العباس (عليه السلام) رجل العقيدة والجهاد

العباس (عليه السلام) رجل العقيدة والجهاد0%

العباس (عليه السلام) رجل العقيدة والجهاد مؤلف:
الناشر: مؤسسة محبّين للطباعة والنشر
تصنيف: النفوس الفاخرة
الصفحات: 216

العباس (عليه السلام) رجل العقيدة والجهاد

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: السيد محمّد علي يوسف الاشيقر
الناشر: مؤسسة محبّين للطباعة والنشر
تصنيف: الصفحات: 216
المشاهدات: 39549
تحميل: 5653

توضيحات:

بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 216 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 39549 / تحميل: 5653
الحجم الحجم الحجم
العباس (عليه السلام) رجل العقيدة والجهاد

العباس (عليه السلام) رجل العقيدة والجهاد

مؤلف:
الناشر: مؤسسة محبّين للطباعة والنشر
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

نفوس العسكر بحذافيرها.

لقد وضع الحسين (عليه السّلام) على رأس ميمنة قوّاته زهير بن القين، بينما أسند ميسرته إلى حبيب بن مظاهر الأسدي، وقد بقي هو في القلب لإدارة المعركة وتوجيهها عن كثب.

أمّا رايته(١) فقد أودعها عند أخيه أبي الفضل العبّاس؛ لأنّه قمر بني هاشم، وأكفأ وأشجع الرجال جميعاً، وأثبت للطعن، وأشدّ مراساً من سواه؛ حيث كان الحسين (عليه السّلام) يعتبره ويعدّه ذراعه الأيمن وساعده القوي الأمين.

وإنّما أودع الراية إلى العبّاس؛ وذلك لأنّ من عادة العرب عند الحرب أن يَدعوا الراية عند أشجع رجل في الجيش؛ إذ عليه أن يحتفظ بها مرفوعة دائماً، وهو في وسط مجموع الأعداء، حيث يرفعها بيد، ويحارب باليد الاُخرى؛ ولهذا السبب اختار الحسين (عليه السّلام) أخاه العبّاس لحمل رايته؛ لأنّه كان - وكما ستثبت الوقائع - الأقوى والأشجع من الجميع في القيام بهذه المهمة.

وعليه فما كان سيف الحسين أطول سيوف الحقّ والتاريخ، فإنّ راية العبّاس

____________________

(١) إنّ الفرق بين الراية واللواء، هو أنّ الراية هي العلم، واللواء دونها، فالراية - والتي لا يحملها إلاّ الشجعان والأكفاء والأوفياء في العسكر - كانت مع العبّاس، والألوية أودعت بيد قادة الميمنة والميسرة والقلب.

وعن الراية ومكانتها يُنقل عن الإمام (عليه السّلام) قوله: (( لا تميلوا براياتكم، ولا تزيلوا ولا تجعلوها إلاّ مع شجعانكم؛ فإنّ المانع للدمار، والصابر عند نزول الحقائق أهل الحفاظ. واعلموا أنّ أهل الحفاظ هم الذين يحتفظون براياتهم ويكتنفونها، ويصيرون حفافها وأمامها وورائها، ولا يضيّعونها، ولا يتأخرون عنها فيسلمونها، ولا يتقدّمون عنها فيفردونها )). والراية - من ثمّ - ما دامت هي مرفوعة فإنّها إشارة الظفر وعلامة الفوز والنجاح، أمّا إذا انكسرت أو سقطت تعني الهزيمة والخسارة.

١٢١

هذه كانت أرفع رايات العدالة فيه.

أمّا في الجانب والطرف الآخر فقد قام ابن سعد بدوره بصف وتعبئة جيشه، وكان تعداده يربو على الـ (٣٠) ألف مقاتل في أقل تقدير، وقيل: (٧٠) ألفاً، جلّهم من أهل الكوفة، والبقية القليلة من المناطق المجاورة لها.

ولقد وضع عمرو بن الحجّاج الزبيدي على ميمنته، والشمر على ميسرته، واختار فروة بن قيس ليكون على الخيالة، بينما أودع رايته إلى مولاه ويُدعى هذا دريد، علماً بأنّ إعطاء الراية لعبده يعني في العرف العسكري أنّه أبقاها لنفسه.

وعن تعداد كلا الجيشين المتقابلين على أرض كربلاء نظم أحد الشعراء الشعبيين يقول:

سبعين ألف دارت على إحسين اُو عنده زلم ما غير سبعين

كما ونظم السيد باقر الهندي حول هذا التعداد للجيشين يقول:

جاؤوا بسبعينَ ألفاً سل بقيَّتَهم هل قاومونا وقد جئنا بسبعينا

ولقد كان مجموع المسافة بين مخيّمي الجيشين يقارب الميلين على أقل تقدير، وهذه القاعدة كانت متّبعة دائماً في المعارك بسبب جولان الفرسان المحاربين أولاً، ولكي يكون كلا المخيّمين بعيدين عن نطاق وأذى السهام والنبال المتبادلة بين صفوف المحاربين ثانياً.

لقد ارتفع قرص الشمس قليلاً في السماء، وعندها تقدّمت قطعات جيش الشيطان صوب مواقع ومخيّمات الحسين (عليه السّلام)، وأخذت تصول وتجول حول المخيّمات من مختلف الاتجاهات.

١٢٢

وحينها أمر الحسين (عليه السّلام) بإشعال الحطب الذي صُفّ خلف المخيّم؛ لتتولى النار منع قطعات العدو من الاقتراب، أو الدخول من خلف المخيّم.

وعندما رأى الذئاب النار تضطرم في الخندق خلف المخيّم صاح الشمر برفيع صوته: يا حسين، تعجّلت بالنار قبل يوم القيامة.

فأجابه الحسين (عليه السّلام): (( يابن راعية المعزى، أنت أولى بها منّي صليّاً )).

وأراد مسلم بن عوسجة هنا أن يرميه بسهم ليرديه صريعاً، إلاّ أنّ الحسين (عليه السّلام) منعه من ذلك، وقال له: (( أكره أن أبدأهم بالقتال ))(١) .

وعند ذلك امتطى الحسين (عليه السّلام) فرسه، وأخذ مصحفاً ونشره على رأسه، وألقى فيهم خطبته الثانية المشهورة(٢) في يوم عاشوراء، والتي جاء في بعضها: (( يا قوم، إنّ بيني وبينكم كتاب الله وسنّة جدّي رسول الله (صلّى الله عليه وآله). يا أهل الكوفة، قبحاً لكم وتعساً! حيث استصرختمونا والهين فأتيناكم موجفين، فسحقاً لكم يا عبيد الأمة، وشذّاذ الأحزاب، ونبذة الكتاب، ومحرّفي الكلم، وعصبة الآثم، ونفثة الشيطان، ومطفئ السنن!

ويحكم! هؤلاء تعضدون، وعنّا تتخاذلون؟!

____________________

(١) نشير إلى أنّه في كلّ المعارك التي خاضها الإمام علي (عليه السّلام) في خلال خلافته الراشدة كان لا يبدأ عدوّه بالقتال أبداً، بل يبدأ ويشرع هذا العدو بالقتال ليتولّى هو حينئذٍ ردّه؛ وذلك لتكون الحجّة على العدو مضاعفة؛ أحدها هو العصيان والتمرّد الذي يمارسه إزاء الإمام وسلطته الشرعية، والاُخرى لبدئه وشروعه بالقتال والنزال. وهكذا كان الولد، وهو الحسين (عليه السّلام)، هنا وهنالك على سرّ أبيه كما يقول المثل العربي الشائع.

(٢) لم نشر إلى الخطبة الأولى للاختصار الذي آثرناه في هذه الدراسة، وهي مدونة بالتفصيل في الكتب التاريخية والمقاتل، ومنها كتابي (الحسين... ثورة دائمة).

١٢٣

ألا وإنّ الدعي ابن الدعي(١) قد ركز بين اثنتين؛ بين السلة والذلّة، وهيهات منّا الذلّة، يأبى الله لنا ذلك ورسوله والمؤمنون، وحجور طابت وطهرت، واُنوف حمية، ونفوس أبيه من أن تؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام.

ألا وإنّي زاحف بهذه الاُسرة على قلّة العدد، وخذلان الناصر. أما والله، لا تلبثون بعدها إلاّ كريثما يركب الفرس حتّى تدور بكم دور الرحى، وتقلق بكم قلق المحور، عهد عهده إليّ أبي عن جدّي رسول الله، فاجمعوا أمركم وشركاءكم ثمّ لا يكن أمركم عليه غمّة.

اللّهمّ احبس عنهم قطر السماء، وابعث عليهم سنينَ كسنيِّ يوسف، وسلّط عليهم غلام ثقيف(٢) يسقيهم كأساً مصبّرة، ولا يدع فيهم أحداً إلاّ قتله؛ قتلة بقتلة، وضربة بضربة، ينتقم لي ولأوليائي وأهل بيتي منهم؛ فإنّهم كذبونا وخذلونا، وأنت ربّنا عليك توكّلنا وإليك المصير... ))(٣) .

____________________

(١) الدعي والاستلحاق: هو أن يدّعي المرء رجلاً ينسبه، وقد يكون عبداً، أو أسيراً، أو مولى فيسمّيه مولاه وينسبه إليه. وكان العرب يسمّون المستلحق (دعياً).

(٢) تمّ إعداد كتاب جديد عن حياة المختار الثقفي باسم (المختار).

(٣) من الملاحظ والشائع أنّ الحسين (عليه السّلام) كان قد أكثر ووسّع من خطبه ومواعظه على جماهير الناس، وفي كلّ مناسبة متاحة، ومنذ مغادرته المدينة المنورة حتّى وصوله إلى أرض كربلاء.

ومردّ ذلك أنّه (عليه السّلام) كان يتحاشى ويخشى أن يدخل أحد من الناس إلى النار بسببه، أو عن طريقه؛ لكونه من أهل البيت الذين جعلهم الله رحمة للعالمين، وسبيلاً لنجاتهم وفوزهم، لا ليكونوا سبيلاً لدخول أحد إلى جهنم وبئس المصير.

إنّ هذه هي أخلاق أهل البيت (عليهم السّلام)، وتلك هي أخلاق وسيرة خصومهم في شنّهم لحرب الإبادة والاستئصال، ومنع الماء لأهل هذا البيت، والذي لا يرجو لهم - في المقابل - إلاّ الخير والنجاة من النار.

١٢٤

ثمّ أنشد (عليه السّلام) أبيات لفروة المرادي:

فإن نُهزم فهزّامون قُدماً وإن نُهزم فغيرُ مُهزّمينا

وما إن طبّنا جبنٌ ولكن منايانا ودولةُ آخرينا

فقل للشامتين بنا أفيقوا سيلقى الشامتونَ كما لقينا

إذا ما الموتُ رُفّعَ عن اُناس بكلكلهِ أناخَ بآخرينا

وبعد الفراغ من الخطبة الثانية هذه أجابه أهل الكوفة: إنّنا لا نفهم ما تقول.

ممّا اضطر الحسين (عليه السّلام) للعودة إلى مكانة لانتظار الخطوة التالية بعد أن أصبح الجيشان في أعلى درجات التأهّب والاستنفار.

١٢٥

١٢٦

الملحمة الكبرى

بعد أن أنهى الحسين (عليه السّلام) من إلقاء خطبته الثانية على القوم، تقدّم ابن سعد بصفته القائد العام لقوات الغدر والعدوان، تقدّم إلى أمام معسكر الحسين (عليه السّلام) وأطبق عليه من الأمام؛ تمهيداً لإشعال فتيل الحرب المدمّرة ضدّ الحسين وأعوانه؛ حيث تناول من مولاه دريد سهماً ووضعه في كبد قوسه، ورمى به على معسكر الحسين (عليه السّلام) وهو ينادي برفيع صوته؛ ليسمع أفراد جيشه قائلاً: اشهدوا لي عند الأمير أنّي أوّل مَنْ رمى الحسين، أو ضرب بسهم.

وبذلك فقد ابتدأت الملحمة الكبرى في أرض كربلاء، والتي خطّط لها ابن سعد وسيّده ابن زياد وطاغيتهم في الشام يزيد؛ لتكون حرب إبادة واستئصال لآل الله ورسوله، ولمَنْ أعانهم ونصرهم وذاد عنهم ولو بشربة من ماء(١) .

وبعد أن رمى ابن سعد بسهمه انهالت السهام على معسكر الحسين كأنّها رشق المطر الغزير، وهنا قال الحسين (عليه السّلام) لأصحابه وأهل بيته: (( قوموا - يرحمكم الله - يا كرام إلى الموت الذي لا بدّ منه، ولا مفرّ لكم عنه؛ فإنّ هذه السهام هي رسل القوم إليكم )).

____________________

(١) نشير إلى أنّه بعد أن أعلن الحرّ الرياحي توبته وندمه على فعله إزاء الحسين (عليه السّلام)، وحيث كفّر عن ذلك بانضمامه إلى صفوف الحسين (عليه السّلام) قبل بدء الحرب، وخشية أن يتبعه الآخرون من المقاتلين بالالتحاق بصفوف الحسين (عليه السّلام)؛ لذا فقد أسرع ابن سعد في التقدّم إلى أمام معسكر الحسين وأشعل هناك نيران الحرب المدّمرة.

١٢٧

وبهذا النداء فقد ابتدأت الصفحة (المرحلة) الرابعة في معركة الكفاح والنضال والجهاد لتقويض دعائم الظلم والجور، وهي معركة - بحقّ - بين منطق الذي ينظر إلى الدنيا بعين الآخرة، ومنطق الذي لا يؤمن بالآخرة أصلاً.

وكان الهاشميّون وعلى رأسهم العبّاس (عليه السّلام) يطالبون بالقتال أوّلاً، حيث إنّ مرادهم من ذلك هو: ألاّ نترك أصحابنا يتقدّمون أوّلاً إلى القتال؛ لأنّ الحمل الثقيل لا يحمله أو يقوم به إلاّ أهله، فنحن نتقدّم أوّلاً إلى الحرب ثمّ هم بعدنا.

بينما كان مراد الأصحاب وهدفهم بقيادة حبيب بن مظاهر الأسدي عكس ذلك، حيث قالوا للهاشميين: بل نحن نتقدّم إلى الموت أوّلاً، ثمّ تجيئون أنتم على الأثر حتّى لا نرى أمامنا هاشمياً مضرّجاً بدمه.

وفي هذا المعنى يقول أحد الشعراء:

يتنافسونَ على المنيّة بينهمْ فكأنّما هي غادةٌ معطارُ

يتسابقونَ على الكفاحِ ثيابهمْ فيها وعمّتهم قنا وشفارُ

كما ونظم السيد حيدر الحلّي حول الموضوع يقول:

قوم إذا نودوا لدفعِ ملمّةٍ والخيل بين مدّعسٍ ومكردسِ

لبسوا القلوبَ على الدروعِ وأقبلوا يتهافتونَ على ذهابِ الأنفسِ

نصروا الحسينَ فيا لهم من فتيةٍ باعوا الحياةَ وأُلبسوا من سندسِ

كما وقال شاعر ثالث حول نفس المعنى:

جادوا بأنفسهم عن نفسِ سيّدهم وقد رأوا لبثهم من بعدهِ عارا

وفي الأخير كان السبق هنا للأصحاب في اقتحام جبهة العدو؛ حيث كانوا يعرفون أنّهم غير قادرين على دفع القتل عن الحسين (عليه السّلام)؛ لذا فقد كانوا يتنافسون

١٢٨

على أن يُقتلوا بين يديه، حيث حملوا على القوم (جيش أهل الكوفة) بعد التوكّل على الله تعالى، ووداع إمامه الحسين (عليه السّلام) وأخذ الأذن منه.

نعم، حملوا على جيش العدوان بآلافه المؤلّفة الميسورة بسيوفه العادية، ورماحه الباغية حملة رجل واحد، وشدّوا عليهم شدّ الليوث، واقتتلوا بشجاعة وبسالة فائقين منزلين بالعدو خسائر فادحة في الأرواح والمعدات، وكلّ أمانيهم أن تواتيهم مناياهم بين يديّ الحسين أو عند قدميه، حيث استشهد عقبها نصف أصحاب الحسين (عليه السّلام) في هذه الحملة.

كما وأخذ من ثمّ الرجلان والثلاثة والأربعة يستأذنون الحسين (عليه السّلام) في قتال أهل الكوفة، والذبّ عنه، والدفاع عن حرمه، وكان كلّ واحد منهم يحمي الآخر من كيد عدوّه.

وينقل هنا بالمناسبة أنّ أربعة من أصحاب الحسين من بينهم عمرو بن خالد الصيداوي ومولاه سعد، واثنين آخرين كانوا قد شدّوا جميعاً على أهل الكوفة، حيث أوغلوا في قلب جيش الكوفة، حيث أحاط بهم جيش أهل الكوفة وانقطع ارتباطهم بمعسكر الحسين (عليه السّلام).

فما كان من الحسين (عليه السّلام) هنا حين تجلّى له الأمر إلاّ أن يندب إليهم أخاه العبّاس (عليه السّلام)، حيث تمكّن العبّاس بشجاعته وبسالته من إنقاذهم من وسط جيش الغدر والعدوان؛ لأنّه كان رجل المهمّات الصعبة في معسكر كلّ مهمّاته كانت صعبة. وهكذا أخذ أصحاب الحسين (عليه السّلام) يتساقطون واحداً بعد آخر، بدءاً من الحرّ الرياحي(١) ، ومروراً بمسلم بن عوسجة، وحبيب بن مظاهر، وزهير بن القين،

____________________

(١) لقد كان الحرّ الرياحي أوّل الذين خاضوا المعركة ضدّ أهل الكوفة؛ لأنّه أراد بذلك أن يكفّر =

١٢٩

وانتهاءً عند جون مولى أبي ذر الغفاري وسواه.

حيث كلّما برز واحد منهم ودّع الحسين (عليه السّلام) وأسلمه إلى مَنْ خلفه ليحميه ويذود عنه حتّى فارقوه جميعاً؛ ليلتقوا معه في جنّات الخلد، والتي عرضها السماوات والأرض.

وهكذا فقد عبّد هؤلاء بدمائهم الزكية للأجيال القادمة طريق الكرامة والعزّة والعدالة الاجتماعية، كما وأنّ مصرعهم على أرض الطفوف، وبيد شرار الخلق وفساقها، هي مزية ومأثرة ادّخرها الله سبحانه لهم.

علماً بأنّ هذه المنازلة مع جيش العدو، والتي خاضها أصحاب الحسين تعتبر الحملة الأوّلى في يوم عاشوراء، وقد استشهد فيها (٥٠) بطلاً من أصحاب الحسين (عليه السّلام) وأعوانه.

وجاء من بعد مصرع هؤلاء دور فرسان وشجعان أهل البيت (عليهم السّلام)، وعددهم (١٧) شاباً، وكلّهم من أبناء علي وجعفر وعقيل، والحسن والحسين (عليهم السّلام)... إلخ، وهم الفتية الأبرار الذين تأخّر موعد منازلتهم للعدو؛ ليكونوا ضمن الحملة الثانية على طريق الفداء والتضحية ونكران الذات؛ حيث إنّ القتل لهم عادة وكرامتهم من الله

____________________

= عن تصرّفاته السابقة إزاء الحسين (عليه السّلام)، حيث كان هو أوّل مَنْ لقى الحسين (عليه السّلام) في صحراء العراق الغربية على رأس جيش من مرتزقة وأزلام العدو يبلغ (١٠٠٠) فارساً، وهو الذي ضيّق على الحسين (عليه السّلام) وحال دون حركته وانتقاله إلى مكان آخر، وأدّى هذا التضييق في النهاية لأن يصل الحسين (عليه السّلام) أرض كربلاء.

ولقد خاض الحرّ المعركة بعد أن استفسر من قائد جيشه ابن سعد عمّا إذا كان في النيّة قتال الحسين، حيث أجابه: نعم، قتال أقلّه أن تُقطع الأيدي وتطيح الرؤوس.

١٣٠

الشهادة(١) .

فتقدّم إلى الجبهة علي الأكبر وعمره (٢٧) سنة، وقيل: أقل، وتبعه عبد الله بن مسلم، فأبناء عبد الله بن جعفر الطيار، ثمّ أبناء الحسن الزكي المجتبى (عليه السّلام)، وكان القاسم أصغرهم... إلخ.

وكلّ مَنْ كان يبرز من هؤلاء لخوض غمار المعركة كان ينطق بالعطش، ويطلب الماء ليروي غليله، إلاّ أنّ جواب الحسين (عليه السّلام) لكلّ واحد منهم كان: (( اصبر فإنّك لا تُمسي حتّى يسقيك رسول الله (صلّى الله عليه وآله) بكأسه الأوفى )).

أمّا العبّاس (عليه السّلام) والذي كان يقف إلى جوار الحسين (عليه السّلام)، فإنّ حضوره هذا قد جعل للملحمة حجم أوسع ممّا كان لها، ومقاسات أكثر علوّاً وسموّاً وارتفاعاً، فقد كان يحيّي كلّ مَنْ كان يتقدّم من أقربائه هؤلاء إلى الجبهة، وكان يقول لهم لغرض تشجيعهم على المنازلة، وإنزال أقصى الخسائر في صفوف العدو كان يقول: تقدّموا حتّى أراكم قد نصحتهم لله ورسوله.

ولمّا رأى العبّاس كثرة القتلى في أهله علم بأنّ دور إخوته في الكفاح والنزال قد حان، حيث لم يبقَ من المحاربين حيّاً سواهم، فقال لهم، وهم: عبد الله، وعثمان،

____________________

(١) عن الشهادة وطلبها يروى أنّ الرسول (صلّى الله عليه وآله) كان قد زار علياً (عليه السّلام) بعد واقعة اُحد لمواساته على الجروح التي أصابته فيها، والتي بلغ عددها (٧٠) جرحاً، فقد قال الإمام (عليه السّلام) للرسول (صلّى الله عليه وآله) متأسّفاً: (( يا رسول الله، أرأيت كيف حيزت عنّي الشهادة؟ )). فقال له الرسول (صلّى الله عليه وآله): (( إنّها من وراءك يا علي، فكيف صبرك إذن؟ )). فقال علي (عليه السّلام): (( يا رسول الله، ليس هذا من مواطن الصبر، ولكن من مواطن البشرى والشكر؛ إنّ الصبر يكون على البلاء، بينما الشهادة - في رؤية أهل البيت - نعمة وبركة، فهي موطن شكر وبشرى )).

١٣١

وجعفر: تقدّموا يابني اُمّي، فحاموا عن سيّدكم حتّى تموتوا دونه، وحتى أراكم قد نصحتم لله ولرسوله... تقدّموا بنفسي أنتم حتّى أراكم قتلى فأحتسبكم واُثاب بكم.

فاستجاب إخوة العبّاس لنداء أخيهم، فهبّوا مسرعين للقتال، ووطّنوا أنفسهم على الموت دفاعاً عن أخيهم الحسين (عليه السّلام)، وهم يردّدون:

نحنُ بنو اُمِّ البنين الأربعهْ ونحنُ خيرُ عامر بن صعصعهْ

الضاربونَ الهامَ وسطَ الجمجمهْ

فقاتلوا جميعاً قتالاً عنيفاً شديداً حتّى هووا كما تهوي النجوم إلى الأرض مضرّجين بدمائهم.

ووقف العبّاس على أشقائه الذين مزقّت أشلاءهم سيوف الأعداء، فأخذ يذرف عليهم أحرّ الدموع، وتمنّى لو أنّ المنيّة كانت قد وافته قبلهم.

أمّا العبّاس (عليه السّلام) نفسه فكان آخرهم وخاتمهم على طريق العزّة والنضال والجهاد، حيث إنّ الحسين (عليه السّلام) كان قد أرجأ الترخيص والإذن له بالمنازلة حتّى حين.

وإنّما استبقاه إلى جواره - رغم إلحاح العبّاس في خوض المعركة - حتّى تستمر هذه المعركة ضدّ العدو الغاشم بعنفوانها وغليانها، وليبقى مع العائلة إلى آخر لحظة ممكنة؛ لأنّ شهادته في البداية - وهي لا بدّ منها - قد تفّت في عضد جيش الحسين (عليه السّلام)، وتضعف معنويات العائلة.

لذا فقد قال الحسين (عليه السّلام) له:

١٣٢

(( أخي أنت صاحب لوائي، وكبش كتيبتي، إذا مضيت تفرّق عسكري، ويؤول جمعنا إلى الشتات )).

وعن هذه الحالة يقول الشاعر الشعبي جليل الجنابي:

يگله اشلون يا عباس عنّي تروح يا رجواي

أنت رمحي اُو سيفي وانت يسرتي اُو يمناي

أنت الگلب وانت الروح وانت نور البعيناي

لهذا لم يأذن بالقتال إلاّ في الساعات الأخيرة، وبعد أخذ ورد؛ لأنّ العبّاس كان على عجلة من أمره لدخول الجنّة، كما كان أعداؤه على عجلة من أمرهم لكسب الجائزة من ابن زياد. وحين لم يجد الحسين (عليه السّلام) بدلاً من الإذن له بعد أن ذاب قلبه، وذهبت نفسه حزناً وأسى على ما حلّ في آل وأصحاب الحسين من مصائب ونوائب، وبعد أن وجد أنّ نفسه تسبق جسمه في جهاد الطغاة والظالمين.

حيث أضاء له اللون الأخضر، وترك له حرية المواجهة والنزال، حيث قال له: (( إن كان ولا بدّ، فاطلب لهؤلاء الأطفال قليلاً من الماء )).

وهكذا فقد قيّد يديه ورجليه بإتيان الماء للأطفال.

وقبل أن يحمل العبّاس (عليه السّلام) على جيش العدوان، ويخترق صفوفهم، نادى أمام هذا الجيش: يا عمر بن سعد، هذا الحسين ابن بنت رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، قد قتلتم أصحابه وأهل بيته، وهؤلاء عطاشى منذ (٣) أيام، فاسقوه من الماء؛ فقد أحرق الظمأ قلوبهم. أما تذكرون العطش يوم الفزع الأكبر، أما تذكرون ما أنزل الله، أما تخافون من عذاب الله ونقمته يوم يجمع الله الناس فيه إلى المحشر؟!

١٣٣

وفي هذا المعنى نظم الشاعر أنور الجندي يقول:

وذئابُ الشرورِ تنعمُ بالما ء وأهلُ النبيِّ من غيرِ ماءِ

يا لظلمِ الأقدار يظمأ قلبُ اللي ث والليثُ موثقُ الأعضاءِ

وصغارُ الحسينِ يبكونَ في الصح راء يا ربِّ أينَ غوثُ القضاءِ

كما وقال الشاعر أبو المحاسن حول الموضوع:

لو أنّ بالصخرِ ما قاساهُ من عطشٍ كادت لهُ الصخرةُ الصماءُ تنغلقُ

إلاّ أنّ الجواب على هذا النداء كان قد جاء على لسان الشمر حيث قال بصوت عالي: يابن أبي تراب(١) ، قل لأخيك لو كان وجه الأرض كلّه ماءً، وهو تحت أيدينا، لما سقيناكم منه قطرة واحدة، ولا ذقتم منه شربة باردة حتّى نجرّعكم كأس المنون غصة بعد غصة، إلاّ أن تدخلوا في بيعة يزيد....

فغضب العبّاس وقال: إنّ القوم قد استحوذ عليهم الشيطان فأنساهم ذكر الله... إلخ.

وإثر ذلك شدّ على الأعداء حيث أخذت أبدانهم ترتجف، ومفاصلهم ترتعد، ووجوههم تتغيّر خوفاً منه حيث هزمهم نفسياً قبل أن يهزمهم في ساحات

____________________

(١) إنّ كلمة أبو تراب كناية عن كثرة عبادته وصلواته؛ وذلك لأنّ المسلمين كانوا في السابق يسجدون على التراب، وكان الإمام علي (عليه السّلام) معفّر الجبين لكثرة ما يسجد على التراب.

وجاء في صحيح البخاري ومسلم أنّ الرسول (صلّى الله عليه وآله) وجد الإمام مرّة في المسجد نائماً وقد ترب جبينه، فجعل يمسح التراب عن جبينه ويقول: (( قم يا أبا تراب ))، أي قم يا كثير العبادة. وكانت هذه الكنية (أبو تراب) أحبّ الكنى إلى الإمام علي (عليه السّلام).

١٣٤

الحرب، حيث يعبّر الشاعر السيد حيدر الحلّي عن الموقف ويقول:

عبست وجوهُ القومِ خوفَ المو ت والعباسُ فيهم ضاحكٌ متبسّمُ

واتجه صوب نهر العلقمي حيث فرّت الكتائب من أمامه، وباتت تسحق بعضها بعضاً، ولم يفزعه جيش الكوفة الضال عن رشده المكلّف بحراسة الشريعة، والذي يقدّر بـ (٤) آلاف فارس كأنّهم جراد منتشر، حيث تمكّن من كشفه عن الماء والوصول إليه، وملأ القربة التي كان يحملها معه بالماء.

وأراد - وهو في الماء - أن يشرب شيئاً منه؛ لأنّ عطشه كان لا يقلّ عن عطش الحسين وأهل بيته (عليهم السّلام)، إلاّ أنّه تذكر عطش أخيه الحسين (عليه السّلام) والأطفال والنسوة، ومَنْ قُتل من بني عمّه وأصحابه، فرمى الماء من يده ولم يشرب منه قطرة واحدة، وقال:

يا نفسُ من بعدِ الحسينِ هوني وبعدهُ لا كنتِ أو تكوني

هذا الحسينُ واردُ المنونِ وتشربينَ باردَ المعينِ

تاللهِ ما هذا فعالُ ديني

ثمّ صمّم العبّاس إثرها على إيصال القربة إلى معسكر الحسين (عليه السّلام)؛ لريِّ مَنْ فيه، وبكلّ صورة ووجه، وذلك بعد أن أحكم شدّ فتحتها ورماها على عاتقه، حيث إنّ حياته وأمله في تلك اللحظات كانت معلّقة بتلك القربة، وهي أن يوصلها سالمة إلى مخيّم الحسين (عليه السّلام).

وعن هذه الحالة يقول الشاعر:

أأبردُ قلبي بالزلالِ وبرده ويُحرقُ من آلِ الرسولِ قلوبُ

فيا نفسُ موتي بالظما وتقطّعي وإن كان ماءُ الشطِّ منكِ قريبُ

١٣٥

فواللهِ لا ذقت من الماءِ قطرةً إلى حيث سهمُ المنونِ يصيبُ(١)

كما ويقول شاعر آخر حول الموضوع:

ودمدمَ ليثُ الغابِ يعطو بسالةً إلى الماءِ لم يكبر عليهِ ازدحامُها

ألمّتِ بهِ سوداءُ يخطفُ برقُها ال بصائرَ من رعبٍ ويعلو قتامُها

جلاها بمشحوذِ الغرارينِ أبلجٍ يدبُّ بهِ للدارِعينَ حمامُها

ثنى رجلهُ عن صهوةِ المهرِ وامتطى قرى النهرِ واحتلَّ السقاءَ همامُها

وهبَّ إلى نحو الخيامِ مشمّراً لريّ عطاشى قد طواها أوامُها

كما ونظم شاعر ثالث يقول:

سل الشريعةَ عنهُ يومَ خاضَ بها هل ذاقَ للماءِ طعماً وهو غارفهُ

رمى المعينَ بنهرٍ من أناملِه وصدّ عنهُ وما بلّت مراشفهُ

إن لم يزد معنىً في شجاعته على أبيهِ فقد ساوت مواقفهُ

وفي هذا المعنى نظم شاعر رابع على لسان اُمّ البنين، وأنّها قالت بالفعل واصفة الموقف على حقيقته:

يا مَنْ رأى العباسَ كرَّ على جماهيرِ النقدْ(٢)

ووراهُ من أبناءِ حي در كلّ ليثٍ ذو لبدْ

اُنبئتُ أنّ ابني اُصي ب برأسهِ مقطوعَ يدْ

لو كانَ سيفكَ في يدي ك لما دنا منكَ أحدْ

إلاّ أنّ الأعداء تكاثروا عليه في الطريق، وأحاطوا به من كلّ صوب وجهة حتّى قطعوا عليه طريقه؛ ليحولوا دون إيصال الماء إلى معسكر الحسين (عليه السّلام) فلم يبالِ بهم، وأخذ يضرب القوم بسيفه مجندلاً كلّ مَنْ يقترب منه، ولسان حاله يقول:

____________________

(١) في البيت خلل عروضي واضح. (موقع معهد الإمامين الحسَنَين)

(٢) النقد: معناه الأغنام.

١٣٦

لا أرهبُ الموتَ إذا الموتُ زقا حتّى اُوارى في المصاليتِ لقى

إنّي أنا العباسُ أغدو بالسقا نفسي لسبطِ المصطفى الطهرِ وقا

ولا أهابُ الموتَ يومَ الملتقى بل أضربُ الهامَ وأفري المرفقا

إلاّ أنّ السهام كانت قد أتته كالمطر، كما وكمن له أحد مرتزقة جيش البغي فضربه على يمينه فقطعها، فأخذ العبّاس السيف بشماله وجعل يضرب بعنف وقوّة جنود جيش الكوفة، وهو يردّد:

واللهِ إن قطعتموا يميني إنّي اُحامي أبداً عن ديني

وعن إمامٍ صادقِ اليقينِ سبطِ النبي الطاهرِ الأمينِ

كما ونظم شاعر آخر هذا الشعر على لسان العبّاس:

أقسمتُ باللهِ الأعزِّ الأعظمِ وبالحجونِ صادقاً وزمزمِ

وبالحطيمِ والقنا المحرّمِ ليخضبنَ اليومَ جسمي بالدمِ

دونَ الحسين ذي الفخارِ الأقدمِ إمامِ أهلِ الفضلِ والتكرّمِ

وكان العبّاس يحثّ فرسه بقوّة لعله يوصل القربة سالمة إلى المخيم، وهو يدمدم قائلاً:

يا نفسُ لا تخشَي من الكفّارِ وأبشري برحمةِ الجبّارِ

مع النبي السيدِ المختارِ قد قطعوا ببغيهم يساري

فأصلهم يا ربِّ حرَّ النارِ

كما ونظم الشاعر محمّد علي كمونة الكبير حول الموضوع يقول:

أرى الموتَ عندَ الناسِ مرّاً مذاقُه وعندكَ أحلى من عناقِ الكواعبِ

ولكنكَ اخترتَ الوصولَ لرتبةِ ال شهادة شوقاً وهي أعلى المراتبِ

وبعد كرّ ومناوشة واقتحام كمن له مرتزق آخر فضربه على شماله فقطعها،

١٣٧

فضمّ الراية إلى صدره، وبعد ذلك تكاثر عليه الأعداء كالغربان، وأتته السهام كالمطر، فأصابت إحداها القربة واُريق ماؤها على الأرض، كما أصابت عدّة منها صدره وعينيه.

كما وحمل عليه مرتزق ثالث بعمود من حديد فضربه على رأسه حيث خارت قواه وسقط على الأرض يخور بدمه الزكي.

وهكذا فقد ضحّى العبّاس بكفّه حتّى لا يضحّي بكف الحقيقة، وضحى بعينه حتّى لا يضحّي بعين البصيرة، وضحّى برأسه حتّى لا يضحّي برأس الإيمان.

علماً بأنّه لا السيف الذي قطع يده، ولا السهم الذي أصاب عينه، ولا العمود الذي فلق هامته قد استطاع من أن يؤثّر على معنوياته وتصميمه في الدفاع عن الحقّ والمثل العليا.

وعن هذه الحالة يقول أحد الشعراء الشعبيين:

ولا تهمّه السهامُ حاشى مَنْ همُّه سقايةُ العطاشى

فجادَ باليمينِ والشمالِ لنصرةِ الدينِ وحفظِ الآلِ

كما ونظم شاعر آخر وهو علي محمّد الحائري في هذا المعنى يقول:

فيا حاملاً رايةَ الخالدين ويا حاملَ الماءَ للظامئينا

فإن أنت أعطيتَ منكَ الشمال فشرخٌ بعهدكِ تبقى اليمينا

نعم، سقط بجنب ضفاف نهر العلقمي بعد أن أوقع في جيش العدو الغاشم خسائر فادحة في الأرواح شملت كلّ بيوت الكوفة على سعتها.

وحين سقوطه أخذ يودّع أخاه الحسين الوداع الأخير بقوله: عليك منّي السلام يا أبا عبد الله.

١٣٨

وهكذا تحوّل العبّاس (عليه السّلام) بشهادته هذه من شخص إلى شاخص، ومن مؤمن إلى رمز للإيمان، ومن بطل إلى رمز للبطولات(١) .

وجاء الحسين (عليه السّلام) كالصقر ووقف على جثمان أخيه العبّاس، وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة، وبعد أن استيقن من شهادة أخيه العبّاس قال بألم وحسرة: (( يعزّ والله عليّ فراقك، الآن انكسر ظهري، وقلّت حيلتي، وشمت بي عدوّي ))(٢) .

وأنشد(٣) الحسين (عليه السّلام) عند جثمانه الطاهر يقول:

يا مقلتي سيحي دموعاً جمّة وابكي على بطلٍ شديدِ الباسِ

حامى ودافعَ ما استطاعَ بنفسه دونَ الحسينِ بصولةٍ ومراسِ

أسفي على العبّاسِ وهو مجدّلٌ دامي الجبينِ وخامدُ الأنفاسِ

____________________

كان عمر العبّاس (عليه السّلام) عند شهادته (٣٤) سنة، وفي سقوطه عند نهر العلقمي نظم الشاعر السيد حيدر الحلّي:

وهوى بجنبِ العلقمي فليته للشاربينَ بهِ يدافُ العلقمُ

وغدا يهمّ بأن يصولَ فلم يطق كالليثِ إذ أظفارهُ تتقلّمُ

كما وقال الخطيب الشيخ محمّد علي اليعقوبي حول الحالة نفسها:

فخرَّ على ضفةِ العلقمي صريعاً فأعظم بهِ مصرعا

(٢) عن علاقة الأخ بأخيه ومنزلته المميزة لديه ننقل في أدناه حكمة تنسب إلى لقمان الحكيم، حيث قيل: إنّ لقمان حين قدم من سفره الطويل لقي غلامه في الطريق، فقال له: يا غلام، ما فعل أبي؟

قال: مات.

قال لقمان: ملكتُ أمري.

قال له: يا غلام، ما فعلت زوجتي؟ قال: ماتت.

قال لقمان: جُدّد فراشي.

قال: ما فعلت اُختي؟

قال: ماتت.

قال لقمان: سترت عورتي.

قال: ما فعل أخي؟

قال الغلام: مات.

قال لقمان: الآن انكسر ظهري.

(٣) الأقرب أن يقال: ولسان حال الحسين (عليه السّلام)؛ وذلك لأنّ الأبيات ليست للإمام (عليه السّلام) قطعاً. (موقع معهد الإمامين الحسَنَين)

١٣٩

كما وأنشد (عليه السّلام) أيضاً:

عباسُ كبشُ كتيبتي وكنانتي وسريّ قومي بل أعزّ حصوني

يا ساعدي في كلِّ معتركٍ به أسطوا وسيف حمايتي بيميني

لمَنْ اللوا اُعطي ومَنْ هو جامعٌ شملي وفي ضنكِ الزحامِ يقيني

وعن هذه الحالة أيضاً نظم الشاعر السيد جعفر الحلّي يقول:

فمشى لمصرعهِ الحسينُ وطرفُه بينَ الخيامِ وبينهُ متقسّمُ

ألفاهُ محجوبَ الجمالِ كأنّهُ بدرٌ بمنحطمِ الوشيجِ ملثّمُ

فأكبَّ محنيّاً عليهِ ودمعُه صبغَ البسيطَ كأنّما هو عندمُ

قد رامَ يلثمهُ فلم يرَ موضعاً لم يدمَ من عضِّ السلاحِ فيلثمُ

ثمّ عاد الحسين (عليه السّلام) إلى مخيمه حزيناً وباكياً على أخيه، ولكنّه كان يكفكف دموعه بكمّه؛ كي لا تراه النسوة فيزداد ألمهنّ بفراق حاميهم العبّاس، وهو يقول: (( أما من مجير يجيرنا! أما من مغيث يغيثنا! أما من طالب حقّ ينصرنا! )).

وعندها سألته ابنته سكينة عن عمّها العبّاس، ولماذا أبطأ في جلب الماء إليهنّ، فقال لها: (( إنّ عمّك العبّاس قد قُتل )).

فصاحت سكينة: وا عباساه! راح والله المحامي والكفيل، راح عمّي العبّاس.

وسمعت العقيلة زينب (ت ١٥ رجب ٦٢هـ) بمقتل العبّاس فنادت: وا محمّداه! وا فاطمتاه! وا علياه! وا أخاه! وا عباساه! وا ضيعتنا بعدك يا أبا الفضل!

وبكين النسوة حين سماعهنّ للخبر، كما بكى الحسين (عليه السّلام) معهنّ، ونادى: (( وا ضيعتنا بعدك يا أبا الفضل! )).

١٤٠