اعلام الهداية - الإمام محمد بن علي الباقر (عليه السلام)

اعلام الهداية - الإمام محمد بن علي الباقر (عليه السلام)0%

اعلام الهداية - الإمام محمد بن علي الباقر (عليه السلام) مؤلف:
الناشر: مركز الطباعة والنشر للمجمع العالمي لأهل البيت (عليهم السلام)
تصنيف: الإمام محمد بن علي الباقر عليه السلام
ISBN: 964- 5688-23
الصفحات: 220

اعلام الهداية - الإمام محمد بن علي الباقر (عليه السلام)

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: المجمع العالمي لأهل البيت (عليهم السلام)
الناشر: مركز الطباعة والنشر للمجمع العالمي لأهل البيت (عليهم السلام)
تصنيف: ISBN: 964- 5688-23
الصفحات: 220
المشاهدات: 119155
تحميل: 5787

توضيحات:

اعلام الهداية - الإمام محمد بن علي الباقر (عليه السلام)
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 220 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 119155 / تحميل: 5787
الحجم الحجم الحجم
اعلام الهداية - الإمام محمد بن علي الباقر (عليه السلام)

اعلام الهداية - الإمام محمد بن علي الباقر (عليه السلام)

مؤلف:
الناشر: مركز الطباعة والنشر للمجمع العالمي لأهل البيت (عليهم السلام)
ISBN: 964- 5688-23
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

المسلم أن يظلمه أو يخذله، أو يدفعه دفعة تعنته) (١) .

ودعا إلى المجاملة حفاظاً على الأفق العام من العلاقات فقال:(خالطوهم بالبرّانية وخالفوهم بالجوّانية إن كانت الإمرة صبيانية) (٢) .

عاشراً: الإمام الباقرعليه‌السلام ومستقبل الجماعة الصالحة

من أهم مقومات نجاح مسيرة الجماعات وجود قيادة تقوم بالإشراف على حركتها التكاملية، وتتبنى التغيير الشامل، وتقوم بتنسيق البرامج والخطط، وتشرف على تنفيذها في الواقع، وتمدّها بالقوة الروحية والشحنة المعنوية للوصول إلى أهدافها وآمالها، والقيادة في منهج أهل البيتعليهم‌السلام هي قيادة ربّانية نصّ عليها الله تعالى وأبلغها لرسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأبلغها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأمير المؤمنينعليه‌السلام وتتدرج الوصية من إمام إلى إمام حتى تصل إلى خاتم الأوصياء والأئمةعليهم‌السلام .

وقد أولى الإمام الباقرعليه‌السلام الإمامة من بعده أهمية خاصة ووجّه أنظار أصحابه إليها، في شروطها وخصائصها، وفي تشخيصها في الواقع، فأعلن عنها تارةً إعلاناً جلياً وآخر خفياً، ابتداءً من أول مراحل إمامته، حتى أواخر أيامه الشريفة، وكان يستثمر الفرص المناسبة للإشارة إليها وتأكيد الاقتداء بها.

وكان الإعلان عن إمامة الإمام جعفر الصادقعليه‌السلام مصحوباً بالسريّة، وفي نطاق محدود لم يخبر بها إلاّ أصحابه المخلصين المقرّبين له، حفاظاً على سلامة الإمام من بعده.

روي عن محمد بن مسلم أنّه قال: كنت عند أبي جعفر محمد بن علي الباقرعليه‌السلام ، إذ دخل جعفر ابنه وعلى رأسه ذؤابة، وفي يده عصا يلعب بها، فأخذه وضمّه إليه ضماً، ثم قال:بأبي أنت وأمي لا تلهو ولا تلعب .

ــــــــــــــ

(١) الكافي: ٢ / ٢٣٤.

(٢) المصدر السابق: ٢ / ٢٢٠ .

١٨١

ثم قال:(يا محمد هذا إمامك بعدي، فاقتد به، واقتبس من علمه، والله انه لهو الصادق الذي وصفه لنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ...) (١) .

وعن همام بن نافع قال: قال أبو جعفر لأصحابه يوماً:(إذا افتقدتموني فاقتدوا بهذا فإنه الإمام بعدي) ، وأشار إلى ابنه جعفرعليه‌السلام (٢) .

وسئل الإمام الباقرعليه‌السلام عن القائم فضرب بيده على أبي عبد الله جعفر ابن محمدعليه‌السلام (٣) .

وعن فضيل بن يسار، قال: كنت عند أبي جعفرعليه‌السلام فأقبل أبو عبد اللهعليه‌السلام فقال:(هذا خير البريّة بعدي) (٤) .

وعن عبد الغفار بن القاسم ـ في حديث طويل ـ جاء فيه قوله للإمام الباقرعليه‌السلام : (إني قد كبرت سنّي ودق عظمي ولا أرى فيكم ما أسره، أراكم مقتّلين مشردين خائفين، وإني أقمت على قائمكم منذ حين أقول: يخرج اليوم أو غداً.

فقال له ـ الإمام الباقرعليه‌السلام ـ:(يا عبد الغفار إن قائمنا عليه‌السلام هو السابع من ولدي، وليس هو أوان ظهوره، ولقد حدثني أبي عن أبيه عن آبائه قال: قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إن الأئمة بعدي اثنا عشر عدد نقباء بني إسرائيل، تسعة من صلب الحسين، والتاسع قائمهم، يخرج في آخر الزمان فيملأها عدلاً كما ملئت جوراً وظلماً) .

قلت: فإن كان هذا كائن يا ابن رسول الله، فإلى من بعدك ؟.

ــــــــــــــ

(١) كفاية الأثر: ٢٥٣.

(٢) المصدر السابق: ٢٥٤.

(٣) إثبات الوصيّة: ١٥٢.

(٤) المصدر السابق: ١٥٥.

١٨٢

قالعليه‌السلام :إلى جعفر وهو سيد أولادي وأبو الأئمة، صادق في قوله وفعله (١) .

وعن أبي الصباح الكناني، قال: نظر أبو جعفر إلى أبي عبد الله يمشي، فقال:ترى هذا ؟ هذا من الذين قال الله تعالى: ( وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ ) (٢)(٣) .

وعن زرارة قال: إن أبا جعفرعليه‌السلام أحضر أبا عبد اللهعليه‌السلام وهو صحيح لا علّة به، فقال له:إني أريد أن آمرك بأمر ، فقال له:مرني بما شئت ، فقال:ايتني بصحيفة ودواة ، فأتاه بها، فكتب له وصيته الظاهرة، ثم أمر أن يدعو له جماعة من قريش، فدعاهم وأشهدهم على وصيته إليه(٤) .

فهذا الإعلان أمر طبيعي لأنه وصية ظاهرة مألوفة عادةً وهي أن يوصي الموصي إلى أحد أبنائه وخصوصاً الأكبر منهم، فعن الإمام الصادقعليه‌السلام أنه قال:إنّ أبي استودعني ما هناك، وذلك أنّه لما حضرته الوفاة قال: (ادع لي شهوداً فدعوت له أربعة، منهم: نافع مولى عبد الله بن عمر، فقال: اكتب: هذا ما أوصى به يعقوب بنيه: ( يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ) وأوصى محمد بن عليّ ابنه جعفر وأمره أنْ يكفّنه في بردته ـ التي كان فيها يصليّ الجمعة ـ وقميصه وأن يعمّمه بعمامته وان يرفع قبره مقدار أربع أصابع، وأن يحلّ أطماره عند دفنه.

ثم قال للشهود: انصرفوا رحمكم الله.

ــــــــــــــ

(١) كفاية الأثر: ٢٥٢.

(٢) القصص (٢٨): ٥.

(٣) الكافي: ١ / ٣٠٦.

(٤) إثبات الوصيّة: ١٥٥.

١٨٣

فقلت: يا أبت ما كان في هذا حتى يشهد عليه ؟ قال: يا بني كرهت أن تغلب، وأن يقال: لم يوص، فأردت أن يكون ذلك الحجّة) (١) .

وأدخل الإمام الباقرعليه‌السلام الأمل في قلوب أصحابه وأتباعه وجميع أفراد الجماعة الصالحة فأخبرهم بقرب زوال حكم بني أمية(٢) .

وبالفعل بعد استشهاد الإمامعليه‌السلام بثمانية عشر عاماً سقطت الدولة الأُموية وانتهى حكم الأمويين على يد بني العباس.

وكان الإمام الصادقعليه‌السلام هو القائم بالأمر من بعده، وكما وصفه المستشار عبد الحليم الجندي: الإمام جعفر الصادق نتاج قرن كامل من العظائم يحني لها الوجود البشري هاماته ويدين بحضارته ...(٣) .

وقال أيضاً: شجرة باسقة تترعرع في كل ورقة من أوراقها خصيصة من خصائص أهل البيت في عصر جديد للعلم، تعاونت فيه أجيال ثلاثة متتابعة منه ومن أبيه وجده(٤) .

ــــــــــــــ

(١) الفصول المهمة: ٢٢٢ وفي الكافي: ١/٣٠٧ أن تكون لك الحجة.

(٢) مناقب آل ابي طالب: ٤ / ٢٠٣، الصواعق المحرقة: ٣٠٧.

(٣) الإمام جعفر الصادق: ٤.

(٤) المصدر السابق: ٦٣ .

١٨٤

الفصل الثاني: اغتيال الإمام محمّد الباقرعليه‌السلام واستشهاده

ولم يمت الإمام أبو جعفرعليه‌السلام حتف أنفه، وإنما اغتالته بالسم أيد أموية أثيمة لا تؤمن بالله، ولا باليوم الآخر، وقد اختلف المؤرخون في الأثيم الذي أقدم على اقتراف هذه الجريمة.

فمنهم من قال: إن هشام بن الحكم هو الذي أقدم على اغتيال الإمام فدسّ إليه السم(١) والأرجح هو هذا القول لأن هشاماً كان حاقداً على آل النبي بشدة وكانت نفسه مترعة بالبغض لهم وهو الذي دفع بالشهيد العظيم زيد بن عليعليه‌السلام إلى إعلان الثورة عليه حينما استهان به، وقابله بمزيد من الجفاء، والتحقير. ومن المؤكد أن الإمام العظيم أبا جعفر قد أقضّ مضجع هذا الطاغية، وذلك لذيوع فضله وانتشار علمه، وتحدث المسلمين عن مواهبه، ومن هنا أقدم على اغتياله ليتخلص منه.

ومنهم من قال: إنّ الذي أقدم على سم الإمام هو إبراهيم بن الوليد(٢) .

ويرى السيد ابن طاووس أنّ إبراهيم بن الوليد قد شرك في دم

ــــــــــــــ

(١) بحار الأنوار: ٤٦ / ٣١٢.

(٢) أخبار الدول: ١١١.

١٨٥

الإمامعليه‌السلام (١) ومعنى ذلك أن إبراهيم لم ينفرد وحده باغتيال الإمامعليه‌السلام وإنما كان مع غيره.

وأهملت بعض المصادر اسم الشخص الذي اغتال الإمامعليه‌السلام واكتفت بالقول إنه مات مسموماً(٢) .

دوافع اغتيال الإمام الباقرعليه‌السلام :

أما الأسباب التي أدت بالأمويين إلى اغتيال الإمامعليه‌السلام فهي:

١ ـ سمو شخصية الإمام الباقرعليه‌السلام : لقد كان الإمام أبو جعفرعليه‌السلام أسمى شخصية في العالم الإسلامي فقد أجمع المسلمون على تعظيمه، والاعتراف له بالفضل، وكان مقصد العلماء من جميع البلاد الإسلامية.

لقد ملك الإمامعليه‌السلام عواطف الناس واستأثر بإكبارهم وتقديرهم لأنه العلم البارز في الأسرة النبوية، وقد أثارت منزلته الاجتماعية غيظ الأمويين وحقدهم فأجمعوا على اغتياله للتخلص منه.

٢ ـ أحداث دمشق:

لا يستبعد الباحثون والمؤرخون أن تكون أحداث دمشق سبباً من الأسباب التي دعت الأمويين إلى اغتيالهعليه‌السلام وذلك لما يلي:

أ ـ تفوق الإمام في الرمي على بني أمية وغيرهم حينما دعاه هشام إلى الرمي ظاناً بأنه سوف يفشل في رميه فلا يصيب الهدف فيتخذ ذلك وسيلة للحط من شأنه والسخرية به أمام أهل الشام. ولمّا رمى الإمام وأصاب الهدف عدة مرات بصورة مذهلة لم يعهد لها نظير في عمليات الرمي في العالم، ذهل الطاغية هشام، وأخذ يتميز غيظاً، وضاقت عليه الأرض بما رحبت، وصمم منذ ذاك الوقت على اغتياله.

ــــــــــــــ

(١) بحار الأنوار: ٤٦/٢١٦.

(٢) نور الأبصار: ١٣١، الأئمة الاثنى عشر لابن طولون: ٢٨١.

١٨٦

ب ـ مناظرته مع هشام في شؤون الإمامة، وتفوق الإمام عليه حتى بان عليه العجز ممّا أدّى ذلك إلى حقده عليه.

ج ـ مناظرته مع عالم النصارى، وتغلبه عليه حتى اعترف بالعجز عن مجاراته أمام حشد كبير منهم معترفاً بفضل الإمام وتفوّقه العلمي في أمّة محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقد أصبحت تلك القضية بجميع تفاصيلها الحديث الشاغل لجماهير أهل الشام(١) . ويكفي هذا الصيت العلمي أيضاً أن يكون من عوامل الحقد على الإمامعليه‌السلام والتخطيط للتخلّص من وجوده.

نصّه على الإمام الصادقعليه‌السلام :

ونصّ الإمام أبو جعفرعليه‌السلام على الإمام من بعده قبيل استشهاده فعيّن الإمام الصادقعليه‌السلام مفخرة هذه الدنيا، ورائد الفكر والعلم في الإسلام، وجعله مرجعاً عاماً للأمة من بعده، وأوصى شيعته بلزوم اتباعه وطاعته.

وكان الإمام أبو جعفرعليه‌السلام يشيد بولده الإمام الصادقعليه‌السلام بشكل مستمر ويشير إلى إمامته، فقد روى أبو الصباح الكناني، أنّ أبا جعفر نظر إلى أبي عبد الله يمشي، فقال: ترى هذا؟ هذا من الذين قال الله عَزَّ وجَلَّ: ( ونريد أن نمنّ على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين)(٢) .

كل هذه الأمور بل وبعضها كان يكفي أن يكون وراء اغتيالهعليه‌السلام على أيدي زمرة جاهلية، افتقرت إلى أبسط الصفات الإنسانية، وحرمت من أبسط المؤهلات القيادية.

ــــــــــــــ

(١) راجع بحار الأنوار: ٤٦/٣٠٩ ـ ٣١١.

(٢) أصول الكافي: ١/٣٠٦.

١٨٧

وصاياه:

وأوصى الإمام محمد الباقرعليه‌السلام إلى ولده الإمام جعفر الصادقعليه‌السلام بعدة وصايا كان من بينها ما يلي:

١ ـ أنه قال له:يا جعفر أوصيك بأصحابي خيراً ، فقال له الإمام الصادق:جُعلت فداك والله لأدعنهم، والرجل منهم يكون في المصر فلا يسأل أحداً (١) .

٢ ـ أوصى ولده الصادقعليه‌السلام أن يكفّنه في قميصه الذي كان يصلي فيه(٢) ليكون شاهد صدق عند الله على عظيم عبادته، وطاعته له.

٣ ـ أنه أوقف بعض أمواله على نوادب تندبه عشر سنين في منى(٣) . ولعل السبب في ذلك يعود إلى أن منى أعظم مركز للتجمع الإسلامي، ووجود النوادب فيه مما يبعث المسلمين إلى السؤال عن سببه، فيخبرون بما جرى على الإمام أبي جعفرعليه‌السلام من صنوف التنكيل من قبل الأمويين واغتيالهم له، حتى لا يضيع ما جرى عليه منهم ولا تخفيه أجهزة الإعلام الأُموي.

وسرى السم في بدن الإمام أبي جعفرعليه‌السلام ، وأثّر فيه تأثيراً بالغاً، وأخذ يدنو إليه الموت سريعاً، وقد اتجه في ساعاته الأخيرة بمشاعره وعواطفه نحو الله تعالى، فأخذ يقرأ القرآن الكريم، ويستغفر الله، فوافاه الأجل المحتوم ولسانه مشغول بذكر الله فارتفعت روحه العظيمة إلى خالقها، تلك الروح التي أضاءت الحياة الفكرية والعلمية في الإسلام والتي لم يخلق لها نظير في عصره.

وقد انطوت برحيله أروع صفحة من صفحات الرسالة الإسلامية التي أمدّت المجتمع الإسلامي بعناصر الوعي والازدهار.

ــــــــــــــ

(١) أصول الكافي: ١/٣٠٦.

(٢) صفة الصفوة: ٢/٦٣، تاريخ ابن الوردي: ١/١٨٤، تاريخ أبي الفداء: ١/٢١٤.

(٣) بحار الأنوار: ١١/٦٢.

١٨٨

وقام ولده الإمام الصادقعليه‌السلام بتجهيز الجثمان المقدس فغسّله وكفنه، وهو يذرف أحر الدموع على فقد أبيه الذي ما أظلت على مثله سماء الدنيا في عصره علماً وفضلاً وحريجة في الدين.

ونقل الجثمان العظيم ـ محفوفاً بإجلال وتكريم بالغين من قبل الجماهير ـ إلى بقيع الغرقد، فحفر له قبراً بجوار الإمام الأعظم أبيه زين العابدينعليه‌السلام وبجوار عم أبيه الإمام الحسن سيد شاب أهل الجنةعليه‌السلام وأنزل الإمام الصادق أباه فى مقرّه الأخير فواراه فيه، وقد وارى معه العلم والحلم، والمعروف والبر بالناس.

لقد كان فقد الإمام أبي جعفرعليه‌السلام من أفجع النكبات التي مُني بها المسلمون في ذلك العصر، فقد خسروا القائد، والرائد، والموجه الذي بذل جهداً عظيماً في نشر العلم، وبلورة الوعي الفكري والثقافي بين المسلمين.

والمشهور بين الرواة أنه توفي وعمره الشريف ٥٨ سنة.

وكانت سنة وفاته ـ بحسب الرأي المشهور ـ سنة ١١٤ هـ.

تعزية المسلمين للإمام الصادقعليه‌السلام :

هرع المسلمون وقد قطع الحزن قلوبهم إلى الإمام الصادقعليه‌السلام وهم يعزونه بمصابه الأليم، ويشاركونه اللوعة والأسى بفقد أبيه، وممن وفد عليه يعزيه سالم بن أبي حفصة، قال: لما توفي أبو جعفر محمد بن علي الباقرعليهما‌السلام قلت لأصحابي انتظروني حتى أدخل على أبي عبد الله

١٨٩

جعفر بن محمد فأعزيه به، فدخلت عليه فعزيته، وقلت له: إنا لله وإنا إليه راجعون، ذهب والله من كان يقول [قال:] رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فلا يسأل عمن بينه وبين رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والله لا يرى مثله أبداً ! قال: وسكت الإمام أبو عبد اللهعليه‌السلام ساعة، ثم التفت إلى أصحابه فقال لهم:قال الله تعالى: إن من عبادي من يتصدق بشق من تمرة فاربيها له، كما يربي أحدكم فلوه) (١) .

وخرج سالم وهو منبهر فالتفت إلى أصحابه قائلاً: ما رأيت أعجب من هذا!! كنا نستعظم قول أبي جعفرعليه‌السلام قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بلا واسطة، فقال لي أبو عبد اللهعليه‌السلام قال الله بلا واسطة(٢) .

الفصل الثالث: تراث الإمام محمّد الباقرعليه‌السلام

علمنا أن الرسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد تنبّأ بأن حفيده محمد بن علي ابن الحسينعليه‌السلام سوف يبقر العلم بقراً ويفجره تفجيراً.

وقد شهد معاصرو الإمامعليه‌السلام بهذه الظاهرة التي كانت ملفتة للنظر وتناقلها المؤرخون جيلاً بعد جيل.

والتراث الذي تركه لنا هذا الإمام الهمام لهو خير دليل على صحة ما شهد به هؤلاء المؤرخون على مدى القرون والأجيال ودليل من دلائل نبوة جدّه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

لقد كانت المرحلة التي عاشها الإمام الباقرعليه‌السلام تتطلّب منه أن يقوم بتشييد أسس الحضارة الإسلامية وتحصين الأمة المسلمة بروافد المعرفة الإسلامية لتقف في وجه المدّ الثقافي الذي كان يخترق الحياة الإسلامية بسبب الفتوحات والانفتاح الحضاري على ثقافات الأمم الوافدة على الدولة الإسلامية العظمى.

ــــــــــــــ

(١) الفلو بفتح الفاء، وضم اللام وتشديد الواو ـ المهر الصغير، والاثنى فلوة، والجمع أفلا.

(٢) أمالي الشيخ الطوسي: ١٢٥، راجع حياة الإمام محمد الباقر لفضيلة الشيخ باقر شريف القرشي: ٢/٣٨٦ ـ ٣٩٥.

١٩٠

ومن هنا نستطيع أن نقول: إن المعالم الرئيسية لرسالة الأئمة بعد الحسينعليه‌السلام تتلخص في التحصين المعرفي والثقافي للأمة المسلمة بشكل عام وللجماعة الصالحة بشكل خاص.

فإن الوقوف على تراثهم الذي قدّموه للأمة الإسلامية خلال النصف الثاني من القرن الأول الهجري وحتى بداية القرن الثالث الهجري يكشف عن عظمة هذا التراث وتفرّده عمّا سواه من التراث الذي نجده لدى عامة الفرق الإسلامية، ويتميّز عن كل ذلك بالاستيعاب لكل حقول المعرفة، وسلامة المصدر، ونقاء المحتوى، ووضوح الارتباط بمصادر المعرفة الربّانية المتمثلة بكتاب الله وسنّة رسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

ولابد أن ينعكس ثراء هذا التراث وعظمته في هذه الموسوعة رغم اختصارها وعدم استيعابها لكل تراث الإمام الباقرعليه‌السلام .

وقد اخترنا من تراثه الثرّ نماذج في مختلف حقول العلم والمعرفة الإسلامية بمقدار ما تقتضيه صفحات هذا الجزء الخاص بالإمام الباقرعليه‌السلام أخذاً بالميسور والله من وراء القصد وهو الموفق للصواب.

التراث التفسيري للإمام محمد الباقرعليه‌السلام

لا ريب في أن القرآن الكريم هو أول مصادر التشريع الإسلامي وأهم مصادر الثقافة الإسلامية التي تعطي للأمة الإسلامية وللرسالة الإلهية هويّتها الخاصة وتسير بالأمة إلى حيث الكمال الإنساني المنشود.

١٩١

وقد اعتنى الإمام الباقرعليه‌السلام كسائر الأئمة من أهل البيتعليهم‌السلام بالقرآن الكريم تلاوةً وحفظاً وتفسيراً وصيانةً له عن أيدي العابثين وانتحال المبطلين، فكانت محاضراته التفسيرية للقرآن الكريم تشكّل حقلاً خصباً لنشاطه المعرفي وجهاده العلمي وهو يرسم للأمة المسلمة معالم هويتها الخاصة ومن هنا خصص الإمامعليه‌السلام للتفسير وقتاً من أوقاته وتناول فيه جميع شؤونه وقد أخذ عنه علماء التفسير ـ على اختلاف آرائهم وميولهم ـ الشيء الكثير(١) فكان من ألمع المفسّرين للقرآن الكريم في دنيا الإسلام.

وقد نهج الإمام الباقرعليه‌السلام في تفسير القرآن الكريم منهجاً علميّاً خاصاً متّسقاً مع أهداف الرسالة وأصولها ونعى على أهل الرأي والاستحسان وأهل التأويل والظنون، فكان مما اعترض به على قتادة أن قال له:بلغني أنك تفسّر القرآن ! . فقال له: نعم. فأنكر عليه الإمامعليه‌السلام قائلاً:(يا قتادة، إن كنت قد فسَّرت القرآن من تلقاء نفسك فقد هلكت وأهلكت، وإن كنت قد فسرته من الرجال فقد هلكت وأهلكت، يا قتادة ويحك إنما يعرف القرآن من خوطب به) (٢) .

وقد قصر الإمام أبو جعفرعليه‌السلام معرفة الكتاب العزيز على أهل البيتعليهم‌السلام فهم الذين يعرفون المحكم من المتشابه، والناسخ من المنسوخ وليس عند غيرهم هذا العلم، فقد ورد عنهمعليهم‌السلام (إنه ليس شيء أبعد من عقول الرجال من تفسير القرآن، الآية يكون أولها في شيء وآخرها في شيء وهو كلام متصل ينصرف إلى وجوه) (٣) .

أما الأخذ بظواهر الكتاب فلا يعد من التفسير بالرأي المنهيّ عنه.

وألّف الإمام الباقرعليه‌السلام كتاباً في تفسير القرآن الكريم نص عليه محمد بن إسحاق النديم في (الفهرست) عند عرضه للكتب المؤلفة في تفسير القرآن الكريم حيث قال: (كتاب الباقر محمد بن علي بن الحسين رواه عنه أبو الجارود زياد بن المنذر رئيس الجارودية).

ــــــــــــــ

(١) حياة الإمام محمد الباقر، باقر شريف القرشي: ١ / ١٧٤.

(٢) البيان في تفسير القرآن: ٢٦٧.

(٣) فرائد الأصول: ٢٨.

١٩٢

وقال السيد حسن الصدر: وقد رواه عنه أيام استقامته جماعة من ثقاة الشيعة منهم أبو بصير يحيى بن القاسم الأسدي، وقد أخرجه علي بن إبراهيم بن هاشم القمي في تفسيره من طريق أبي بصير(١) .

نماذج من تفسيره:

فسّر الإمام الباقرعليه‌السلام الهداية في قوله تعالى: ( وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى ) (٢) بالولاية لأئمة أهل البيت حين قال:فو الله لو أن رجلاً عبد الله عمره ما بين الركن والمقام، ولم يجيء بولايتنا إلاّ أكبه الله في النار على وجهه) (٣) .

٢ ـ وعن قوله تعالى:( يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ ) (٤) . قالعليه‌السلام :إن الله أوحى إلى نبيّه أن يستخلف علياً فكان يخاف أن يشق ذلك على جماعة من أصحابه فأنزل الله تعالى هذه الآية تشجيعاً له على القيام بما أمره الله بأدائه (٥) .

٣ ـ وفي قوله تعالى:( تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا ) (٦) قالعليه‌السلام :تنزّل الملائكة والكتبة إلى سماء الدنيا فيكتبون ما يكون في السنة من أمور ما يصيب العباد،

ــــــــــــــ

(١) تأسيس الشيعة لعلوم الإسلام: ٣٢٧، الفهرست للشيخ الطوسي: ٩٨، وحقق هذا التفسير المحامي السيد شاكر الغرباوي إلاّ إنه لم يقدمه للنشر .

(٢) طه (٢٠): ٨٢.

(٣) مجمع البيان: ٧ / ٢٣ طبع بيروت.

(٤) المائدة (٥): ٦٧.

(٥) مجمع البيان: ٤ / ٢٢٣.

(٦) القدر (٩٧): ٤.

١٩٣

والأمر عنده موقوف له فيه على المشيئة، فيقدم ما يشاء، ويؤخر ما يشاء، ويثبت، وعنده أم الكتاب) (١) .

٤ ـ وفي قوله تعالى:( فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ ) (٢) ، قال الإمام أبو جعفرعليه‌السلام :(إنّها نزلت في قوم وصفوا عدلاً بألسنتهم ثم خالفوه إلى غيره) (٣) .

٥ ـ وفي قوله تعالى:( فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ) (٤) . روى محمد ابن مسلم قال: قلت: للإمام أبي جعفر إن من عندنا يزعمون أن المعنيين بالآية هم اليهود والنصارى. قال:إذاً يدعونكم إلى دينهم ! ثم أشارعليه‌السلام إلى صدره فقال:نحن أهل الذكر ونحن المسؤولون (٥) .

٦ ـ في قوله تعالى:( يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ ) (٦) روى جابر بن يزيد الجعفي عن أبي جعفرعليه‌السلام أنّه قال:لما نزلت هذه الآية قال المسلمون: يا رسول الله ألست إمام الناس كلهم أجمعين ؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أنا رسول الله إلى الناس أجمعين، ولكن سيكون من بعدي أئمة على الناس من أهل بيتي يقومون في الناس فيُكَذبون، ويظلمهم أئمة الكفر والضلال وأشياعهم، فمن والاهم واتّبعهم، وصدقهم فهو مني ومعي، وسيلقاني، ألا ومن ظلمهم وكذّبهم فليس مني، ولا معي، وأنا منه بريء) (٧) .

٧ ـ وسئُل الإمام أبو جعفر عن قوله تعالى: ( ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ ُ

ــــــــــــــ

(١) دعائم الإسلام: ١ / ٣٣٤.

(٢) الشعراء (٢٦): ٩٤.

(٣) أصول الكافي: ١ / ٤٧.

(٤) الأنبياء (٢١): ٧.

(٥) أصول الكافي: ١ / ٢١١.

(٦) الإسراء (١٧): ٧١.

(٧) أصول الكافي: ١ / ٢١٥.

١٩٤

اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ) (١) فقالعليه‌السلام :السابق بالخيرات الإمام، والمقتصد العارف للإمام، والظالم لنفسه الذي لا يعرف الإمام (٢) .

٨ ـ وعن المتوسّمين في قوله تعالى:( إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ ) (٣) ، قالعليه‌السلام :قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المتوسم، وأنا من بعده والأئمة من ذريتي المتوسمون) (٤) .

٩ ـ وفي قوله تعالى:( وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقاً ) (٥) قالعليه‌السلام :(يعني لو استقاموا على ولاية علي بن أبي طالب أمير المؤمنين عليه‌السلام والأوصياء من ولده، وقبلوا طاعتهم في أمرهم ونهيهم لأسقيناهم ماءاً غدقاً يعني أشربنا قلوبهم الإيمان، والطريقة: هي الإيمان بولاية علي والأوصياء) (٦) .

١٠ ـ وفي ما يرتبط بقوله تعالى: ( قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ ) (٧) ، سأل بريد بن معاوية الإمام أبا جعفرعليه‌السلام عن المعنيين بقوله تعالى:( وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ ) ؟ فقالعليه‌السلام :(إيّانا عنى، وعليّ أوّلنا، وأفضلنا وخيرنا بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ) (٨) .

ــــــــــــــ

(١) فاطر (٣٥): ٣٢.

(٢) أصول الكافي: ١ / ٢١٤.

(٣) سورة الحجر (١٥): ٧٥.

(٤) أصول الكافي: ١ / ٢١٩.

(٥) الجن (٧٢): ١٦.

(٦) أصول الكافي: ١ / ٢٢٠.

(٧) الرعد (١٣): ٤٣.

(٨) أصول الكافي: ١ / ٢٢٩ مجمع البيان: ٦ / ٣٠١ روى عن أبي جعفر أنها نزلت في آل البيتعليهم‌السلام .

١٩٥

التراث الحديثي للإمام الباقرعليه‌السلام :

يعدّ الحديث النبوي الشريف المصدر الثاني من مصادر التشريع الإسلامي بعد القرآن الكريم، وله أهميته البالغة ودوره الكبير في بناء الصرح الثقافي للأمة الإسلامية بشكل عام وبناء الصرح الفقهي والتشريع العملي للحياة الإنسانية بشكل خاص.

وقد زاد من اهتمام أهل البيتعليهم‌السلام بنشر سنّة رسول الله وتبليغها ما واجهه الحديث النبوي الشريف من مآسي الدس والتزوير والوضع والتضييع خلال فترة منع الخلفاء من تدوينه وكتابته بل التحديث به في بعض الأحيان.

واعتنى الإمام الباقرعليه‌السلام بشكل خاص بحديث الرسولعليه‌السلام حتى روى عنه جابر بن يزيد الجعفي سبعين ألف حديث(١) ، كما روى عنه أبان بن تغلب وغيره من تلامذته وأصحابه مجموعة كبيرة من هذا التراث الضخم.

ولم يكتف الإمام بنقل الحديث ونشره بل دعا إلى الاهتمام بفهم الحديث والوقوف على معطياته، حتى جعل المقياس في فضل الراوي هو فهم الحديث ودرايته بمعانيه وأسراره.

روى يزيد الرزّاز عن أبيه عن أبي عبد الله الصادق عن أبيه الباقرعليهما‌السلام أنه قال له:(اعرف منازل الشيعة على قدر رواياتهم ومعرفتهم; فإن المعرفة هي الدراية للرواية، وبالدراية للرواية يعلو المؤمن إلى أقصى درجات الإيمان) (٢) .

وقد عرضنا نماذج من رواياته عن جدّه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيما مرّ من بحوث سابقة فراجع(٣) .

ــــــــــــــ

(١) أصول الكافي: ١ / ١٤٠، وراجع مقدمة صحيح مسلم.

(٢) حياة الإمام محمد الباقرعليه‌السلام ، للأستاذ باقر شريف القرشي: ١٤٠ ـ ١٤١ عن ناسخ التواريخ: ٢ / ٢١٩.

(٣) الخصال: ص٤ .

١٩٦

التراث الكلامي عند الإمام الباقرعليه‌السلام :

وبحث الإمام أبو جعفر في كثير من محاضراته المسائل الكلامية، وسئل عن أعقد المسائل وأدقها في بحوث هذا العلم فأجاب عنها.

ومن الجدير بالذكر أن عصر الإمام كان من أشد العصور الإسلامية حساسية فقد امتدّ فيه الفتح الإسلامي إلى اغلب مناطق العالم وشعوب الأرض فأثار ذلك موجة من الحقد في نفوس المعادين للإسلام من الشعوب المغلوبة على أمرها، فقاموا بحملة دعائية ضد العقيدة الإسلامية وأذاعوا الشكوك بين أبناء المسلمين، وقد شجّعت الحكومات الأُموية التيارات ذات الأفكار المعادية للإسلام; إذ لم يؤثّر عن أي واحد من ملوك بني أمية أنه قاومها أو تصدّى لإيقافها بين المسلمين، ولم يكن هناك أحد قد انبرى إلى إنقاذ المسلمين في ذلك العصر سوى الإمام أبي جعفرعليه‌السلام حيث تصدى لتزييفها والرد عليها ببالغ الحجة والبرهان.

واليك نماذج من بحوثه:

١ ـ عجز العقول عن إدراك حقيقة الله:

سئلعليه‌السلام عن قوله تعالى:( لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ ) (١) فقالعليه‌السلام :(أوهام القلوب أدق من أبصار العيون، أنت قد تدرك بوهمك السند والهند والبلدان التي لم تدخلها، ولا تدركها ببصرك. وأوهام القلوب لا تدركه فكيف أبصار العيون ؟!) (٢) .

سأله عبد الرحمن بن أبي النجران عن الله تعالى فقال: إني أتوهم شيئاً، فقالعليه‌السلام له:(نعم، غير معقول ولا محدود، فما وقع وهمك عليه من شيء فهو

ــــــــــــــ

(١) الأنعام (٦): ١٠٣.

(٢) نسب هذا الحديث إلى الإمام الجوادعليه‌السلام .

١٩٧

خلافه، ولا يشبهه شيء، ولا تدركه الأوهام، كيف تدركه الأوهام وهو خلاف ما يعقل، وخلاف ما يتصور في الأوهام، إنما يتوهم شيء، غير معقول ولا محدود) (١) .

٢ ـ أزلية واجب الوجود:

سأله رجل فقال له: أخبرني عن ربك متى كان ؟ فأجابه الإمامعليه‌السلام :

(ويلك! إنما يقال لشيء لم يكن، متى كان ؟ إن ربي تبارك وتعالى كان ولم يزل حياً بلا كيف، ولم يكن له كان، ولا كان لكونه كون. كيف! ولا كان له أين، ولا كان في شيء، ولا كان على شيء، ولا ابتدع لمكانه مكاناً، ولا قوي بعدما كوّن الأشياء، ولا كان ضعيفاً قبل أن يكوّن شيئاً، ولا كان مستوحشاً قبل أن يبتدع شيئاً، ولا يشبه شيئاً مذكوراً، ولا كان خلواً من الملك قبل إنشائه، ولا يكون منه خلواً بعد ذهابه، لم يزل حياً بلا حياة، وملكاً قادراً قبل أن ينشىء شيئاً، وملكاً جباراً بعد إنشائه للكون، فليس لكونه كيف ولا له أين، ولا له حد، ولا يعرف بشيء يشبهه، ولا يهرم لطول البقاء، ولا يصعق(٢) لشيء، بل لخوفه تصعق الأشياء كلها. كان حياً بلا حياة حادثة، ولا كون موصوف ولا كيف محدود، ولا أين موقوف عليه، ولا مكان جاور شيئاً، بل حي يعرف، وملك لم يزل له القدرة والملك، أنشأ ما شاء حين شاء بمشيئته، لا يحد ولا يبعض، ولا يفنى، كان أولاً بلا كيف، ويكون آخراً بلا أين، وكل شيء هالك إلاّ وجهه، له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين.

ويلك أيّها السائل ! ! إن ربي لا تغشاه الأوهام، ولا تنزل به الشبهات، ولا يحار، ولا يجاوزه شيء، ولا تنزل به الأحداث، ولا يسأل عن شيء، ولا يندم على شيء، ولا تأخذه سنة ولا نوم له ما في السماوات وما في الأرض وما بينهما، وما تحت الثرى)(٣) .

ــــــــــــــ

(١) أصول الكافي: ١ / ٨٢.

(٢) يصعق: أي يهلك، ويضعف.

(٣) أصول الكافي: ١ / ٨٨ ـ ٨٩.

١٩٨

٣ ـ وجوب طاعة الإمامعليه‌السلام :

طاعة الإمام واجب ديني أعلنه القرآن الكريم بقوله تعالى:( أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ ) (١) وتواترت الأخبار بذلك، وروى زرارة عن أبي جعفرعليه‌السلام أنه قال:(ذروة الأمر وسنامه، ومفتاحه، وباب الأشياء، ورضا الرحمن تبارك وتعالى، الطاعة للإمام بعد معرفته إن الله تبارك وتعالى يقول: ( مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً ) ) (٢) .

التراث التاريخي للإمام الباقرعليه‌السلام

وتحدث الإمام أبو جعفر الباقرعليه‌السلام كثيراً عن حكم الأنبياء وسننهم ولا سيَّما السيرة النبوية المباركة وتأريخ العصر النبوي، وقد نقل عنه المختصون بهذه البحوث الشيء الكثير، وفيما يلي بعضها:

١ ـ من وحي الله لآدم:

عرض الإمامعليه‌السلام لأصحابه ما أوحى الله به لآدم من الحكم ومعالي الأخلاق فقالعليه‌السلام :(أوحى الله تبارك وتعالى لآدم إني أجمع لك الخير كله في أربع كلمات: واحدة منهن لي، وواحدة لك، وواحدة فيما بيني وبينك، وواحدة فيما بينك وبين الناس، فأما التي لي فتعبدني، ولا تشرك بي شيئاً، وأما التي لك فأجازيك بعملك في وقت أحوج ما تكون إليه وأما التي بيني وبينك فعليك الدعاء وعليَّ الإجابة، وأما التي بينك وبين الناس فترضى للناس ما ترضى لنفسك) (٣) .

ــــــــــــــ

(١) النساء (٤): ٥٩.

(٢) أصول الكافي: ١ / ١٨٥.

(٣) أمالي الصدوق: ٥٤٤ .

١٩٩

٢ ـ حكمة لسليمان:

وحكيعليه‌السلام لأصحابه حكمة رائعة لنبي الله سليمان بن داود فقالعليه‌السلام :(قال سليمان بن داود: أوتينا ما أوتي الناس، وما لم يؤتوا، وعلمنا ما علم الناس وما لم يعلموا، فلم نجد شيئاً أفضل من خشية الله في الغيب والمشهد، والقصد في الغنى والفقر، وكلمة الحق في الرضا والغضب، والتضرع إلى الله عَزَّ وجَلَّ في كل حال) (١) .

٣ ـ حكمة في التوراة:

ونقلعليه‌السلام لأصحابه حكمة مكتوبة في التوراة فقالعليه‌السلام :(إنّ في التوراة مكتوباً يا موسى إني خلقتك، واصطفيتك، وقويتك، وأمرتك بطاعتي ونهيتك عن معصيتي فإن أطعتني أعنتك على طاعتي، وان عصيتني لم أعنك على معصيتي، يا موسى ولي المنة عليك في طاعتك لي، ولي الحجة عليك في معصيتك لي) (٢) .

٤ ـ تسمية نوح بالعبد الشكور:

روى محمد بن مسلم عن الإمام أبي جعفرعليه‌السلام أنه قال:(إنّ نوحاً إنما سمي عبداً شكوراً لأنه كان يقول إذا أمسى وأصبح: اللهم إني أشهدك أنه ما أُمسي وأصبح بي من نعمة أو عافية في دين أو دنيا فمنك وحدك لا شريك لك، لك الحمد والشكر بها عليّ حتى ترضى) (٣) .

٥ ـ دعاء نوح على قومه:

سأل سدير الإمام أبا جعفرعليه‌السلام عن دعاء نوح على قومه فقال له: أرأيت نوحاً حين دعا على قومه فقال:( رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً * إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِراً كَفَّاراً ) إنه كان عالماً بهم؟

ــــــــــــــ

(١) الخصال: ٢١٩.

(٢) أمالي الصدوق: ٢٧٤.

(٣) علل الشرائع: ٢٩.

٢٠٠