامة.

____________________

(1) سورة البقرة / 155 - 157.

١٧٧

حكي أنّ أحد الولاة سمع أحدَ الرعيّة يدعو عليه بالهلاك، ويقول: اللّهمّ خلّصنا منه.

فخرج هذا الوالي وقال له: علامَ أنت تدعو عليّ، وأنا لم يكن لي معكم إلاّ بعض الأيام، فما لكم قد مللتموني؟!

قال الرجل: أيّها الوالي، إنّني ابتدئ بالأذان وأشرع، حتّى إذا بلغت وسطه مللتُ فقطعته.

فهذا نموذج من الناس تراهم ليس لهم القابلية على تحمّل أبسط الأمور، وهذه الحالة تعتري الكثير من بني البشر.

فالصبر على المداومة على الطاعة - بالحقيقة - هو صبر على النعمة التي أنعم الله بها على الإنسان، بأن يصبر على الشكر لصاحب النعمة وهو الله، فيسير في طريق الاستقامة فيصبر على الطاعة كما يصبر على أن لا يعصي خالقه، ويستمر في العبادة والصلاة لوقتها، وصوم شهر رمضان وغير ذلك. وهو بتوفيق الله تعالى والمداومة يصبح يسيراً.

وعن الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام : «إنّا وجدنا الصبر على طاعة الله أيسر من الصبر على عذابه»(1) .

2 - الصبر على عدم معصية الله

بأن يصبر أن لا يغتاب، ولا يكذب، ولا يتكبّر، ولا يرتكب المحرّمات... فعن الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام أنّه قال: «اصبروا على عمل لا غنى لكم عن ثوابه،

____________________

(1) مستدرك الوسائل 11 / 261، ح7.

١٧٨

واصبروا على عملٍ لا طاقة لكم على عِقابه»(1) .

وهذا النوع من الصبر من الأنواع التي تحتاج إلى المجاهدة والرياضة النفسية العالية حتّى قيل: إنّ الصبر على عدم المعصية أفضل من كلّ مراتب الصبر(2) .

3 - الصبر على البلاء والمصائب

وهذا هو محلّ الكلام، فكلّ إنسان يعاني من هذه الاُمور فإن أراد الراحة في الدنيا والثواب في الآخرة فعليه أن يصبر، ويسلّم أمره إلى الله، ويتوكّل عليه، ويرضى بقضاء الله وقدره، ويحاول أن يعالج البلاء بتعقّل وهدوءٍ.

فعن الإمام الباقرعليه‌السلام أنّه قال: «الجنّة محفوفة بالمكاره والصبر، فمَنْ صبر على المكاره في دار الدنيا دخل الجنّة. وجهنم محفوفة باللذات والشهوات، فمَنْ أعطى نفسه لذّتها وشهوتها دخل النار»(3) .

ولو تأمّلنا في الآيات التي افتتحنا بها المجلس نلاحظ عدّة امتحانات وبأشكال مختلفة؛ فتارةً يكون الامتحان عن طريق الخوف، واُخرى عن طريق الجُوع، وثالثة عن طريق النقص في الأموال والأنفس - يعني الموت وما شاكله -، فالآية تعرّضت للاختبار الإلهي العام ولمظاهره المختلفة، باعتباره سُنّة كونية

____________________

(1) أمالي الصدوق / 170، ضمن الحديث الخامس.

(2) الأربعون حديثاً / 251.

(3) الكافي 2 / 89 - 90، ح7.

١٧٩

لا تقبل التغيير. وكما كان الانتصار في هذه الاختبارات لا يتحقّق إلاّ في ظلّ الثبات والمقاومة، قالت الآية بعد ذك( وبشّر الصابرين ) . فالصابرون هم الذين يستطيعون أن يخرجوا منتصرين من هذه الامتحانات لا غيرهم.

ثُمَّ إنّ الآية التي بعدها تُعرِّفُ الصابرين وتقول:( الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ ) . فالإقرار التام بالعبودية المطلقة لله يعلّمنا أن لا نحزن على ما فاتنا؛ لأنّه سبحانه مالكنا ومالك جميع ما لدينا من مواهب؛ إن شاء منحنا إيّاها، وإن استوجبت المصلحة أخذَها مِنّا، وفي المنحة والمحنة مصلحة لنا.

والالتفات المستمر إلى حقيقة عودتنا إلى الله سبحانه وتعالى يشعرنا بزوال هذه الحياة، وبأن نقص المواهب المادية وتوفّرها عَرض زائل، ووسيلة لارتقاء الإنسان إلى سلّم تكامله، فاستشعار العبودية والعودة في عبارة (إنا لله وإنا إليه راجعون) له الأثر الكبير في تعميق روح المقاومة والاستقامة والصبر في النفس(1) .

ومن الواضح أنّ المقصود من قول هذه العبارة ليس ترديدها باللسان فقط، بل استشعار هذه الحقيقة، والالتفات إلى ما تنطوي عليه من توحيد وإيمان(2) .

وقد يُسأل سائل: لماذا هذا الاختبار الإلهي وبأشكاله المختلفة؟ إنّما نختبر الأفراد لنفهم ما نجهله عنهم، فهل إنّ الله سبحانه وتعالى بحاجة إلى مثل هذا

____________________

(1) روي عن أمير المؤمنينعليه‌السلام أنّه قال: «إنّ قولنا: إنّا لله إقرارٌ على أنفسنا بالملك، وقولنا: إنّا إليه راجعون: إقرار على أنفسنا بالهلك». نهج البلاغة 4، قصار الحكم / 646، الحكمة رقم 99.

(2) تفسير الأمثل 1 / 440 - 442 «بتصرّف».

١٨٠