البيان في تفسير القرآن

البيان في تفسير القرآن0%

البيان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 526

البيان في تفسير القرآن

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: السيد أبو القاسم الموسوي الخوئي
تصنيف: الصفحات: 526
المشاهدات: 32033
تحميل: 6075

توضيحات:

بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 526 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 32033 / تحميل: 6075
الحجم الحجم الحجم
البيان في تفسير القرآن

البيان في تفسير القرآن

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

الأُولى ، على أنّها تضمّنت ما يخالِف ضرورة الإسلام ، فإنّه لا يشكّ أحدٌ مِن المسلمين في استحباب التسمِيَة ، قبْل الحَمْد والسورة ، ولو بقصْدِ التيَمُّن والتبرُّك ، لا لأنّ البَسْملة جزءٌ ، فكيف ينهى ابن مغفل عنها بدعوى أنّها حدَثٌ في الإسلام ؟ !

٣ - سيرة المسلمين :

لقد استقرّت سيرة المسلمين على قراءة البَسْملة في أوائل السِوَر غير سورة بَراءة ، وثبَت بالتواتر أنّ رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) كان يقرأها ، ولو لم تكن مِن القرآن للَزِم على الرسول الأكرم ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) أنْ يُصرِّح بذلك ، فإنّ قراءته - وهو في مقام البيان - ظاهرة في أنّ جميع ما يُقرأ قرآن ، ولو لم يكن بعض ما يُقرأ قرآن ثمّ لم يصرِّح بذلك ، لكان ذلك منه إغراءً منه بالجَهْل وهو قبيح ، وفي ما يُرجَع إلى الوحي الإلهيّ أشدّ قُبحاً ، ولو صرّح الرسول ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) بذلك ، لنُقِل إلينا بالتواتر ، مع أنّه لم يُنقل حتّى بالآحاد .

٤ - مصاحف التابعين والصحابة :

ممّا لا رَيب فيه أنّ مصاحف التابعين والصحابة - قبْل جَمْع عثمان وبعده - كانت مشتملة على البَسْملة ، ولو لم تكن مِن القرآن لَما أثبتوها في مصاحفهم ، فإنّ الصحابة مَنعت أنْ يُدرَج في المُصحف ما ليس مِن القرآن ، حتّى أنّ بعض المتقدّمين منعوا عن تنقيط المُصحف وتشكيله فإثبات البَسْملة في مصاحفهم شهادةٌ منهم بأنّها مِن القرآن ، كسائر الآيات المتكرّرة فيه .

وما ذكرناه يُبطل احتمال أنّ إثباتهم إيّاها كان للفَصْل بين السِوَر ويُبطل هذه الدعوى أيضاً إثبات البَسْملة في سـورة الفاتحة ، وعدم إثباتها في أوّل سورة براءة ولو كانت للفَصل بين السِوَر ، لأُثْبِتت في الثانية ، ولم تثبُتْ في الأُولى وذلك يدلّنا قطعاً على أنّ البَسْملة آيةٌ مُنزَلةٌ في الفاتحة دون سورة براءة

أدلّة نُفاة جُزئيّة البَسْملة :

واستدلّ القائلون بأنّ البَسْملة ليست جزءً مِن السورة بوجوه :

٤٤١

الوَجه الأوّل :

إنّ طريق ثبوت القرآن ينحصر بالتواتر ، فكلّ ما وقَع النزاع في ثبوته ، فهو ليس مِن القرآن ، والبَسْملة ممّا وقَع النزاع فيه .

والجواب ، أوّلاً :

أنّ كَون البَسْملة مِن القرآن ممّا تواتر عن أهل البيت ( عليهم السلام ) ، ولا فَرْق في التواتر بين أنْ يكون عن النبيّ ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) ، وبين أنْ يكون عن أهل بيته الطاهرين ، بعد أنْ ثبَتَ وجوب اتّباعهم .

وثانياً : أنّ ذهاب شِرذمةٍ إلى عدم كَون البَسْملة مِن القرآن لشُبهةٍ لا يضرّ بالتواتر ، مع شهادة جمْعٍ كثيرٍ مِن الصحابة بكَونها مِن القرآن ، ودلالة الروايات المتواترة عليه معنىً .

وثالثاً : أنّه قد تواتر أنّ النبيّ ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) يقرأ البَسْملة ، حينما يقرأ سورةً مِن القرآن ، وهو في مقام البيان ، ولم يبيِّن أنّها ليست منه ، وهذا يدلّ دلالة قطعيّة على أنّ البَسْملة مِن القرآن .

نعم لا يثبت بهذا أنّها جزءٌ مِن السورة ويكفي لإثباته ما تقدّم مِن الروايات ، فضلاً عمّا سواها مِن الأخبار الكثيرة المروِيّة مِن الطريقَين والجُزئية تثبُت بخبر الواحد الصحيح ، ولا دليل على لزوم التواتر فيها أيضاً .

الوَجه الثاني ، ما أخرجَه مسلم مِن حديث أبي هريرة قال :

( سمعتُ رسول الله ( صلّى الله عليه [وآله] وسلّم ) يقول : قال الله تعالى : قسّمتُ الصلاة بيني وبين عَبْدي نِصفَين ، ولعَبْدي ما سأل : فإذا قال العَبْد : الحمْدُ لله ربِّ العالَمين ، قال الله تعالى : حمَدَني عَبْدي ، وإذا قال : الرحمن الرحيم ، قال : أَثْنى عليَّ عَبْدي ، وإذا قال : مالِكِ يوم الدِين ، قال الله تعالى : مجَّدَني عَبْدي ، وإذا قال العَبْد : إيّاك نعبُدُ وإيّاك نستعين ، قال الله تعالى : هذا بيني وبين عَبْدي ، ولِعبْدي

٤٤٢

ما سأل ، فإذا قال : اهدنا الصِراط المستقيم صِراط الذين أنعمْتَ عليهم ، غير المغضوب عليهم ، ولا الضـالِّين قال : هذا لعَبْدي ، ولِعبْدي ما سأل )(١) .

وتقريب الاستدلال في هذه الرواية ، أنّها تدلّ - بظاهرها - على أنّ ما بعد آية إيّاك نعْبدُ وإيّاك نستعين يساوي ما قبْلَها في العدَد ، ولو كانت البَسْملة جزءً مِن الفاتحة لمْ يستقِم معنى الرواية ؛ وذلك : لأنّ سورة الفاتحة - كما عرفتَ - سَبْع آيات ، فإنْ كانت البَسْملة جزءً كان ما بعد آية : إيّاك نعبُدُ وإيّاك نستعين آيتَين ، ومعنى ذلك : أنّ ما قبل هذه الآية ضعَّف ما بعدها ، فالفاتحة لا تنقسم إلى نِصفَين في العَدَد .

والجواب عنه ، أوّلاً :

أنّ الرواية مَروِيّة عن العلاء ، وقد اختُلِف فيه بالتوثيق والتضعيف .

وثانياً : أنّه لو تمَّت دلالتها ، فهي معارَضة بالروايات الصحيحة المتقدّمة الدالّة على أنّ الفاتحة سَبْع آيات ، مع البَسْملة لا بدونها .

وثالثاً : أنّه لا دلالة في الرواية على أنّ التقسيم بحسَب الألفاظ ، بل الظاهر أنّه بحسَب المعنى ، فالمراد أنّ أجزاء الصلاة بين ما يرجع إلى الربِّ ، وما يرجع إلى العَبْد بحسَب المدلول .

ورابعاً : أنّه لو سلّمنا أنّ التقسيم إنّما هو بحسَب الألفاظ ، فأيّ دليل على أنّه بحسَب عدد الآيات ، فلعلّه باعتبار الكلمات ، فإنّ الكلمات المتقدّمة على آية( إيّاك نعبُدُ وإيّاك نستعين ) والمتأخّرة عنها ، مع احتساب البَسْملة وحَذْف المكرَّرات ، عَشرُ كلمات .

الوجه الثالث : ما رواه أبو هريرة :

_______________________

(١) صحيح مسلم باب قراءة الفاتحة في كلِّ رَكعة ج ٢ ص ٦ ، وسُنن أبي داود - باب مَن ترَك القراءة في صلاته ج ١ ص ١٣٠ ، وسُنن النسائي باب ترْك قراءة البَسْملة في فاتحة الكتاب ج ١ ص ١٤٤

٤٤٣

( مِن أنّ سورة الكَوثر ثلاث آيات(١) ، وأنّ سورة المُلك ثلاثون آية )(٢) ، فلو كانت البَسْملة جزءً منها ، لزاد عددهما على ذلك .

والجواب :

إنّ رواية أبي هريرة في سورة الكَوثر ، على فَرْض صحّة سنَدِها معارَضة برواية أنَس ، وقد تقدّمت(٣) ، وهي رواية مقبولة روَتْها جميعُ الصِحاح غير مُوَطّأ مالِك(٤) ، فرواية أبي هريرة مطروحة ، أو مؤوّلة بإرادة الآيات المختصّة ، فإنّ البَسْملة مشترَكة بين جميع السِوَر ، وهذا هو جواب روايته في سورة المُلك .

_______________________

(١) لم أعثَرْ على هذه الرواية في كُتُب الروايات .

(٢) مستدرَك الحاكم ج ١ ص ٥٦٥ ، وصحيح الترمذي باب ما جاء في فضْل سورة المُلك ج ١١ ص ٣٠ ، وكنز العمّال فضائل السِوَر والآيات ج ١ ص ٥١٦ ، ٥٢٥ .

(٣) في الصفحة ٤٤١ مِن هذا الكتاب .

(٤) تيسير الوصول ج ١ ص ١٩٩

٤٤٤

(٢)

تحليل آية

الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (٢) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (٣)

مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (٤)

***

القراءة

المشهور على ضمِّ الدال مِن كلمة ( الحمْدُ ) ، وكَسْر اللام مِن كلمة ( لله ) ، وقرأ بعضُهم بكَسْرِ الدال اتّباعاً له لِما بَعده ، وقَرأ بعضهم بضمِّ اللام اتّباعاً له لِما قبْله ، وكِلتا القراءتَين شاذّة لا يُعتنى بها .

واختلفَتْ القراءات في كلمة مالِك ، والمعروف منها اثنتان : إحداهما على زِنة ( فاعِل ) ، وثانيتهما على زِنة ( كَتِف ) وقَرأ بعضهم على زِنة ( فَلْس ) ، وقرأ بعضهم على زِنة ( فعيل ) وقَرأ أبو حنيفة بصيغة الماضي وغيرُ الأوَّليَّين مِن القراءات شاذٌّ لا اعتبار به .

(البيان - ٢٩)

٤٤٥

وُجوه ترجيح القراءتَين :

وقد ذَكروا لترجيح كلِّ واحدةٍ مِن القراءتَين الأوّليّين ( زِنة فاعِل وفَعِل ) على الأخرى وجوهاً ، منها :

١ - أنّ مفهوم مالِكِ أَوسع وأشمَل ، فإذا قيل : مالِكِ القَوم ، استُفيد منه كَونه مَلِكاً لهم وإذا قيل : مَلِكُ القَوم لَم يُستفَد منه كَونه مالِكَهم ، فقراءة مالِك أرجَح مِن قراءة ملِك .

٢ - أنّ الزمان لا تُضاف إليه كلمة مالِكِ غالباً ، وإنّما تُضاف إليه كلمة مَلِك ، فيُقال : مَلِك العَصْر ، وملوك الأعصار المتقدّمة ، فقراءة مَلِك أرجَح مِن قراءة مالِك

عدم جدوى الترجيح :

والصحيح أنّ الترجيح في القراءات المعروفة لا مُحصِّل له ، فإنّ القراءات إنْ ثبَتَ تواترها عن النبيّ ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) ، فلا معنى للترجيح ما بينها ، وإنْ لم يثبُت كما هو الحقّ(١) ، فإنْ أَوجَب الترجيح الجَزْم ببُطلان القراءة المرجوحة فهو ، ودون إثباته خَرطُ القَتاد وإنْ لَم يوجِب ذلك - كما هو الغالِب - فلا فائدة في الترجيح ، بَعد أنْ ثبَت جواز القراءة بكلِّ واحدةٍ منها(٢) .

والترجيح في المقام باطل على الخصوص ، فإنّ اختلاف معنى مالِكِ ومعنى مَلِك ، إنّما يكون إذا كان المِلْك - السلْطَنة والجِدَة - أمْراً اعتبارياً ، فإنّه يختلف حينئذٍ باختلاف مَوارِده ، وهذا الاختلاف يكون في غير الله تعالى ، وأمّا مِلْك الله سبحانه فإنّه حقيقيٌّ ناشئٌ عن إحاطته القيّوميّة بجميع الموجودات ، فهذه الإحاطة بذاتها منشأ صِدْق مالِك ومَلِك عليه تعالى ، ومِن ذلك يتّضح أنّ نِسبة

_______________________

(١) تقدّمت أدلّة ذلك في الصفحة ١٥١ مِن هذا الكتاب .

(٢) تقدّم بيان ذلك في الصفحة ١٦٧ مِن هذا الكتاب

٤٤٦

مالِك إلى الزمان إذا لَم تصحّ في غير الله ، فلا يلزَمُها عدم صحّتها فيه سبحانه ، فهو مالِك للزمان كما هو مالِكٌ لغَيره .

وقد يُقال :

إضافة مالِك إلى يوم الدِين إضافةً لفظيّة لا تُفيد التعريف ، فلا يصحّ أنْ تقَع الجُملة وَصْفاً للمعرفة ، فالمتعيِّن قراءة مَلِك ، فإنّ المراد به السلطان وهو في حُكم الجامد ، وإضافتُه إضافةً معنويّة .

وأُجيب عنه :

في الكشّاف وغَيره : بأنّ إضافة اسم الفاعل ونحْوِه تكون لفظيّة إذا كان بمعنى الحال والاستقبال ، ومعنويّة إذا كان بمعنى الماضي أو أُريد به الدوام .

ومِن الأوّل قوله تعالى :

( الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً ) ٣٥ : ١ .

ومِن الثاني قوله تعالى :

( تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ ٤٠ : ٢. غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ ٤٠ : ٣)

والمقام مِن قبيل الثاني ، فإنّ مالِكيّته تعالى ليوم الدِين صِفةٌ ثابتةٌ له ، لا تختصّ بزمانٍ دون زمان ، فيصحّ كَون الجُملة صِفةً للمعرفة .

والتحقيق : أنّ الإضافة مُطلقاً لا تُفيد تعريفاً ، وإنّما تُفيد التخصيص والتضييق والتعريف إنّما يُستفاد مِن عهدٍ خارجيّ ودليل ذلك :

٤٤٧

أنّه لا فَرْق بالضرورة بين قَولنا : غُلامٌ لزيد ، وقولِنا غلامُ زيدٍ ، فكما أنّ القول الأوّل لا يُفيد إلاّ التخصيص كذلك القول الثاني ، والتخصيص يتحقّق في موارد الإضافة اللفظيّة ، كما يتحقّق في موارد الإضافة المعنوِيّة

والفارِق : أنّ التخصيص في الأُولى لَم ينشأْ مِن الإضافة ، بل هو حاصلٌ بدونها ، وأنّ الإضافة لم تُفِد إلاّ التخفيف ، إلاّ أنّ هذا لا يوجِب أنْ لا يقَع المُضاف فيها صِفةً للمعرفة ، فإنّ المُصحِّح لذلك إنْ كان هو التخصيص ، فهو موجود في مواردها وإنْ كان هو التعريف الحاصل مِن العَهد الخارجيّ ، فهو مشترَك بين الإضافتَين معاً ، فلا فَرْق في مقام الثبوت ، بلحاظ ذات المعنى بين موارد الإضافتَين .

وجميع ما ذَكروه لا يرجع إلى مُحصِّل : نعَم يبقى الكلام في مقام الإثبات ، وقد ادُّعيَ الاتّفاق على أنّ المُضاف بالإضافة اللفظيّة ، لا يقَع صِفةً لمعرفةٍ إذا كان المُضاف مِن الصِفات المشبَّهة ، وأمّا غيرها فقد نقَل سيبوَيه عن يونس والخليل : وقوعه صِفة للمعرفة في كلام العرب كثيراً(١) ، وعليه يُحمَل ما ورَد في القرآن مِن ذلك ، كما في المقام .

وأمّا قول الكشّاف : إنّ اسم الفاعل هنا بمعنى الاستمرار ، فهو واضح البطلان ، فإنّ إحاطة الله تعالى بالموجودات ، ومالكيّته لها ، وإنْ كانت استمرارية ، إلاّ أنّ كلمة مالِك في الآية المبارَكة قد أُضيفت إلى يوم الدِين ، وهو متأخِّر في الوجود ، فلا بدّ مِن أنْ يكون اسم الفاعل المضاف إليه بمعنى الاستقبال .

وأمّا التفْرِقة التي ذكَرها بعضهم في اسم الفاعل المضاف ، بين ما إذا كان بمعنى الماضي ، فيصحّ وقوعُه صِفةً للمعرفة ، وبين غيره فلا يصحّ ؛ لأنّ حدوث الشيء يوجِب تعيّنه ، فهي بيِّنة الفساد ، فإنّ حدوث الشيء لا يستلـزم - في الغالب - العِلم به ، وإذا كانت العِبرة بالعِلم الشخصيّ ، فلا فَرْق بين تعلُّقه بالماضي وتعلُّقه بغَيره .

_______________________

(١) تفسير أبي حيّان ج ١ ص ٢١

٤٤٨

والحاصل أنّ المتَّبَع في الكلام العربيّ : هو القواعد المتَّخَذة مِن استعمالات العرَب الفُصحى ، ولا اعتماد على الوجوه الاستحسانية الواهية التي يذكرها النحوِيّون .

اللُغة

الحَمْد :

ضدّ اللَوم ، وهو لا يكون إلاّ على الفِعل الاختياري الحَسَن ، سواء أكان إحساناً للحامِد أمْ لم يكن ، والشُكر مقابل الكُفران ، وهو لا يكون إلاّ للإنعام والإحسان ، والمدْح يقابل الذمّ ، ولا يُعتبَر أنْ يكون على الفِعل الاختياري فضلاً عن كَونه إحساناً ، والألف واللام في كلمة الحمْد للجِنْس إذ لا عَهْد ، وتقدّم معنى كلمات : ( الله الرحمن الرحيم ) .

الرَبّ :

مأخوذ مِن ربَبَ ، وهو المالِك المُصلِح والمرَبّي ، ومنه الربيبة ، وهو لا يُطلَق على غيره تعالى إلاّ مضافاً إلى شيء ، فيقال : ربُّ السفينة ، ربُّ الدار .

العالَم :

جمْعٌ لا مفْرَدَ له كرهْط وقَوم ، وهو قد يُطلَق على مجموعة مِن الخَلْق متماثِلة ، كما يقال : عالَم الجماد ، عالَم النبات ، عالَم الحيوان وقد يُطلَق على مجموعة يؤلِّف بين أجزائها اجتماعُها في زمانٍ أو مكان ، فيقال : عالَم الصِبا ، عالَم الذرّ ، عالَم الدنيا، عالَم الآخرة وقد يُطلَق ويراد به الخَلْق كلّه على اختلاف حقائق وحداته ، ويُجمَع بالواو والنون ، فيقال : عالَمون ، ويُجْمَع على فواعل ، فيقال : عوالِم ، ولم يوجد في لُغة العرب ما هو على زِنة فاعل ، ويُجمَع بالواو والنون غير هذه الكلمة .

المِلك :

الإحاطة والسُلطة ، وهذه قد تكون خارجية حقيقية ، كما في إحاطته تعالى بالموجودات ، فإنّ كلّ موجود إنّما يتقوّم في ذاته بخالِقه ومُوجِده ، وليس له

٤٤٩

واقع مستقلّ سوى التدَلّي والارتباط بعِلَّته الموجِدة ، والمُمكن فقير محتاج إلى المؤثّر في حدوثه وفي بقائه ، فهو لا ينفَكّ عن الحاجة أبداً :

( وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ ) ٤٧ : ٣٨ .

وقد تكون اعتبارية ، كما في مِلكيّة الناس للأشياء ، فإنّ مِلكيّة زيدٍ لِما بيَده مثلاً ليست إلاّ اعتبار كَونه مالِكاً لذلك الشيء ، وإنّ زِمام أمْرِه بيَده ، وذلك عند حدوث سببٍ يقتضيه مِن عقْدٍ أو إيقاعٍ أو حيازةٍ أو إرثٍ أو غير ذلك ، حسَب ما توجِبُه المصلحة في نظَر الشارع أو العقلاء .

والمِلكيّة عند الفلاسفة هيئة حاصلة مِن إحاطة شيءٍ بشيء ، وهي أحد الأعراض التِسعة ، ويُعبَّر عنها بمقولة الجِدَة ، كالهيئة الحاصلة مِن إحاطة العمامة بالرأس أو الخاتَم بالإصبع .

الدِين :

بمعنى الجَزاء والحِساب ، وكِلاهما مناسِب للمقام ، فإنّ الحساب مقدّمة للجزاء ، ويوم الحساب هو يوم الجزاء بعَينه .

التفسير

بيَّن سبحانه أنّ طبيعة الحَمْد وجِنْسه تختصّ به تعالى ، وذلك لأمور :

الأمْر الأوّل :

إنّ حُسن الفِعل وكماله ينشأ مِن حُسن الفاعل وكماله ، والله سبحانه هو الكامل المطلَق ، الذي لا نقْصَ فيه مِن جهةٍ أبداً ، ففِعله هو الفِعل الكامل الذي لا نقْصَ فيه أبداً :

( قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ ) ١٧ : ٨٤ .

٤٥٠

وأمّا غيره فلا يخلو عن نقيصة ذاتية ، بل نقائص ، فأفعاله لا محالة تكون كذلك والفِعل الحَسَن المَحْض يختصّ به سبحانـه ، ويمتنع صدوره مِن سواه ، فهو المختصّ بالحَمْد ، ويمتنع أنْ يستحقّه أحدٌ سواه وقد أُشير إلى هذا بقوله : ( الحمد لله ) ، فقد عرفتَ أنّ كلمة ( الله ) عَلَمٌ للذات المقدّسة المستجمعة لجميع صفات الكمال .

وقد ورَد عن الصادق ( عليه السلام ) أنّه قال : ( فُقِد لأبي بَغْلة ، فقال : لئِن ردّها الله عليَّ لأحمدنَّه بمحامِدٍ يرضاها ، فما لَبِث أنْ جيءَ بها بسرْجِها ولجامها ، ولمّا استوى وضمَّ إليه ثيابه رفَع رأسه إلى السماء ، فقال : الحمدُ لله ، ولمْ يزِد ، ثمّ قال : ما تركتُ ولا أبقيتُ شيئاً ، جعلتُ جميع أنواع المحامد لله عزّ وجلّ ، فما مِن حمْدٍ إلاّ وهو داخل فيما قلتُ )(١) وعنه ( سلام الله عليه ) : ( ما أنْعَم الله على عبْدٍ بنعمةٍ صَغُرَت أو كَبُرَت ، فقال : الحمدُ لله ، إلاّ أدّى شُكرها )(٢) .

الأمر الثاني :

إنّ الكمال الأوّل لكلِّ مُمكن مِن العقول والنفوس والأرواح والأشباح إنّما هو وجوده ، ولا رَيب في أنّه فِعل الله سبحانه ، وهو مُبدِعُه وموجِدُه .

وأمّا الكمال الثاني : وهى الأمور التي توجِب الفضْل والمَيز :

فما كان منه خارجاً عن اختيار المخلوق ، فهو أيضاً مِن أفعال الله تعالى بلا رَيب وذلك كما في نُموّ النبات وإدراك الحيوان منافعه ومضارّه ، وقُدرة الإنسان على بيان مقاصده .

وما كان منه صادراً عن المخلوقين باختيارهم ، فهي وإنْ كانت اختيارية إلاّ أنّها مُنتهية إلى الله سبحانه ، فإنّه الموَفِّق للصواب ، والهادي إلى الرشاد وقد ورَد : ( إنّ الله أَولى بحسنات العبْد منه )(٣) وقد أُشير إلى ذلك بجملة ( ربِّ العالَمين ) .

الأمر الثالث :

إنّ الفِعل الحَسَن الصادر مِن الله تعالى لا يرجع نفْعُه إليه ؛ لأنّه الكامل المُطلَق

_______________________

(١) تفسير البرهان ج ١ ص ٢٩ وقريب منه في أصول الكافي باب الشُكر ص ٣٥٦ .

(٢) أصول الكافي باب الشُكر ص ٣٥٦ .

(٣) الوافي باب الخير والقدر ج ١ ص ١١٩

٤٥١

الذي يستحيل عليه الاستكمال وفِعله إنّما هو إحسان مَحْض ، يرجع نفعُه إلى المخلوقين .

وأمّا الفِعل الحَسَن الصادر مِن غيره ، فهو وإنْ كان إحساناً إلى أحدٍ في بعض الأحيان ، إلاّ أنّه إحسانٌ إلى نفْسه أوّلاً وبالذات ، وبه يُدرَك كمالُه :

( إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ ) ١٧ : ٧ .

فالإحسان المَحْض إنّما هو فِعلُ الله تعالى لا غير ، فهو المستحقّ للحَمْد دون غيره ، وإلى ذلك أُشير بجملة : ( الرحمن الرحيم ) .

ثمّ إنّ الثناء على الفِعل الجميل ، قد يكون ناشئاً عن إدراك الحامِد حُسْنَ ذات الفاعل وصفاته مِن دون نظَر إلى إنعامه ، أو الرغبة فيه ، أو الرهبة منه وقد يكون ناشئاً عن النظَر إلى أحد هذه الأمور الثلاثة ، فقد أُشير إلى المنشأ الأوّل بجملة : ( الحمد لله ) ، فالحامد يحمده تعالى بما أنّه مستحقّ للحَمْد في ذاته وبما أنّه مستجمعٌ لجميع صفات الكمال ، منزَّهٌ عن جميع جهات النقْص .

وأُشير إلى المنشأ الثاني بجملة : (ربِّ العالَمين) ، فإنّه المُنعِم على عباده بالخلْق والإيجاد ، ثمّ بالتربية والتكميل .

وأُشير إلى المنشأ الثالث بجملة : ( الرحمن الرحيم ) ، فإنّ صِفة الرحمة تستدعي الرغبة في نعمائه تعالى ، وطلَب الخير منه .

وأُشير إلى المنشأ الرابع بقوله : ( مالِك يوم الدِين ) ، فإنّ مَن تنتهي إليه الأمور ، ويكون إليه المُنقلَب جديرٌ بأنْ تُرهَب سطْوته ، وتُحذَر مخالفته .

وقد يكون الوَجه هو بيان أنّ يوم الدِين هو يوم ظهور العَدْل والفضْل الإلهيّين ، وكِلاهما جميل لا بدّ مِن حَمْده تعالى لأجْله ، فكما أنّ أفعالَه في الدنيا مِن الخَلْق والتربية والإحسان ، كلّها أفعال جميلة يستحقّ عليها الحَمْد ، فكذلك أفعاله في الآخرة مِن العفْوِ والغفران وإثابة المُطيعين وعقاب العاصين ، كلّها أفعال جميلة يستوجِب الحَمْد بها .

وممّا بيَّنّاه يتّضح أنّ جملة : ( الرحمن الرحيم ) ليس تكراراً أُتيَ به للتأكيد - كما زعمه بعض المفسّرين - بل هي لبيان منشأ اختصاص الحَمْد به تعالى ، فلا يُغني عنه ذكرها أوّلاً في مقام التيمُّن والتبرّك ، وهو ظاهر .

٤٥٢

(٣)

تحليل آية

إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (٥) .

***

اللُغة

العبادة :

في اللُغة تأتي لأحد معانٍ ثلاثة :

الأوّل : الطاعة ، ومنه قوله تعالى :

( أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ) ٣٦ : ٦٠ .

فإنّ عبادة الشيطان المنهيّ عنها في الآية المبارَكة إطاعته .

الثاني : الخضوع والتذلّل ، ومنه قوله تعالى :

( فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ ) ٢٣ : ٤٧

٤٥٣

أي خاضعون متذلّلون ، ومنه أيضاً إطلاق ( المُعَبَّد ) على الطريق الذي يَكثُر المرور عليه .

الثالث : التألّه ، ومنه قوله تعالى :

( قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ ) ١٣ : ٣٦ .

وإلى المعنى الأخير ينصرف هذا اللفظ في العُرف العامّ ، إذا أُطلق دون قرينة .

والعَبْد : الإنسان وإنْ كان حُرّاً ؛ لأنّه مربوبٌ لبارئه ، وخاضعٌ له في وجوده وجميع شؤونه ، وإنْ تمرَّد عن أَوامره ونواهيه .

والعَبْد : الرقيق ؛ لأنّه مملوك وسلطانه بيَد مالِكه ، وقد يتوسَّع في لفْظ العَبْد ، فيُطلَق على مَن يكثُر اهتمامه بشيءٍ حتّى لا ينظر إلاّ إليه ، ومنه قول أبي عبد الله الحسين ( عليه السلام ) : ( الناس عبيد الدنيا ، والدِين لَعِقٌ على ألسنتهم يحوطونه ما درَّت معايشُهم ، وإذا مُحّصوا بالبلاء قَلَّ الديّانون )(١)

وقد يُطلق العَبْد على المُطيع الخاضع ، كما في قوله تعالى :

( أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ ) ٢٦ : ٢٢ .

أي جعلتهم خاضعين لا يتجاوزون عن أمْرِك ونهيِك .

الاستعانة :

طلَب المعونة ، تتعدّى بنفسها وبالباء ، يقال استعنْتُه واستعنَتُ به ، أي طلبتُ منه أنْ يكون عَوناً وظهيراً لي في أمْري .

_______________________

(١) البحار باب ما جرى عليه بعد بيعة الناس ليزيد بن معاوية ج ١٠ ص ١٨٩

٤٥٤

الإعراب

( إيّاك ) : في كِلا المَوردَين مفعول قُدِّم على الفِعل لإفادة الحَصْر ، وفي الآية التفات مِن الغَيبة إلى الخِطاب والسِرّ في ذلك أحد أمْرَين :

الأوّل : إنّ سابق هذه الآية الكريمة قد دلّ على أنّ الله سبحانه هو المالِك لجميع الموجودات ، والمُربّي لها والقائم بشؤونها ، وهذا يقتضي أنْ تكون الأشياء كلّها حاضرة لدَيه تعالى ، وأن يكون - سبحانه - محيطاً بالعِباد وبأعمالهم ؛ ليُجازيهم يوم الدِين بالطاعة أو بالمعصية ، واقتضى ذلك أنْ يُظهِر العَبْد حضوره بين يدَي ربِّه ويُخاطبه .

الثاني : إنّ حقيقة العبادة خضوعُ العَبْد لربِّه بما أنّه ربُّه والقائمُ بأمْره ، والربوبيّة تقتضي حضور الربّ لتربية مَربوبه ، وتدبير شؤونه وكذلك الحال في الاستعانة ، فإنّ حاجة الإنسان إلى إعانة ربِّه وعدم استقلاله عنه في عبادته ، تقتضي حضور المعبود لتتحقّق منه الإعانة .

فلهذَين الأمرَين عَدَل السِياق مِن الغَيبة إلى الخطاب ، فالعَبْد حاضر بين يدّي ربِّه غير غائبٍ عنه .

التفسير

بعد أنْ مجَّد الله نفْسه بالآيات المتقدِّمة ، لقَّن عباده أنْ يتْلوا هذه الآية الكريمة ، وأنْ يعترفوا بمدلولها وبمغزاها ، فهُم لا يعبدون إلاّ الله ، ولا يستعينون إلاّ به ، فإنّ ما سوى الله مِن الموجودات فقيرٌ في ذاته ، عاجزٌ في نفْسه ، بل هو لا شيء بحت ، إلاّ أنْ تشمِلُه العناية الإلهية ، ومَن هذا شأنه لا يستحقّ أنْ يُعبَد أو يُستعان ، والمُمكنات كلّها - وإنْ اختلفتْ مراتِبُها بالكمال والنقْص - تشترك في صِفةِ العجْز اللازمة للإمكان ، وفي أنّ جميعها تحت حُكم الله وإرادته :

٤٥٥

( أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ٧ : ٥٤. وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ ٢٤ : ٤٢) .

مَن ذا الذي يعارِضُه في سُلطانه وينازعه في أمْرِه وحُكمِه ؟ وهو القابض والباسط ، يفعل ما يشاء ويُحكم ما يريد ، فالمؤمن لا يعبُد غير الله ، ولا يستعين إلاّ به ، فإنّ غير الله - أيّاً كان - محتاج إلى الله في جميع شؤونه وأطواره ، والمعبود لا بدّ وأنْ يكون غنيّاً ، وكيف يَعبُد الفقير فقيراً مِثْلَه ؟ ! .

وعلى الجُملة : الإيمان بالله يقتضي أنْ لا يَعبُد الإنسان أحداً سواه ، ولا يسأل حاجتَه إلاّ منه ، ولا يتَّكِل إلاّ عليه ، ولا يستعين إلاّ به ، وإلاّ فقدْ أشرَك بالله ، وحَكَّم في سلطانه غيرَه :

( وَقَضَى رَبُّكَ أَلاّ تَعْبُدُوا إِلاّ إِيَّاهُ ) ١٧ : ٢٣ .

٤٥٦

البحث الثاني

حَول آية الحَمْد

٤٥٧

العبادة والتألـُّه العبادة والطاعة العبادة والخضوع السجود لغير الله دَواعي العبادة حَصْر الاستعانة بالله الشفاعة

٤٥٨

العبادة والتألُّه :

ممّا لا يرتاب فيه مسلم : أنّ العبادة بمعنى التألّه تختصّ بالله سبحانه وَحْده ، وقد قُلنا : إنّ هذا المعنى هو الذي ينصرف إليه لفظ العبادة عند الإطلاق ، وهذا هو التوحيد الذي أُرسِلت به الرُسُل ، وأُنزلت لأجْله الكُتُب :

( قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاّ نَعْبُدَ إِلاّ اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ ) ٣ : ٦٤ .

فالإيمان بالله تعالى لا يجتمع مع عبادة غيره ، سواء أَنَشأتْ هذه العبادة عن اعتقاد التعدّد في الخالِق ، وإنكار التوحيد في الذات ، أمْ نشأتْ عن الاعتقاد بأنّ الخَلْق معزولون عن الله ، فلا يصِل إليه دعاؤهم ، وهم محتاجون إلى إلهٍ أو آلهةٍ أخرى ، تكون وسائط بينهم وبين الله يقرِّبونهم إليه ، وشأنه في ذلك شأن المُلوك وحفَدَتِهم ، فإنّ المَلِك لمّا كان بعيداً عن الرعيّة ، احتاجتْ إلى وسائط يقضون حوائجهم ، ويُجيبون دَعَواتهم .

وقد أبطل الله سبحانه كِلا الاعتقادَين في كتابه العزيز ، فقال تعالى في إبطال الاعتقاد بتعدّد الآلهة :

٤٥٩

( لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا ٢١ : ٢٢. وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ ٢٣ : ٩١) .

وأمّا الاعتقاد الثاني - وهو إنّما ينشأ عن مقايَسَته بالمُلوك والزعماء مِن البَشَر - فقد أبطَله الله بوجوهٍ مِن البيان :

فتارة يطلُب البرهان على هذه الدعوى ، وأنّها ممّا لم يدلّ عليه دليل ، فقال :

( ءَإلهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ٢٧ : ٦٤. قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَاماً فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ ٢٦ : ٧١. قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ ٢٦ : ٧٢. أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ ٢٦ : ٧٣. قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ ٢٦ : ٧٤) .

وأخرى بإرشادهم إلى ما يُدركونه بحواسِّهم مِن أنّ ما يعبُدونه لا يَملك لهم ضرّاً ولا نفْعاً ، والذي لا يَملِك شيئاً مِن النفْع والضرّ ، والقبْض والبَسْط ، والإماتة والإحياء ، لا يكون إلاّ مخلوقاً ضعيفاً ، ولا ينبغي أنْ يُتَّخذ إلهاً معبوداً :

( قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَلا يَضُرُّكُمْ ٢١ : ٦٦. أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ ٢١ : ٦٧. أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً ٥ : ٧٦. أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ ٧ : ١٤٨) .

٤٦٠