حياة الإمام الرضا (عليه السلام) الجزء ٢

حياة الإمام الرضا (عليه السلام)0%

حياة الإمام الرضا (عليه السلام) مؤلف:
الناشر: انتشارات سعيد بن جبير
تصنيف: الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام
الصفحات: 375

حياة الإمام الرضا (عليه السلام)

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: باقر شريف القرشي
الناشر: انتشارات سعيد بن جبير
تصنيف: الصفحات: 375
المشاهدات: 178384
تحميل: 6403


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 375 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 178384 / تحميل: 6403
الحجم الحجم الحجم
حياة الإمام الرضا (عليه السلام)

حياة الإمام الرضا (عليه السلام) الجزء 2

مؤلف:
الناشر: انتشارات سعيد بن جبير
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

3 - إنّ معظم جيش المأمون ضبّاطاً وجنوداً كانوا من الشيعة الذين يدينون بإمامة الإمام الرضاعليه‌السلام فأراد أن يكسب ودّهم وإخلاصهم.

4 - إنّ الثورة ضد الحكم العباسي قد اندلعت في معظم الأقاليم الإسلامية، وكان شعار الثوّار الذي رفعوه الدعوة إلى الرضا من آل محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وقد استجاب الثوّار لهذه البيعة التي عقدها للإمام، وفي نفس الوقت فقد أضفى على الإمام لقب الرضا ليجلب بذلك المأمون عواطف الثوّار، وبالفعل فقد بايع الثوّار المأمون واستراح من الخطر المحدق بدولته الذي كاد أن يلفّ لواءها، ويطوي معالمها، وكانت خطّة المأمون، وأنّه من الطراز الأول في السلك الدبلوماسي فقد استطاع أن يتغلّب على الأحداث المحيطة وينقذ حكومته من أعظم خطر محدق بها.

5 - وفي بيعة المأمون للإمام الرضاعليه‌السلام بولاية العهد فقد أكسب

المأمون حكومته الشرعية، وأنّها ليست ظالمة كحكومة آبائه، وعلى هذا فالخروج عليه غير مشروع، ويجب على المسلمين مناهضة الثائرين عليه.

6 - ومن المكاسب التي ظفر بها المأمون في هذه البيعة هو أنّه تعرّف على عناصر الشيعة، وتعرّف على هوياتهم، ولم يعودوا يعملون في السر والخفاء فقد كانت خلاياهم سرّية للغاية، وبعد البيعة ظهر أمرهم، وانكشفوا للسلطة.

7 - ومن الأهداف التي كان ينشدها المأمون في هذه البيعة هو إظهار الإمامعليه‌السلام أنّه ليس من الزاهدين في الدنيا، وإنّما كان من عشّاقها في قبوله لهذه البيعة، ولم تكن تخفى على الإمام جميع أهداف المأمون، فقد أبطلها؛ وذلك بالشروط التي اشترطها على المأمون أن لا ينصب ولا يعزل، ويكون بمنحى عن الحكم كما سنوضح ذلك.

هذه بعض الأهداف التي دعت المأمون إلى عقده ولاية العهد إلى الإمام الرضاعليه‌السلام (1) ، ونعود للحديث عن ولاية العهد، وموقف الإمامعليه‌السلام منها، وبعض المواضيع التي ترتبط بها، وفيما يلي ذلك:

____________________

(1) عرض بصورة موضوعية وشاملة السيد جعفر مرتضى إلى الأهداف التي دعت المأمون لترشيح الإمام ولي عهده، وقد أحصاها إلى إحدى عشر هدفاً في كتابه حياة الإمام الرضا.

٢٦١

رسالة الفضل إلى الإمام:

وأرسل الفضل بن سهل رسالة إلى الإمام الرضاعليه‌السلام يطلب فيها القدوم إلى (خراسان)، ليتسلّم الخلافة من المأمون وهذا نصّها بعد البسملة:

لعلي بن موسى الرضا، وابن رسول الله المصطفى، والمهتدي بهديه، والمقتدي بفعله، الحافظ لدين الله، الخازن لوحي الله، من وليّه الفضل بن سهل، الذي بذل في ردّ حقّه إليه مهجته، ووصل ليله فيه بنهاره.

سلام عليك أيها المهتدي ورحمة الله وبركاته، فإنّي أحمد إليك الله الذي لا إله إلاّ هو وأسأله أن يصلّي على محمّدٍ عبده.

أمّا بعد: فإنّي أرجو أنّ الله قد أدّى لك، وإذن لك في ارتجاع حقّك ممّن استضعفك، وأن يعظم مننه عليك، وأن يجعلك الإمام الوارث، ويري أعداءك،

ومَن رغب عنك منك ما كان يحذرون.

وإنّ كتابي هذا عن إزماع من أمير المؤمنين عبد الله الإمام المأمون ومنّي على رد مظلمتك عليك، وإثبات حقوقك في يديك، والتخلّي منها إليك، على ما اسأل الله الذي وقف عليه: أن تبلغني ما أكون بها أسعد العالمين، وعند الله من الفائزين، ولحق رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله من المؤدّين، ولك عليه من المعاونين، حتى أبلغ في تولّيك ودولتك كلتا الحسنتين.

فإذا أتاك كتابي - جُعلت فداك - وأمكنك أن لا تضعه من يدك، حتى تسير إلى أمير المؤمنين، الذي يراك شريكاً في أمره، وشفيعاً في نسبه، وأولى الناس بما تحت يده... فعلت ما أنا بخيرة الله محفوفاً، وبملائكته محفوظاً، وبكلاءته محروساً، وإنّ الله كفيل لك بكل ما يجمع حسن العائدة عليك، وصلاح الأمّة بك، وحسبنا الله ونعم الوكيل، والسلام عليك ورحمة الله وبركاته)(1) .

وحفلت هذه الرسالة التي رفعها أكبر مسؤول في الدولة العباسية بما يلي:

1 - إضفاء الألقاب الكريمة، والنعوت الرفيعة على الإمامعليه‌السلام ، من أنّه حافظ لدين الله تعالى، وخازن لوحيه، وهذه الألقاب هي التي تضفيها الشيعة على أئمّتهم.

____________________

(1) حياة الإمام الرضا (ص 442 - 443) نقلاً عن كتاب التدوين لعبد الكريم الرافعي الشافعي.

٢٦٢

2 - إعلام الإمامعليه‌السلام بإرجاع الخلافة إليه، وأنّ الله تعالى قد شاء أن يرجع ويعود هذا الحق السليب الذي تناهبته أيدي الظالمين إلى أهله، وأصحابه، وهم أهل بيت النبوّة وسيّدهم الإمام الرضاعليه‌السلام .

3 - إنّ هذه الرسالة لم تكن بإيحاء وتدبير من الفضل وحده، وإنّما كانت منه ومن المأمون فهو الذي عزم على التخلّي عن الخلافة وتسليمها للإمام.

4 - واحتوت هذه الرسالة على طلب الفضل من الإمام مغادرة يثرب فوراً والتوجّه إلى (خراسان) ليتسلّم قيادة الحكم.

موقف الإمام:

ولم تظهر المصادر التي بأيدينا جواب الإمام عن هذه الرسالة، إلاّ أنّه من المؤكّد أنّ الإمام رفض رفضاً باتّاً الاستجابة لها؛ وذلك لعلمه بنوايا المأمون وأنّه لا واقع لرسالة الفضل إليه وإنّما كانت هناك دوافع سياسية ومدبّرة تحت الكواليس هي التي دفعت الفضل والمأمون إلى هذا العرض.

رسل المأمون إلى الإمام:

وأرسل المأمون وفداً رسمياً لإشخاص الإمام الرضا (ص) من (يثرب) إلى (خراسان)، أمّا الشخص الذي كان يرأس الوفد فقد ذهب أكثر المؤرّخين إلى أنّه الرجاء بن أبي الضحاك، وقيل إنّه عيسى بن يزيد المعروف بالجلودي، واستبعد ذلك السيد الأمين، وقال: إنّ الجلودي كان من قوّاد الرشيد وكان عدوّاً للإمام الرضاعليه‌السلام ، وليس من الحكمة أن يبعثه المأمون لإشخاص الإمام(1) .

وقد عهد المأمون إلى رئيس الوفد أن يأتي بالإمامعليه‌السلام على طريق (البصرة)، و (الأهواز) و (فارس)، وأن لا يأتي به على طريق (الكوفة) و (قم)(2) ، كما كتب المأمون إلى الإمام الرضاعليه‌السلام أن لا يأخذ على طريق الجبل وقم، وإنّما يأخذ على طريق البصرة والأهواز وفارس(3) .

وواضح كل الوضوح السر في إصرار المأمون واهتمامه على أن لا يأتي الإمام من

____________________

(1) أعيان الشيعة 4 / 121.

(2) عيون أخبار الرضا 2 / 149.

(3) أعيان الشيعة البحار.

٢٦٣

طريق الكوفة وقم هو أنّ هاتين المدينتين من مراكز الشيعة، وأهلها ممّن يدينون بالولاء للإمامعليه‌السلام ويقولون بإمامته، ومن الطبيعي أنّه إذا اجتاز عليهما فسوف يقابل بمزيد من الحفاوة والتكريم، الأمر الذي يعزّز مركز الإمامعليه‌السلام ، ويشكّل ذلك خطراً على الدولة العباسية، أمّا مرور الإمام على (البصرة) فلا مكسب فيه للإمام؛ لأنّها كانت عثمانية الهوى، كما كانت تدين بالولاء للعباسيين، وهذا الإجراء يكشف عن زيف خطّة المأمون في التخلّي عن الحكم، وإرجاعه للعلويين.

الإمام يودّع قبر النبي:

ولم يجد الإمامعليه‌السلام بدّاً من إجابة المأمون، فمضى إلى قبر جدّه الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله فودّعه الوداع الأخير، وعلم أنّه لا عودة له إلى جواره، روى محول السجستاني قال:

لـمّا ورد البريد بإشخاص الإمام الرضا إلى (خراسان) كنت أنا بالمدينة فدخل المسجد ليودّع قبر جدّه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فودّعه مراراً، وكان صوته يعلو بالبكاء والنحيب، فتقدّمت إليه، وسلّمت عليه، فردّ السلام، وهنّأته بما يصير إليه.

فقالعليه‌السلام :

(ذرني فإنّي أخرج من جوار جدّيصلى‌الله‌عليه‌وآله فأموت في غربة وأُدفن في جنب هارون).

قال محول: فخرجت متبعاً طريق الإمام حتى مات بـ‍ (طوس)، ودُفن بجنب هارون(1) .

الإمام يأمر أهله بالبكاء عليه:

وكان الإمام الرضاعليه‌السلام على علم لا يخامره أدنى شك أن لا عودة له إلى أهله ووطنه، فودّعهم الوداع الأخير، وجمع عياله وأمرهم بالبكاء والنحيب عليه، وهو يسمع ذلك، ووزّع عليهم أثني عشر ألف دينار(2) وعرّفهم أنّه لا يرجع إليهم أبداً.

____________________

(1) أعيان الشيعة 4 / ق 2 / 122.

(2) أعيان الشيعة 4 / ق 2 / 123 كشف الغمة 3 / 95.

٢٦٤

إقامة ولده الجواد مقامه:

وأقام الإمام الرضاعليه‌السلام ولده الجواد مقامه وهو ابن سبع سنين أو يزيد على ذلك، وأدخله مسجد النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ووضع يده على حافة القبر الشريف وألصق ولده بالقبر، واستحفظه عند جدّه الرسول (ص) وقال له: أمرت جميع وكلائي، وحشمي، بالسمع والطاعة لك، وعرف أصحابه أنّه القيّم من بعده(1) .

إلى بيت الله الحرام:

وقبل أن يتوجّه الإمام إلى (خراسان)، يمّم وجهه نحو بيت الله الحرام ليودعه الوداع الأخير، وقد صحب معه معظم عائلته، وكان من بينهم ولده الإمام الجوادعليه‌السلام ، ولـمّا انتهى إلى بيت الله المعظم أدّى التحية فطاف بالبيت وصلّى بمقام إبراهيم، وسعى، وطاف معه ولده الإمام الجواد فلمّا انتهى إلى حجر إسماعيل جلس فيه، وأطال الجلوس فانبرى إليه موفق الخادم، وطلب منه القيام فأبى، وقد بدا عليه الحزن والأسى، فأسرع موفق نحو الإمام الرضا، وأخبره بشأن ولده، وبادر الإمام الرضا نحو ولده فطلب منه القيام فأجابه بنبرات مشفوعة بالبكاء والحسرات قائلاً:

(كيف أقوم وقد ودّعت يا أبتي البيت وداعاً لا رجوع بعده؟).

لقد رأى الإمام الجوادعليه‌السلام ما بدا على أبيه من الوجل والأسى، فاستشفّ من ذلك أنّه النهاية الأخيرة من حياة أبيه، وفعلاً قد تحقق ذلك، فإنّ الإمام الرضا لم يعد في سفرته إلى الديار المقدّسة، وقضى شهيداً مسموماً على يد المأمون العباسي.

إلى خراسان:

وغادر الإمام الرضاعليه‌السلام بيت الله الحرام متوجّهاً إلى خراسان، وقد قوبل بمنتهى الحفاوة والتكريم والإجلال في كل بلد أو حي اجتازه، فقد سارع المسلمون إلى الاحتفاء به، وهم يتبرّكون بتقبيل يديه، ويعرضون عليه التشرّف بضيافته وتقديم الخدمات له، كما يسألونه عن أحكام دينهم، وهوعليه‌السلام يجيبهم عن ذلك.

____________________

(1) الدر النظيم.

٢٦٥

في نيسابور:

وطوت قافلة الإمام البيداء تجذ في السير، لا تلوي على شيء حتى انتهت إلى (نيسابور)(1) وقد استقبل فيها استقبالاً شعبياً منقطع النظير، فلم تشاهد (نيسابور) في جميع تأريخها مثل ذلك الاستقبال، وكان في طليعة المستقبلين كبار العلماء والفضلاء ورجال الحديث، وقد رووا عنه الحديث الذهبي الذي سنذكره.

ونزل الإمامعليه‌السلام في محلّة الغربي أو الفروي في دار شخص سمّاه أهل

نيسابور (بسندة) وهي كلمة فارسية معناها في العربية (مرضي)، لأنّ الإمامعليه‌السلام ارتضاه من دون الناس فنزل في داره، وزرع الإمام في تلك الدار لوزة فنبتت، وصارت شجرة وأثمرت في سنة، ولـمّا علم الناس جعلوا يستشفون بلوزها فمَن أصابته علّة تبرّك بالتناول من لوزها فعوفي ببركة الإمام العظيم، وقد قطع بعض أغصانها شخص فعمي، وقطع تلك الشجرة ابن حمدان فأصابه العمى(2) .

وكان في (نيسابور) حمّام فدخل فيه الإمامعليه‌السلام فاغتسل فيه ثم خرج منه وصلّى على ظهره، وأخذ أهالي (نيسابور) يتبرّكون بذلك الحمّام فيغتسلون فيه ويشربون منه التماساً للبركة، ويصلّون على ظهره ويدعون الله عزّ وجل في حوائجهم فتقضى لهم ببركة الإمام العظيم(3).

الحديث الذهبي:

وأحاط العلماء ورواة الحديث بالإمامعليه‌السلام ، وكان على بغلة شهباء،

____________________

(1) نيسابور: قال ياقوت الحموي: نيسابور مدينة عظيمة ذات فضائل جسيمة، معدن الفضلاء، ومنبع العلماء، لم أر فيما طوّفت من البلاد كانت مثلها، وقال في مدحها أبو العباس الزوزني المعروف بالمأموني:

ليس في الأرض مثل نيسابور

بلدٌ طيب وربٌّ غفور

وقال المرادي: يذم أهلها:

لا تنزلن بنيسابور مغترباً

إلاّ وحبلك موصول بسلطانِ

أو فلا أدب يجدي ولا حسب

يغني ولا رحمة ترعى لإنسانِ

وقد تخرّج منها من أئمّة العلم ما لا يحصى، منهم: الحافظ الإمام أبو علي الحسين بن علي بن زيد بن داود بن يزيد النيسابوري الصائغ، معجم البلدان 5 / 331 - 332.

(2) عيون أخبار الرضا 2 / 133.

(3) عيون أخبار الرضا 2 / 135.

٢٦٦

وقد لبس عمامته، وكان في مقدمة العلماء يحيى بن يحيى، وإسحاق بن راهويه، ومحمد بن رافع، وأحمد بن حرب، وغيرهم(1) ، لـمّا رأته الجماهير الحاشدة وهو بتلك الهيئة التي تحكي هيئة جدّه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله تعالت أصواتهم بالتهليل والتكبير مشفوعة بالأسى والبكاء، وقد ضجّت البقعة بالبكاء فنادى العلماء والحفاظ:

(معاشر الناس انصتوا، وعوا، ولا تؤذوا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله في عترته).

وألقى الإمامعليه‌السلام على العلماء هذا الحديث الشريف فقال:

(سمعت أبي موسى بن جعفر يقول: سمعت أبي جعفر بن محمد يقول: سمعت أبي محمد بن علي يقول: سمعت أبي علي بن الحسين يقول: سمعت أبي الحسين بن علي يقول: سمعت أبي أمير المؤمنين علي بن أبي طالبعليهم‌السلام يقول: سمعت النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله يقول: (لا إله إلاّ الله حصني فمَن دخل حصني أمن من عذابي).

ولـمّا مرّت الراحلة نادى أهل (نيسابور) فقال: (ولكن بشروطها، وأنا من شروطها)(2) .

إنّ كلمة لا إله إلاّ الله حصن من حصون الله تعالى، ولكنّها ليست على إطلاقها موجبة للنجاة من العذاب، والأمن من العقاب، ولكن بشروط، منها: الإقرار بإمامة الإمام الرضاعليه‌السلام الذي هو أحد أوصياء رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله .

وقد كتب هذا الحديث الشريف ما ينيف على عشرين ألفاً(3) من العلماء والحفّاظ، أمّا أسند هذا الحديث الشريف فهو من أجل وأروع الأحاديث المسندة،

يقول أحمد بن حنبل: لو قرئ هذا الإسناد على مجنون لبرئ من جُنّته(4) ، وقد أوصى

____________________

(1) المنتظم لابن الجوزي مصوّر في مكتبة السيد الحكيم (ج 10 ورقة 67).

(2) عيون أخبار الرضا 2 / 135 ونال هذا الحديث أهميّة كبرى عند العلماء فذكروا له عدّة طرق وأدرجوه في الأخبار المتواترة التي هي قطعية الصدور.

(3) أخبار الدول (ص 115).

(4) الصواعق المحرقة.

٢٦٧

بعض أمراء السامانية أن يكتب هذا الحديث بالذهب ويدفن معه(1) .

إلى طوس:

وسرت قافلة الإمامعليه‌السلام من (نيسابور)، وهي تطوي الصحراء حتى انتهت إلى (سناباد)، وفيه جبل كانت تنحت منه القدور، فاستند إليه، قال: اللّهم انفع به، وبارك فيما يجعل فيه، وفيما ينحت منه، ثم أمر بأن ينحت منه قدور له فنحتت له، وقال: لا يطبخ ما آكله إلاّ فيها.

وفي (سناباد) دار حميد بن قحطبة الطائي التي فيها قبر هارون الرشيد فمضى إليها الإمام، وانتهى إلى قبر هارون فخطّ بيده إلى جانبه، وقال لمن حوله: هذه تربتي، وفيها أدفن، وسيجعل الله هذا المكان مختلف شيعتي، وأهل محبتي، والله ما يزورني منهم زائر، ولا يسلّم عليّ منهم مسلّم إلاّ وجب له غفران الله ورحمته بشفاعتنا أهل البيت، ثم استقبل القبلة فصلّى ركعتين ودعا بدعوات، ولـمّا فرغ من صلاته سجد سجدةً طال مكثه فيها فأحصيت له فيها خمسمائة تسبيحة(2) ، ثم ناولعليه‌السلام بعض ثيابه إلى حميد لغسلها، فأخذها حميد وأعطاها إحدى جواريه فأخذتها، وسرعان ما أقبلت وقالت: وجدت رقعة في قميص أبي الحسن، فناولتها إلى حميد، وسارع بها إلى الإمامعليه‌السلام وقال له: ما فيها يا بن رسول الله (ص)؟

فقالعليه‌السلام :

(هذه عوذة من أمسكها في جيبه كان مدفوعاً عنه، وكانت له حرز من الشيطان الرجيم، ومن السلطان...).

وطلب حميد من الإمام أن يمليها عليه فأملاها وهذا نصّها بعد البسملة:

بسم الله إنّي أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيّاً أو غير تقي، أخذت بالله السميع البصير على سمعك وبصرك، لا سلطان لك علي، ولا على سمعي وبصري، ولا على شعري، ولا على بشري، ولا على لحمي، ولا على دمي، ولا على مخّي، ولا على عصبي، ولا على عظامي، ولا على أهلي، ولا على مالي، ولا على ما رزقني ربّي، سترت بيني وبينك بستر النبوّة الذي استتر به أنبياء الله من سلطان الفراعنة، جبرئيل

____________________

(1) أخبار الدول (ص 115).

(2) عيون أخبار الرضا 2 / 136 - 137.

٢٦٨

عن يميني، وميكائيل عن يساري، وإسرافيل من ورائي ومحمدصلى‌الله‌عليه‌وآله أمامي، والله مطّلع على ما يمنعك ويمنع الشيطان منّي.

اللّهم لا يغلب جهله أناتك أن يستفزني ويستخفني، اللّهمّ إليك التجأت، اللّهمّ إليك التجأت، اللّهمّ إليك التجأت(1) .

استقبال المأمون للإمام:

وأمر المأمون باستقبال الإمام استقبالاً رسمياً، فخرجت القوّات المسلّحة لاستقباله وسائر أبناء الشعب، وكان المأمون في مقدمة مستقبليه، ومعه الفضل ابن سهل، وبقيّة وزرائه ومستشاريه، فصافح الإمام ورحّب به ترحيباً حارّاً، وخصّص له داراً فخمة، مزوّدة بالخدم والحشم، وسائر ما يحتاج إليه، وعني به عناية فائقة.

عرض الخلافة على الإمام:

وعرض المأمون الخلافة على الإمامعليه‌السلام ، تنازله عن الخلافة رسميّاً، وتقليد الإمامعليه‌السلام بها فقال له:

(يا بن رسول الله قد عرفت فضلك، وعلمك وزهدك وورعك، وعبادتك، وأراك أحق بالخلافة منّي...).

فأجابه الإمام:

(بالزهد بالدنيا أرجو النجاة من شر الدنيا، وبالورع عن المحارم أرجو الفوز بالمغانم، وبالتواضع في الدنيا أرجو الرفعة عند الله...).

لقد أعرب الإمامعليه‌السلام عن زهده في الدنيا، وورعه عن محارم الله تعالى مبتغياً بذلك الفوز في الدار الآخرة والرفعة عند الله.

وسارع المأمون قائلاً:

(إنّي رأيت أن أعزل نفسي عن الخلافة، وأجعلها لك...).

ولم تخف على الإمام نوايا المأمون، وإنّه إنّما قام بذلك تنفيذاً لأغراضه السياسية، وكيف يتنازل عن الخلافة وقد قتل أخاه الأمين من أجلها، وخرّب بغداد، ونشر في ربوع العالم الإسلامي الثكل والحزن والحداد، فكيف يسلّمها للإمامعليه‌السلام ؟

____________________

(1) عيون أخبار الرضا 2 / 138.

٢٦٩

وأجابه الإمام بجواب حاسم أغاظ المأمون، وورم منه أنفه قائلاً له: (إن كانت هذه الخلافة لك فلا يجوز أن تخلع لباساً ألبسكه الله، وتجعله لغيرك، وإن كانت الخلافة ليست لك فلا يجوز أن تجعل لي ما ليس لك...).

وأفحم المأمون، فقد سدّ الإمام عليه كل نافذة يسلك منها، وراح يقول مهدّداً للإمام:

(لا بد لك من قبول هذا الأمر...).

فأجابه الإمام:

(لست أفعل ذلك طائعاً أبداً...).

وبهر ذو الرياستين، وراح يقول:

(وا عجبا!! رأيت الميمون أمير المؤمنين يفوّض أمر الخلافة إلى الرضا، ورأيت الرضا يقول: لا طاقة لي بذلك، ولا قدرة لي عليه، فما رأيت خلافة قط كانت أضيع منها...).

لقد كان الإمامعليه‌السلام عالماً بزيف هذا العرض، وعدم جدّيته فالمأمون من الأسرة العباسية الحاقدة على آل البيتعليهم‌السلام ، فقد ارتكب معهم من المجازر ما لم ترتكبه الأسرة الأموية، فقتلوهم في وضح النهار وفي غلس الليل، وقد جهدوا أن لا يبقى علوياً على وجه الأرض، والمأمون ليس أقل خبثاً، فقد اغتال سيد العلويين الإمام الرضا وقتل غيره من السادة الأطهار، فكيف يثق الإمام به؟.

المبرّرات المزعومة للمأمون:

أمّا المبررات المزعومة للمأمون في عرضه للخلافة على الإمام الرضاعليه‌السلام فهي:

1 - إنّه وجّه دعوة إلى الفضل بن سهل والى أخيه الحسن بن سهل، فلمّا مثلا عنده عرض عليهما ما نواه من تقليد الإمام للخلافة فجعل الحسن يعظم ذلك عليه، ويعرفه مضاعفات ذلك، فقال المأمون: (إنّي عاهدت الله أن أخرجها - أي الخلافة - إلى أفضل آل أبي طالب إن ظفرت بالمخلوع، وما أعلم أحداً أفضل من هذا الرجل - يعني الإمام الرضا -)(1) .

____________________

(1) مقاتل الطالبيين (ص 562 - 563)، الفصول المهمّة (ص 241).

٢٧٠

ومعنى هذا أنّه عقد عهداً مع الله يجب الوفاء به إن تمّ القضاء على أخيه، وظفر به، أن يعطي الخلافة إلى أفضل رجل من آل أبي طالب، وكان أفضلهم في عصره هو الإمام الرضاعليه‌السلام ، ولكن لا واقع لذلك مطلقاً كما دلّت على ذلك الأحداث.

2 - إنّه حاول بنقل الخلافة إلى العلويين أن يكافئ الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام على ما أسداه إلى العباسيين من فضل حينما ولي الخلافة، فقد جعل عبد الله بن عباس وزيراً له كما قلّده إمارة البصرة، وكذلك قلّد عبيد الله بن العباس ولاية اليمن، وغير ذلك من الأيادي التي أسداها إليهم، فأراد المأمون بما عمله مكافأة الإمام في ولده(1).

3 - إنّه إنّما عمل ذلك طاعة لله وطلباً لمرضاته، والخير للأمّة، ومصلحة المسلمين(2) .

هذه بعض المبرّرات التي تذرّع بها المأمون لنقل الخلافة إلى الإمام الرضاعليه‌السلام .

زيف مبرّراته:

ولا واقع مطلقاً لهذه المبررات، فلو كان المأمون صادقاً فيها لما منع مرور الإمام على الكوفة في مجيئه من يثرب؛ وذلك خشية من أن يكون له استقبال شعبي في هذه المدينة التي هي من مراكز الشيعة في العالم الإسلامي، وكذلك منع اجتيازه على (قم) للعلّة ذاتها، ومضافاً لذلك فإنّ عبد الله بن أبي سهل النوبختي الذي كان عالماً بالنجوم أخبره أنّ وقت البيعة للإمام الرضا في الوقت الذي قرّره المأمون ليس بصالح ولا يتم، فأمر المأمون على تنفيذ بيعته للإمام في ذلك الوقت(3) الأمر الذي ينم عن خبثه ودجله في هذا الأمر.

عرض ولاية العهد على الإمام:

وحاول المأمون بجميع الطرق والوسائل إقناع الإمامعليه‌السلام على قبول الخلافة أو ولاية العهد من بعده، فامتنع من إجابته امتناعاً شديداً، وقد استمرّت

____________________

(1) الآداب السلطانية (ص 219).

(2) أعلن المأمون ذلك في وثيقة العهد التي سنذكرها.

(3) فرج المهموم (ص 142)، تأريخ الحكماء (ص 222 - 223).

٢٧١

المحاولات على إقناعه أكثر من شهرين إلاّ أنّها لم تجد شيئاً وأصرّ الإمام على رفضه وامتناعه عن قبول أيّ منصب من مناصب الدولة.

إرغام الإمام:

ونفدت جميع الطرق الدبلوماسية التي سلكها المأمون لإقناع الإمامعليه‌السلام على قبول ولاية العهد، فرأى أن يسلك طريقاً آخر وهو التهديد والتوعيد للإمام، فقد بعث إلى الإمام فلمّا مثل عنده جرى حوار بينهما فقالعليه‌السلام له: (والله ما كذبت منذ خلقني ربّي عزّ وجل، وما زهدت في الدنيا للدنيا، وإني لاعلم ما تريد؟...).

وسارع المأمون قائلاً:

(ما أريد؟...).

وطلب الإمام منه الأمان إن صارحه بالحقيقة قائلاً:

(الإمام على الصدق؟).

(لك الأمان...).

وبيّن الإمام دوافع المأمون في إصراره على تقليده بولاية العهد قائلاً: (تريد بذلك أن يقول الناس: إنّ علي بن موسى لم يزهد في الدنيا، بل زهدت الدنيا فيه، ألا ترون كيف قبل ولاية العهد طمعاً في الخلافة؟...).

وغضب المأمون وورم أنفه، فصاح بالإمام قائلاً:

(إنّك تتلقاني أبداً بما أكرهه، وقد أمنت سطوتي فبالله أقسم لئن قبلت ولاية العهد، وإلاّ أجبرتك على ذلك فإن فعلت، وإلاّ ضربت عنقك...)(1) .

وانبرى الإمامعليه‌السلام يتضرّع إلى الله تعالى ويدعو قائلاً:

(اللّهمّ إنّك قد نهيتني من الإلقاء بيدي إلى التهلكة، وقد أكرهت واضطررت، كما أشرفت من قبل عبد الله المأمون على القتل إن لم اقبل ولاية عهده، وقد أكرهت واضطررت كما اضطر يوسف ودانيالعليهما‌السلام إذ قبل كل واحد منهما الولاية من طاغية زمانه.

____________________

(1) أمالي الصدوق (ص 43)، عيون أخبار الرضا 2 / 140.

٢٧٢

اللّهمّ لا عهد إلاّ عهدك، ولا ولاية لي إلاّ من قبلك، فوفّقني لإقامة دينك، وإحياء سنّة نبيّك محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله فإنّك أنت المولى، وأنت النصير، ونعم المولى أنت، ونعم النصير...)(1) .

وقبل الإمام ولاية العهد وهو باكٍ حزين(2) ، قد طافت به الآلام والهموم.

شروط الإمام:

وشرط الإمامعليه‌السلام على المأمون شروطاً تكشف عن عدم رضاه بولاية العهد، وإجباره على قبول هذا المنصب، وهي:

أ - لا يولّي أحداً.

ب - لا يعزل أحداً.

ج - لا ينقض رسماً.

د - يكون مشيراً من بعيد في شؤون الدولة(3) .

وأجاز المأمون هذه الشروط التي تتصادم مع أهدافه، وتفضح نواياه.

نص وثيقة ولاية العهد:

ولم تقتصر ولاية العهد بين الإمامعليه‌السلام وبين المأمون على البحوث الكلامية، وإنّما دوّنت في وثيقة رسميّة، وقّع عليها الإمام والمأمون، وشهد عليها كبار رجال الدولة، وقد نقلتها جمهرة من مصادر التأريخ، وقد اطلع عليها ابن الجوزي وقال: ابتاعها خالي بمأتي دينار، وحملها إلى سيف الدولة صدقة بن منصور، وكان فيها خطوط جماعة من الكتّاب مثل الصولي عبد الله بن العباس، والوزير المغربي(4) ، وقد اطلع عليها علي بن عيسى الإربلي، ونقل نصّها في كتابة (كشف الغمّة ) وذلك في سنة (670 ه‍)(5) ، ونحن ننقل نصّها فقد جاء فيها بعد البسملة:

(هذا كتاب كتبه عبد الله بن هارون الرشيد، أمير المؤمنين لعلي بن موسى بن جعفر.

____________________

(1) عيون أخبار الرضا 1 / 19.

(2) ينابيع المودّة (ص 284).

(3) عيون أخبار الرضا 2 / 140.

(4) مرآة الزمان 5 / ورقة 148 مصوّر.

(5) كشف الغمّة.

٢٧٣

أمّا بعد: فإنّ الله عزّ وجل اصطفى الإسلام ديناً، واصطفى من عباده رسلاً دالين عليه، وهادين إليه، ويبشّر أوّلهم بآخرهم، ويصدّق تاليهم ماضيهم، حتى انتهت نبوّة الله إلى محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله على فترة الرسل، ودروس من العلم، وانقطاع من الوحي، واقتراب من الساعة، فختم الله به النبيين، وجعله شاهداً لهم، ومهيمناً عليهم وأنزل عليه كتابه العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه، ولا من خلفه، تنزيل من حكيم حميد، بما أحلّ وحرم ووعد وأوعد، وحذر وأنذر، وأمر به، ونهى عنه لتكون له الحجة البالغة على خلقه، ليهلك من هلك عن بيّنة، ويحيا من حيى عن بيّنة، وإنّ الله لسميع عليم.

فبلغ عن الله رسالته، ودعا إلى سبيله بما أمره به من الحكمة والموعظة الحسنة، والمجادلة بالتي هي أحسن، ثم بالجهاد والغلظة، حتى قبضه الله إليه، واختار له ما عندهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فلمّا انقضت النبوّة، وختم الله بمحمدصلى‌الله‌عليه‌وآله ، الوحي والرسالة، وجعل قوام الدين، ونظام أمر المسلمين بالخلافة، وإتمامها وعزّها، والقيام بحق الله فيها بالطاعة التي يقام بها فرائض الله تعالى وحدوده، وشرائع الإسلام وسننه، ويجاهد بها عدوّه.

فعلى خلفاء الله طاعته فيما استحفظهم واسترعاهم من دينه وعباده، وعلى المسلمين طاعة خلفائهم، ومعاونتهم على إقامة حق الله وعدله، وأمن السبيل،

وحقن الدماء وصلاح ذات البين، وجمع الألفة، وفي خلاف ذلك اضطراب حبل المسلمين، واختلالهم، واختلاف ملّتهم وقهر دينهم، واستعلاء عدوّهم، وتفرّق الكلمة، وخسران الدنيا والآخرة.

فحق على مَن استخلفه الله في أرضه، وائتمنه على خلقه أن يجهد الله نفسه، ويؤثر ما فيه رضي الله وطاعته، ويعتمد لما الله مواقفه عليه، ومسائله عنه، ويحكم بالحق، ويعمل بالعدل فيما أحله الله وقلده، فإن الله عز وجل يقول لنبيه داود:( يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ ) وقال الله عز وجل:( فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) ، وبلغنا أنّ عمر بن الخطاب قال: (لو ضاعت سخلة بشاطئ الفرات لتخوّفت أن يسألني الله عنها).

٢٧٤

وأيم الله إنّ المسؤول عن خاصة نفسه، الموقوف على عمله فيما بينه وبين الله، ليعرض على أمر كبير، وعلى خطر عظيم، فكيف بالمسؤول عن رعاية الأمّة، وبالله الثقة، وإليه المفزع، والرغبة في التوفيق والعصمة، والتسديد والهداية إلى ما فيه ثبوت الحجّة، والفوز من الله بالرضوان والرحمة، وأنظر الأمة لنفسه، وأنصحهم لله في دينه وعباده من خلائقه في أرضه، من عمل بطاعة الله وكتابه وسنّة نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، في مدّة أيامه وبعدها، وأجهد رأيه فيمَن يوليه عهده، ويختاره لإمامة المسلمين ورعايتهم بعده، وينصبه علماً لهم، ومفزعاً في جمع ألفتهم، ولمّ شعثهم، وحقن دمائهم والأمن بإذن الله من فرقتهم، وفساد ذات بينهم، واختلافهم ورفع نزغ الشيطان وكيده عنهم، فإنّ الله عزّ وجل جعل العهد بعد الخلافة من تمام الإسلام وكماله، وعزّه وصلاح أهله، وألهم خلفاءه الخلافة من توكيده لـمَن يختارونه له من بعدهم ما عظمت به النعمة وشملت فيه العافية، ونقض الله بذلك مكر أهل الشقاق والعداوة والسعي والفرقة والتربص للفتنة.

ولم يزل أمير المؤمنين منذ أفضت إليه الخلافة فاختبر بشاعة مذاقها، وثقل محملها، وشدّة مؤونتها، وما يجب على مَن تقلّدها من ارتباط طاعة الله، ومراقبته فيما حمله منها، فانصب بدنه، وأسهر عينه، وأطال فكره فيما فيه عزّ الدين، وقمع المشركين، وصلاح الأمّة ونشر العدل، وإقامة الكتاب والسنّة، ومنعه ذلك من الخفض والدعة، ومهنأ العيش، علما بما الله سائله عنه، ومحبة أن يلقى الله مناصحاً له في دينه وعباده، ومختاراً لولاية عهده، ورعاية الأمّة من بعده أفضل من يقدر عليه، في دينه وورعه وعمله، وأرجاهم للقيام في أمر الله وحقّه، مناجياً بالاستجارة في ذلك ومسألته، وإلهامه ما فيه رضاه وطاعته في آناء ليله ونهاره، ومعملاً في طلبه والتماسه في أهل بيته من ولد عبد الله بن العباس، وعلي بن أبي طالب فكره ونظره، مقتصراً ممّن علم حاله ومذهبه منهم على علمه، وبالغا في المسألة عمن خفي عليه أمره جهده وطاقته، حتى استقصى أمورهم معرفة، وابتلى أخبارهم مشاهدة، واستبرأ أحوالهم معاينة، وكشف ما عندهم مسألة.

فكان خيرته بعد استخارته الله، وإجهاده نفسه في قضاء حقّه في عباده وبلاده في البيتين جميعاً:

٢٧٥

علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالبعليهم‌السلام .

لـمّا رأى من فضله البارع، وعلمه النافع، وورعه الظاهر، وزهده الخالص، وتخلّيه من الدنيا، وتسلّمه من الناس.

وقد استبان له ما لم تزل الأخبار عليه متواطئة والألسن عليه متفقة، والكلمة فيه جامعة، ولـمّا لم يزل يعرفه به من الفضل يافعاً، وناشئاً، وحدثاً ومكتهلاً، فعقد له بالخلافة من بعده، واثقاً بخيرة الله في ذلك، إذ علم الله أنّه فعله إيثارا له، وللدين ونظراً للإسلام والمسلمين، وطلباً للسلامة، وثبات الحجّة والنجاة في اليوم الذي يقوم الناس فيه لربّ العالمين.

ودعا أمير المؤمنين ولده وأهل بيته وخاصته وقوّاده وخدمه، فبايعوا مسرورين عالمين بإيثار أمير المؤمنين طاعة الله على الهوى في ولده، وغيرهم ممّن هو أشبك منه رحماً وأقرب قرابة.

وسمّاه الرضا، إذ كان رضا عند أمير المؤمنين، فبايعوا معشر أهل بيت أمير المؤمنين، ومن بالمدينة المحروسة من قواده وجنده وعامة المسلمين لأمير المؤمنين، وللرضا من بعده علي بن موسى على اسمه وبركته، وحسن قضائه لدينه وعباده، بيعة مبسوطة إليها أيديكم منشرحة لها صدورهم، عالمين بما أراد أمير المؤمنين بها، وآثر طلعة الله، والنظر لنفسه ولكم فيها، شاكرين الله على ما ألهم أمير المؤمنين بها من قضاء حقّه في رعايتكم، وحرصه على رشدكم، وصلاحكم، راجين عائدة ذلك في جمع إلفتكم، وحقن دمائكم، ولمّ شعثكم، وسدّ ثغوركم وقوّة دينكم، ورغم عدوّكم، واستقامة أموركم، وسارعوا إلى طاعة الله، وطاعة أمير المؤمنين، فإنّه الأمن إن سارعتم إليه، وحمدتم الله عليه، عرفتم الحظ فيه إن شاء الله...)(1) .

وانتهت هذه الوثيقة وكان تأريخها يوم الاثنين لسبع خلون من شهر رمضان سنة إحدى ومائتين هجرية.

وطلب المأمون من الإمام الرضاعليه‌السلام أن يكتب بيده الشريفة بقبول هذا العهد، فكتبعليه‌السلام بخطّه بعد البسملة ما يلي:

____________________

(1) صبح الأعشى 9 / 362 - 366.

٢٧٦

(الحمد الله الفعّال لما يشاء، ولا معقّب لحكمه، ولا رادّ لقضائه يعلم خائنة الأعين، وما تخفي الصدور، وصلاته على نبيّه خاتم النبيين وآله الطيبين الطاهرين.

أقول: وأنا علي بن موسى بن جعفر: إنّ أمير المؤمنين عضده الله بالسداد، ووفّقه للرشاد، عرف من حقّنا ما جهله غيره، فوصل أرحاماً قُطعت، وأمن أنفساً فزعت، بل أحياها وقد تلفت، وأغناها إذ افترقت، ومبتغياً رضى ربّ العالمين، لا يريد جزاءً من غيره، وسيجزي الله الشاكرين، ولا يضيع أجر المحسنين.

وأنّه جعل إلى عهده، والإمرة الكبرى إن بقيت بعده، فمَن حلّ عقدة أمر الله بشدّها، وفصم عروة أحبّ الله إيثاقها، فقد أباح الله حريمه، وأحلّ محرمه، إذ كان بذلك زارياً على الإمام منتهكاً حرمة الإسلام، بذلك جرى السالف، فصبر منه على الفلتات، ولم يعترض على العزمات، خوفاً من شتات الدين، واضطراب حبل المسلمين، ولقرب أمر الجاهلية، ورصد فرصة تنتهز وبائقة تبتدر.

وقد جعلت الله على نفسي إن استرعاني أمر المسلمين وقلّدني خلافة العمل فيهم - عامة، وفي بني العباس بن عبد المطلب خاصة - بطاعته وطاعة رسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأن لا أسفك دماً حراماً، ولا أبيح فرجاً، ولا مالاً إلاّ ما سفكته حدود الله، وأباحته فرائضه، وأن أتخيّر الكفاة جهدي وطاقتي، وجعلت بذلك على نفسي عهداً مؤكّداً، يسألني الله عنه، فإنّه عزّ وجل يقول: ( وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولاً ) .

وإن أحدثت أو غيرت أو بدلت كنت للغير مستحقاً وللنكال متعرضاً، وأعوذ بالله من سخطه، وإليه أرغب في التوفيق لطاعته، والحول بيني وبين معصيته، في عافية لي وللمسلمين.

والجامعة والجفر يدلاّن على ضد ذلك، وما أدري ما يفعل بي، ولا بكم، إن الحكم إلاّ لله يقضي بالحق، وهو خير الفاصلين، ولكنّي امتثلت أمر أمير المؤمنين، وآثرت رضاه، والله يعصمني وإيّاه، وأشهدت الله على نفسي بذلك وكفى بالله شهيداً...).

وكتبت بخطّي، وبحضرة أمير المؤمنين أطال الله بقاءه والفضل بن سهل، وسهل بن الفضل، ويحيى بن أكثم، وبشر بن المعتمر، وحماد بن النعمان، في شهر رمضان سنة إحدى ومائتين.

٢٧٧

وكتب الفضل بن سهل وزير المأمون ما صورته:

(رسم أمير المؤمنين أطال الله بقاءه قراءة مضمون هذا المكتوب ظهره وبطنه بحرم سيّدنا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بين الروضة والمنبر على رؤس الأشهاد، ومرأى ومسمع من وجوه بني هاشم، وسائر الأولياء والأجناد، وهو يسأل الله أن يعرف أمير المؤمنين وكافة المسلمين الحجّة به على جميع المسلمين وإبطال الشبهة التي كانت اعترضت آراء الجاهلين:( مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ ) .

وكتب الفضل بن سهل في التأريخ المعين فيه.

وكتب يحيى بن أكثم القاضي ما صورته: (شهد يحيى بن أكثم على مضمون هذه الصحيفة ظهرها وبطنها، وكتب بخطّه بالتأريخ.

وكتب حماد بن النعمان ما صورته: (شهد حماد بن النعمان بمضمون ظهره وبطنه).

وكتب بشر بن المعتبر ما صورته: (شهد بمثل ذلك بشر بن المعتمر وكتب بخطّه بالتأريخ)(1) .

ولا بد لنا من وقفة قصيرة للنظر في وثيقة المأمون، وما كتبه الإمام الرضاعليه‌السلام ، وما شهد به الفضل بن سهل، وفيما يلي ذلك:

محتويات وثيقة ولاية العهد:

وحفلت وثيقة ولاية العهد التي وقّعها المأمون والإمام الرضا بما يلي:

أوّلاً - الإشادة بالإسلام، وبكتاب الله العظيم: الذي هو المنهج الكامل والدستور الشامل لسعادة الإنسان وصلاحه.

ثانياً - الإشادة بالرسول العظيم داعية الله الأكبر، ورافع مشعل التوحيد، والنقطة الفكرية في الأرض.

ثالثاً - بيان أهمية الخلافة بعد النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فبها قوام الدين، ونظام أمر المسلمين، وهي ظل الله في الأرض.

رابعاً - لزوم طاعة المسلمين للخلفاء، فإنّ عدم طاعتهم تنجم منه الإضرار البليغة

____________________

(1) صبح الأعشى 9 / 392 - 393.

٢٧٨

على العالم الإسلامي.

خامساً - إنّ على الخلفاء مسؤوليات خطيرة، والتي منها إيثار طاعة الله على كل شيء، والحكم بالحق والعدل بين الناس، إلى غير ذلك من المسؤوليات الجسام التي عرضتها الوثيقة بصورة شاملة.

سادساً - إنّ من أهم مسؤوليات الخلفاء تعيين ولاة العهد من بعدهم، وأن يكون التعيين قائماً على الاختيار التام والفحص الشديد في أمر مَن يعيّنه من بعده، وأن لا يكون الاختيار خاضعاً للمحاباة والأهواء، فإنّ في ذلك تعريض الأمّة لأخطار جسام تُمنى بها.

سابعاً - إنّ المأمون قد بذل جهداً شاقاً وعسيراً في اختيار ولي عهده، فلم يجد في الأسرة العلوية، ولا في الأسرة العباسية من هو أفضل من الإمام الرضاعليه‌السلام ؛ وذلك لما يتمتع به من الصفات الكريمة التي منها:

أ - الفضل البارع.

ب - العلم النافع.

ج - الزهد الخالص في الدنيا.

د - الورع عن محارم الله تعالى.

وهذه الصفات الكريمة هي التي دفعت المأمون لانتخاب الإمام الرضاعليه‌السلام ، وترشيحه لولاية العهد من بعده.

محتويات ما كتبه الإمام:

أمّا محتويات ما كتبه الإمام الرضاصلى‌الله‌عليه‌وآله على وثيقة ولاية العهد، فهي كما يلي:

أولاً - الإشادة بصلات المأمون للسادة العلويين، فقد أنعشهم بها بعد ما عانوا من الضيق والحرمان، والظلم من حكّام بني العباس الذين جهدوا على أن لا يبقى علوي على وجه الأرض، فقد دفنوهم أحياء، وقتلوهم تحت كل حجر ومدر، وألقوا بأطفالهم في حوض (دجلة) حتى ماتوا، إلى غير ذلك من المآسي التي صبّها العباسيون على العلويين.

ثانياً - أشار الإمامعليه‌السلام بقوله: (إذ كان بذلك زارياً على الإمام الخ) إلى

٢٧٩

جدّه الإمام أمير المؤمنين باب مدينة علم النبي (ص)، ورائد حكمته، الذي أقصاه القوم عن منصبه الذي قلّده النبي (ص) له في يوم (غدير خم )، وقد عانت الأمّة من جرّاء ذلك ألواناً رهيبة من المآسي والويلات، فقد أصبحت الخلافة بأيدي الجناة أمثال: معاوية ويزيد ومروان والوليد والمنصور وغيرهم من أئمّة الظلم والجور، الذين لم يألوا جهداً في ظلم الناس وإرغامهم على ما يكرهون.

وأشار الإمامعليه‌السلام بقوله: (فصبر منه على الفلتات) إلى قول عمر بن الخطاب الذي وصم بيعة أبي بكر بأنّها فلتة وقى الله المسلمين شرّها فقد صبر الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام على هذه الفلتة (وفي العين قذى وفي الحلق شجى) - على حدّ تعبيره - وذلك حرصاً منه على كلمة الإسلام من الانهيار، ووحدة المسلمين من التصدّع؛ وذلك لقرب المسلمين من الجاهلية، وتربّص القوى المعادية للإسلام للفتك والانقضاض عليه إذا حدث انقسام بين صفوف المسلمين، الأمر الذي دعا الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام للصبر على نهب تراثه.

ثالثاً - إنّ الإمامعليه‌السلام قد قطع على نفسه عهداً مسؤولاً عنه أمام الله، وأمام المسلمين أن يسوس الناس سياسة قوامها العدل الخالص، والحق المحض، ويعيد للناس سيرة جدّه الرسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ويختار لجهاز الحكم الأكفّاء الصالحين الذين يخشون الله تعالى ويبتغون الدار الآخرة... بكل هذه الأهداف العظيمة التي سيحققها الإمام إذا تقلّد خلافة المسلمين.

رابعاً - واستشفّ الإمامعليه‌السلام من وراء الغيب أنّه لا يتقلّد الخلافة، ولا تنعم الأمة في حكمه، فقد قرأ في(الجامعة) و(الجفر) اللذين هما من ودائع النبوّة، وفيهما علم ما كان وما يكون إلى يوم القيامة أنّ الخلافة لا تنتهي إلى الإمامعليه‌السلام ، وأنّ تقلّده لولاية العهد إنّما هو خداع وتضليل من قبل المأمون.

محتوى كتابة الفضل:

أمّا ما كتبه الفضل بن سهل على وثيقة ولاية العهد فإنّه يشير إلى أنّ هذه الوثيقة متى أمر المأمون بقراءتها في الجامع النبوي بين الروضة والمنبر الشريف على رؤوس الأشهاد من وجوه الهاشميين، والقوّات المسلّحة وسائر الناس؛ ليكون ذلك أبلغ في توكيد العهد، ودفع آراء الجاهلين والمغرضين.

هذه بعض محتويات الوثيقة وملحقاتها، وقد كانت صريحة في محتوياتها، وليس

٢٨٠