الفقه على المذاهب الخمسة

الفقه على المذاهب الخمسة0%

الفقه على المذاهب الخمسة مؤلف:
الناشر: مؤسسة الصادق للطباعة والنشر
تصنيف: متون فقهية ورسائل عملية
الصفحات: 650

الفقه على المذاهب الخمسة

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: محمد جواد مغنية
الناشر: مؤسسة الصادق للطباعة والنشر
تصنيف: الصفحات: 650
المشاهدات: 223509
تحميل: 30540

توضيحات:

الفقه على المذاهب الخمسة
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 650 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 223509 / تحميل: 30540
الحجم الحجم الحجم
الفقه على المذاهب الخمسة

الفقه على المذاهب الخمسة

مؤلف:
الناشر: مؤسسة الصادق للطباعة والنشر
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

الأُولى عين جديدة فإنّ الثانية لا تأخذ حكمها، ولا تكون وقفاً مثلها، بل هي تماماً كناتج الوقف يجوز بيعها بدون عروض المبرر إذا رأى المتولي مصلحة في البيع. والحق ما ذهب إليه الأنصاري والشهيد وغيرهما من المحققين من عدم الفرق بين البدل والمبدل منه.

٦٠١

من طرائف الوقف

ما كان في نيتي أن أُسجّل هنا شيئاً يتصل بالوقف بعد أن أنهيت الحديث عنه وعن أقوال المذاهب فيه، ولكن تشاء الصدف أن أقرأ شيئاً طريفاً وممتعاً عن الأوقاف المصرية في عهد المماليك والعثمانيين القدامى في نفس اللحظة التي انتقلتُ فيها من باب الوقف الى باب الحجر، في هذه اللحظة بالذات وصلتني جريدة لسان الحال البيروتية، وجريدة الأخبار المصرية تاريخ ٧/٧/١٩٦٤، فتركتُ القلم، وتصفحتُ الجريدتين، لأعرف ما يجري حول غرفتي من حوادث، ولأُخفّف عن نفسي أثقال الصبر على طعام واحد.

وإذا بي أرى في جريدة الأخبار أنّ في مديرية الأوقاف المصرية غرفة من حديد، مضى عليها مئات السنين وهي مقفلة، وشاءت المديرية أن تفتحها، وتطّلع على ما في داخلها، وما إن فتحت أبواب الغرفة حتى رؤيت آلاف الحجج والوثائق مكدسة تعلوها الأتربة، فخصّصت عشرين موظفاً لفحصها ومعرفتها، وحين باشروا بالعمل، رأوا العجائب والغرائب، ٣٠٠ حجة كُتبت بماء الذهب، وحجة يرجع تاريخها إلى ألف سنة. وقد أحسستُ بمتعة وطرافة في قراءتها، إمّا لأنّها كذلك

٦٠٢

في واقعها، وإمّا لأنّي كنت غارقاً في التنقيب والتفكير والكتابة عن الوقف إلى قمة الرأس، وإليك طرفاً من هذه المحتويات عساك أن تشعر بالمتعة كما شعرتُ:

عقار وقِف على علف البغلة التي كان يركبها شيخ الأزهر في ذلك الوقت.

فلانة وقَفَت ثلاثة آلاف فدان على العلماء بشرط أن يكونوا على مذهب أبي حنيفة.

الباشا فلان وقف عشرة آلاف فدان على وضع سعف النخل والريحان على مقابر أُسرته.

ورجل وقف أسهماً من ثروته على الزملاني، أي ساقي المياه في الجامع.

وآخر وقف على الذي يلقي خطبة الجمعة.

وسيدة وقفت على حبال الدلاء التي يُستقى بها في المسجد.

ووقْف على الجبب والقاطين للشيوخ.

ووقْف لإطلاق البخور في حلقات الدرس.

وأذكر أنّي قرأت فيما مضى عن وقف في سورية يُشترى بريعه صحونٌ بدل الصحون التي تكسرها الخادمات، كي يسلمن من غضب مخدوماتهن.

وسمعتُ أنّ في حمص وقفاً على مَن يرى هلال رمضان ليلة العيد، ومن أجل هذا تكثر دعاوى رؤيته هناك. ويوجد في بعض قرى جبل عامل وقفٌ على أكفان الموتى.

وإذا دلّت هذه الأوقاف على شيء فإنّها تدلّ على نوع التفكير في ذاك العهد، وحياة المجتمع الذي كان يعيش فيه الواقفون وعاداته، وإنّ كثيراً من الناس إذا ماتوا لم يجد ذووهم ما يكفّنونهم به.

٦٠٣

الحَجْر

٦٠٤

٦٠٥

المجنون والصغير

الحَجْر:

الحجر - بفتح الحاء وسكون الجيم - ومعناه لغة: المنع، ومنه قوله تعالى:( وَيَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً ) (الفرقان - ٢٢). وشرعاً: منع الإنسان عن التصرف في أمواله كلها أو بعضها. وأسبابه التي نتكلم عنها هنا أربعة: الجنون، والصغر، والسفه، والإفلاس(١) .

المجنون:

المجنون محجَر عليه في جميع تصرفاته بالنص والإجماع، دائماً كان الجنون أو إدواراً، ولكنّ الإدواري إذا تصرّف حالَ إفاقته نفذ تصرفه، وإذ صدر منه تصرف ولم نعلم أنّه كان في حال الجنون أو الإفاقة لم ينفذ؛ لأنّ العقل ركن في صحة المعاملة، والشك فيه شك

____________________

(١) ومرض الموت من الأسباب أيضاً، حيث يُمنع المريض من التصرف في أمواله إذا زاد عن الثلث، وقدّمنا الكلام في ذلك في باب الوصايا بعنوان: (تصرفات المريض)، فراجع.

٦٠٦

في أصل تحقق العقد لا في صحته، فيُنفى بالأصل. وبتعبير ثانٍ: إذا كان الشك في صحة العقد ناشئاً عن الشك في وجود العقل حين العقد نستصحب الحالة السابقة، ونبقي ما كان على ما كان.

والمغمى عليه والسكران بحكم المجنون.

وإذا وطأ المجنون امرأة وحملت منه أُلحق به الولد، تماماً كالشبهة.

الصغير:

الصبي محجَر عليه بالاتفاق، واختلفوا في بعض تصرفات المميز - كما سنشير - وإذا تكامل فيه العقل والبلوغ يصبح رجلاً، وتنفذ جميع تصرفاته.

وقال الإمامية والشافعية: إذا بلغ الصبي عشراً صحّت وصيته في البر والإحسان. وقال أكثر من واحد من الإمامية: يصحّ طلاقه أيضاً استناداً إلى بعض الروايات.

وأشرنا في باب الزواج فصل (شروط العاقدين) إلى البلوغ بالسن وعلاماته، فراجع.

الضمان:

إذا أتلف المجنون أو الصبي مال الغير بغير إذنه فعليهما الضمان؛ لأنّ الضمان من الأحكام الوضعية التي لا يُشترط فيها العقل والبلوغ(١) ، فإن

____________________

(١) كل حق أدبي يعود إلى الله سبحانه يكون العقل والبلوغ شرطين فيه، وكل حق مالي يعود إلى الإنسان فلا يُشترط فيه العقل ولا البلوغ.

٦٠٧

كان لهما مال في يد الولي طولب بالوفاء من مالهما، وإلاّ فعلى صاحب المال أن ينتظر، حتى يفيق المجنون ويبلغ الصبي فيطالبهما بحقه.

الصبي المميز:

الصبي المميز: هو الذي يستطيع أن يفرّق بين الضار والنافع في الجملة، ويعرف عقد البيع من عقد الإجارة، والصفقة الرابحة من الخاسرة.

قال الحنفية: تجوز تصرفات الصبي المميز بدون إذن الولي إذا عادت عليه بالنفع المحض، كقبول الهبات والوصايا، والأوقاف من غير عوض، أمّا التصرفات التي يُحتمل فيها النفع والضرر - كالبيع والشراء والرهن والإجارة والإعارة - فلا تصحّ إلاّ بإذن الولي.

أمّا غير المميز فلا تصحّ تصرفاته بشتّى أنواعها، أذن الولي أو لم يأذن، سواء تصرّف في الشيء الحقير أو الخطير.

وقال الحنابلة: يصحّ تصرف المميز بإذن الولي، ويصحّ تصرف غير المميز بالشيء الحقير وإن لم يأذن الولي، كما لو اشترى من بائع الحلوى ما يشتريه الأطفال عادة، أو باع عصفوراً من رجل ليطلقه المشتري. (التنقيح، والتذكرة).

وقال الإمامية والشافعية: إنّ معاملة الصبي بكاملها غير شرعية، سواء أكانت بالوكالة أو بالأصالة، قبضاً أو إقباضاً، في الحقير أو في اليسير، نذراً كانت أو إقراراً، مميزاً كان الصبي أو غير مميز. قال الشيخ الأنصاري في المكاسب: (العمدة في سلب عبارة الصبي هو الإجماع المحكي المعتضد بالشهرة العظيمة وإنّ العمل على المشهور).

وقد فرّع الإمامية على ذلك فروعاً، فيها دقة وعمق ذكرها العلاّمة الحلّي في التذكرة:

٦٠٨

(منها) إذا كان عليك لرجل دين، وقال لك: سلّم المال الذي لي في ذمتك إلى ولدي. وكان ولده قاصراً، فسلّمتَ المال المطلوب منك للولد بناءً على طلب أبيه، وصادف أنّ المال فُقِد من الولد - إذا كان كذلك - لم تبرأ ذمتك من الدين، ولصاحبه أن يطالبك به ثانية على الرغم من أنّه هو الذي أمرك بالتسليم إلى ولده. كما أنّ الولد لا يضمن المال الذي أضاعه، ولا يحق لك أن تطالب به ولي الطفل، ولا الطفل بعد أن يكبر.

أمّا بقاء الدين في ذمتك فلأنّ الدين لا يتعين إلاّ بالقبض الصحيح، والمفروض أنّ صاحب الدين لم يقبضه هو ولا وكيله الشرعي، وقَبضُ الطفل وجودُه كعدمه بعد أن افترضنا أنّه ليس أهلاً للقبض والإقباض، أمّا الإذن بالتسليم فهو تماماً كمن قال لك: إرمِ بما أطلبك من دين في البحر. وفعلتَ بما قال، فإنّ الدين - والحال هذه - يبقى في ذمتك.

وأمّا عدم ضمان الصبي للمال الذي سلّمته له؛ فلأنّك أنت الذي أضعته بسوء اختيارك، حيث جعلته في يد مَن لا أثر ليده، حتى مع إذن الولي وأمره.

و(منها) ما إذا كان للصبي عندك أموال، وقال لك وليّه: سلّمه إياها. فسلّمتَه وأضاعها الصبي، كان عليك الضمان، إذ لا يحق لك أن تفرّط بأموال القاصر، حتى ولو أذن الولي بذلك.

و(منها) إذا عرض عليك الطفل ديناراً لتنظر فيه، وأنّه هل هو صحيح أو زائف، أو أعطاك متاعاً لتقوّمه أو تشتريه، أو لغير ذلك فلا يجوز لك بعد أن أصبح في يدك أن تردّه إليه، بل عليك أن ترده إلى الولي.

و(منها) إذا تبايع الصبيان وتقابضا، وأتلف كل منهما ما قبضه، فإن جرى ذلك بإذن الوليين فالضمان عليهما، وإن كان بدون إذنهما فالضمان في أموال الصبيين.

٦٠٩

هذا ما قاله الإمامية. أمّا الذي نراه نحن فهو: إذا علمنا علم اليقين بأنّ هذا التصرف الذي صدر من الصبي المميز هو في مصلحته مئة بالمئة وجب على الولي أن يقره عليه، ولا يجوز له أن يبطله، بخاصة إذا كان في إبطاله ضرر على الطفل.

أمّا الأدلة العامة الدالة على بطلان تصرّف الصبي فإنّها منصرفة عن هذه الحال، أو إنّ هذه الحال مخصصة لتلك العمومات، ذلك أنا على يقين من أنّ مقاصد الشريعة هي المصلحة، ومتى علمنا بوجود المصلحة وجب الأخذ بها، تماماً كمفهوم الأولوية، والأقيسة القطعية. وليس هذا اجتهاداً في قبال النص، بل هو عمل بالنص، إذ العلم بالمقصد الشرعي تماماً كالعلم بالنص، إذا لم يكن هو بالذات.

ولو أخذنا بقول الإمامية والشافعية لكانت المكافأة كالساعة - مثلاً - تهديها المدرسة للطالب المتفوق - في غير محلها. وإذا قبضها الطالب غير البالغ فلا يملكها، وهذا يتنافى مع الفطرة، وما عليه العقلاء والأديان والمذاهب.

عمد الصبي خطأ:

إذا قتل الصبي إنساناً أو جرحه أو قطع بعض أعضائه فلا يقتض منه تماماً كالمجنون؛ لأنّه ليس أهلاً للعقوبة دنياً ولا آخرة، وفي الحديث (عمد الصبي خطأ). ولا خلاف في ذلك بين المذاهب، أمّا الدية فتتحملها العاقلة.

وإذا جاز ضرب الصبي في بعض الحالات فإنّما هو للتأديب، لا للقصاص ولا للتعزيز.

٦١٠

السفيه

تعريفه:

يفترق السفيه عن الصبي بالبلوغ، وعن المجنون بالعقل، فالسفه من حيث هو يجتمع مع الإدراك والتمييز؛ لأنّ السفيه هو الذي لا يحسن إدارة أمواله وإنفاقها بالمعروف، سواء أكانت فيه جميع المؤهلات لحسن الإدارة ولكنّه أهل ولم يفعل، أم كان فاقداً لها. وبكلمة: إنّه المهمِل المبذِّر، على أن يتكرر منه الإهمال والتبذير. ومن التبذير أن يتصدق بكلّ أو جُلّ ما يملك، أو يبني مسجداً أو مدرسة أو مصحّاً لا يُقدِم عليه مَن كان في وضعه المادي والاجتماعي، بحيث يضرّ به وبمن يعول، ويراه الناس خارجاً عن طريقة العقلاء في إدارة أموالهم.

التحجير:

اتفقوا - ما عدا أبا حنيفة - على أنّ السفيه يُحجر عليه في خصوص التصرفات المالية، وإنّ شأنه في ذلك شأن الصبي والمجنون إلاّ إذا أذن له الولي، وله مطلق الحرية في التصرفات التي لا تتصل بالمال من قريب

٦١١

أو بعيد. والسفيه لا يُفك عنه الحجر حتى يبلغ، ويُعلم منه الرشد؛ لقوله تعالى:( وَلاَ تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمْ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَاماً وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفًا وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ ) (النساء - ٥)(١) .

وبهذا قال الإمامية والشافعية والمالكية والحنابلة، وأبو يوسف ومحمد صاحبا أبي حنيفة.

وقال أبو حنيفة: إنّ الرشد ليس شرطاً في تسليم الأموال لأصحابها، ولا في صحة تصرفاتهم المالية، فإذا بلغ الإنسان رشيداً ثمّ عرض له السفه تصحّ تصرفاته، ولا يجوز التحجير عليه حتى ولو كانت سنّه دون الخامسة والعشرين، وكذلك مَن بلغ سفيهاً، بحيث يتصل السفه بالصغر، لا يُحجر عليه بحال بعد بلوغ الـ ٢٥. (فتح القدير، وابن عابدين).

وهذه مخالفة صريحة لإجماع الأُمة بكاملها، بل لِما هو معلوم بضرورة الدين ونص القرآن الكريم، وهو قوله جلّ وعزّ:( وَلاَ تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمْ ) .

حكم الحاكم:

قال المحققون من الإمامية: إنّ المعوّل في بطلان تصرفات السفيه على وجود ظهور السفه، لا على حكم الحاكم بالتحجير، فكل تصرّف يصدر عنه حال السفه يكون باطلاً، سواء أحجر الحاكم أم لم يحجر، اتصل السفه بالصغر أو تجدد بعد البلوغ. فلو كان سفيهاً ثمّ حصل

____________________

(١) عبّرت الآية عن أموال القاصرين بكاف المخاطب أوّلاً، ثمّ بهاء الغائب ثانية، إشعاراً بأنّ كل ما يملكه الإنسان له صفتان: الأُولى: سلطته الخاصة عليه، والثانية: أن يصرفه بما يعود عليه وعلى مجتمعه بالنفع، أو لا يعود عليهما بالضرر على أسوأ التقادير.

٦١٢

الرشد ارتفع عنه الحجر، فإن عاد السفه عاد، فإن زال زال، وهكذا. (وسيلة النجاة للسيد الأصفهاني).

وهذا القول قريب جداً من قول الشافعية.

وقال الحنفية والحنابلة: لا يُحجر على السفيه إلاّ بحكم الحاكم، فإذا تصرّف قبل الحكم عليه بالتحجير نفذ التصرف وإن كان في غير محله، ولا ينفذ بعد الحكم وإن كان في محله.

ولا يتم هذا إلاّ على القول بأنّ حكم الحاكم يغيّر الواقع، وهذا القول مختص بالحنفية فقط. أمّا الشافعية والمالكية والحنابلة فإنّهم يتفقون مع الإمامية على أنّ حكم الحاكم لا يمسّ الواقع من قريب أو بعيد؛ لأنّه وسيلة لا غاية، وقد فصّلنا القول في كتابنا (أصول الإثبات).

وقال المالكية: إذا اتصف الشخص بالسفه يكون مستحقاً للحجر ذكراً كان أو أنثى، فإذا عرض له السفه بعد زمن قليل كعامٍ، فإنّ الحجر عليه يكون من حقوق أبيه؛ لأنّ ذلك الزمن قريب من زمن البلوغ. أمّا إذا عرض له السفه بعد البلوغ بأكثر من عام فإنّ الحجر عليه لا يكون إلاّ بحكم الحاكم. (الفقه على المذاهب الأربعة ج٢ باب الحجر).

وأيضاً قال المالكية: إنّ الأنثى وإن بلغت رشيدة فليس لها أن تتصرف في أموالها، إلاّ بعد أن تتزوج ويدخل بها الزوج، فإذا تزوجت ودخل تنفذ تبرعاتها بمقدار الثلث، وما زاد عنه يتوقف على إذن الزوج ما لم تصر عجوزاً. (الزرقاني).

أمّا بقية المذاهب فلا تفرق بين الذكر والأنثى؛ لعموم قوله تعالى:( فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ ) .

٦١٣

الإقرار والحلف والنذر:

إذا أُذِن للسفيه بالتصرف المالي، وتصرّف جاز بالاتفاق. أمّا غير التصرفات المالية، كما لو أقر بالنسب، أو حلف أو نذر فِعلَ شيءٍ أو تركه ولا صلة له بالمال - أمّا هذا - فينفذ وإن لم يأذن الولي.

وإذا أقر بالسرقة يُقبل في القطع دون المال، أي في حق الله، لا في حق الناس.

وقال الحنفية: يؤخذ بإقراره في الأحوال التي آلت إليه بعد الحجر دون ما كانت له عند الحجر، وكذلك تصحّ وصيته من الثلث في الخير والبر.

وقال الإمامية: لا فرق بين الأموال اللاحقة والسابقة، بل قالوا: لا يجوز للسفيه أن يؤجّر نفسه في عمل من الأعمال، وإن كانت في صالحه إلاّ بإذن الولي. وقالوا: لو أودع إنسان عند السفيه وديعة، وهو يعلم بسفهه، وباشر السفيه إتلافها بنفسه عمداً أو خطأ ضَمِن السفيه، أمّا إذا تلفت الوديعة بدون مباشرة السفيه ولكن للتقصير في حفظها فلا يضمن؛ لأنّ المفرِّط والمقصِّر في هذه الحال هو صاحب الوديعة بالذات، أمّا الضمان مع مباشرة الإتلاف فلدليل:(مَن أتلف مال غيره فهو له ضامن) . (وسيلة النجاة).

زواجه وطلاقه:

قال الشافعية والحنابلة والإمامية: لا يصحّ زواج السفيه، ويصحّ طلاقه وخلعه، ولكنّ الحنابلة قيدوا الزواج بالحاجة إليه.

وقال الحنفية: يصحّ زواجه وطلاقه وعتقه؛ لأنّ هذه الثلاث تصحّ

٦١٤

مع الهزل فبالأولى مع السفه، ولكن إذا تزوج بأكثر من مهر المثل صح بمقدار المثل فقط.

ثبوت الرشد:

اتفقوا على أنّ الرشد يُعرف بالاختبار بداهة، ولقوله تعالى:( وَابْتَلُوا ...فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا ) . ولا تنحصر طرق الاختبار بمعيّن، ولكنّ الفقهاء ذكروا على سبيل المثال أن يُفوّض للصبي إدارة أملاكه إن كانت له أملاك، أو يسند إليه شراء أو بيع بعض الحاجات وما إلى ذاك، فإن أحسن التدبير كان رشيداً. أمّا الصبية فيُفوّض إليها إدارة شؤون البيت، ومنها نكتشف رشدها أو عدمه.

ويثبت الرشد بشهادة رجلين عدلين في الرجال والنساء بالإجماع؛ لأنّ شهادة الرجلين هي الأصل. وقال الإمامية: يثبت أيضاً بشهادة رجل وامرأتين، أو أربع نساء في النساء فقط، أمّا في الرجال فلا يثبت إلاّ بشهادة الرجال فحسب. (التذكرة).

٦١٥

وليّ الصغير والمجنون والسفيه

الصغير:

تقدّم الكلام عن التحجير على الصغير والمجنون والسفيه، وبديهة أنّه لا بدّ لكل محجَر عليه في شيء من ولي أو وصي يرعى ذلك الشيء ويدبّره نيابة عن الأصيل، فمَن هو هذا الولي والوصي؟ وتنبغي الإشارة قبل كل شيء إلى أنّ الحديث في هذا الفصل ينحصر في الولاية على المال فقط، أمّا الولاية على الزواج فتقدّم الكلام عليها في بابه.

اتفقوا على أنّ ولي الصغير أبوه، وأنّ الأُم لا ولاية لها إلاّ على قولٍ لبعض الشافعية. واختلفوا في غير الأب، قال الحنابلة والمالكية: تكون الولاية بعد الأب لوصيه: فإن لم يكن للأب وصي فللحاكم الشرعي، أمّا الجد فلا ولاية له إطلاقاً؛ لأنّه لا يُنزّل منزلة الأب في شيء - عندهم - وإذا كانت هذه حال الجد لأب فبالأولى الجد لأُم.

وقال الحنفية: تكون الولاية بعد الأب لوصيه، ثمّ للجد لأب، ثمّ لوصيه، فإن لم يكن فللقاضي.

وقال الشافعية: تنتقل من الأب إلى الجد، ومنه إلى وصي الأب، ومنه إلى وصي الجد، ثمّ إلى القاضي.

٦١٦

وقال الإمامية: تكون الولاية أوّلاً للأب والجد له في مرتبة واحدة، بحيث يكون لكل منهما أن يتصرف مستقلاً عن الآخر، وأيّهما سبق أُخذ بقوله، مع مراعاة ما يجب، وإذا تشاحا يقدّم تصرّف الجد، وإذا تصرّف كل منهما تصرفاً يتنافى مع تصرّف الآخر أُخذ بالمتقدم، وأُلغي المتأخر، ومع التقارن يقدّم الجد، وإذا فُقِدا معاً كانت الولاية لوصي أحدهما، والجد أولى من وصي الأب، فإن لم يكن جد ولا أب ولا وصي لأحدهما فللحاكم الشرعي.

المجنون:

المجنون تماماً كالصغير، وأقوال المذاهب فيهما واحدة، سواء بلغ الصبي مجنوناً أم بلغ رشيداً ثمّ جن، إلاّ ما كان من جماعة من الإمامية، فإنّهم فرّقوا بين الجنون المتصل بالصغر وبين الجنون المتجدد بعد البلوغ والرشد، وقالوا: إنّ الولاية للأب والجد على المجنون الأوّل، أمّا الثاني فللحاكم مع وجودهما. ويتفق هذا القول مع القياس عند الحنفية؛ لأنّ ولايتهما قد سقطت، والساقط لا يعود، ولكنّ الحنفية هنا خالفوا القياس وأخذوا بالاستحسان.

وقال صاحب الجواهر الفقيه الإمامي: الأحوط توافق الجد والأب مع الحاكم، أي أنّ التصرف بمال المجنون الذي انفصل جنونه عن صغره يكون برأي الجميع. وقال السيد الأصفهاني في الوسيلة: لا يُترك الاحتياط بتوافق الجميع.

وأقول: إنّ الاحتياط حسنٌ لا ريب فيه، ولكنّه هنا مندوب لا واجب؛ لأنّ الأدلة التي أثبتت الولاية للأب والجد لم تفرق بين الحالين، وعليه يُقدّم الأب والجد على الحاكم إطلاقاً؛ لأنّ الحكم يدور مدار موضوعه وجوداً وعدماً، وعموم أدلة ولاية الجد والأب حاكم على عموم أدلة الولاية للحاكم.

٦١٧

هذا، إلى أنّ شفقة الأب والجد لا توازيها شفقة الحاكم وغير الحاكم، وأيّ عاقل يستسيغ أن يعيّن الحاكم قيّماً أو وصياً أجنبياً على القاصر مع وجود أبيه أو جده الجامع لكل الشروط والمؤهلات.

السفيه:

اتفق الإمامية والحنابلة والحنفية على أنّ الصبي إذا بلغ رشيداً، ثمّ تجدد السفه بعد الرشد تكون الولاية للحاكم دون الأب والجد، وبالأولى دون وصيهما.

ويأتي هنا ما قلناه في المجنون من أنّ العاقل لا يستسيغ أن يقيم الحاكم قيّماً أو وصياً أجنبياً مع وجود الأب والجد، فالأولى أن يختار الحاكم الأب أو الجد قيّماً على ولده من باب الاحتياط. أمّا إذا اتصل السفه بالصغر كأن بلغ سفيهاً، فكلام كل مذهب من هذه المذاهب الثلاثة هو الكلام في الصغير. (المغني، والفقه على المذاهب الأربعة، وأبو زهرة، والجواهر)(١) .

أمّا الشافعية فلم يفرقوا بين الولاية على الصغير والمجنون والسفيه، ولا بين تجدد السفه بعد البلوغ وبين اتصاله.

شروط الولي:

اتفقوا على أنّ الولي والوصي يُشترط فيه البلوغ والرشد والاتحاد في الدين، بل اشترط كثير منهم العدالة، حتى في الأب والجد.

____________________

(١) قال صاحب الجواهر في باب الحجر: أجمع الإمامية على أنّه إذا تجدد السفه بعد البلوغ فالولاية للحاكم، وإذا اتصل بالصغر فقد نقل الإجماع على أنّه للأب والجد، ولكنّ الإنصاف تحققُ الخلاف في هذه الحال، إلاّ أنّ جماعة من المحققين صرّحوا بثبوت الولاية لهما.

٦١٨

واختلفوا إذا سكت الواقف، ولم يجعل التوليه له ولا لغيره، قال الحنابلة والمالكية: تكون التولية للموقوف عليهم إذا كانوا معروفين محصورين، وإلاّ فهي للحاكم. (التنقيح، وشرح الزرقاني).

وقال الحنفية: تبقى الولاية للواقف، وإن لم ينص عليها لنفسه. (فتح القدير).

أمّا الشافعية فقد اختلفوا فيما بينهم على ثلاثة أقوال، الأوّل: أن تكون التولية للواقف. الثاني: للموقوف عليهم. الثالث: للحاكم. (المهذّب).

والمعروف عند الإمامية أنّه إذا لم يعيّن الواقف ولياً كانت التولية للحاكم، إن شاء باشرها بنفسه، وإن شاء فوّضها إلى غيره. وقال السيد كاظم في الملحقات، والسيد الأصفهاني في الوسيلة: إنّ هذا صحيح بالنسبة إلى الأوقاف العامة، أمّا بالقياس إلى الأوقاف الخاصة فإنّ للموقوف عليهم أن يحافظوا على الوقف، ويصلحوه، ويؤجروه، ويستوفوا الناتج بدون إذن الحاكم، والعمل على هذا.

وقال الإمامية: إذا اشترط الواقف الولاية لنفسه وكان غير مأمون، أو اشترطها لرجل يعلم بفسقه، فليس للحاكم أن ينزع الولاية من الواقف، ولا ممّن ولاّه، كما جاء في تذكرة العلاّمة الحلّي. بل قال صاحب الملحقات: لو اشترط الواقف أن لا يكون للحاكم أيّة مداخلة في أمر وقفه صحّ، وإذا مات مَن ولاّه الحاكم يكون الأمر للموقوف عليهم، أو لعدول المسلمين.

قال صاحب فتح القدير الحنفي في ج٥ ص٦١: (لو شرط الواقف ولايته لنفسه، وكان غير مأمون على الوقف، فللقاضي أن ينزعها من يده، وكذا إذا شرط أن ليس للسلطان ولا لقاضٍ أن يخرجها من يده ويولّيها غيره؛ لأنّه شرط مخالف لحكم الشرع، فبطل).

ولا أدري كيف يجتمع هذا مع ما نقله أبو زهرة في كتاب الوقف ص٣٧٢ عن كتاب البحر من أنّ القاضي لا ينعزل بالفسق، فالناظر

٦١٩

أولى؛ لأنّ القضاء أشرف وأخطر!

ومتى أقام الواقف أو الحاكم ولياً فليس لأحد عليه سلطان، ما دام قائماً بالواجب، فإن قصّر أو خان بحيث يلزم الضرر من بقائه واستمراره في الولاية فإنّ للحاكم أن يستبدله، والأولى أن يضم معه نشيطاً أميناً، كما قال الحنابلة.

وإذا مات مَن عيّنه الواقف أو جن أو غير ذلك ممّا يخرجه عن الأهلية، فلا تعود الولاية إلى الواقف إلاّ إذا جعل ذلك له حين إنشاء العقد.

وقال المالكية: بل تعود، وله أن يعزله متى شاء.

وقال الإمامية والحنابلة: إذا اشترط التولية لاثنين، فإن صرح بأنّ لكل منهما الاستقلال في العمل استقل، وإذا مات أحدهما أو خرج عن الأهلية انفرد الآخر، وإن صرح بالاجتماع وعدم الاستقلال فلا يجوز لأحدهما التصرف بمفرده، وإذا أطلق ولم يبيّن حُمل كلامه على صورة عدم الاستقلال بالتصرف، وعليه يعيّن الحاكم آخر ويضمّه إلى رفيقه. (الملحقات والتنقيح).

وفي فتح القدير عن قاضيخان الحنفي: (إنّ الواقف إذا جعل الولاية لاثنين، فأوصى أحدهما إلى صاحبه في أمر الوقف ومات، جاز تصرف الحي في جميع الوقف).

قال صاحب الملحقات: إذا عيّن الواقف مقداراً من المنافع للمتولي تعيّن ذلك كثيراً كان أو قليلاً، وإن لم يعيّن استحق أجرة المثل. ويتفق هذا مع ما نقله مدكور عن القانون المصري في كتاب الوقف.

واتفقوا على أنّ للولي الذي عيّنه الواقف أو الحاكم أن يوكّل مَن شاء في إنجاز مصلحة من مصالح الوقف، سواء أصرّح من أسند إليه الولاية بذلكا أم لم يصرح، اللهم إلاّ إذا اشترط عليه المباشرة بالذات. وأيضاً اتفقوا على أنّه ليس للمتولي أن يفوّض التولية من بعده إلى غيره إذا منعه عنها الولي الأصيل، كما اتفقوا على أنّ له أن يفوّضها إلى

٦٢٠