اعلام الهداية - الإمام محمد بن علي الباقر (عليه السلام)

اعلام الهداية - الإمام محمد بن علي الباقر (عليه السلام)0%

اعلام الهداية - الإمام محمد بن علي الباقر (عليه السلام) مؤلف:
الناشر: مركز الطباعة والنشر للمجمع العالمي لأهل البيت (عليهم السلام)
تصنيف: الإمام محمد بن علي الباقر عليه السلام
ISBN: 964- 5688-23
الصفحات: 220

اعلام الهداية - الإمام محمد بن علي الباقر (عليه السلام)

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: المجمع العالمي لأهل البيت (عليهم السلام)
الناشر: مركز الطباعة والنشر للمجمع العالمي لأهل البيت (عليهم السلام)
تصنيف: ISBN: 964- 5688-23
الصفحات: 220
المشاهدات: 119167
تحميل: 5787

توضيحات:

اعلام الهداية - الإمام محمد بن علي الباقر (عليه السلام)
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 220 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 119167 / تحميل: 5787
الحجم الحجم الحجم
اعلام الهداية - الإمام محمد بن علي الباقر (عليه السلام)

اعلام الهداية - الإمام محمد بن علي الباقر (عليه السلام)

مؤلف:
الناشر: مركز الطباعة والنشر للمجمع العالمي لأهل البيت (عليهم السلام)
ISBN: 964- 5688-23
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

قالت: إنه قال:

ليس فيما بدا لنا منك عيب

عابه الناس غير أنّك فاني

فكانت هذه الأبيات كالصاعقة على رأسه، فقد تبدد جبروته وإعجابه بنفسه، ولم يمكث إلا زمناً يسيراً حتى هلك(١) وكانت خلافته سنتين وخمسة أشهر وخمسة أيام، وتوفى يوم الجمعة لعشر ليال بقين من صفر سنة (٩٩ هـ )(٢) .

عمر بن عبد العزيز

ثم تقلّد الحكم الأُموي عمر بن عبد العزيز بعهد من سليمان بن عبد الملك في يوم الجمعة لعشر خلون من صفر سنة (٩٩ هـ )(٣) ولمس الناس في عهده القصير الأمن، والرفاه، بشكل نسبي، فقد أزال عنهم شيئاً من جور بني مروان وطغيانهم، وكان محنكاً، قد هذبته التجارب، وقد ساس المسلمين سياسة لم يألفوها ممّن قبله.

وكانت لعمر بن عبد العزيز إنجازات عديدة ميّزته عن سائر الحكّام الأمويين ويمكن تلخيصها فيما يلي:

ــــــــــــــ

(١) مروج الذهب: ٣/١١٣.

(٢) تاريخ ابن الأثير: ٤/١٥١.

(٣) نهاية الإرب: ٢١/٣٥٥.

٦١

١ ـ إدانة سب الإمام عليعليه‌السلام ولعنه: كانت الحكومة الأُموية منذ تأسيسها قد تبنت بصورة جادّة سب الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام وانتقاصه، فان معاوية كان يرى ان هذا السبّ هو السبب في بقاء دولتهم وسلطانهم(١) ، لأن مبادئ الإمامعليه‌السلام كانت تطاردهم وتفتح أبواب النضال الشعبي ضد سياستهم القائمة على الظلم والجور والطغيان فكان لابدّ من إسقاط شخصيّته، واعتباره.

وقد أدرك عمر بن عبد العزيز أن السياسة التي انتهجها آباؤه ضد الإمامعليه‌السلام لم تكن حكيمة ولا رشيدة، فقد جرّت للأمويين الكثير من المصاعب والمشاكل، وألقتهم في شر عظيم، فعزم على أن يمحو هذه الخطيئة، فأصدر أوامره الحاسمة إلى جميع أنحاء العالم الإسلامي بترك سبّ عن الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام وأن يُقرأ عوض السب قوله تعالى:( إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى ) .

وقد علّل عمر نفسه السبب في تركه لما سنّه آباؤه من انتقاص الإمام بقوله: كان أبي إذا خطب فنال من علي تلجلج، فقلت: يا أبت إنك تمضي في خطبتك فإذا أتيت على ذكر علي عرفت منك تقصيراً، قال: أوفطنت لذلك؟ قلت: نعم، فقال: يا بني إن الذين حولنا لو يعلمون من عليٍّ ما نعلم تفرّقوا عنّا إلى أولاده.

فلما ولي عمر الخلافة لم يكن عنده من الرغبة في الدنيا مثل إبطال ظاهرة سب الإمام(٢) .

وقد أثارت هذه المكرمة إعجاب الجميع، وأخذ الناس يتحدثون عنه بأطيب الحديث ويذكرون شجاعته النادرة في مخالفته لسلفه الطغاة البغاة.

ــــــــــــــ

(١) تاريخ دمشق: ٢/٤٧، تاريخ الأمم والملوك: ٥/١٦٧ ـ ١٦٨.

(٢) تاريخ ابن الأثير: ٤/١٥٤، حوادث سنة ٩٩ هـ .

٦٢

٢ ـ صلته للعلويين: جهدت الحكومة الأُموية منذ تأسيسها على حرمان أهل البيتعليهم‌السلام من حقوقهم وإشاعة الفاقة في بيوتهم، حتى عانوا الفقر والحرمان، ولكن لما ولي الحكم عمر بن عبد العزيز أجزل لهم العطاء فقد كتب إلى عامله على يثرب أن يقسم فيهم عشرة آلاف دينار، فأجابه عامله: إن علياً قد ولد له في عدة قبائل من قريش، ففي أي ولده ؟ فكتب إليه: إذا أتاك كتابي هذا، فاقسم في ولد علي من فاطمة رضوان الله عليهم عشرة آلاف دينار، فطالما تخطّتهم حقوقه)(١) . وكانت هذه أول صلة تصلهم أيام الحكم الأُموي.

٣ ـ رد فدك: رد عمر فدكاً إلى العلويين بعد أن صودرت منهم، وأخذت تتعاقب عليها الأيدي، وتتناهب الرجال وارداتها، وآل النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد حرموا منها، وقد روي ردّه لها بصور متعددة منها:

ألف: إن عمر بن عبد العزيز زار مدينة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأمر مناديه أن ينادي: من كانت له مظلمة أو ظلامة فليحضر.

فقصده الإمام أبو جعفرعليه‌السلام فقام إليه عمر تكريماً واحتفى به فقال الإمامعليه‌السلام له:(إنما الدنيا سوق من الأسواق يبتاع فيها الناس ما ينفعهم وما يضرهم، وكم قوم ابتاعوا ما ضرّهم، فلم يصبحوا حتى أتاهم الموت فخرجوا من الدنيا ملومين لما لم يأخذوا ما ينفعهم في الآخرة، فقسم ما جمعوا لمن لم يحمدهم وصاروا إلى من لا يعذرهم، فنحن والله حقيقون أن ننظر إلى تلك الأعمال التي نتخوف عليهم منها، فنكف عنها، واتق الله، واجعل في نفسك اثنتين، انظر إلى ما تحب أن يكون معك إذا قدمت على ربك فقدمه بين يديك، وانظر إلى ما تكره معك إذا قدمت على ربك فارمه وراءك، ولا ترغبن في سلعة

ــــــــــــــ

(١) الإمام محمّد الباقر عليه‌السلام : ٢/٤٧ ـ ٤٨ .

٦٣

بارت على من كان قبلك، فترجو أن يجوز عنك، وافتح الأبواب، وسهل الحجاب، وأنصف المظلوم، ورد الظالم، ثلاثة من كن فيه استكمل الإيمان بالله من إذا رضي لم يدخله رضاه في باطل، ومن إذا غضب لم يخرجه غضبه من الحق، ومن إذا قدر لم يتناول ما ليس له...) (١) .

ولما سمع عمر كلام الإمامعليه‌السلام أمر بدواة وبياض، وكتب بعد البسملة: (هذا ما رد عمر بن عبد العزيز ظلامة محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب بفدك).

ب ـ إنه لما ولي الخلافة أحضر قريشاً ووجوه الناس، فقال لهم: إن فدكاً كانت بيد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فكان يضعها حيث أراه الله، ثم وليها أبو بكر كذلك، ثم عمر كذلك، ثم أقطعها مروان(٢) ثم إنها صارت إلي، ولم تكن من مالي أعود علي، وإني أشهدكم أني قد رددتها على ما كانت عليه في عهد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٣) .

وليس في هذه الرواية أنه ردها إلى العلويين، وإنما وضعها حيث كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يضعها ومن المعلوم أن رسول الله أقطعها إلى بضعته سيدة نساء العالمين فاطمة الزهراءعليها‌السلام وتصرفت بها في حياة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولكن القوم رغبوا في مصادرتها لمصالح سياسية دعتهم إلى ذلك.

ج ـ إن عمر بن عبد العزيز لما أعلن رد فدك إلى العلويين نقم عليه بنو أُمية فقالوا له: نقمت على الشيخين ـ يعني أبا بكر وعمر ـ فعلهما وطعنت عليهما، ونسبتهما إلى الظلم، فقال: قد صح عندي وعندكم أن فاطمة بنت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ادعت فدكاً، وكانت في يدها، وما كانت لتكذب على

ــــــــــــــ

(١) المناقب: ٤/٢٠٧ ـ ٢٠٨.

(٢) هكذا في الأصل والصحيح ثم أطعها عثمان مروان.

(٣) تاريخ بن الأثير: ٤/١٦٤.

٦٤

رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مع شهادة علي، وأم أيمن وأم سلمة، وفاطمة عندي صادقة فيما تدعي، وإن لم تقم البيّنة وهي سيدة نساء الجنة، فأنا اليوم أردها على ورثتها أتقرب بذلك إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأرجو أن تكون فاطمة والحسن والحسين يشفعون لي يوم القيامة، ولو كنت بدل أبي بكر وادعت فاطمةعليها‌السلام كنت أصدقها على دعوتها، ثم سلمها إلى الإمام الباقرعليه‌السلام (١) .

الإمام محمّد الباقرعليه‌السلام وعمر بن عبد العزيز

وكانت للإمام أبي جعفرعليه‌السلام عدة مواقف مع عمر بن عبد العزيز:

منها: تنبؤ الإمام بخلافة عمر: وأخبر الإمامعليه‌السلام بخلافة عمر بن عبد العزيز وذلك قبل أن تصير إليه الخلافة. قال أبو بصير: كنت مع الإمام أبي جعفرعليه‌السلام في المسجد إذ دخل عمر بن عبد العزيز، وعليه ثوبان ممصّران متكياً على مولى له، فقالعليه‌السلام :ليلينّ هذا الغلام، فيظهر العدل (٢) . إلا أنه قدح في ولايته من جهة وجود من هو أولى منه بالحكم.

ومنها: وصاياه لعمر حين الخلافة: ولما ولي عمر بن عبد العزيز الخلافة كرّم الإمام أبا جعفرعليه‌السلام وعظّمه وأرسل خلفه فنون بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، وكان من عُبّاد أهل الكوفة، فاستجاب له الإمامعليه‌السلام وسافر إلى دمشق، فاستقبله عمر استقبالاً رائعاً، واحتفى به، وجرت بينهما أحاديث، وبقي الإمام أياماً في ضيافته ولما أراد الإمام الانصراف إلى يثرب خف إلى توديعه فجاء إلى البلاط الأُموي وعرّف الحاجب بأمره فأخبر عمر بذلك، فخرج رسوله فنادى أين أبو جعفر ليدخل، فأشفق الإمام أن يدخل خشية أن لا يكون هو، فقفل الحاجب إلى عمر وأخبره بعدم حضور الإمام، فقال له: كيف قلت؟ قال: قلت: أين أبو جعفر؟ فقال له: اخرج وقل: أين محمد بن علي؟ ففعل ذلك، فقام الإمامعليه‌السلام ، ودخل عليه وحدّثه ثم قال له:إني أريد الوداع ، فقال له عمر: أوصني.

ــــــــــــــ

(١) سفينة البحار: ٢/٢٧٢.

(٢) بحار الأنوار: ٤٦/٢٥١ .

٦٥

فقالعليه‌السلام :(أوصيك بتقوى الله، واتخذ الكبير أباً، والصغير ولداً والرجل أخاً...) .

وبهر عمر من وصية الإمام وراح يقول بإعجاب: (جمعت لنا والله، ما إن أخذنا به، وأماتنا الله عليه استقام لنا الخير).

وخرج الإمام من عنده، ولما أراد الرحيل بادره رسول عمر فقال له: إن عمر يريد أن يأتيك. فانتظره الإمام حتى أقبل فجلس بين يدي الإمام مبالغة في تكريمه وتعظيمه، ثم انصرف عنه(١) .

ومنها: تقريظه لعمر: ونقلت مباحث الأمويين إلى عمر أن الإمام أبا جعفرعليه‌السلام هو بقية أهله العظماء الذين رفعوا راية الحق والعدل في الأرض، وقد أراد عمر أن يختبره فكتب إليه، فأجابه الإمامعليه‌السلام برسالة فيها موعظة ونصيحة له، فقال عمر: اخرجوا كتابه إلى سليمان. فاخرج كتابه، فوجده يقرّظه، ويمدحه، فأنفذه إلى عامله على المدينة، وأمره أن يعرضه عليه مع كتابه إلى عمر، ويسجّل ما يقوله الإمامعليه‌السلام .

وعرضه العامل على الإمام فقالعليه‌السلام :إن سليمان كان جباراً كتبت إليه ما يكتب إلى الجبارين، وإن صاحبك أظهر أمراً، وكتبت إليه بما شاكله .

وكتب العامل هذه الكلمات إلى عمر فلما قرأها أظهر إعجابه بالإمامعليه‌السلام ، وراح يقول: (إنّ أهل هذا البيت لا يخلّيهم الله من فضل ...)(٢) .

ووجهت لعمر بن عبد العزيز بعض المؤاخذات رغم جميع مآثره:

منها: أنه أقرّ القطائع التي أقطعها من سبقه من أهل بيته، وهي من دون شك كانت بغير وجه مشروع.

ــــــــــــــ

(١) تاريخ دمشق: ٥٤/٢٧٠.

(٢) تاريخ اليعقوبي: ٢/٤٨.

٦٦

ومنها: أن عمّاله وولاته على الأقطار والأقاليم الإسلامية قد جهدوا في ظلم الناس وابتزاز أموالهم.

حتّى إنّ عمر كان يخطب على المنبر فانبرى إليه رجل فقطع عليه خطابه، وقال له:

إن الذين بعثت في أقطارها

نبذوا كتابك واستحل المحرم

طلس الثياب على منابر أرضنا

كل يجور وكلهم يتظلم

وأردت أن يلي الأمانة منهم

عدل وهيهات الأمين المسلم(١)

ومنها: أنه أقر العطاء الذي كان للأشراف، فلم يغيره في حين أنه كان يتنافى مع المبادئ الإسلامية التي ألزمت بالمساواة بين المسلمين، وألغت التمايز بينهم.

ومنها: أنه زاد في عطاء أهل الشام عشرة دنانير، ولم يفعل مثل ذلك في أهل العراق(٢) . ولا وجه لهذا التمييز الذي يتصادم مع روح الإسلام.

وألمت الأمراض بعمر بن عبد العزيز، وقالوا: إنه امتنع من التداوي فقيل له: لو تداويت؟ فقال: لو كان دوائي في مسح أذني ما مسحتها، نعم المذهوب إليه ربي(٣) .

وتنص بعض المصادر على أنّه سقي السم من قبل الأمويين لأنهم علموا أنه إن امتدت أيامه فسوف يخرج الأمر منهم، ولا يعهد بالخلافة إلا لمن

ــــــــــــــ

(١) حياة الإمام موسى بن جعفر: ١/٣٥٠.

(٢) تاريخ اليعقوبي: ٢/٤٨.

(٣) تاريخ ابن الأثير: ٤/١٦١.

٦٧

يصلح لها فعاجلوه(١) . وتوفي في دير سمعان في شهر رجب(٢) سنة (١٠١ هـ ).

يزيد بن عبد الملك

واستولى يزيد بن عبد الملك على الحكم بعهد من أخيه سليمان، وأقام أربعين يوماً يسير بين الناس بسياسة عمر بن عبد العزيز، فشق ذلك على بني أمية، فأتوه بأربعين شيخاً فشهدوا بأنه ليس على الخلفاء حساب ولا عقاب(٣) . فعدل عن سياسة عمر، وساس الناس سياسة عنف وجبروت، وعمد إلى عزل جميع ولاة عمر، وكتب مرسوماً إلى عماله جاء فيه:

(أما بعد فإنّ عمر بن عبد العزيز كان مغروراً، فدعوا ما كنتم تعرفون من عهده، وأعيدوا الناس إلى طبقتهم الأولى، أخصبوا أم أجدبوا، أحبوا أم كرهوا، حيوا أم ماتوا...)(٤) .

وعاد الظلم على الناس بأبشع صوره وألوانه، وانتشر الجور، وعم الطغيان جميع أنحاء البلاد.

لقد كان يزيد بن عبد الملك جاهلاً، حقوداً على أهل العلم، حتى أنّه كان يحتقر العلماء، ويسمي الحسن البصري بالشيخ الجاهل(٥) كما كان مسرفاً في اللهو والمجون حتى هام بحب حبابة، وقد ثمل يوماً، فقال: دعوني أطير، فقالت حبابة: على من تدع الأمة؟ قال: عليك. وخرجت معه إلى الأردن يتنزهان فرماها بحبة عنب فدخلت حلقها فشرقت، ومرضت، وماتت فتركها

ــــــــــــــ

(١) الإنافة في مآثر الخلافة: ١/١٤٢.

(٢) تاريخ ابن الأثير: ٤ / ١٦١.

(٣) المصدر السابق: ٩/٢٣٢.

(٤) العقد الفريد: ٣/١٨٠.

(٥) الطبقات الكبرى: ٥/٩٥.

٦٨

ثلاثة أيام لم يدفنها حتى أنتنت، وهو يشمها، ويقبلها، وينظر إليها ويبكي، فكلم في أمرها حتى أذن في دفنها، وعاد إلى مقره كئيباً حزيناً(١) .

وله أخبار كثيرة مخزية في الدعارة واللهو أعرضنا عن ذكرها، وهلك سنة (١٠٥ هـ ).

هشام بن عبد الملك

استولى هشام بن عبد الملك على الحكم في اليوم الذي هلك فيه أخوه يزيد لخمس بقين من شوال وهو المعروف بأحول بني أمية وكان حقوداً على ذوي الأحساب العريقة، ومبغضاً لكل شريف.

ومن مظاهر بخله انه كان يقول: ضع الدرهم على الدرهم يكون مالاً(٢) وقد جمع من المال ما لم يجمعه خليفة قبله(٣) .

وقال: ما ندمت على شيء ندامتي على ما أهب، إن الخلافة تحتاج إلى الأموال كاحتياج المريض إلى الدواء(٤) .

ودخل إلى بستان له فيها فاكهة فجعل أصحابه يأكلون من ثمرها، فأوعز إلى غلامه بقلع الأشجار وزراعة الزيتون لئلا يأكل منه أحد(٥) .

ووصفه اليعقوبي بأنه بخيل فظ ظلوم شديد القسوة، وهو الذي قتل زيد بن علي، وتعرض الإمام أبو جعفرعليه‌السلام في عهده إلى ضروب من المحن والآلام والتي كان من بينها ما يلي:

ــــــــــــــ

(١) الكامل في التاريخ: ٥/١٢١.

(٢) البخلاء: ١٥٠.

(٣) أخبار الدول: ٢/٢٠٠.

(٤) انساب الأشراف: ٨/٣٩٩ طبعة دار الفكر المحققة ١٤١٧ هـ.

(٥) البخلاء: ١٥٠.

٦٩

حمل الإمام الباقرعليه‌السلام إلى دمشق واعتقاله:

لقد أمر الطاغية هشام عاملَه على المدينة بحمل الإمام إلى دمشق وقد روى المؤرخون في ذلك روايتين:

الرواية الأولى: أن الإمامعليه‌السلام لما انتهى إلى دمشق، وعلم هشام بقدومه أوعز إلى حاشيته أن يقابلوا الإمام بمزيد من التوهين والتوبيخ عندما ينتهي حديثه معه.

ودخل الإمامعليه‌السلام على هشام فسلم على القوم ولم يسلم عليه بالخلافة، فاستشاط هشام غضباً، وأقبل على الإمامعليه‌السلام فقال له: (يا محمد بن علي لا يزال الرجل منكم قد شق عصا المسلمين، ودعا إلى نفسه، وزعم أنه الإمام سفهاً وقلة علم...).

ثمّ سكت هشام فأنبرى عملاؤه وجعلوا ينالون من الإمام ويسخرون منه. وهنا تكلّم الإمامعليه‌السلام فقال:(أيها الناس: أين تذهبون؟ وأين يراد بكم؟ بنا هدى الله أولكم وبنا يختم آخركم، فان يكن لكم ملك معجّل، فان لنا ملكاً مؤجلاً، وليس بعد ملكنا ملك، لأنا أهل العاقبة، والعاقبة للمتقين...) (١) .

وخرج الإمام بعد أن ملأ نفوسهم حزناً وأسى، ولم يستطعيوا الرد على منطقه القويّ.

وازدحم أهل الشام على الإمامعليه‌السلام وهم يقولون: هذا ابن أبي تراب، فرأى الإمام أن يهديهم إلى سواء السبيل، ويعرفهم بحقيقة أهل البيت، فقام فيهم خطيباً، فحمد الله وأثنى عليه، وصلَّى على رسول الله ثم قال:

اجتنبوا أهل الشقاق، وذرية النفاق، وحشو النار، وحصب جهنم عن البدر الزاهر، والبحر الزاخر، والشهاب الثاقب، وشهاب المؤمنين، والصراط المستقيم، من قبل أن نطمس وجوهاً فنردّها على أدبارها أو يلعنوا كما لعن أصحاب السبت، وكان أمر الله مفعولاً...

ــــــــــــــ

(١) بحار الأنوار: ١١/٧٥.

٧٠

ثم قال بعد كلام له:أبِصِنْوِ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ يعني الإمام أمير المؤمنين ـتستهزئون؟ أم بيعسوب الدين تلمزون؟ وأي سبيل بعده تسلكون؟! وأيّ حزن بعده تدفعون؟ هيهات برز ـ والله ـ بالسبق وفاز بالخصل واستولى على الغاية، وأحرز على الختار (١) فانحسرت عنه الأبصار، وخضعت دونه الرقاب، وفرع الذروة العليا، فكذب من رام من نفسه السعي، وأعياه الطلب، فأنّى لهم التناوش (٢) من مكان بعيد؟!

ثم قال:فأنّى يسدّ ثلمة أخي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذ شفعوا، وشقيقه إذ نسبوا وندّ يده إذ قتلوا، وذي قرني كنزها إذ فتحوا، ومصلي القبلتين إذ تحرفوا، والمشهود له بالإيمان إذ كفروا، والمدعي لنبذ عهد المشركين إذ نكلوا والخليفة على المهاد ليلة الحصار إذ جزعوا، والمستودع الأسرار ساعة الوداع...) (٣) .

ولمّا ذاع فضل الإمام بين أهل الشام، أمر الطاغية باعتقاله وسجنه.

وحين احتف به السجناء وأخذوا يتلقون من علومه وآدابه، خشي مدير السجن من الفتنة فبادر إلى هشام فأخبره بذلك فأمره بإخراجه من السجن، وإرجاعه إلى بلده(٤) .

الرواية الثانية: وهي التي رواها لوط بن يحيى الأسدي عن عمارة بن زيد

ــــــــــــــ

(١) الختار: الغدر.

(٢) التناوش: التناول.

(٣) مناقب آل أبي طالب: ٤/٢٠٣ ـ ٢٠٤.

(٤) بحار الأنوار: ١١/٧٥.

٧١

الواقدي حيث قال: حج هشام بن عبد الملك بن مروان سنة من السنين(١) ، وكان قد حج فيها الإمام محمّد بن علي الباقر وابنه الإمام جعفر الصادقعليهما‌السلام فقال جعفر أمام حشد من الناس فيهم مسلمة بن عبد الملك:(الحمد لله الذي بعث محمداً بالحق نبيّاً، وأكرمنا به، فنحن صفوة الله على خلقه، وخيرته من عباده، فالسعيد من تبعنا، والشقي من عادانا وخالفنا...) .

وبادر مسلمة بن عبد الملك إلى أخيه هشام فأخبره بمقالة الإمام الصادقعليه‌السلام فأسرّها هشام في نفسه، ولم يتعرض للإمامين بسوء في الحجاز إلا أنه لما قفل راجعاً إلى دمشق أمر عامله على يثرب بإشخاصهما إليه ولما انتهيا إلى دمشق حجبهما ثلاثة أيام، ولم يسمح لهما بمقابلته استهانة بهما، وفي اليوم الرابع أذن لهما في مقابلته، وكان مجلساً مكتظاً بالأمويين وسائر حاشيته، وقد نصب ندماؤه برجاساً(٢) وأشياخ بني أمية يرمونه.

يقول الإمام الصادقعليه‌السلام :(فلما دخلنا، كان أبي أمامي وأنا خلفه فنادى هشام:

(يا محمد ارم مع أشياخ قومك).

فقال أبي: (قد كبرت عن الرمي، فإن رأيت أن تعفيني).

فصاح هشام: (وحقّ من أعزّنا بدينه ونبيّه محمّد لا أعفيك...) . وظن الطاغية أن الإمام سوف يخفق في رمايته فيتخذ ذلك وسيلة للحط من شأنه أمام الغوغاء من أهل الشام، وأومأ إلى شيخ من بني أمية أن يناول الإمامعليه‌السلام قوسه. فناوله، وتناول معه سهماً فوضعه في كبد القوس، ورمى به الغرض فأصاب وسطه، ثم تناول سهماً فرمى به فشق السهم الأول إلى نصله.

ــــــــــــــ

(١) ذكر اليعقوبي أن هشاماً حجّ سنة ١٠٦ هجرية.

(٢) البرجاس: جاء في معجم المعرّبات الفارسية: أن (البرجاس) هدف، (شي في الهواء، معلّق على رأس رمح أو نحوه) وهو معرّب ويراد به: هدف السهم.

٧٢

وتابع الإمام الرمي حتى شق تسعة أسهم بعضها في جوف بعض، ولم يحصل بعض ذلك لأعظم رام في العالم. وأخذ هشام يضطرب من الغيظ، وورم أنفه، فلم يتمالك أن صاح:

(يا أبا جعفر أنت أرمى العرب والعجم!! وزعمت أنك قد كبرت!!) ثم أدركته الندامة على تقريظه للإمام، فأطرق برأسه إلى الأرض والإمام واقف. ولما طال وقوفه غضبعليه‌السلام وبان ذلك على سحنات وجهه الشريف. وكان إذا غضب نظر إلى السماء. ولمّا بصر هشام غضب الإمام قام إليه واعتنقه، وأجلسه عن يمينه، وأقبل عليه بوجهه قائلاً: (يا محمد، لا تزال العرب والعجم تسودها قريش، ما دام فيها مثلك. لله درك!! مَن علّمك هذا الرمي؟ وفي كم تعلّمته؟ أيرمي جعفر مثل رميك؟ ...).

فقال أبو جعفرعليه‌السلام :(إنا لنحن نتوارث الكمال) .

وثار الطاغية، واحمرّ وجهه، وهو يتميز من الغيظ، وأطرق برأسه إلى الأرض، ثم رفع رأسه، وراح يقول: (ألسنا بنو عبد مناف نسبنا ونسبكم واحد؟).

ورد عليه الإمام مزاعمه قائلاً:(نحن كذلك، ولكن الله اختصنا من مكنون سرّه، وخالص علمه بما لم يخص به أحداً غيرنا) .

وطفق هشام قائلاً: (أليس الله بعث محمداًصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من شجرة عبد مناف إلى الناس كافة أبيضها وأسودها وأحمرها، فمن أين ورثتم ما ليس لغيركم؟ ورسول الله مبعوث إلى الناس كافة، وذلك قول الله عَزَّ وجَلَّ:( وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ) ؟ فمن أين ورثتم هذا العلم وليس بعد محمّد نبيّ، ولا أنتم أنبياء؟!)

وردّ عليه الإمام ببالغ الحجة قائلاً:من قوله تعالى لنبيّه ( لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ ) فالذي لم يحرك به لسانه لغيرنا أمره الله تعالى أن يخصنا به من دون غيرنا، فلذلك كان يناجي أخاه علياً من دون أصحابه، وأنزل الله به قرآناً في قوله: ( وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ ) فقال رسول الله: سألت الله أن يجعلها أذنك يا علي، فلذلك قال علي: علّمني رسول الله ألف باب من العلم يفتح من كل باب ألف باب، خصّه به النبي من مكنون سرّه، كما خصّ الله نبيّه، وعلّمه ما لم يخص به أحداً من قومه، حتى صار إلينا فتوارثناه من دون أهلنا .

والتاع هشام من هذا الجواب، فالتفت إلى الإمام ـ وهو غضبان ـ قائلاً: إنَّ عليّاً كان يدّعي علم الغيب والله لم يطلع على غيبه أحداً، فكيف ادّعى ذلك؟ ومن أين؟

٧٣

فأجابه الإمام قائلاً:(إن الله أنزل على نبيّه كتاباً بين دفتيه فيه ما كان وما يكون إلى يوم القيامة في قوله تعالى: ( وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ ) وفي قوله تعالى: ( وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ ) وفي قوله تعالى: ( مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ) وفي قوله تعالى: ( وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ) وأوحى الله إلى نبيّه أن لا يبقي في عيبة سرّه، ومكنون علمه شيئاً إلاّ يناجي به عليّاً، فأمره أن يؤلف القرآن من بعده، ويتولّى غسله وتحنيطه من دون قومه، وقال لأصحابه: حرام على أصحابي وقومي أن ينظروا إلى عورتي غير أخي علي، فانه مني، وأنا منه، له ما لي، وعليه ما عليّ، وهو قاضي ديني، ومنجز موعدي، ثم قال لأصحابه: علي بن أبي طالب يقاتل على تأويل القرآن كما قاتلت على تنزيله، ولم يكن عند أحد تأويل القرآن بكماله وعامّه إلا عند علي، ولذلك قال رسول الله: (أقضاكم علي) أي هو قاضيكم، وقال عمر بن الخطاب: لولا علي لهلك عمر، يشهد له عمر ويجحده غيره!) .

وأطرق هشام برأسه إلى الأرض، ولم يجد منفذاً يسلك فيه للرد على الإمام، فقال له: (سل حاجتك).

قال الإمامعليه‌السلام :(خلّفت أهلي وعيالي مستوحشين لخروجي) .

٧٤

قال هشام: آنس الله وحشتهم برجوعك إليهم، فلا تقم وسر من يومك)(١) .

وهذه الرواية لم تشر إلى ما جرى على الإمام من الاعتقال في دمشق، ولكنها تشير إلى خروج الإمام من المدينة في حالة غير طبيعية بحيث استوحش أهله من خروجه.

الإمام الباقرعليه‌السلام مع قسّيس نصراني

والتقى الإمام أبو جعفرعليه‌السلام في الشام مع قسيس من كبار علماء النصارى جرت بينهما مناظرة اعترف القسيس فيها بعجزه، وعدم استطاعته على محاججة الإمام ومناظرته.

قال أبو بصير: قال أبو جعفرعليه‌السلام :مررت بالشام، وأنا متوجه إلى بعض خلفاء بني أمية فإذا قوم يمرون، قلت: أين تريدون؟ قالوا: إلى عالم لم نر مثله، يخبرنا بمصلحة شأننا ، قالعليه‌السلام :فتبعتهم حتى دخلوا بهواً عظيماً فيه خلق كثير، فلم ألبث أن خرج شيخ كبير متوكئ على رجلين، قد سقطت حاجباه على عينيه، وقد شدهما فلما استقرّ به المجلس نظر إليَّ وقال: منا أنت أم من الأمة المرحومة؟

قلت: من الأمة المرحومة. فقال: أمن علمائها أو من جهّالها؟

قلت: لست من جهّالها فقال: أنتم الذين تزعمون أنكم تذهبون إلى الجنة فتأكلون وتشربون ولا تُحْدِثون؟!!

قلت: نعم. فقال: هات على هذا برهاناً.

فقلت: نعم، الجنين يأكل في بطن أمه من طعامها، ويشرب من شرابها، ولا يُحْدِث. فقال: ألست زعمت أنك ليست من علمائها؟

قلت: لست من جهّالها. فقال: أخبرني عن ساعة ليست من النهار، ولا من الليل.

فقلت: هذه ساعة من طلوع الشمس، لا نعدها من ليلنا، ولا من نهارنا وفيها تفيق المرضى .

وبهر القسيس، وراح يقول للإمام: ألست زعمت أنك لست من علمائها؟!

فقلت: إنما قلت: لست من جهّالها. فقال: والله لأسألنك عن مسألة ترتطم فيها.

فقلت: هات ما عندك. فقال: أخبرني عن رجلين ولدا في ساعدة واحدة، وماتا في ساعة واحدة؟ عاش أحدهما مائة وخمسين سنة، وعاش الآخر خمسين سنة؟

ــــــــــــــ

(١) دلائل الإمامة: ١٠٤ ـ ١٠٦.

٧٥

فقلت: ذاك عزير وعزرة، ولدا في يوم واحد، ولما بلغا مبلغ الرجال مرّ عزير على حماره بقرية وهي خاوية على عروشها، فقال: أنّى يحيي الله هذه بعد موتها، وكان الله قد اصطفاه وهداه، فلمّا قال ذلك غضب الله عليه وأماته مائة عام ثم بعثه، فقيل له: كم لبثت؟ قال: يوماً أو بعض يوم. وعاش الآخر مائة وخمسين عاماً، وقبضه الله وأخاه في يوم واحد.

وصاح القسيس بأصحابه، والله لا أكلمكم، ولا ترون لي وجهاً اثني عشر شهراً (١) ، حيث توهم أنهم تعمّدوا إدخال الإمام أبي جعفرعليه‌السلام عليه لإفحامه وفضحه، فنهض الإمام أبو جعفرعليه‌السلام وأخذت أندية الشام تتحدث عن وفور فضله، وعن قدراته العلمية.

ــــــــــــــ

(١) الدر النظيم: ١٩٠، دلائل الإمامة: ١٠٦.

٧٦

محاولة اغتيال الإمام الباقرعليه‌السلام

وهنا أمر الطاغية بمغادرة الإمام أبي جعفرعليه‌السلام لمدينة دمشق خوفاً من أن يفتتن الناس به، وينقلب الرأي العام ضد بني أمية، ولكنه أوعز إلى أسواق المدن والمحلات التجارية الواقعة في الطريق أن تغلق محلاتها بوجهه، ولا تبيع عليه أية بضاعة، وأراد بذلك هلاك الإمامعليه‌السلام والقضاء عليه.

وسارت قافلة الإمامعليه‌السلام وقد أضناها الجوع والعطش فاجتازت على بعض المدن فبادر أهلها إلى إغلاق محلاتهم بوجه الإمام، ولما رأى الإمام ذلك صعد على جبل هناك، ورفع صوته قائلاً:

(يا أهل المدينة الظالم أهلها أنا بقية الله، يقول الله تعالى: ( بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ ) .

وما أنهى الإمام هذه الكلمات حتى بادر شيخ من شيوخ المدينة فنادى أهل قريته قائلاً:

(يا قوم هذه والله دعوة شعيب، والله لئن لن تخرجوا إلى هذا الرجل بالأسواق لتؤخذنّ من فوقكم، ومن تحت أرجلكم فصدّقوني هذه المرة، وأطيعوني، وكذبوني فيما تستأنفون فاني ناصح لكم...).

وفزع أهل القرية فاستجابوا لدعوة الشيخ الذي نصحهم، ففتحوا حوانيتهم واشترى الإمام ما يريده من المتاع(١) وفسدت مكيدة الطاغية وما دبّره للإمامعليه‌السلام وقد انتهت إليه الأنباء بفشل مؤامرته. ولم يقف عند هذا الحد فقد أخذ يطلب له الغوائل حتى دسّ إليه السم القاتل، كما سنذكر ذلك فيما بعد.

ــــــــــــــ

(١) المناقب: ٤/٦٩٠، بحار الأنوار: ١١/٧٥، راجع حياة الإمام محمد الباقر عليه‌السلام : ٢/٤٠ ـ ٦٦.

٧٧

أهم ملامح عصر الإمام محمد الباقرعليه‌السلام

١ ـ في الفترة الواقعة بين سنة ( ٩٥ هـ ـ ٩٧ هـ ) وفي بداية تصدّي الإمام محمد الباقرعليه‌السلام للإمامة كان الحاكم الأُموي الوليدُ بن عبد الملك قد بدأ باتخاذ بعض الأساليب لامتصاص النقمة الشعبية التي خلقتها السياسة الإرهابية التي انتهجها السفّاك الأثيم الحجّاج بن يوسف وبعض الولاة الآخرين(١) .

٢ ـ تصدّعت الجبهة الداخلية للبيت الأُموي المرواني، ودبّ الخلاف بين الوليد وأخيه سليمان، حيث أراد الوليد خلعه ومبايعة ابنه عبد العزيز، فأبى عليه سليمان، ولم يجبه للبيعة جميع الولاة باستثناء الحجّاج وقتيبة بن مسلم وبعض الخواصّ من الناس، فعزم الوليد على السير إليه ليخلعه بالقوّة فمات قبل ذلك(٢) .

٣ ـ وفي بداية حكومة سليمان بن عبد الملك انشغل سليمان بمتابعة ولاة الوليد وعزلهم عن مناصبهم(٣) وحاول إصلاح بعض الأوضاع المتردّية تقرباً إلى الناس، فأطلق المعتقلين وفكَّ الأسرى(٤) .

٤ ـ كانت الدولة محاطة بجملة من المخاطر من الداخل والخارج(٥) . فانشغل الحكّام والولاة عن ملاحقة أو محاصرة الإمام الباقرعليه‌السلام خوفاً من قاعدته الشعبية العريضة والمتنامية فتصدىعليه‌السلام للإمامة وقام بأداء دوره الإصلاحي والتغييري في أوساط الأمة الإسلامية، بعيداً عن المواجهة السياسية العلنية للنظام القائم.

ــــــــــــــ

(١) المنتظم في تاريخ الأمم والملوك: ٧ / ٣.

(٢) المصدر السابق: ٧ / ١٢.

(٣) الكامل في التاريخ: ٥ / ١١.

(٤) المنتظم: ٧ / ١٣.

(٥) الكامل في التاريخ: ٥ / ١٣ وما بعدها.

٧٨

مظاهر الانحراف في عصر الإمام الباقرعليه‌السلام :

إن إقصاء أهل البيتعليهم‌السلام عن موقع القيادة وإمامة المسلمين أدّى إلى الانحراف في جميع مجالات الحياة، وترك تأثيره السلبي على جميع مقومات الشخصية، في الفكر والعاطفة والسلوك، فعمّ الانحراف الدولة والأمة معاً، كما عمّ التصورات والمبادئ، والموازين والقيم، والأوضاع والتقاليد، والعلاقات والممارسات العملية جميعاً.

نعم تغلغل الانحراف في ميدان النفس، وميدان الحياة الاجتماعية، وتحوّل الإسلام إلى طقوس ميتة لا تمتّ إلى الواقع بصلة، خلافاً لأهداف الإسلام الذي جاء من أجل تقرير المنهج الإلهي في الحياة. فانحسر عن الكثير من تلك المجالات ليصبح علاقة فرديّة بين الإنسان وخالقه فحسب.

أوّلاً: الانحراف الفكري والعقائدي

ازداد الانحراف في عهود الملوك المتعاقبين على الحكم، وكان للأفكار والعقائد نصيبها الأكبر من هذا الانحراف، ولم يكترث الحكّام بهذا الانحراف بل شجّعوا عليه; لأنه كان يخدم مصالح الحكم القائم، ويشغل المسلمين عن همومهم الأساسية وبخاصة التفكير في مجال تغيير الأوضاع وإعادتها إلى ما كانت عليه في عهد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعهد أمير المؤمنين علي بن أبي طالبعليه‌السلام .

فكثرت في عهد الأمويين الانحرافات الفكرية والعقائدية وتعدّدت وتعاظمت، وأصبح لها أتباع وأنصار، وتحولت إلى تيارات وكيانات خالف الكثير منها الأسس الواضحة للعقيدة الإسلامية، وابتدعوا ما لا يجوز من الأمور المخالفة للقرآن الكريم وللسنة النبوية، فانتشرت أفكار الجبر والتفويض والإرجاء، كما انتشرت أفكار التجسيم وتشبيه الله تعالى بخلقه، وكثرت الشبهات حول ثوابت العقيدة، وكثر الحديث حول ماهية الله تعالى وذاته، وتنوّعت تيّارات الغلوّ، حتى زعم البعض حلول الذات الإلهية في قوم من الصالحين، وقالوا بالتناسخ، وانتشرت الزندقة، فجحدوا البعث والنشور، وأسقطوا الثواب والعقاب وزُوِّرت الأحاديث والروايات واختُلِق كثير منها; لدعم التسلط الأُموي، كما راج اختلاق الفضائل لصالح المنحرفين من الصحابة، وطرحت نظرية عدالة جميع من صحب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو رآه أو ولد في عهده، بينما منعوا ـ من جانب آخر ـ من نشر فضائل أهل البيتعليهم‌السلام .

٧٩

وكان للحكّام دور كبير في تشجيع هذا الانحراف المتمثّل في اختلاق النصوص وقد وصف الإمام علي بن موسى الرضاعليه‌السلام ذلك قائلاً:(إنّ مخالفينا وضعوا أخباراً في فضائلنا وجعلوها على ثلاثة أقسام: أحدها: الغلو. وثانيها: التقصير في أمرنا. وثالثها: التصريح بمثالب أعدائنا) (١) .

وانتشرت ظاهرة الإفتاء بالرأي، وراج القياس في الأحكام والتفسير بالرأي لآيات القرآن المجيد، كما انتشرت أفكار التصوّف والاعتزال عن الحياة، وفصل الدين عن السياسة.

وأشغل الحكّام كثيراً من الناس بالجدل في المسائل العقلية التي لا فائدة فيها، وشجّعوا على إقامة مجالس المناظرة والجدل العقيم في ذات الله تعالى وفي الملائكة، وفي قدم القرآن أو حدوثه.

وهكذا كان للحكّام دور كبير في خلق المذاهب المنحرفة والتشجيع عليها، لا سيَّما بعض المذاهب التي كانت تحمل شعار الانتساب إلى أهل البيتعليهم‌السلام كالكيسانية لغرض شق صفوف أتباع أهل البيتعليهم‌السلام الذين كانوا يستهدفون الواقع السياسي المنحرف.

ــــــــــــــ

(١) عيون أخبار الرضا: ١ / ٣٠٤.

٨٠