حياة الإمام الرضا (عليه السلام) الجزء ٢

حياة الإمام الرضا (عليه السلام)0%

حياة الإمام الرضا (عليه السلام) مؤلف:
الناشر: انتشارات سعيد بن جبير
تصنيف: الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام
الصفحات: 375

حياة الإمام الرضا (عليه السلام)

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: باقر شريف القرشي
الناشر: انتشارات سعيد بن جبير
تصنيف: الصفحات: 375
المشاهدات: 178365
تحميل: 6402


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 375 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 178365 / تحميل: 6402
الحجم الحجم الحجم
حياة الإمام الرضا (عليه السلام)

حياة الإمام الرضا (عليه السلام) الجزء 2

مؤلف:
الناشر: انتشارات سعيد بن جبير
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

فيها أيّ لبس أو غموض.

البيعة للإمام:

وعقد المأمون لبيعة الإمام الرضاعليه‌السلام مهرجاناً شعبياً عاماً خضرته الوزراء، وكبار رجال الدولة، وقادة القوات المسلحة وبقيّة أبناء الشعب، وفي طليعتهم العلويون والعباسيون، وكان ذلك في يوم الثلاثاء في اليوم الثاني من شهر رمضان المبارك(1) سنة (201 ه‍)(2) .

وجلس المأمون على دست الخلافة، ووضع للإمام الرضاعليه‌السلام وسادتين عظيمتين حتى لحق بمجلس المأمون، وعليه عمامة، وقد تقلّد سيفاً، وأمر المأمون ولده العباس أن يبايع للإمام فكان أوّل مَن بايعه(3) ثم بايعه الناس.

كيفية البيعة:

أمّا كيفية بيعة الناس للإمامعليه‌السلام فكانت فريدة لم يألفها ملوك الأمويين والعباسيين، فقد رفععليه‌السلام يده، وتلقّى بظهرها وجهه الشريف،

وباطنها وجوه المبايعين، وبهر المأمون من ذلك، وراح يقول للإمام:

(ابسط يدك للبيعة...).

فأجابهعليه‌السلام :

(إنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله هكذا كان يبايع)(4) ولعلّ ذلك يستند إلى

قوله تعالى:( يد الله فوق أيديهم ) فلا يصح أن تكون يد المبايع فوق يد النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أو فوق يد الإمامعليه‌السلام .

الإمام يخبر بعدم تمامية هذا الأمر:

ولـمّا جلس الإمام الرضاعليه‌السلام ذلك المجلس، وقد لبس الخلع، والخطباء والشعراء يشيدون بفضله، ويدعون الناس إلى مبايعته نظرعليه‌السلام

إلى بعض مواليه، وقد داخله السرور، وعمّته الأفراح، فأشار إليه فأسرع نحوه فأسرّ إليه قائلاً:

____________________

(1) عيون التواريخ 3 / ورقة 221.

(2) سر السلسلة العلوية (ص 38) مرآة الزمان 6 / ورقة 40 تأريخ القضاعي.

(3) البحار.

(4) مقاتل الطالبيين.

٢٨١

(لا تشعل قلبك بشيء ممّا ترى من هذا الأمر، ولا تستبشر فإنه لا يتم)(1)، وتحقّق ما أخبر به الإمامعليه‌السلام فإنّه لم تتم هذه البيعة للإمام، وخاس المأمون بعهده ووعده، فغدر بالإمام ودسّ إليه سمّاً فاغتاله.

خطبة المأمون:

ولـمّا انتهت مراسيم البيعة قام المأمون فاعتلى المنبر، وخطب الناس فقال في جملة خطابه:

(أيّها الناس جاءتكم بيعة علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالبعليه‌السلام ، والله لو قرأت هذه الأسماء على الصم البكم لبرأوا بإذن الله عزّ وجل)(2) .

خطبة الإمام الرضا:

ولـمّا تمّت البيعة للإمام الرضاعليه‌السلام ، وطلب منه المأمون أن يعتلي المنبر، ويخطب الناس، فصعد المنبر وقال بعد حمد الله والثناء عليه:

(أيّها الناس إنّ لنا عليكم حقا برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولكم علينا حق به، فإذا أدّيتم إلينا ذلك وجب علينا الحق لكم...).

ولم يذكر الإمام غير هذه الكلمات(3) التي أعرب فيها عن حقّه على الناس؛ لأنّه ابن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله الذي برّ بدينهم ودنياهم، وأخرجهم من حياة التيه والضياع، فإذا وفوا له بحقّه، وأقاموه خليفة عليهم فقد وجب عليه أن يقيم في ربوعهم الحق، بجميع رحابه ومفاهيمه.

خطبة العبّاس:

وانبرى العباس الخطيب، فخطب خطاباً رائعاً بليغاً، وختم خطابه بهذا البيت:

____________________

(1) الفضول المهمة (ص 238).

(2) عيون أخبار الرضا 2 / 147.

(3) عيون أخبار الرضا.

٢٨٢

لا بد للناس من شمس، ومن قمر

فأنت شمس، وهذا ذلك القمر(1)

الممتنعون من البيعة للإمام:

وامتنع جماعة من البيعة للإمامعليه‌السلام ، فقد حقدوا عليه، وكرهوه، ونقموا على المأمون ببيعته بولاية العهد للإمام وهم:

1 - عيسى الجلودي.

2 - علي بن عمران.

3 - أبو يونس(2) .

وأمر المأمون بإلقاء القبض عليهم وإيداعهم في السجن.

تنفيذ حكم الإعدام فيهم:

وأمر المأمون بإخراج هؤلاء الثلاثة الممتنعين من البيعة للإمام من السجن، فلمّا مثلوا عنده رأوا الإمام إلى جانبه فتميزوا غيظاً وغضباً، وانبرى علي بن أبي عمران فقال للمأمون:

(أعيذك بالله يا أمير المؤمنين أن تخرج هذا الأمر الذي جعله الله لكم، وخصكم به، وتجعله في أيدي أعدائكم، ومن كان آباؤك يقتلونهم، ويشردونهم في البلاد...).

فصاح المأمون: (يا بن الزانية، وأنت بعد على هذا؟...).

ثم أمر بضرب عنقه، فنفذ ذلك فيه، وأدخل عليه أبو يونس فلمّا رأى الإمام إلى جانب المأمون محاطاً بهالة من الحفاوة والتكريم ساءه ذلك، وخاطب المأمون قائلاً:

(يا أمير المؤمنين هذا الذي بجنبك، والله صنم يعبد من دون الله...).

فأمر المأمون بإعدامه فأعدم، ودخل عليه الجلودي، وكان من أعدي الناس لأهل البيتعليهم‌السلام ، وهو الذي بعثه الرشيد لسلب بنات رسول الله (ص) في

____________________

(1) تذكرة الخواص (ص 364).

(2) عيون أخبار الرضا.

٢٨٣

يثرب، ومصادرة ما عليهنّ من حلي وحلل، فجاء إلى بيت الإمام الرضاعليه‌السلام وأراد الهجوم على بيت الإمام، وسلب ما على العلويات من ثبات فأبى الإمام فلم يعن به الجلودي، وأخذ الإمام يتوسّل إليه، ويعده بأن يأتي ما أراد فانصاع لقوله، ودخل الإمام إلى بيته فجمع له كل ما على العلويات من حلي وحلل فجاء به إلى الجلودي فأخذه، وقد طلب الإمام من المأمون أن يهب له الجلودي، فقال المأمون:

(يا سيدي هذا الذي فعل ببنات محمد (ص) ما فعل من سلبهن؟...).

ونظر الجلودي إلى الإمام وهو يكلّم المأمون ويتوسّل إليه في العفو عنه فظن الغبي أنّه يريد الانتقام منه لما فعله معه، فقال للمأمون:

(يا أمير المؤمنين أسألك بالله، وبخدمتي للرشيد أن لا تقبل قول هذا في...).

والتفت المأمون إلى الإمام الرضا فقال له:

(يا أبا الحسن قد استعفى، ونحن نبرّ قسمه...).

وخاطب المأمون الجلودي فقال له:

(لا والله لا أقبل قوله فيك...).

ثم التفت إلى الشرطة، وقال لهم: ألحقوه بصاحبيه، فقُدّم وضربت عنقه(1) .

قرارات هامّة:

وأصدر المأمون قرارات هامّة بمناسبة عقده ولاية العهد للإمام الرضاعليه‌السلام ، وهي:

1 - إعطاء الجنود رواتبهم سنة كاملة.

2 - ترك لباس الأسود الذي كان لباس العباسيين(2) ولبس اللباس الأخضر؛ لأنّ ذلك فيما أحسب هو لباس أهل الجنة، قال تعالى:( وَيَلْبَسُونَ ثِيَاباً خُضْراً مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ ) (3) .

____________________

(1) عيون أخبار الرضا 2 / 161 - 162.

(2) ورد في بعض الأخبار أنّ جبرئيل هبط على النبي (ص) في قباء أسود فقال (ص): له يا جبرئيل ما هذا الزي؟ فقال: زي ولد عمّك العبّاس، يا محمد ويل لولدك من ولد عمّك العباس، جاء ذلك في وسائل الشيعة 3 / 279.

(3) سورة الكهف: آية 31.

٢٨٤

3 - ضرب الدراهم والدنانير باسم الإمام الرضاعليه‌السلام وقد أورد السيد عبد القادر أحمد اليوسف نماذج من تلك النقود ما يلي:

(الدينار)

كتب في مركز وجهه: (لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له).

وكتب على النطاق: بسم الله ضرب هذا الدينار بسمرقند سنة اثني ومائتين.

وكتب على الطوق:( لِلَّهِ الأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ ) .

وكتب في مركز القفا: الله، محمد رسول الله، المأمون خليفة الله، ممّا أمر الأمير الرضا ولي عهد المسلمين علي بن موسى بن علي بن أبي طالب.

وكتب على طوق مركز القفا: (محمد رسول الله أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون).

(الدرهم)

نقل عبد القادر صورة الدرهم من متحف برلين المرقّم (1295) صورة الكتابة في مركز الوجه: (لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له) سنة ثلاث ومائتين.

كتابة الطوق( لِلَّهِ الأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ ) .

كتابة القفا: (الله، محمد رسول الله، المأمون خليفة الله، ممّا أمر به الرضا).

كتابة الطوق: (محمد رسول الله أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين ولو كره المشركون).

صورة أخرى من الدرهم الموجود في المتحف البريطاني في لندن تحت رقم (289).

مركز الوجه: كتب عليه (لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له).

النطاق: كتب عليه سنة اثنين.

الطوق: كتب عليه (لله الأمر من قبل ومن بعد).

مركز القفا: مر به...

... المسلمين علي بن موسى

... علي بن أبي طالب

٢٨٥

... ذو الرياستين.

الطوق: محمد رسول الله.

إنّ هذه النقاط هي حروف ممحاة لأنّها مصوّرة هكذا (الكتلوكات) العالمية، ومسحت هذه الكتابة نتيجة قدم هذه النقود، وتداولها الكثير، وتوجد نماذج من الدراهم ضربت سنة (704 ه‍) تيمّناً بسكّة الإمام، وقد كتب عليها ما كتب على السكّة الأصلية(1) .

زواج الإمام بابنة المأمون:

وعرض المأمون على الإمام الرضاعليه‌السلام أن يتزوّج الأميرة السيدة أم حبيب(2) فقبل الإمام ذلك وتزوّج بها، وإنّما عمد المأمون تقرّباً للإمام، وحتى تقوى العلاقة بينهما، ويرى بعض المحلّلين للأخبار أنّ سبب ذلك أن تكون ابنته عيناً لأبيها على جميع تصرّفات الإمام وتحرّكاته، وهذا ليس ببعيد عن سياسة المأمون ودهائه.

البيعة للإمام في جميع الأقطار:

وأمر المأمون جميع ولاته وعمّاله في جميع الأقطار والأقاليم الإسلامية بأخذهم البيعة للإمام الرضا بولاية العهد من جميع المواطنين، وهذه بعض الأقاليم التي أخذ منها البيعة.

1 - يثرب:

واستقبلت يثرب بجميع قطاعاتها الشعبية نبأ ولاية العهد للإمام الرضاعليه‌السلام بمزيد من الأفراح والابتهاج، وسارع والي يثرب عبد الجبار المساحقي إلى الجامع النبوي ليأخذ البيعة من أهالي المدينة إلى الإمام بعد أن أمره المأمون بذلك، واعتلى أعواد المنبر فخطب الناس وكان من جملة خطابه: أيّها الناس هذا الأمر الذي كنتم فيه ترغبون، والعدل الذي كنتم تنتظرون، والخير الذي كنتم ترجون، هذا على بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب سلام الله عليهم.

____________________

(1) الإمام علي الرضا ولي عهد المأمون (ص 62 - 65).

(2) ذكر أبو الفرج ان الإمام الرضا تزوج بابنة المأمون أم الفضل، وهو خطأ والصحيح انه تزوج بأم حبيب.

٢٨٦

ستة آباؤهم من خير من يشرب صوب الغمام(1) .

لقد كانت البيعة للإمام الرضا من أهم ما تصبوا إليه الأمة الإسلامية، ومن أغلى أمانيها، فهي تتقرّب بفارغ الصبر رجوع الحكم للإمام؛ ليقيم فيها العدل الخالص، وينشر الأمن والرخاء في ربوعها، وينقذها من جور العباسيين وظلمهم.

2 - مصر:

وكتب المأمون إلى عامله على مصر (السري) يأمره بأخذ البيعة من المصريين لولي عهده الإمام الرضا، وقد ورد الكتاب على (السري) في شهر محرّم سنة (202 ه‍) وقام (السري) بأخذ البيعة إلى الإمامعليه‌السلام ، إلاّ أنّ إبراهيم بن المهدي شيخ المغنّين ببغداد قام في إفساد هذه البيعة فقد كتب إلى وجوه الجند وقادتهم بمصر يأمرهم بخلع المأمون وولي عهده، وبالوثوب على (السري)، وقد استجاب له جماعة منهم الحارث بن زرعة بن محزم بالفسطاط، و عبد العزيز الوزير الجروي بأسفل الأرض، وسلامة بن عبد الملك الأزدي الطحاوي بالصعيد، وسليمان بن غالب بن جبريل، وعبد العزيز بن عبد الرحمن بن عبد الجبار الأزدي فناهضوا (السري)، ودعوا الناس إلى بيعة إبراهيم وجعلوا الوالي على مصر عبد العزيز الأزدي، فحاربهم (السري)، وظفر بعبد العزيز، وبجمع من أهل بيته فقتل بعضهم، وبعث ببعضهم مع ابنه عبد العزيز إلى المأمون فقتلهم، وهرب الباقون إلى الحروري وذلك لمنعته(2) وأخمدت بذلك الثورة، وبايع الناس إلى الإمام.

3 - مكّة:

ووجّه المأمون إلى مكّة المكرّمة عيسى الجلودي ليأخذ البيعة من أهلها للإمام، وكان في مكة مقيماً إبراهيم أخو الإمام الرضاعليه‌السلام ، ودعا عيسى المكيين إلى بيعة الإمام (علله السلام) والى لبس اللباس الأخضر، فاستجابوا له فرحين شاكرين، داعين للمأمون على تحقيق أمنيتهم، وأملهم في هذه البيعة(3).

4 - الكوفة:

وتلقّت الأكثرية الساحقة في الكوفة بمزيد من الفرح والسرور نبأ البيعة للإمام،

____________________

(1) العقد الفريد 5/226.

(2) الولاة وكتاب القضاء (ص 168).

(3) تاريخ اليعقوبي 3/277.

٢٨٧

وقد عهد المأمون لأخذ البيعة من الكوفيين العباس نجل الإمام موسىعليه‌السلام ، وأمدّه إبراهيم بن عبد الحميد بمائة ألف درهم، وقال له: قاتل عن أخيك فإنّ أهل الكوفة يجيبونك إلى ذلك، وأنا معك، وقام العباس بهذه المهمّة فاستجاب له جمهور كبير منهم، وقال له قوم: إن كنت تدعو للمأمون ثم من بعده لأخيك فلا حاجة لنا في دعوتك، وإن كنت تدعو إلى أخيك أو بعض أهل بيتك أو إلى نفسك أجبناك، فقال لهم العباس: أنا أدعو إلى المأمون أوّلاً، ثم من بعده لأخي الرضا.

وامتنع هؤلاء من البيعة للإمام، وأخذوا يندّدون بمَن بايع، ويدعونهم إلى نكث البيعة، ولـمّا علم إبراهيم بن المهدي تخاذل أهل الكوفة أوعز إلى جيشه المقيم في النيل بقيادة سعيد، وأبي البيط، لإخضاع الكوفة، والقضاء على التمرّد، وسرت جيوش إبراهيم حتى انتهت إلى (القنطرة) قرب (دير الأعور) فاعترضتهم قوّة عسكرية بقيادة العلوية علي بن محمد بن جعفر، وأبي عبد الله شقيق الزعيم الكبير أبي السرايا فالتحمت معها، وأخيراً انتصرت جيوش إبراهيم بن مهدي.

وزحفت جيوش إبراهيم نحو (الكوفة)، وقد ارتدت اللباس الأسود، وكان شعارها (يا منصور لا طاعة للمأمون) وجبن أهل الكوفة من مناجزتهم فأرسلوا وفداً لطلب الأمان للعباس وجماعته من القائد العام لجيش إبراهيم فأجابهم إلى ذلك، وشرط عليهم أن يخرج العباس وأصحابه من الكوفة، وأقبل الوفد إلى العباس، وهو لا يعلم بذلك فقالوا له: إنّ عامة مَن معك غوغاء، وقد ترى ما يلقى الناس من الحرب والنهب والقتل فاخرج من بين أظهرنا لا حاجة لنا فيك(1) .

وخرج العباس من الكوفة وقد انطوت نفسه على حزن عميق وأسى مرير، واستبان له أنّ أهل الكوفة لا ذمّة لهم، ولا وفاء لهم بعهد ووعد ودخلت جيوش إبراهيم الكوفة، ولم تحدث أيّة مصادمات بينها وبين الجماعة التي بايعت الإمام بولاية العهد.

هذه بعض المناطق التي أخذت فيها البيعة للإمام الرضاعليه‌السلام بولاية العهد.

____________________

(1) تأريخ الطبري.

٢٨٨

ناقدون للإمام:

ووجّه جماعة من الشيعة وغيرهم نقداً للإمام الرضاعليه‌السلام على قبوله لولاية العهد من قبل المأمون العباسي كان منهم:

1 - محمد بن عرفة:

واقبل محمد بن عرفة نحو الإمام، وقال له: (يا بن رسول الله ما حملك على الدخول في ولاية العهد؟).

فأجابه الإمام:

(ما حمل جدّي أمير المؤمنينعليه‌السلام على الدخول في الشورى)(1)

لقد أرغم الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام على الدخول في الشورى التي عقدها عمر بن الخطاب لانتخاب الخليفة من بعده، وقد أعلن الإمام عن أساه

وحزنه لانضمامه مع أعضاء الشورى، قائلاً: (فيا لله وللشورى متى اعترض الريب في مع الأول حتى صرت أقرن إلى هذه النظائر) وكما أرغم جده وأكره على الدخول في الشورى فكذلك أرغم هو على قبول ولاية العهد.

2 - رجل:

وأنكر عليه رجل تقلّده لولاية العهد قائلاً له:

(كيف صرت إلى ما صرت إليه من المأمون؟).

فقالعليه‌السلام له:

- أيّهما أفضل النبي أو الوصي؟

- النبي.

- أيّهما أفضل المسلم أو المشرك؟

- لا بل المسلم.

- إنّ العزيز (عزيز مصر) كان مشركاً، وكان يوسف نبياً، وإنّ المأمون مسلم، وأنا وصي، ويوسف سأل العزيز أن يولّيه حين قال له: اجعلني على خزائن الأرض، وأنا أُجبرت على ذلك(2) .

____________________

(1) وسائل الشيعة 12 / 148.

(2) وسائل الشيعة 12 / 146.

٢٨٩

3 - الريّان بن الصلت:

ودخل الريان بن الصلت على الإمام الرضاعليه‌السلام فقال له: (يا بن رسول الله إنّ الناس يقولون: إنّك قبلت ولاية العهد مع إظهارك الزهد في الدنيا؟)

فأجابه الإمام:

(قد علم الله كراهتي لذلك، فلمّا خيّرت بين قبول ذلك، وبين القتل اخترت القبول على القتل، ويحهم إنّ يوسف كان نبياً رسولاً، فلمّا دفعته الضرورة إلى تولّي خزائن العزيز، قال له: اجعلني على خزائن الأرض إنّي حفيظ عليم، ودفعتني الضرورة إلى قبول ذلك، على إكراه وإجبار بعد الإشراف على الهلاك، على أنّي ما دخلت في هذا الأمر إلاّ دخول خارج منه، فإلى الله المشتكى، وهو المستعان)(1) .

وأعرب الإمام عن كراهته البالغة وبغضه الشديد لهذا المنصب إلاّ أنّه أرغم وأجبر على ذلك.

4 - خارجي:

وأقبل خارجي يشتد نحو الإمام فقال له: أخبرني عن دخولك لهذا الطاغية فيما دخلت فيه، وهم عندك كفّار، وأنت ابن رسول الله (ص)، فما حملك على هذا؟

فقالعليه‌السلام :

وهؤلاء أكفر عندك أم عزيز مصر وأهل مملكته؟ أليس هؤلاء على حال يزعمون أنّهم موحِّدون، وأولئك لم يوحّدوا الله ولم يعرفوه، ويوسف بن يعقوب نبي ابن نبي، فسأل العزيز وهو كافر فقال:( اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ ) وكان يجلس مجلس الفراعنة، وإنّما أنا رجل من ولد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أجبرني على هذا الأمر، وأكرهني عليه، ما الذي أنكرت، ونقمت عليّ وراح الخارجي يقول: (أشهد أنّك ابن رسول الله، وانك صادق)(2) .

وأعرب الإمامعليه‌السلام في أحاديثه مع الناقدين له عن إرغامه على قبول ولاية العهد، فقد خيّر بينها وبين القتل فاختار ولاية العهد لإنقاذ نفسه من الهلاك الذي لا يعود بأيّة فائدة على القضية الإسلامية.

____________________

(1) وسائل الشيعة 12 / 147.

(2) وسائل الشيعة 12 / 149 - 150.

٢٩٠

الناقمون على المأمون:

ونقمت القوى المعادية لأهل البيتعليهم‌السلام على المأمون لعقده بولاية العهد للإمام الرضا، واعتبروا ذلك تحويلاً للخلافة عن الأسرة العباسية التي ينعمون في ظلالها.

وكان من أشد الناقمين على المأمون الأسرة العباسية، فقد اعتبرت ذلك خطراً على مملكتهم، وقد قامت قيامتهم، وورمت أنوفهم، وقاموا بما يلي من الإجراءات:

خلع المأمون:

وخلع العباسيون بيعة المأمون، واعتبروها لاغيه، وأعلنوا أمام الجماهير عصيانهم للمأمون، وطلبوا من المواطنين رفض بيعته، وبيعة ولي عهده، فاستجاب لهم خلق كثير، وبذلك فلم تعد بيعة للمأمون في أعناقهم.

البيعة لإبراهيم بن شكلة:

وعمد العباسيون إلى بيعة عميدهم إبراهيم بن شكلة(1) شيخ المغنّين، والموسيقين في بغداد، ودعي له بالخلافة، وسمّي بالمرضي(2) وكانت خلافته موضع استهزاء وسخرية من قبل الأوساط الواعية والمفكّرة؛ وذلك لاستهتاره، وتحلّله من جميع القيم والأعراف وفيه يقول الشاعر الاجتماعي الثائر دعبل الخزاعي:

نصر ابن شكلة بالعراق وأهله

فهفا إليه كل أطلس مائقِ(3)

إن كان إبراهيم مضطلعاً بها

فلتصلحن من بعده لمخارقِ

ولتصلحن من بعد ذاك لزلزلٍ

ولتصلحن من بعده للمارقِ

أنّى يكون وليس ذاك بكائنٍ

يرث الخلافة فاسقٌ عن فاسقِ(4)

لقد سخر دعبل من الخلافة التي تولاّها هذا المائق المتحلّل، وإذا صلحت له فلتصلح من بعده لأقرانه المغنّين أمثال: زلزل ومخارق، ومن سخرية الأقدار أن تؤول الخلافة الإسلامية لإبراهيم، ويتولّى شؤون المسلمين وكان إبراهيم - فيما يقول

____________________

(1) شكلة: أم إبراهيم وكانت جارية سوداء، وكان إبراهيم شديد عظيم الجثة حتى قيل له التنين، وفيات الأعيان 1 / 20.

(2) تأريخ اليعقوبي.

(3) نعر: صاح، والأطلس: الذئب، والمائق: المغيظ الباكي.

(4) وفيات الأعيان 1 / 21، تأريخ بغداد لطيفور (ص 160).

٢٩١

المؤرّخون - من أعدى الناس لآل عليعليه‌السلام ، وحينما علم بعقد ولاية العهد للإمام الرضاعليه‌السلام ورم أنفه وانتفخت أوداجه غيظاً وغضباً وأثر عنه من الشعر في ذلك هذه الأبيات:

فلا جزيت بنو العباس خيراً

على زعمي ولا اغتبطت بري

أتوني مهطعين وقد أتاهم

بوار الدهر بالخير الجلي

وحلّ عصائب الأملاك منها

وشدّت في رؤوس بني علي

فضجّت أن تشد على رؤوس

تطالبها بميراث النبي(1)

وفي عهده أصيبت الخزينة المركزية بالعجز، واجتمع الأجناد على بلاطه مطالبين بأرزاقهم، فخرج إليهم رسوله، وقال لهم: إنّه لا مال عنده، وطلب أحد الظرفاء، فقال: بدلاً من المال فليخرج الخليفة فيغنّي لأهل هذا الجانب ثلاثة أصوات، ولأهل ذلك الجانب ثلاثة أصوات(2) .

ونظم دعبل هذه الصورة المضحكة بقوله:

يا معشر الأجناد لا تقنطوا

وارضوا بما كان ولا تسخطوا

فسوف تعطون حنينية

يلتذّها الأمرد والأشمط(3)

والمعبديات لقوادكم

لا تدخل الكيس ولا تربط(4)

وهكذا يرزق قوّاده

خليفة مصحفه البربط(5)

قد ختم الصك بأرزاقكم

وصحّح العزم فلا تسخطوا

بيعة إبراهيم مشؤومة

يقتل فيها الخلق أو يقحطوا(6)

رسالة المأمون للعبّاسيين:

وتبودلت رسائل السب والقذف بين المأمون وأعمامه وأقربائه العباسيين، وكان من بينها هذه الرسالة التي بعثها المأمون للعباسيين(7) ، وهذا نصّها بعد البسملة:

____________________

(1) الولاة وكتاب القضاة (ص 168).                              (2) وفيات الأعيان 1 / 21.

(3) الأمرد: الذي لا لحية له، الأشمط: الذي له لحية.

(4) المعبديات: أصوات من الغناء تنسب إلى معبد المغني.

(5) البربط: الطبل.                                                  (6) عصر المأمون 3 / 255 - 256

(7) وهي جواب عن رسائلهم التي بعثوها للمأمون، وطلبوا منه الإجابة عليها فأجابهم بهذه الرسالة التي جرّدتهم من كل محتوى نبيل وشريف.

٢٩٢

(الحمد لله ربّ العالمين، وصلّى الله على محمد وآل محمد على رغم أنف الراغمين، أمّا بعد:

عرف المأمون كتابكم، وتدبير أمركم، ومخض زبدتكم، وأشرف على قلوب صغيركم وكبيركم، وعرفكم مقبلين ومدبرين، وما آل إليه كتابكم قبل كتابكم في مراوضة الباطل، وصرف وجوه الحق عن مواضعها، ونبذكم كتاب الله والآثار، وكلّما جاءكم به الصادق محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله ، حتى كأنّكم من الأمم السالفة، التي هلكت بالخسفة والغرق، والريح والصيحة والصواعق والرجم.

أفلا يتدبّرون القرآن أم على قلوب أقفالها؟ والذي هو أقرب إلى المأمون من حبل الوريد، لولا أن يقول قائل: إنّ المأمون ترك الجواب عجزاً لما أجبتكم، من سوء أخلاقكم، وقلّة أخطاركم وركاكة عقولكم، ومن سخافة ما تأوون إليه من آرائكم، فليستمع مستمع، فليبلغ شاهد غائباً...).

وحفل هذا المقطع من كلام المأمون بما يلي:

1 - إنّه ابتدأ رسالته بالصلاة على النبي، ثم عطف عليه آله فصلّى عليهم وعقّب ذلك بقوله: (على رغم الراغمين) وعنى الراغمين بني العباس الذين جهدوا على محو ذكر آل النبي (ص)، وإزالة أرصدتهم الروحية والفكرية من دنيا الإسلام.

2 - إنّ المأمون مطّلع على خفايا نفوس العباسيين، وعالم بدخائل قلوبهم، عرفهم مقبلين ومدبرين، عرفهم مندفعين نحو الباطل نابذين للحق، تاركين لكتاب الله، وما جاء به الرسول الأعظم (ص).

3 - إنّه إنّما أجابهم عن رسائلهم لا عناية بهم، وإنّما كي لا يقال إنّه عاجز عن الجواب... ولنعد لنقرأ الفصل الثاني من رسالة المأمون.

(أمّا بعد: فإنّ الله تعالى بعث محمداً (ص) على فترة من الرسل، وقريش في أنفسها وأموالها، لا يرون أحداً يساميهم، ولا يباريهم، فكان نبينا (ص) أميناً من أوسطهم بيتاً، وأقلّهم مالاً فكان أول مَن آمن به خديجة بنت خويلد، فواسته بمالها، ثم آمن به أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وهو ابن سبع سنين، لم يشرك بالله شيئاً طرفة عين، ولم يعبد وثناً، ولم يأكل رباً، ولم يشاكل الجاهلية في جهالاتهم، وكانت عمومة رسول الله إمّا مسلم مهين أو كافر معاند، إلاّ حمزة فإنّه لم يمتنع من الإسلام،

٢٩٣

ولا يمتنع الإسلام منه، فمضى لسبيله على بينة من ربّه.

وأمّا أبو طالب فإنّه كفله وربّاه، ولم يزل مدافعاً عنه، ومانعاً منه، فلمّا قبض الله أبا طالب فهم القوم، واجتمعوا عليه ليقتلوه فهاجر إلى القوم الذين تبوأوا الدار والإيمان من قبلهم، يحبون مَن هاجر إليهم، ولا يجدون في صدورهم حاجة ممّا أوتوا، ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة، ومن يوق شحّ نفسه فأولئك هم المفلحون...).

عرض هذا المقطع إلى بعثة الرسول الأعظم (ص) في مجتمع متكبّر يرى أنّه لا يدانيه، ولا يساويه أحد، وفي فجر الدعوة المشرقة ما آمن به إلاّ أم المؤمنين السيدة خديجة، وقد رصدت لدعوته جميع أموالها، ومن بعدها آمن به الإمام أمير المؤمنين سلام الله عليه، وكان عمره الشريف سبع سنين، ولم يسجد لصنم ولم يعبد وثناً، وإنّما عبد الله تعالى عن إيمان وإخلاص.

أمّا أعمام النبي (ص) فكان فيهم المشرك والحاقد والضال، وهو أبو لهب.

وكان فيهم بطل الإسلام أسد الله الشهيد حمزة الذي أعزّ الله به الإسلام، ونافح عن الرسول بكل بسالة حتى استشهد.

وخيرة أعمام النبي (ص) هو أبو طالب الذي آمن بالإسلام واعتنق أهدافه ومبادئه، ووقف إلى جانب الرسول (ص) يحميه، ويدفع عنه كيد المعتدين، ولـمّا انتقل هذا العملاق العظيم إلى حظيرة القدس، فقد النبي (ص) المحامي والمدافع عنه، وهمّت قريش بقتله فخرج (ص) مهاجراً إلى (يثرب) فاتخذها مقرّاً لدعوته، وعاصمة لحكومته، فقد وجد فيها الصفوة الصادقة المتفانية في الذب عنه، ولنعد إلى فصل آخر من فصول هذه الرسالة:

(ولم يقم مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أحد من المهاجرين كقيام علي بن أبي طالب، فإنه آزره، ووقاه بنفسه، ونام في مضجعه، ثم لم يزل بعد مستمسّكاً بأطراف الثغور، وينازل الأبطال، ولا ينكل عن قرن، ولا يولّي عن جيش، منيع القلب يؤمر على الجميع، ولا يؤمر عليه أحد، أشد الناس وطأة على المشركين، وأعظمهم جهادا في الله، وأفقههم في دين الله، وأقرأهم لكتاب الله وأعرفهم بالحلال

والحرام.

وهو صاحب الولاية في حديث (غدير خم) وصاحب قوله (ص): (أنت منّي

٢٩٤

بمنزلة هارون من موسى، إلاّ أنّه لا نبي بعدي) وصاحب يوم الطائف، وكان أحب الخلق إلى الله تعالى والى رسول الله (ص)، وصاحب الباب فتح له، وسد أبواب المسجد وهو صاحب الراية يوم خيبر، وصاحب عمرو بن عبد ود في المبارزة، وأخو رسول الله (ص) حين آخى بين المسلمين.

وهو منيع جزيل، وهو صاحب آية( ويطعمون الطعام على حبّه مسكيناً ويتيماً وأسيراً ) وهو زوج فاطمة سيدة نساء العالمين، وسيدة نساء أهل الجنة، وهو ختن خديجة، وهو ابن عم رسول الله (ص) رباه وكفله، وهو ابن أبي طالب في نصرته وجهاده، وهو نفس رسول الله (ص) في يوم المباهلة.

وهو الذي لم يكن أبو بكر وعمر يتقلدان أمرا حتى يسألانه عنه، فما رأى أنفذاه، ولم يره ردّاه، وهو دخل من بني هاشم في الشورى، ولعمري لو قدر أصحابه على دفعه عنه، كما دفع العباس رضوان الله عليه، ووجدوا إلى ذلك سبيلاً لدفعوه.

فأمّا تقديمكم العباس عليه، فإنّ الله تعالى يقول:( أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ ) .

والله لو كان ما في أمير المؤمنين من المناقب والفضائل والآي المفسّرة في القرآن خلّة واحدة في رجل من رجالكم أو غيره؛ لكان مستأهلاً للخلافة، مقدّماً على أصحاب رسول الله (ص) بتلك الخلّة، ثم لم تزل الأمور تترقّى به إلى أن ولي أمور المسلمين فلم يعن بأحد من بني هاشم إلاّ بعبد الله بن عباس، تعظيماً لحقه، ووصلة لرحمه، وثقة به فكان من أمره الذي يغفر الله له...).

وعرض هذا المقطع إلى بعض فضائل الإمام أبي الحسين رائد الحكمة والعلم في دنيا الإسلام، والتي منها دفاعه عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله فقد آزره، ووقاه بنفسه ومهجته، وبات على فراشه حينما احتمت قريش على قتلهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وقد نازل الأبطال، فحصد رؤوسهم دفاعا عن الإسلام، فكان من أشدّ الناس وطأة على الكافرين والملحدين، فما أعظم عائدته على الإسلام!

ومن فضائله أنّه كان أعلم المسلمين، وأفقههم، وأكثرهم إحاطة ودراية بأحكام الدين، وشريعة سيد المرسلين وقد عقد النبي (ص) له الولاية، وجعله خليفة من بعده في (غدير خم) وقال مقالته الذائعة: (مَن كنت مولاه فهذا علي مولاه

٢٩٥

اللهم من والاه، وعاد من عاداه)، وأشاد النبي (ص) به مرّة أخرى فقال له: (أنت منّي بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنّه لا نبي بعدي).

وكان من سموّ منزلته، وعظيم شأنه عند النبي (ص) أنّه أمر بسد جميع الأبواب التي كانت على جامعه الأعظم، ولم يستثن منها إلاّ باب علي فإنّها ظلّت مفتوحة، لم تغلق، ومن مناقبه أنّه صاحب الراية (يوم خيبر )، فهو الذي فتح حصون (خيبر ) وقضى على اليهود، وهو صاحب عمرو بن عبد ود الذي جبن المسلمون عن منازلته، فلم يبرز إليه سوى بطل الإسلام وحاميه الإمامعليه‌السلام .

ومن مناقب الإمام أمير المؤمنين أنّ النبي (ص) لـمّا آخى بين المسلمين، فبقي علي وحده فآخاه النبي (ص) وقال له: يا علي أنت أخي في الدنيا والآخرة.

ومن مناقبه وفضائله أنّه نزلت فيه وفي ولديه وزوجته سيدة نساء العالمين الآية الكريمة( ويطعمون الطعام على حبّه مسكيناً ويتيماً وأسيراً ) .

ومن مناقبه أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله زوّجه بسيدة نساء المسلمين وبضعته فاطمة الزهراءعليها‌السلام فلم يكن لها كفوء سواه.

ومن عظيم مناقبه أنّه نفس النبي (ص) كما دلّت على ذلك بوضوح آية المباهلة، فكان سلام الله عليه بمواهبه وعبقرياته امتداداً ذاتياً لشخصية الرسول

الكريم التي ملأت الآفاق نوراً.

ونظراً لسموّ ذاته، وعظيم مكانته كان أبو بكر وعمر لا ينفذان أمراً حتى يأخذا رأيه فيه، ومن الطبيعي أنّ ذلك الأمر ممّا يتعلّق بأحكام الدين.

وفي هذا المقطع أنّه لو وجدت بعض فضائل الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام في رجل من المسلمين لكان أهلاً ليتقلّد الخلافة والإمرة على المسلمين، هذا بعض ما قاله المأمون في هذا المقطع، ولنستمع إلى فصل آخر من هذه الرسالة يقول:

(ثم نحن وهم يد واحدة - كما زعمتم - حتى قضى الله تعالى بالأمر إلينا،

فأخفناهم، وضيّقنا عليهم، وقتلناهم أكثر من قتل بني أمية إيّاهم، ويحكم إنّ بني أمية إنّما قتلوا مَن سلّ منهم سيفاً، وإنّا معشر بني العباس قتلناهم جملاً فلتسألن أعظم الهاشمية، بأيّ ذنبٍ قتلت، ولتسألن نفوساً ألقيت في دجلة والفرات، ونفوس دفنت ببغداد والكوفة أحياء، هيهات، إنّه مَن عمل مثقال ذرة خير يره، ومَن يعمل مثقال

٢٩٦

ذرة شراً يره).

عرض هذا المقطع إلى بعض ما جرى على آل النبي (ص) من المأسي من حكّام بني العباس، فقد جهدوا على ظلمهم، وتصفيتهم جسدياً، يقول المنصور الدوانيقي للإمام الصادقعليه‌السلام : (لأقتلنّك، ولأقتلن أهلك، حتى لا أبقي منكم قامة سوط)(1) .

وقال المنصور: (قتلت من ذرّية فاطمة ألفاً أو يزيدون، وتركت سيّدهم ومولاهم جعفر بن محمد...)(2) .

وقال إسماعيل الديباج عندما هرب من المنصور:

لم يروه ما أراق البغي من دمنا

في كل أرض فلم يقصر من الطلبِ

وليس يشفي غليلاً في حشاه سوى

أن لا يرى فوقها ابنا لبنت نبي(3)

وقد عرض المأمون إلى ألوان رهيبة ممّا صبّه العباسيون على السادة العلويين من المآسي، والتي منها:

أ - إبادة العلويين جملاً.

ب - إلقاؤهم وهم أحياء في حوض دجلة والفرات حتى ماتوا غرقاً.

ج - دفنهم وهم أحياء في بغداد والكوفة.

إلى غير ذلك من صنوف الإرهاق والتنكيل الذي عاناه أبناء النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله من العباسيين...

ولنستمع إلى فصل آخر من هذه الرسالة:

(وأمّا ما وصفتم في أمر المخلوع، وما كان فيه من لبس، فلعمري ما لبس عليه أحد غيركم، إذ هونتم عليه النكث، وزينتم له الغدر، وقلتم له: ما عسى أن يكون من أمر أخيك، وهو رجل مغرب، ومعك الأموال والرجال، نبعث إليه فيؤتى به، فكذبتم ودبرتم، ونسيتم قول الله تعالى:( ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ ) وأعرب المأمون - في هذا المقطع - عن الأحداث التي جرت بينه وبين أخيه الأمين، وإنّها

____________________

(1) المناقب 3 / 357، البحار 47 / 178.

(2) الأدب في ظل التشيع (ص 68).

(3) النزاع والتخاصم للمقريزي (ص 51).

٢٩٧

تستند إلى العباسيين فهم الذين حبّبوا إليه خلع المأمون والنكاية به، ولم يكن ما وقع عن رأي الأمين وتدبيره، وهذا فصل آخر من هذه الرسالة:

(وأمّا ما ذكرتم من استبصار المأمون في البيعة لأبي الحسن الرضا فما بايع له المأمون إلاّ مستبصراً في أمره، عالماً بأنّه لم يبق أحد على ظهرها أبين فضلاً، ولا أظهر عفّة، ولا أورع ورعاً، ولا أزهد زهداً في الدنيا، ولا أطلق نفساً، ولا أرضى في الخاصة والعامة، ولا أشد في ذات الله منه، وأنّ البيعة له لموافقة رضى الربّ عزّ وجل، ولقد جهدت وما أجد في الله لومة لائم.

ولعمري لو كانت بيعتي محاباة لكان العباس ابني وسائر ولدي أحبّ إلى قلبي، وأحلى في عيني، ولكن أردت أمراً، وأراد الله أمراً، فلم يسبق أمري أمر الله).

وحكى هذا المقطع بيعته للإمام الرضاعليه‌السلام بولاية العهد، وأنّها لم تكن محاباة، أو اندفاعاً وراء العواطف والأهواء، وإنّما كانت عن اجتهاد وتبصّر، وتدبّر في أمور المسلمين؛ وذلك لما يتمتّع به الإمام العظيم من الصفات الرفيعة، والتي منها:

أ - إنّ الإمام أفضل إنسان على وجه الأرض.

ب - إنّ الإمام أعفّ إنسان.

ج - الورع عن محارم الله.

د - إجماع المسلمين على تعظيمه، وتقديمه بالفضل على غيره.

ه‍ - إنّهعليه‌السلام لا تأخذه في الله لومة لائم.

وهذه الصفات هي التي دفعت المأمون إلى البيعة للإمام بولاية العهد، ولنستمع إلى فصل آخر من هذه الرسالة يقول:

(وأمّا ما ذكرتم ممّا مسّكم من الجفاء في ولايتي فلعمري ما كان ذلك إلاّ منكم بمظافرتكم علي، وممايلتكم إيّاه، فلمّا قتلته، وتفرّقتم عباديد فطوراً أتباعاً لابن أبي خالد، وطوراً أتباعاً لأعرابي، وطوراً أتباعاً لابن شكلة، ثم لكل مَن سلّ سيفاً عليّ، ولولا أنّ شيمتي العفو، وطبيعتي التجاوز ما تركت على وجهها منكم أحداً، فكلكم حلال الدم محل بنفسه).

وأعرب المأمون عن الجفاء والحرمان الذي لحق بالعباسيين في عهده، فإنّهم هم السبب في ذلك، فقد أيّدوا الأمين وناصروه، ولـمّا قُتل انضموا إلى كل مَن أعلن

٢٩٨

التمرّد على حكومته أمثال: إبراهيم بن شكلة، وغيره؛ وبذلك فقد ملأوا قلب المأمون حقداً عليهم، ولولا أنّ طبيعته التجاوز - كما يقول - لما أبقى عباسياً على وجه الأرض، وهذا فصل آخر من رسالته يقول:

(وأمّا ما سألتم من البيعة للعباس ابني... أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير؟ ويلكم إنّ العباس غلام حدث السن، ولم يؤنس رشده، ولم يمهل وحده، ولم تحكمه التجارب، تدبّره النساء، وتكلّفه الإماء، ثم لم يتفقّه في الدين، ولم يعرف حلالاً من حرام إلاّ معرفة لا تأتي به رعية، ولا تقوم به حجّة، ولو كان مستأهلاً قد أحكمته التجارب، وتفقّه في الدين، وبلغ مبلغ أمير العدل في الزهد في الدنيا، وصرف النفس عنها ما كان له عندي إلاّ ما كان لرجل من عك وحمير، فلا تكثروا من هذا المقال فإنّ لساني لم يزل مخزوناً عن أمور وأنباء كراهية أن تخنث النفوس عندما تنكشف، علماً بأنّ الله بالغ أمره، ومظهر قضاه يوماً.

فإذا أبيتم إلاّ كشف الغطاء، وقشر العظاء، فالرشيد أخبرني عن آبائه، عمّا وجده في كتاب الدولة وغيرها، أنّ السابع من ولد العباس، لا يقوم لبني العباس بعده قائمة، ولا تزال النعمة متعلّقة عليهم بحياته، فإذا أودعت فودعها، إذا فقدتم شخصي فاطلبوا لأنفسكم معقلاً، وهيهات مالكم إلاّ السيف، يأتيكم الحسني الثائر البائر، فيحصدكم حصداً، أو السفياني المرغم، والقائم المهدي لا يحقن دماءكم إلاّ بحقّها...).

وحفل هذا المقطع بذكر الأسباب التي دعت المأمون إلى عدم ترشيح ولده العباس لولاية العهد، فإنّه لم يستجمع الشرائط التي ينبغي توفّرها في ولي العهد من العلم والفضل والتقوى وغيرها، فقد كان العباس غلاماً لم تهذّبه الأيام، ولم تصقله التجارب، ولم يقم على تكوينه علم أو ثقافة، وإنّما كان صبياً تدير أموره النسوان، وتدبّر شؤونه الأمهات، فكيف يصح أن يرشّحه لهذا المنصب الخطير؟

وأضاف المأمون بعد هذا إلى أنّ الرشيد أخبره عمّا وجده في كتاب الدولة من أنّ نهاية الدولة العباسية تكون بعد الملك السابع من بني العباس، وبعده لا تقوم للعباسيين قائمة.

وقد أخطأ الرشيد فقد استمرّت الدولة العباسية بعد السابع من ملوكهم، وكانت نهايتها على يد هولاكو التتار، فقد حصد رؤوس العباسيين، وأزال ملكهم

٢٩٩

وسلطانهم... ولنستمع إلى فصل آخر من هذه الرسالة يقول:

(وأمّا ما كنت أردته من البيعة لعلي بن موسى بعد استحقاق لها في نفسه، واختيار منّي له، فما كان ذلك منّي إلاّ أن أكون الحاقن لدمائكم، والذائد عنكم، باستدامة المودّة بيننا وبينهم، وهي الطريق أسلكها في إكرام آل أبي طالب، ومواساتهم في الفيء بيسير ما يصيبهم منه...).

وأعرب المأمون أنّ بيعته للإمام الرضاعليه‌السلام كانت من أجل صالح العباسيين، ففي هذه البيعة قد حقن دماءهم، ولعلّ سبب ذلك هو انفجار البلاد

بثورات متصلة تنادي للرضا من آل محمد (ص) ليقيم في ربوع الوطن العدل السياسي والعدل الاجتماعي، وحينما جاء بالإمام الرضا ونصبه ولي عهده خمدت تلك الثورات، ولو استمرّت لقضت على الحكم العباسي، وقضت على العباسيين...

ونعود لفصل آخر من هذه الرسالة يقول:

(وإن تزعموا أنّي أردت أن يؤول إليهم عاقبة ومنفعة فإنّي في تدبيركم والنظر لكم ولعقبكم، وأبنائكم من بعدكم وأنتم ساهون، لاهون، تائهون، في غمرة تعمهون لا تعلمون ما يراد بكم، وما أظللتم عليه من النقمة، وابتزاز النعمة، همّة أحدكم أن يمسي مركوباً، ويصبح مخموراً، تباهون بالمعاصي، وتبتهجون بها، وآلهتكم البرابط، مخنّثون مأفونون، لا يتفكّر متفكّر منكم في إصلاح معيشة، ولا استدامه نعمة، ولا اصطناع مكرمة، ولا كسب حسنة يمد بها عنقه، يوم لا ينفع مال ولا بنون إلاّ مَن أتى الله بقلب سليم.

أضعتم الصلاة، واتبعتم الشهوات، وأكببتم على اللذات فسوف تلقون غيّاً، وأيم الله لربّما أفكر في أمركم فلا أجد أمّة من الأمم استحقوا العذاب حتى نزل بهم لخلّة من الخلال إلاّ أصبت تلك الخلّة بعينها فيكم، مع خلال كثيرة لم أكن أظن أنّ إبليس اهتدى إليها، ولا أمر بالعمل بها، وقد أخبر الله تعالى في كتابه العزيز عن قوم صالح أنّه كان فيهم تسعة رهط يفسدون في الأرض، وقد اتخذتموهم شعاراً ودثاراً، استخفافاً بالمعاد وقلّة يقين بالحساب، وأيّكم له رأي يتبع أو روية تنفع فشاهت الوجوه، وعفرت الخدود...).

لقد وصف المأمون أسرته بأقبح الصفات التي لا يتصف بها إلاّ أراذل البشر، وشذّاذ الآفاق، لقد صوّرهم بصورة تشمئز منها النفوس، ويترفّع عنها أقل الناس

٣٠٠