دراسات في الفكر الاقتصادي الإسلامي

دراسات في الفكر الاقتصادي الإسلامي0%

دراسات في الفكر الاقتصادي الإسلامي مؤلف:
تصنيف: علم الفقه
الصفحات: 224

دراسات في الفكر الاقتصادي الإسلامي

مؤلف: الغدير للدراسات والنشر
تصنيف:

الصفحات: 224
المشاهدات: 76854
تحميل: 8040

توضيحات:

دراسات في الفكر الاقتصادي الإسلامي
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 224 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 76854 / تحميل: 8040
الحجم الحجم الحجم
دراسات في الفكر الاقتصادي الإسلامي

دراسات في الفكر الاقتصادي الإسلامي

مؤلف:
العربية

الأفراد وحقوقهم وواجباتهم، فإنّ مخالفات الفرد لِما أسّسه الشارع تُعدّ أفعالاً إجراميّة بمقياس الشريعة، على مستوى القضاء الشرعيّ حدّاً أو تعزيراً، أو على مستوى الديانة التي تترتّب عليها عقوبات أُخروية.

لذلك يمكننا القول: إنّ ماهيّة الجريمة الاقتصاديّة هي التصرّفات المحظورة؛ لتنظيم الإسلام للإنتاج والتوزيع والاستهلاك وإدارة اقتصاديّات المجتمع في التنظيم والتنفيذ والتخطيط والرقابة.

وحيث أجملنا في هذه المقدّمة، فإنّ الباحث يميل إلى عَرْض نماذج من اللوائح والقوانين التي تجرّم أفعالاً إنسانيّةً في مجال النشاط الاقتصاديّ؛ ليتبيّن أُسلوب المشرّع في الحظر.. تمهيداً لعرض نمط الاستجابة لهذا الأُسلوب. وسعياً وراء بيان فرضيّة البحث، لا بدّ من عرض صور من المخالفات في مجال الإنتاج والتبادل والتوزيع، ففي الإنتاج يجد الباحث في كُتب الفقه الإسلاميّ فصلاً من كتاب المكاسب يعني بالمكاسب المحرّمة، عرَض لبعضٍ منها جاعلاً منه عيّنة للوصول إلى التأكّد من فروض البحث.

المبحث الثاني: الجرائم في مجال الإنتاج:

النمط الأوّل: المُسكرات

يدفع المشرّع الإسلاميّ أتباعه إلى العمل والإعمار دفعاً روحيّاً ومادّياً؛ كونه يَعدّ ذلك عبادةً يرفعها أحياناً على الصلاة والصوم والحجّ، ويؤسّس لها حقوقاً ماديّة مكتسبة، مثل إباحة التصرّف بالمال، وتحقّق مشروعيّة المِلكيّة، وجواز انتقال الثروة إلى مَن يريد بالهبة والإرث.

وللإسلام وسائله المتعدّدة في تنمية الإنتاج، لكنّه يقيّدها بالمباح شرعاً بضابط مؤدّاه: (إنّ الجائز من الأعمال ما يحقّق هدف المنفعة الشاملة للمسلم)؛ ولأجله تعدّدت أنواع الكسْب غير المشروع تحت قاعدة دستوريّة قرآنيّة كبيرة في قوله تعالى: ( لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ ) [النساء: 29].

والباطل، كما ورد عند المفسّرين، ضدّ الحقّ، وهو المباح الجائز، فتدخل فيه بأدلّة تفصيليّة الأعمال العقيمة - غير المنتجة - كالمقامرة والسحر

١٤١

والكهانة واللهو والمُجون (1) وغيرها، ويحرّم ما يضرّ مباشرة بالمجتمع، مثل إنتاج الخمر وكلّ مُسكر. فلا يصحّ إنتاج الخمر؛ لِما ثبَت من النصّ والإجماع والعقل، وما ترتّب عليه من حرمة في إنتاجه سرَت إلى تداوله في تحريم بيعه وشرائه لقوله تعالى: ( إِنّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ ) [المائدة: 90]. ويذهب المشرّع إلى أبعد من ذلك، لا يقف عند تحريم إنتاجه وتداوله واستهلاكه، فيرى الإماميّة (2) والشافعـيّ (3) ومالك (4) وأحمد (5) عدم صحّة توكيل المسلم للذمّي في إنتاجه وتداوله خلافاً لأبي حنيفة (6) . ويرى الجمهور أنّ المسلم في هذه الحالة هو المُنتج الحقيقيّ بالتسبّب، ولا اعتبار للمُباشرة؛ لأنّ الحرمة مترتّبة على الضرر لا النجاسة، ولأنّ اللعن قد ورد على المتعامل بها في السُنّة الشريفة، ولأنّ الوكيل منتج للأصيل.. وإذا كان الأمر كذلك، فإنّ الإجارة والجُعالة والمضاربة تدخل في هذا الحُكم. ولاحَقَ المشرّع - كما عرفت - ثمنه، فمنَع منه في وجوه التصرّف كافّة، فقد نقل أبو بصير، عن الصادق، عن آبائه (عليهم السلام)، عن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم): أنّ (الذي حرّم شربها حرّم ثمنها) (7) ، وهذه قاعدة عامّة، فقد نقل ابن إدريس حديث النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قال: (إنّ الله إذا حرّم شيئاً حـرّم ثَمَنـه) (8) . وعموم القاعدة تقضي بوقف التصرّف في ثمن المحرّم، ولا تقف عند عَين المحرّم؛ وبذلك أفقد المشرّع هذه السلعة صفة المال المعتبر، وسحب القيمة التبادليّة منها، وحرّم الاستفادة منها أو من ثمنها، ناهيك بأنّها أبعدها هي وثمنها عن مجال القُرُبات، فقد حدّد الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في جواب لسائلٍ له عن التصرّف في ثمنه في الحجّ أو الجهاد، قال: (لم يعدل عند الله جناح بعوضة، إنّ الله لا يقبل إلاّ الطيّب) (9) . إنّ هذا النمط من الملاحقة - بدءاً من تخصيص الموارد؛ حيث يرى الفقهاء كراهة بيع العنب لمَن يعمله خمراً، بين مانعٍ مطلقاً، كما ورد عن الإمام أحمد وبعض الإماميّة، وبين مشترطٍ عِلم البائع مقتضي للحرمة؛ لأنّه أعانه

____________________

(1) اُنظر: الطوسي، التبيان: 2/177، مجمع البيان: 3/36، الجصّاص، أحكام القرآن: 2/ 171.

(2) الأنصاري، المكاسب: 1/167، الشهيد الأوّل، اللمعة الدمشقيّة: 4/368، المحقّق الحلّي، الشرائع: 2/199، العلاّمة الحلّي، التذكرة: 7/15.

(3) الشيرازي، المهذّب: 1/132، الدمشقي (محمّد بن عبد الرحمان)، رحمة الأمّة: 1/158.

(4) العيد (ابن دقيق)، إحكام الأحكام: 3/252.

(5) ابن قدامة، المغني (مبحث الوكالة).

(6) الجصّاص، (م. س): 2/461، الكاساني، بدائع الصنائع: 6/33 و34.

(7) مستدرك الوسائل: 2/427، الأنصاري، (م. س): 1/116، باب المكاسب.

(8) ابن إدريس، السرائر، ط. حجريّة (باب المكاسب).

(9) المقداد السيوري، كنز العرفان في فقه القرآن: 2/100.

١٤٢

على الإثم عند آخَرين - يكشف عن أُسلوب المشرّع في غلق الأبواب أمام المخالفة، من تخصيص الموارد لإنتاج السلعة المحرّمة إلى المال والنتائج في الاستهلاك والتوزيع.

أظهرت عمليّات استقراء العلماء لأوامر الشريعة الإسلاميّة ونواهيها، أنّ أوامرها قد تعلّقت بها مصلحة أكيدة أو راجحة، وأنّ ما نهَت عنه على وجه الإلزام قد انطوَت عليه مفسده أكيدة. ويلاحظ هنا أنّ المشرّع قد رتّب تحريمه للخمر والمُسكرات عموماً على إبعاد الضرر عن الإنسان، وقد ثبت أنّها - أي الخمر والمسكرات عموماً - تخلُق وسطاً للجريمة، وقد كشفت عن هذا التشخيص بعض الدراسات، أُشيرُ إليها إجمالاً:

ففي مجال أضرارها على الشخصيّة، ذهب العلماء إلى أنّ المُسكرات توجِد اضطرابات نفسيّة وعضويّة، يمكن معها القول إنّها تدفع إلى ارتكاب أفعال جُرميّة.

وأُجريت دراسة أكّدت على وجود علاقة بين المخدّرات والجرائم.

وفي أخرى أُجريت في الولايات المتّحدة على عيّنة مقدارها (1889) مجرماً، وُجد أنّهم من المُدمنين، ولوحظ فيها أنّ جرائم السرقة كانت (845)، وجرائم الغشّ (23)، وتزييف العُملة (29)، وحيازة الأموال المسروقة (37).

وفي دراسة أخرى جرت عام (1971م) تبيّن منها أنّ (38) مدمناً قد ارتكبوا (93%) من جرائم الاعتداء على المال لذلك العام.

ولوحظ أنّ الاتّحاد السوفياتي حين خفض عام (1986م) إنتاج المُسكرات بنسبة (38%)، نسبة إلى إنتاجه لعام (1985م)، وجد أنّ نسبة الجريمة انخفضت بمعدل (24%) قياساً على نسبة الجرائم عام (1985م) (1) . لذلك نهج المشرّع الإسلامي في تحريمه للمُسكرات عدّة وسائل:

____________________

(1) اُنظر: صحيفة الثورة البغداديّة، العدد (5991)، 20/10/1986م.

١٤٣

1 - تحريمها نصّاً وظاهراً، فصار ممّا عُلِم في الدِين بالضرورة، ممّا قطع فيه باب التأويل.

2 - حرّم الوسائل المادّية المؤدّية إليها، من تخصيص الموارد، ومنع وحدات العمل، وغلْق السوق.

3 - حرّم الأثمان المتولّدة منها في التصرّفات كافّة.

4 - أعطى لوليّ الأمر حقّ فرْض العقوبة على إنتاجها واستهلاكها. فقد نقل الصنعاني في (سُبل السلام) أنّ النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قال: (إذا شرب فاجلدوه، ثمّ إذا شرب فاجلدوه، ثمّ إذا شرب في الثالثة فاجلدوه، ثمّ إذا شرب في الرابعة فاضربوا عنُقه) (1) .

واختلف العلماء في جَلْده على مذهبين: جمهور الفقهاء والإماميّة على أنّه يُجلد ثمانين جَلدة ويُفسَّق، ورأى الشافعي وأبو ثور وداود أربعين جلدة ويُفسّق (2) .

فالفسق محلّ اتّفاق، وعمدة الفريق الأوّل ما أشار به أمير المؤمنين (عليه السلام) إلى تحمّل الشارب حدّ الافتراء. أمّا الحكم بفسقه فواضح؛ إذ إنّه مُواقع للكبائر، ولا خلاف في زوال العدالة بمواقعتها، وإذا ردّ الشارع (عن منتج الخمر ومتداولة ومستهلكه) شهادته، أسقط عنه حقوق تولّي الأُمور العامّة، وبالتالي يصوغ المشرّع العُرف (الرأي العامّ) زيادةً ما يرتّب على هذا النمط من المخالفات عقوبة أُخروية.

إذن، فعقوبة دنيويّة مادّية بالجَلد، وعقوبة اجتماعيّة بالتفسيق، وعقوبة أُخرويّة بالنار، وكلّ ذلك بعد التنفير والترغيب بالآخرة، والإيصاء باحترام المتّقي وتوقيره، وسدّ أبواب الوقوع في حبائل الشيطان..، فلم تبقَ العقوبة إلاّ لمَن لم يتّعظ، ويقتحم بإصرار وعناد مجالات الحرمة؛ الأمر الذي يخلّ بالنظام العامّ والآداب المرعيّة، فتُوجّه له العقوبة حماية لنفسه ولأُسرته ومجتمعه، فهل يا ترى ترقى نظريّةٌ في الأمن الاجتماعي إلى ما اتّخذ الإسلام من تدابير منع حصول الجريمة... في النُظم الاجتماعيّة؟

____________________

(1) وهو مذهب الشيخ الطوسي في (الخلاف)، بينما يذهب صاحب (الشرائع): 4/170 إلى قتله في الثالثة، قال: (وهو المروي).

(2) ابن رُشد، (م. س): 2/436.

١٤٤

النمط الثاني: الغِش

دخل العالَم المعاصر اليوم في منافسة شديدة في أحكام الرقابة على الإنتاج، وأنشأ أجهزة إداريّة وفنّية للمقاسات والسيطرة النوعيّة؛ حماية للمستهلك من غشّ المُنتجين، وكلّما تقدّمت وسائل الرقابة فاقَتها وسائل التدليس والغشّ من المُنتجين. فما هو أُسلوب المذهبيّة الإسلاميّة في الوقاية من هذه الجريمة؟

الأُصول المانعة:

ورد عن النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أنّه قال: (ليس من المسلمين مَن غشّهم) (1) .

وعنه (صلّى الله عليه وآله وسلّم): (ليس منّا مَن غشّ مسلماً أو ضرّه أو ما كره) (2) .

وعنه (صلّى الله عليه وآله وسلّم): (مَن غشّ الناس فليس بمسلم) (3) .

روى هشام بن الحكم - رحمه الله - قال: كنت أبيع السابري في الظِلال، فمرّ بي أبو الحسن، فقال: (يا هشام إنّ البيع في الظلال غشّ، والغشّ لا يحلّ) (4) ، ونقل الإجماع في تحريمه عيناً ومقدّمات.

وضابطه عند الفقهاء: (ليس الأمر على المشتري، وبيع المغشوش عليه مع جهله).

بل لقد ذهب العلاّمة إلى حرمته حتى إذا كان الإنتاج موجّهاً لغير المسلم (5) ، وقد اتّخذ المشرّع مجموعة من الوسائل لحماية المستهلك من الإنتاج المغشوش:

1 - الوسيلة العقائديّة: فقد تقدّمت النصوص في التنفير منها، وتأكيد حرمتها والعقوبة الأُخرويّة عليها.

2 - الوسيلة الوقائيّة: فقد ظهر في التطبيقات الإسلاميّة جهاز الحُسبة، الذي بملاحظة لوائحه نجد أنّ ما يقابل اليوم جهاز الرقابة الاقتصاديّة، ومن أبرز مهامّه في إدارة اقتصاديّات المجتمع تطبيقه لمعايير المقاسات والسيطرة

____________________

(1) الوسائل: 12/308، باب 86 الحديث رقم 2، الشيخ الأنصاري، المكاسب: 3/125.

(2) المصدر نفسه: 12/ 311 الحديث رقم 12، الشيخ الأنصاري، (م. ن): 3/125.

(3) الشيخ الأنصاري: (م. ن): 3/126.

(4) المصدر نفسه: 3/127.

(5) العلاّمة الحلّي، (م. س)، اُنظر: مُختلف الشيعة، (باب المكاسب المحرّمة).

١٤٥

النوعيّة؛ لذا فإخلال المنتج بالسلعة يعدّ من المُنكر الذي يُحاسب عليه، فتعزير المحتسب وإشهاره للغاشّ.. حماية للمجتمع ووقاية لمَن يفكّر في أن يغشّ في الإنتاج، وتمييزاً للسوق الإسلاميّة من بقيّة الأسواق بأنّها سوق السلع النافعة للمستهلك نفعاً شاملاً. إنّ مراجعةً لصلاحيات المحتسب نجدها تتدرّج من التعزير الخفيف إلى إشهار السلاح، مروراً بالنفي عن البلد وحرمان المنتج من العمل، أو سلب الامتيازات الصناعيّة.

لقد ذكر ابن تيميّة أنّ عمَر نفى صبيغ بن عسل إلى البصرة، وكذلك نفى نصر بن حجاج إليها أيضاً (1) .

وقد أفتت طائفة من الفقهاء بإتلاف المغشوش، مثل الثياب التي نُسجت نَسجاً رديئاً (2) ، وإذا عرفنا أنّ الاحتساب أمر عامّ للناس وولاية خاصّة للمحتسب، فإنّ نظام الحُسبة يرصد المخالفة ويقي من الوقوع فيها، ويتلافى حصول ضرر بها ساعة ظهورها، كما أنّها من الأنظمة التي تتميّز بسرعة الفصل وإيقاع العلاج بلا تراكم زمنيّ أو سلعي.

3 - التكاليف الفرديّة: أوجب الفقه الإسلامي على البائع إعلام المشتري بالعيب الخفيّ، فإن كان قد غشّ في بيعه مع وصف مفقود، كان فيه خيار التدليس، وإن كان من قبيل مزج غير المراد، كان للمستهلك خيار العيب، وإذا أخفى الأدنى في الأعلى كان له تبعيض الصفقة، وينقص من الثمن بمقدار الزائد غير المرغوب (3) . وهذا الحقّ القانونيّ لحماية المستهلك يجعل الإنتاج غير المرغوب قابل للردّ، وبذلك يغلق المشرّع أمامه أبواب التسويق.

النمط الثالث: تعطيل الموارد

ثَمّة منطلقات أساسيّة يتسالم عليها الفكر الاقتصادي، ومنها أنّ التنمية تشكّل الحصيلة النهائيّة لمدى فاعليّة أيّ نظام اقتصادي.

وأوّل شروط التنمية الاستخدام الرشيد للموارد، والتخصيص التنموي لاستخدامها.

____________________

(1) ابن تيميّة، الحسبة في الإسلام، ص: 46 و47.

(2) المصدر نفسه، ص: 54.

(3) المحقّق الحلّي (م. س): 5/2، الأنصاري، (م. س): 3/135، ابن رشد، (م. س): 2/210. الزحيلي (وهبة)، الفقه الإسلامي في ثوبه الجديد.

١٤٦

لذلك فإهمال الموارد أو تعطيلها، أو استخدامها بصورة غير رشيدة يُعطّل الإنماء، وبه ترتفع معدّلات العجز، لا سيّما مع زيادة السكّان التي ينتج عنها نقص المدخولات قبالة زيادة الإنفاق. فالاستخدام الكامل للموارد هدف الاقتصادات كلّها، وهو يتوقّف على سلوك الأفراد والمنشآت، وتدفع إليه مجموعة اعتبارات، منها فنّية، مثل حجم الطلب أو نوعه، ودافعيّة الفرد لها قد تكون لأسباب مادّية (زيادة الربحيّة).

إنّ الإسلام بجعله لها عبادة يجعل لها دافعيّة أُخرى، فلقد حدّد المشرّع أنّ من أسباب المِلك التامّ الاستيلاء على المال المباح بوصفه سبباً فعليّاً لا عقديّاً على الأرض الموات، والمعادن غير المستغلّة والغابات والصّيد... إلخ، فإنّ المكلّف يجب عليه لتحقّق اكتساب ملكيّة هذا المباح تعميره واستخدامه استخداماً رشيداً.

فإذا أحيا شخص أرضاً ثُمّ هجرها حتى عادت مواتاً، فهل يعدّ تعطيلها مخالفة أم لا؟ وإذا عدّ مخالفة، فما الذي يترتّب عليها؟

اختلف الفقهاء في ذلك على مذهبين:

الأوّل: ما ذهب إليه أكثر الحنفيّة (1) ، من أنّه لا يرد الإحياء على مملوك، والأرض المحياة، وإن عادت خراباً، قد ثبت ملكها بسببٍ مشروع، فلا يزول عنها الملك بالترْك والتعطيل، فهي كسائر الموارد المنقولة بالنواقل الشرعيّة، ومعهم في ذلك الحنابلة والظاهريّة وبعض الإماميّة.

الثاني: وهو رأي المالكيّة (2) ومشهوري الإماميّة (3) أنّه يجوز لشخص إحياء المتروك؛ لأنّ المحيي الأوّل إنّما ملَك بشرط استمرار الإحياء؛ إذ هو السبب في المِلك، وحيث انتفى السبب سقط الحقّ تبعاً له. وللإماميّة تعديل في المسألة: يمنح وليّ الأمر سلطة الإبقاء على المالك الأوّل أو سحبه، ويرون أنّ (ترْك المحيي المورد معطّلاً حتى عاد خراباً، فللإمام سحبه، كما كان له إمضاؤه).

يفسّر ذلك بأنّ الإماميّة يرون أنّ المحيي اكتسب في إحيائه للمورد، حقّ اختصاص دون الملك التامّ؛ لذا (كلّ أرضٍ ترَك أهلها عمارتها كان للإمام

____________________

(1) الميرغيناني، الهداية: 4/99، موسوعة عبد الناصر: 4/38، الرملي، الفتاوى الخيريّة: 2/185.

(2) الصاوي (أحمد بن محمّد)، بُلغة السالك: 2/294.

(3) المحقّق النجفي (محمّد حسن)، جواهر الكلام: 38/8.

١٤٧

تقبيلها، لمَن يقوم بها، وعليه طسقها (*) لأربابها). وأربابها في الفتوى يتمثّلون إمّا بوليّ الأمر، أو بالمحيي الأوّل وورثته، واستندوا في ذلك إلى روايات عدّة رويت عن أئمّة آل البيت، لكن سبب الخلاف يكمن في الدلالة لا في الدليل.

ويظهر للباحث من أقوال الفقهاء وأدلّتهم، جمعاً واستفادةً من آراء وأدلّة الفريقين، أنّ التشريع يرتّب على الاستثمار الجادّ حقوقاً تبدأ بالاختصاص وتنتهي باكتساب الملكيّة، فعند ترك الاستثمار يسحب حقّ الانتفاع ويبقى حقّ الحيازة. فإذا اندرست آثار الإعمار يُنزع حقّ الحيازة؛ ويبقى حقّ التصرّف بالمنشآت، فعودة الأرض جرداء يلغي الحقّ برمّته؛ عند ذاك تُسوّغ الشريعة للغير أن يمارس عمليّة الإحياء والإعمار، الأمر الذي يشعر أنّ سحب الحقّ هو العقوبة الاقتصاديّة لتعطيل الموارد.

والشّارع حين ينقل ملكيّة المورد من نطاق ملكيّة الدولة إلى ملكيّة الأفراد من دون مقابل، إنّما يُريد بذلك استصلاح الأراضي غير المستغلّة، فتعطيلها يتعارض مع مقصوده، وهو مقاس طوال مدّة التحجير؛ حيث يتّفق الفقهاء في أنّ مدّة التحجير لا تكسب حقّاً، ولا يترك الحَجْر هكذا للتعطيل (1) .

والذي يؤيّد ما ذهب إليه المالكيّة وأكثر الإماميّة، أنّ ترك المورد معطّلاً يُلحق ضرراً بالناس، ولحاكميّة الضرر على العناوين الأوّليّة، أعني: ثبوت المِلك بالإحياء، ولقاعدة الضرر يُزال، فإنّ سحب المورد من المعطِّل هو الراجح.

إنّ وجود العلّة (التعطيل) في أيّ حكم لا نصّ فيه ممّا يدخل في هذا المضمار، هو قابل أن يُلحَق به حكم الأراضي المعطّلة؛ لأنّ تنقيح مناط المسألة يجرّنا إلى القول: إنّ كلّ امتياز تمنحه الدولة للأفراد - النشاط الخاصّ - يُشترط فيه الإسهام الفاعل في تعميق نوعيّة النتائج وزيادتها، فإنّ لم يحصل فللدولة سحب الامتياز (2) ، أو تعديل بنوده لصالح المجتمع؛ لأنّ

____________________

(*) الطّسق: شبه الخراج، له مقدار معلوم: مكيال معروف.

(1) الفيّاض (إسحاق)، أحكام الأراضي، ص: 92، اُنظر: أبو عبيد، الأموال، ص: 408.

(2) كاظم (عبد الأمير)، ملامح نظرية الإنتاج، ندوة التراث، عدن: 2/12.

١٤٨

تصرّف وليّ الأمر على الرعيّة بالمصلحة، فإذا تعارض العامّ والخاصّ، فالعامّ مُقدّم.. استفادة من أنّ الحقوق معلّلة في أغلبها بمصالح العباد (1) .

المبحث الثالث: الجرائم في مجال التبادل

يعرَّف التبادل بأنّه مجموع عمليّات التجارة، وهو ذو معنى قانونيّ أكثر منه اقتصاديّاً؛ لتعلّقه بنقل الحقوق أو الملكيّـة، ويرى العلماء أنّه - اقتصاديّاً - جزء من الإنتاج، فهو لا يعدو أكثر من إضافة منفعة للسلعة، سواء كانت مكانيّة أو زمانيّة، فإذا كان له معنىً قانونيّ بوصف التبادل عمليّة انتقال حقوق الثَمن والمُثمن، يجب أن ينظّم القانون هذا الانتقال، ويوفّر الحماية للمنتج والمستهلك معاً؛ لذلك يحرص المشرّع الإسلاميّ ألاّ تفسد في السوق الإسلاميّة قوانين السعر السائد، (العرض والطلب)، فمنَع الاحتكار، ونهى عن زيادة الأسعار بلا مبرّر اقتصادي، وحرّم المعاملات الربويّة، في حين أجازت النظم المعاصرة هذه المفاصل الثلاثة مطلقاً، أو عالجتها معالجة اقتصاديّة فقط.

النمط الأوّل: المعاملات الربويّة

إنّ المشرّع الإسلامي ينفرد في النظرة إلى التعامل الربَوي؛ إذ هو يعدّ التعامل الربَوي من الجرائم الاقتصاديّة، بدليل شرعيّ محدّد لأركان الجريمة. فما هي إجراءات الوقاية منها؟ وكيف تعالَج بعد وقوعها؟

يلاحظ، عند فحص الأصول الشرعيّة، أنّ القرآن الكريم قد حرّم التعامل الربويّ غير مرّة، وعنّف المتعامل به، الأمر الذي دعا العلماء إلى اعتباره من الكبائر، عملاً بمنطوق الآيات المُحرّمة له والأحاديث، فمن القرآن قال تعالى: ( يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا اتّقُوا اللّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرّبَا إِن كُنْتُم مُؤْمِنِينَ * فَإِن لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ ) [البقرة: 278 و279].

وورد في السنّة، عن عليّ (عليه السلام)، عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وبطُرق أُخرى أيضاً، أنّ رسول الله لعن في الربا خمسة: آكلِه وموكِلِه وشاهدَيه وكاتبه... (2) ، وعدّه النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) من الموبقات السبع المصرّحة بالكبائر (3) .

____________________

(1) النبهان (محمد فاروق)، الاتّجاه الجماعي في التشريع الاقتصادي الإسلامي، (دكتوراه)، ص: 126.

(2) السيوري، كنز العرفان: 2/113، القرطبي، الجامع لأحكام القرآن: 3/364.

(3) السيوطي، الجامع الصغير: 1/10، اُنظر: صحيح البخاري: 8/218.

١٤٩

وعليه رتّب العلماء أنّ كلّ عقدٍ ربويّ مفسوخ، ولا يجوز في أيّ حال، فإنّ صفقة الربا لا تصحّ (1) بوجه. وللحنفيّة، في ربا البيع موقف في اعتباره من العقود الفاسدة؛ بناءً على رأيهم في التوسّط بين الصحّة والبطلان، وهذا لا يراه جمهور الأُصوليين، بمدرك أنّ أصل البيع جائز لقوله تعالى: ( أَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ ) [البقرة: 275]، والفساد متأتٍّ من الزيادة اللاحقة عليه، فإذا أُزيلت عاد البيع صحيحاً (1) ، في حين يبالغ الجمهور في التنفير منه، فحكموا ببطلان الصفقة مطلقاً، لا سيّما مع عدم تمييز الأصل عن الزيادة، وقد توسّع الفقهاء في أحكام السيطرة الشرعية على صوَره - تجده في كُتب الفقه في باب ربا المعاملة، أو ربا القرض - فهو إذن، إحدى الجرائم الاقتصاديّة الخطيرة. فهل اتّخذ الإسلام موقفاً وقائيّاً منه؟

الوسائل العقائدية والتشريعيّة

لقد أكّدت فلسفة الاستخلاف على اعتبار الإنسان مستخلَفاً على المال والثروة، الأمر الذي قيّد تصرّفه بما صحّ عن المالك الحقيقي، وهو الباري جلّ اسمه.

والنكير الوارد على الربا يجعل المسلم في منأى عن شبُهاته، فضلاً عن الدخول فيه، وأغلق الشارع منافذه بسداد الحاجات الأساسيّة ليمنع القرض الاستهلاكي، والمضاربة ليمنع القرض الإنتاجي، وهو مدلول قوله تعالى: ( يَمْحَقُ اللّهُ الرّبَا وَيُرْبِي الصّدَقَاتِ ) [البقرة:276]، ورغّب في القرض، حتى لَيقِف ابنُ عبّاس مفضّلاً أن يُقرض أمواله بدل التصدّق بها؛ لِما للقرض من جزاءات أُخرويّة. فقد روي أنّ في درهم القرض ثماني عشرة حسنة، ومطلق الحسنة بعشر أمثالها؛ لهذا فإنّ سوق التعامل الإسلاميّة قد جعلت الطلب على النقد باستثمارٍ ربويٍّ (صفر)، فإذا حصل فإنّ المشرّع قد حكم على العقد بالبطلان، وعلى المتعامل بالتعزير، وإذا ضبطت الدولة مرابيّاً أدّبته تعزيراً، وذلك لقوله تعالى: ( فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ) [البقرة: 279]، فإذا عاد مستحلاًّ فللإمام قتْله، وهو مذهب ابن عبّاس وقتادة والربيع (2) .

أمّا

____________________

(50) الخوئي (أبو القاسم)، منهاج الصالحين: 2/58. القرطبي، (م. س): 3/358.

(51) الطبرسي (أبو الفضل)، مجمع البيان: 2/392.

١٥٠

غير المستحلّ، فعن جعفر بن محمّد (عليه السلام) أنّه يؤدّب ثلاثاً، فإذا عاد قُتل (1) .

أمّا لو اصطلح أهل بلد على الربا استحلالاً كانوا مرتدّين، وإن لم يكن استحلالاً جاز للإمام محاربتهم، كما يرى ابن خويز نداد (2) .

وفي مآله، فإنّ التوبة من الذنوب تُسقط حقّ الله، ولا تُسقط حقوق الآدميّين، والربا حقٌّ مشترك، ولِما له من آثار اقتصاديّة سيّئة تسهم في عمليّة تفاوت المداخيل، فإنّ البواعث الاقتصاديّة ستوفّر وسطاً جيّداً للجريمة (3) ، وبخاصّة لِما له من آثار اجتماعيّة سيّئة، ومن آثار نفسيّة تثير البغضاء وتشجّع السلوك الجامع إلى الانتقام عند المقرضين بالربا، لا سيّما عند تحكّم عنصر اليأس؛ الأمر الذي يدفع الفرد إلى ارتكاب الجريمة بالسطو أو القتل أو الاختلاس.. إلخ.

إنّ وضعاً كهذا يستدعي فقدان الأمن الاجتماعي، ويحفّز المقرضين إلى التهيّؤ، ويزيل من أنفسهم الرأفة والرحمة والإحسان، في حين يدفع المقترضين إلى ارتكاب الجرائم. بينما بإزالته وتعاون الجميع، سواء بالزكاة وهي البديل الناجح لقوله تعالى: ( يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ ) [البقرة: 276]، أمْ بالطُرق الشرعيّة (المضاربة، المزارعة، المساقاة)، وبالشِركة الصحيحة يرسم الإسلام مجتمعاً آمناً، سِماته الأساسيّة أنّه كالبنيان المرصوص، أو كالجسد الواحد، وهي - كما تعلم - صور استعارها الحديث النبويّ في ما يرسم من سِمات للبناء الإسلامي للمُجتمع.

النمط الثاني: الاحتكار

لمّا كان المشرّع يسعى إلى تأسيس أركان الأمن الاجتماعي الرصينة، فإنّه قد أرسى تلك الأركان في مختلف جوانبهـا، ففي جانب إلغاء دوافع الجريمة ألغى دوافعها الاقتصاديّة، فحرّم الربا، ونهى عن الاحتكار، هادفاً إلى جعْل السوق ميداناً كريماً للتنافس الشريف؛ لتتحقّق فيه مصلحة المنتج والمستهلك معاً، وفْق ملتقى العَرْض والطلب بحرّية تامّـة، ووسط تناسب العلاقة بين

____________________

(1) المصدر نفسه.

(2) القرطبي، (م. س): 3/363.

(3) قرشي (أنور إقبال)، الإسلام والربا، ترجمة حلمي (فاروق)، ص: 428.

١٥١

الأجور والأسعار، لذلك عدّ حبس الأقوات تربّصاً للغلاء مخالفةً قانونيّة؛ لأنّها تتدخّل سلباً في إفساد العرض والطلب، وقد تَوزّع الفقهاء في حكم الاحتكار على رأيين:

الرأي الأوّل: يرى حرمة الاحتكار، وهم جمهور الفقهاء وأكثر الإماميّة (1) ؛ مستدلّين بأنّ الحديث وردت فيه ألفاظ دالّة على الحرمة، مثل: البراءة من ذمّة الله، اللعن، الوعيد، الأمر الذي يُشعر أنّه من الكبائر، والكبائر محرّمة باتّفاق العلماء.

الرأي الثاني: يذهب إلى الكراهة؛ وهم الشافعيّة (2) وبعض الإماميّة (3) ؛ وذلك لقصور دلالة الحديث على الحرمة، ولأنّ الأصل براءة الذمّة، ولتعارض الحكم بالتحريم مع قاعدة: (الناس مسلّطون على أموالهم)؛ لذلك حملوا النهي الوارد في متون النصوص على الكراهة. ويرى المالكيّة اشتداد الحرمة في حالة ارتفاع الأسعار، وحاجة الناس لندرة السلعة. واختلف الفقهاء في الأشياء التي يصدق عليها الاحتكار (السلع التي يؤدّي حبْسها إلى ارتكاب جريمة الاحتكار):

1 - فذهب الحنفيّة (4) والمالكيّة (5) وبعض الزيديّة (6) إلى أنّ كلّ سلعة يضرّ حبْسُها، حُكرة، من الأقوات وغيرها، سواء أكان استهلاكها ضروريّاً أمْ غير ضروري.

2 - وذهب غيرهم إلى تقييد الحكرةُ بأقوات الناس.

3 - وحصرها بعض مجتهدي الإماميّة (7) بالأصناف السبعة: الحنطة، الشعير، التمر، الزبيب، السمن، الملح، الزيت. وقد أحسن جمهور الإماميّة، إذ جعلوه يسري على ما يُنتجه الفرد بيده بشموله حالات الإنتاج المحلّي. وعن مدّته يذهب الإماميّة إلى أنّ مدّة حبس السلعة المنهيّ عنها في حالات الشدّة ثلاثة أيّام، وفي حالات الرخاء أربعون يوماً، وذهب غيرهم إلى أنّ النصوص لا دلالة لها على المدّة؛ إذ المدار تحقّق الضرر (8) .

____________________

(1) الكاساني، (م. س): 5/129، ابن عابدين، ردّ المُحتار: 5/301، الرملي، (م. س): 3/456.

اُنظر: الطوسي، النهاية في الفقه والفتاوى، ص: 374، العاملي، مفتاح الكرامة، ص: 374.

(2) الشيرازي، المهذّب: 1/292، الشربيني، مغني المحتاج: 2/38. ابن قدامة: (م. س): 4/221.

(3) الشهيد الأوّل، (م. س): 3/218.

(4) الكاساني، (م. س): 7/159.

(5) الباجي (أبو الوليد)، المنتقى شرح الموطّأ: 5/16.

(6) المرتضى، البحر الزخّار: 40/319.

(7) السبزواري، جامع الأحكام الشرعيّة، ص: 240.

(8) ابن قُدامة، (م. س): 4/283.

١٥٢

وكلّ هذا في الجانب القضائي، وإلاّ فالمحتكر آثم ديانةً، قلّت المدّة أو كثُرت. وإنّ حصْرَه في الأصناف السبعة، أو في أقوات الناس، يشكّل فهْماً له أجواؤه التاريخيّة، أمّا اليوم، فإنّ مقاصد الشريعة تدعو المجتهدين إلى اعتبار العموم؛ لأنّ التخصيص لا يسنده دليل قطعي، بل دلالته ظنّية، ومؤدّى ذلك أن تسري الحرمة إلى جميع السلع، بل حتّى الخدمات، كالنقل، والخدمات الطبّية، فالمدار ليس نوع السلعة، إنّما مقدار الضرر الذي يلحق بالمستهلكين.

كما أنّ الحُكرة ليست حصراً في المنتوج المحلّي، بل تشمل البضائع المستوردة، ولا دلالة لحديث النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) (الجالب مرزوق والمحتكر ملعون) (1) على حصره بالمحلّي؛ إذ الحديث لا يعدو كونه حثّاً على استيراد السلع غير المنتجة محلّياً سدّاً للحاجة، يدلّ على ذلك قوله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): (الجالب إلى سوقنا كالمجاهد في سبيل الله) (2) . فليس في منطوقه، ولا حتى مفهومه، دلالة على عدم لحوق قوانين الاحتكار للمستورد؛ لذلك يرى الباحث راجحيّة رأي المتأخّرين من الحنفيّة، وجمهور الإماميّة، والتلمساني، والشافعيّة، في عَدّ المستورد إذا حبَس السلعة محتكراً، كما هو الحال في المنتوجات المحلّية.

الوقاية من جريمة الاحتكار

إنّ أهمّ ملاحظة تجذب نظر الباحث هي أنّ لسان الحديث النبويّ ينفّر المسلم من الاحتكار بأساليب نفسيّة غاية في التنفير.

وإنّ معطيات قوانين الاستخلاف وربط النشاط بالقيَم تُبعد هذه الممارسة عن السوق الإسلاميّة، وسيأتي تفصيل القول في هذه المعطَيات.

وحُكم الفقهاء ببطلان عقد المحتكِر ومَن أبرم معه يعمّق أساليب الوقاية منها، وأوجبت الشريعة على صاحب السلعة بيع السلع المحتكرة في ما زاد على سعر المِثل بالسعر السائد؛ ولذلك نجد أنّ التسعير مبحث يلحقه الفقهاء بمبحث الاحتكار.

____________________

(1) السيوطي، (م. س): 1/144.

(2) المصدر نفسه.

١٥٣

وقد وردت بعض الأخبار المُشعِرة بأنّ لوليّ الأمر اتّخاذ العقوبة الرادعة للمحتكِر والمحقّقة للمصلحة، وتركت تقديرها للمحتسب أو القاضي بما يحقّق مصلحة المسلمين.

النمط الثالث: إفساد العَرْض والطلب وموقف المشرّع منه

يلاحظ الدارسون أنّ الفقهاء كثيراً ما يستخدمون سعر المِثل، أو ثمن المِثل، وأظنّهم يقصدون بذلك مقدار ثمن السلعـة، الأمر الذي يغطّي كُلفة الإنتاج ومقدار الانتفاع، وهذا لا يحصل إلاّ إذا ترك الطلب (بطاقتِه كاملة) ليُلاقي العَرْض بوضعه الطبيعيّ، فإذا حصل ما يؤثّر على العَرْض بتقليل الإنتاج أو تصديره إلى الخارج مع حاجة البلد، حدث ما يرفع الأسعار على سعر المِثل؛ الأمر الذي يؤثّر في ميزانيّات ذوي المداخيل المحدودة، عند ذاك يحصل الضرر الموجب للرفع بقاعدة: (الضرر يُزال)، وهذا يتمّ - كما هو عُرف الشرع - بتحرّي الأسباب ومعالجتها بالاعتماد على وسائل السياسة النقديّة، كالتسعير الذي هو تدخّل الدولة في حسابات كُلفة الإنتاج وهامش الربح للمنتج؛ لتصنع للسلعة ثمناً لا يجوز تخطّيه، إلى جنب وسائل الترغيب بالتصدّق ومنع الغلاء على الناس.

  لقد وردت في التسعير مجموعتان من الأحاديث أغلبها يحظر التسعير، وبعضها يُجيزه؛ الأمر الذي اضطرّ بعض الباحثين - جمعاً بين الأدلّة - إلى القول بحرمته في الظروف الاعتياديّة، وجوازه في ظروف محدّدة، ضابطها مساس الحاجة، فممّن كرّهه الحنفيّة (1) والحنابلة (2) والمالكيّة (3) ومشهور الإماميّة (4) ، وأجازه بعض الشافعيّة (5) في حال الغلاء، وبعض الحنفيّة في حال الاضطرار إليه، وابن أشهب وابن حبيب من المالكيّة بشـروط، والمفيد والميسي من الإماميّة والعلاّمة الحلّي بشروط أيضاً (6) ، نجدها مفصّلة في كتُب الفقه.

من ذلك يظهر لك أنّ الأصل عدم التسعير، وأنّ محاولات الإخلال بقانونَي العَرْض والطلب يسوغه على الرغم من مانعيّة الأصل، الأمر الذي يقودنا إلى القول: إنّ الاستثناء هو الغلاء، والاحتكار يعالج بإجراءات

____________________

(1) الزيلعي، تبيين الحقائق: 6/ 28.

(2) ابن قدامة، (م. س): 4/217.

(3) الباجي (أبو الوليد): (م. س): 5/18، العيد (ابن دقيق)، (م. س).

(4) الطوسي، (م. س)، ص: 375.

(5) الماوردي، (م. س)، ص: 256.

(6) سلطان (بشير)، الاحتكار، (رسالة ماجستير) رونيو، ص: 242.

١٥٤

استثنائيّة، مثل التسعير.

  وخلاصة ما يتّفق بشأنه في أثمان السلع: العودة إلى ثَمن المِثل، أي ثَمن التلاقي الطبيعي في حجم العَرْض مع حجم الطلب؛ ولذلك نجد (مهيّأ عن تلقّي الرُكبان، وبيع الحاضر لِباد) (1) .

المبحث الرابع: الجرائم في مجال التوزيع

جرائم الإضرار بالعُملة

ينطلق الفقهاء المسلمون عند ترتّب الأحكام في مجال المعاملات النقديّة مِن الفهْم السِلَعي للنقود، حيث يقف هذا الفهم عند كون النقد سلعة قيمتها من ذاتيّتها، فقيمتها النقديّة والشرائيّة تنبع من ذاتها، وعند ذاك تدخل بوصفها سلعةً في أثر العرض والطلب عليها، وبناءً عليه، فهُم لا يرون العُملة الورقيّة نقداً أصيلاً، إنّما نقداً اعتباريّاً، إلاّ ما ظهر في مؤتمر الكويت عام (1987م) من اعتراف مجموعة من علماءٍ مسلمين، باعتبار قيمة العُملة الورقيّة قائمة على أساس نسبة مفترضة بين مقدار الاعتبار وقيَم الأصل في السلع الأُخرى.

إنّ الحال التي آلت إليها اقتصادات الشعوب باعتبار قيمة النقد حالياً قيمة قانونيّة لا ذاتيّة، والنقد حالياً مخلوق للدولة، فقيمته ليست مطلقة، إنّما يحدّد مقدارها المنظّم لها من جهة كمّية الإصدار قبالة كمّية الإنتاج، وهنا تفعل السياسة النقديّة فعلاً له أثر في تحديد القوّة الشرائيّة للعملة.

ونظراً لهذا التطوّر، صارت كمّية الإصدار، وسرعة التداول، ومقدار الإنفاق العامّ متغيّرات هامّة على مستوى الأسعار المترتّب على فعاليّة الطلب (2) ، مع ثبات العَرْض، وما يترتّب على هذا من تغيّرات عديدة في مستوى التوظّف، والتضخّم النقدي (3) ، وتأثّر مداخيل الأفراد، ونمط الوفاء بالالتزامات المؤجّلة، كالديون والنفقات والمهور المؤجّلة وكُلَف المشاريع الطويلة الأجَل؛ لذلك فإنّ المسلم ينبغي أن يعي أنّ أيّ إضرار في العملة سوف يمتدّ ليدخل في حسابات الناس جميعاً. والشريعة - وإن توقفّ الفقهاء عند أفكار المدرسة السلعيّة في النقد - لم تتوقّف، بل احتاطت لذلك.

____________________

(1) السيوطي، (م. س): 20/192.

(2) اُنظر في هذا: سيّد علي (عبد المنعم)، أدوات النقود والسياسة النقديّة.

(3) البيرماني (خزعل)، ص: 184.

١٥٥

فنجد قول الله تعالى: ( فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلاَ تَبْخَسُوا النّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلاَ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا ) [الأعراف: 85]، وهو نصّ في حرمة الإضرار بالناس (1) عن طريق الإضرار بالعملة؛ لأنّ الإضرار بالعملة طريق لبَخْس الناس أشياءهم.

ويرى صاحب (الميزان) أنّ الإفساد في الأرض - الذي انتهت به الآية - وإن كان بحسَب إطلاق معناه يشمل جميع المعاصي والذنوب، ممّا يتعلّق بحقوق الله أو بحقوق الناس، لكن مقابلته لِما قبْله وما بعده يخصّه بالإفساد الذي يسلب الأمن العامّ في الأموال والأعراض والنفوس (2) ؛ لأنّ أيّ عمل تتعلّق به حقوق الآخرين يلزم الشخص إبراء ذمّته من حقوقهم، وإلاّ وقع في بخس الناس أشياءهم. لذا حكَم الفقهاء المسلمون باختصاص وليّ الأمر في إصدار النقد، ولم يرخّصوا ذلك للناس - على ما كانوا - من جهة اقتدارهم على الإصدار، وبنَوا ذلك على رواية أحمد بن حنبل، عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنّه قال: (لا يصلح ضرب الدراهم إلاّ في دار السلطان)، ثمّ عقّب (عليه السلام) بقوله: (لأنّ الناس إن رُخِّص لهم ركبوا العظائـم) (3) .

واستناداً إليه ذهب النووي إلى (كراهة ضرب الدراهم من قِبل الرعيّة وإن كانت خالصة؛ لأنّ ذلك من شأن الإمام) (4) .

وما ذلك إلاّ لأجْل أن يتولّى المختصّون إصدار النقد بالكمّيات التي توازي العَرْض السِلَعي حتى لا تتأثّر قيمة العُملة. ولفظ الكراهة هنا أراد به الحظر، ولم يقل الحظر لثبوت متعلّق حكم الكراهة بدليل ظنّي.

ومن تحوّطات المشرع أنّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) نهى عن كَسر سكّة المسلمين الجائزة بينهم (5) ، فقد روي عن النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أنّه نهى عن كسر سكّة المسلمين الجائزة بينهم إلاّ من بأس (6) . قال الشوكاني: (معنى الجائزة: أي النافعة في معاملتهم) (7) . ويُراد مِن كسر السكّة تقليل قيمتها عن المضروب الصحيح

____________________

(1) الطبرسي، مجمع البيان: 4/447.

(2) الطباطبائي (محمّد حسين)، الميزان في تفسير القرآن: 9/187.

(3) الفرّاء (أبو يعلى)، الأحكام السلطانيّة، ص: 165.

(4) النووي، روضة الطالبين: 2/258.

(5) ابن ماجة، (م. س): 2/761، الماوردي، (م. س)، ص 155.

(6) الشوكاني: نيل الأوطار: 5/236.

(7) المصدر نفسه.

١٥٦

قيمة.

ويرى الشوكاني أيضاً (أنّ الحكمة من النهي ما في كسْر العملة من الضرر بإضاعة المال؛ لِما يحصل به النقصان بالدراهم ونحوها إذا كُسرت وأبطلت المعاملة بها) (1) ، ويزداد الحظر بأن ينقل أحمد بن حنبل عن الصادق (عليه السلام) أنّه سُئل عن كسْر الدراهم، فقال: (هو عندي من الفساد في الأرض) (2) .

واستناداً إليه ذهب أحمد إلى كراهة كسْر الدراهم لحاجة أو لغير حاجة (3) ، ورخّص الشافعي الكسْر في حالة الحاجة الشديدة (4) ، إلاّ عن أبي حنيفة الذي لم يرَ كراهة كسر السكّة (5) ، لكن ابن قدامة نقل عنه أنّه قيّد الجواز بشرط عدم الإضرار بالإسلام وأهله (6) .

وبنقل النهي وموضوعه إلى وضعنا المعاصر نلحظ أنّ أيّ عمل يضرّ بمقدار قيمة النقد مؤاخَذ شرعاً، ويُعَدّ مخالفةً تدخل ضمن ما يعاقب الله عليه آجِلاً، ومن مصاديق الإفساد في الأرض عاجلاً، الأمر الذي يوجب على وليّ الأمر التعزير عليه؛ لتوفّر أركان الجريمة.

ولا وجه للرخصة في العملة الورقيّة - كما ورد عن الشافعي وأبي حنيفة - إذ هناك - كون النقد ذهباً أو فضّة - استعمالات بديلة، فهنا الأمر مختلف؛ وحيث يدور الحكم مدار المَناط، فإنّ الترخيص سقط بتغيّر مادّة النقد.

ومن التحوّطات أنّ الفقهاء قد جعلوا من الفروض أن يضرب السلطان جيّداً (7) ؛ أي الحفاظ على الوزن المعيـاري، والوزن ليس علّة بقدَر ما هو أمارة على القيمة النقديّة، وهذا يُترجَم في عالَمنا المعاصر إلى ضرورة المحافظة على القيمة النسبيّة للوحدة النقديّة إزاء الأرقام القياسيّة للأسعار، والتناسب مع الوحدات من النقد الأجنبي، والفرض هنا النهي عن التسبّب بإنقاص قيمة النقد. ويمكننا التقاط بعض المواقف للفقهاء في موضوع غشّ الدراهم؛ لكي نرى مناط الإنقاص: يرى الشيخ الأنصاري أنّ الدراهم المغشوشة يحرم تداولها بيعاً أو شراءً (8) .

____________________

(1) المصدر نفسه.

(2) الماوردي: (م. س)، ص: 155.

(3) ابن قُدامة، (م. س): 4/176.

(4) الماوردي، (م. س)، ص: 155.

(5) المصدر نفسه.

(6) ابن قُدامة، (م. س): 4/176.

(7) الشيخ الأنصاري، (م. س): 2/38.

(8) المصدر نفسه.

١٥٧

يرى الغزالي أنّ ترويج الزيوف من الدراهم ظلم؛ لما يعمّ به من ضرر ويتّسع الفساد، ويكون وزر الكلّ ووَباله راجعاً عليه (1) .

ويرى ابن قيّم أنّه بالنقد يعرف تقويم المال، فيجب أن يكون معروفاً مضبوطاً لا يرتفع ولا ينخفض، وإلاّ فتفسد معاملات الناس ويقع الخُلف ويشتدّ الضرر (2) ويحصل الظلم.

ويرى صاحب (الجواهر) والعلاّمة أنّه إذا كانت الدراهم مجهولة الصرْف لم يجزْ إنفاقها إلاّ بعد إبانة حالها، وكلّفت أنظمة المجتمع الإسلامي المحتسب بمراقبة الإصدار كمّيةً ونوعاً، والمحاسبة على (3) جرائم إنقاص العملة، فإذا ثبت حصر الإصدار بوليّ الأمر، وأوجب عليه المشرّع ألاّ يتّخذ من الأفعال ما ينقص قيمة النقد، وتحقّق الإثم في الإضرار بالعملة، فالإيمان يقتضي الابتعاد عن اقتراف الإثم، وبالتالي فاقترافه موجب لغضب الله ديانة، وخوّل المشرّع وليّ الأمر محاسبة من يضرّ بالعملة وإنزال التعزيرات به؛ لِما ثبت أنّه من الإفساد في الأرض.

  إنّ هذه الإجراءات الأُخرويّة والدنيويّة في الوقاية والمعالجة القضائيّة كلّها إجراءات واقية للمجتمع من جريمة التزويـر، وتهريب العملة، وتحكيم ضوابط الإصدار.

المبحث الخامس: الجرائم في مجال الاستهلاك

إنّ الطريقة التي يحلّ بها الإسلام المشكلة الاقتصاديّة لا تقف عند عدالة التوزيع أو ضوابط الإنتاج، إنّما تتدخّل في سلوك المستهلك وتفضيلاته نوعاً وكمّاً، ذلك أنّ ما يرفضه المستهلك لكونه حراماً يحرم على المنتج إنتاجه على الرغم من وجود حاجة نفسيّة في بعض الأحيان لكليهما باعتماده إنتاجاً أو استهلاكاً مثل الحرير والذهب للرجال؛ لذلك لا نجد تعارضاً بين إرادة المنتج وتفضيلات المستهلك، ولا نجد تعارضاً بين أهداف المنشأة الإنتاجيّة والمنفعة المطلقة، ناهيك عن الحدّية للمستهلك، لتوحّد دوال الطلب ومكوّنات العَرْض؛ لذلك فالإنفاق الاستهلاكي محكوم بأقسام الاستهلاك وأحكامه التكليفيّة، فالاستهلاك المحرّم كأكل المِيتة وشرب الخمر،

____________________

(1) الغزالي، إحياء علوم الدين: 2/74.

(2) النجفي (محمّد بن أبي بكر)، أعلام الموقعين: 2/269.

(3) النجفي (محمّد حسن)، (م. س): 24/ 17.

١٥٨

والأعيان النجسة وآلات اللهو، وإجارة المساكن ووسائل النقل للمحرّم... مسائل نفّر الشارع منها، وعاقب عليها، وحرّم الإنفاق فيها.

أمّا في مجال المباح..، فإنّ الشارع لم يجعل الإنفاق في مجال الواجب إسرافاً وإن كثُر. أمّا المندوب ففيه رأيان:

الأوّل: إنّه لا فرق بينه وبين الواجب في كثرة الإنفاق؛ لكونهما إنفاقاً على البِرّ والتقوى، واستدلّوا له بإعطاء الإمام عليّ (عليه السلام) للأقراص، في المشهور من سبب نزول آية ( هَلْ أَتى ) [الإنسان: 1] وهو لا يملك غيرها.

الثاني: اشترطوا أن تكون في أمواله سعة للإنفاق، فاضلة عمّا يحتاج إليه، وربّما قيّدوه بما يليق بحاله.

واستدلّ له بقوله تعالى: ( وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ.... ) الآية [الإسراء: 29].

وقوله أيضاً: ( وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ الْعَفْوَ ) [البقرة: 219].

وقوله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): (إنّما الصدقة عن ظَهر غِنى) (1) .

أمّا المباح، فقد ذهب أكثر الفقهاء إلى أنّ صرف المال في الأغذية النفيسة التي لا تليق بحال المنفِق تبذير؛ لصدق الإسراف والتبذير هنا، وهو منهيّ عنه، خلافاً لِما روي عن الشافعيّة أنّهم يرون أنّ الغاية من تملّك المال الانتفاع به، وحصَره آخرون في ما يصدق عليه عنوان تضييع المال.

بينما أجمع العلماء على أنّ الإنفاق في المحرّمات سفَه وتبذير وإسراف قطعاً، وقد ورد أنّ السرَف يبغضه الله.

  وينظر الفقه الحنفيّ إلى أنّ الإسراف يوجب السفَه، بصرف النظر عن مجالات الإنفاق.

  إنّ هذا المبحث في حرمة الإسراف يقيّد المستهلك... إضافةً إلى القيد الفنّي (الدَخل)، ويشيع وسطاً اجتماعيّاً يلبّي حاجة المخطّط؛ إذ لا يستطيع المخطّط أن يوقِف شخصاً لديه قوّة شرائيّة عند سقف إنفاقيّ محدّد إلاّ بتعسّف قانوني، بينما يصار الأمر في الشريعة إلى روادع ذاتيّة تُحجّم الاستهلاك ضمن نوعٍ معيّن، وكمٍّ معيّن..؛ لذا نجد أنّ مشكلات عدم ترشيد الاستهلاك أقلّ تكوّناً في المجتمع الإسلامي.

____________________

(1) السيوطي، (م. س): 1/105.

١٥٩

الفصل الثاني: السُبل العامة للوقاية من الجريمة الاقتصادية

المبحث الأوّل: مفهوم الإسلام للمال والملكيّة وأثَره في الوقاية

للعقائد الشموليّة مفاهيم منتزعة من أكثر من حكم فرعيّ، وللإسلام مفهومات عن المال والملكيّة.. تميّزه عن النُظم الأُخرى. ولنحاول كشْف النقاب عن تصوّر الإسلام للمال؛ لنرتّب على هذا التصوّر أُسلوب المكلّفين ممّن آمَن بهذا الدِين في تعاملاتهم الماليّة:

عرّف الفقهاء المال بأنّه: ما يميل إليه الطبع، ويمكن ادّخاره لوقت الحاجة (1) .

  وعرّفه آخرون: إنّه اسم لغير الآدمي، خُلق لمصالح الآدمي، ويمكن إحرازه والتصرّف فيه على وجه الاختيار.

وعرّفه الشيخ الخفيف: إنّه كلّ ما يمكن حيازته والانتفاع به على وجهٍ معتاد (2) .

وعرّفه السيوطي في (الأشباه): كلّ ما لَه قيمة يُباع بها، ولا يلزم تلَفه وإن قلّت، وما لا يطرحه الناس.

وقد ورد لفظ المال في القرآن في غير موضع:

( لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ ) [النساء: 29]،

( خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهّرُهُمْ وَتُزَكّيهِم بِهَا ) [التوبة: 103]،

( إنّ اللّهَ اشْتَرَى‏ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنّ لَهُمُ الْجَنّةَ ) [التوبة: 111].

وورد في السنّة قول النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم): (ما تلف مال في بَرّ ولا بحر إلاّ بحبْس الزكاة) (3) .

  وقد قسّمه العلماء إلى متقوّم وغير متقوّم، وأعطوا للمتقوّم صفة الماليّة، واشترط الفقهاء للماليّة شرطين هما: كلّ ما يمكن حيازته والانتفاع به شرعاً، وبذلك يكون الفقهاء المسلمون أوّل من فرّق بين السلع الحرّة والسلع الاقتصاديّة؛ الأمر الذي له أثر في مجال حلّ المشكلة

____________________

(1) الزحيلي، (م. س).

(2) الخفيف (علي)، مجمع البحوث الإسلاميّة، بحث (المالكيّة الفرديّة).

(3) السيوطي، (م. س): 2/144.

١٦٠