البيان في تفسير القرآن

البيان في تفسير القرآن0%

البيان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 526

البيان في تفسير القرآن

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: السيد أبو القاسم الموسوي الخوئي
تصنيف: الصفحات: 526
المشاهدات: 32232
تحميل: 6148

توضيحات:

بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 526 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 32232 / تحميل: 6148
الحجم الحجم الحجم
البيان في تفسير القرآن

البيان في تفسير القرآن

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

٢ - الروايات المتقدّمة في أنّ سورة المائدة نزلتْ جملةً واحدةً ، وأنّها كانت آخِر ما نزل ، وليس فيها منسوخ .

٣ - إنّ النسْخ لا يتمّ مِن غير أنْ يدلّ عليه دليل ، والوجوه التي تمسّك بها القائلون بالنسْخ لا تصلُح لذلك .

فمِن هذه الوجوه : أنّ الله سبحانه اعتبَر في الشاهد أنْ يكون عَدْلاً مرضيّاً ، فقال تعالى :

( مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ ٢ : ٢٨٢. وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ ٦٥ : ٢) .

والكافر لا يكون عدْلاً ولا مرضيّاً ، فلا بدّ وأنْ يكون الحُكم بجواز شهادته منسوخاً .

والجواب :

أوّلاً : إنّ الآية الأُولى وَرَدت في الشهادة على الدِين ، والآية الثانية وردَت في الشهادة على الطلاق ، فلا يكون لهما دلالة على اعتبار العدالة في شهود الوصيّة .

ثانياً : إنّ هاتين الآيتَين لو سُلِّم أنّهما مُطْلقتان كانت الآية المتقدّمة مقيِّدة لهما ، والمُطلَق لا يكون ناسِخاً لدليل المقيّد ، ولا سيّما إذا تأخّر المقيّد عنه في الزمان ، كما في المقام .

ومِن هذه الوجوه : أنّ الإجماع قد انعقد على عدم قبول شهادة الفاسق ، والكافر فاسقٌ فلا تُقبَل شهادتُه .

والجواب :

إنّه لا معنى لدعوى الإجماع هنا بعد ذهاب أكثر العلماء إلى الجواز ، وقد عرفت ذلك آنفاً ، ولا ملازمة عقلاً بين رَدّ شهادة المسلم الفاسق ، ورَدّ

٣٤١

شهادة الكافر إذا كان عادلاً في دِينه .

ومِن هذه الوجوه : أنّ شهادة الكافر لا تجوز على المسلمين في غير الوصيّة ، وقد اختلف في قبولها في الوصيّة ، فيُرَدّ ما اختُلِف فيه إلى ما أُُجْمِع عليه .

والجواب :

إنّ هذا الوجه في منتهى الغرابة ، بعد أنْ عرفتَ قيام الدليل على قبول الشهادة في باب الوصيّة بلا معارِض ، ولَيتَ هذا المستدلّ عكَسَ الأمر ، وقال : إنّ شهادة الكافر على الوصيّة كانت مقبولة في زمان النبيّ ( ص ) بالإجماع ، وقد اختُلِف فيه بعد زمان النبيّ ( ص ) ، فيُرَدُّ ما اختُلِف فيه إلى ما أُجْمِع عليه .

وجُملة القول : لا سَنَد لدعوى النسْخ في الآية غير تقليد جماعة مِن الفقهاء المتأخّرين وكيف يصحّ أنْ تُرفَع اليد عن حُكمٍ وَرَد في القرآن لفتوى أحَدٍ مِن الناس على خلافه ؟ ومِن الغريب قول الحسن والزهري : إنّ المراد بقوله تعالى :

( أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ ) ٥ : ١٠٦ .

آخَران مِن غير عشيرتكم ، فلا دلالة في الآية على قبول شهادة الكفّار(١) .

ويردُّه - مضافاً إلى الروايات التي وَردَت في تفسير الآية - : أنّه مخالِفٌ لظاهر القرآن أيضاً ؛ لأنّ الخِطاب في الآية للمؤمنين ، فلا بدّ وأنْ يُراد مِن قوله تعالى : ( غيركم ) غير المؤمنين ، وهم الكفّار

نعَم : إطلاق الآية الكريمة يدلّ على قبول شهادة الكافر في الوصيّة ، وإنْ لم يكن الكافر مِن الكِتابيّين ، سواء أأمكنَتْ إقامة الشهود مِن المؤمنين أم لم تمكِن ، ولكنّ الروايات المستفيضة قيّدت ذلك بشهادة الكتابيّ ، وبما إذا لم يمْكِنْ تحصيل الشهود مِن المؤمنين ، وهذا مِن جملة موارد تقييد إطلاق الكتاب والسُنّة .

_______________________

(١) الناسخ والمنسوخ للنحّاس ص ١٣٤

٣٤٢

١٩ -( وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ ) ٦ : ١٤١ .

فقد ذهب أكثر علماء أهل السُنّة إلى أنّ الآية منسوخة ، ولهم في بيان نسْخها وجوه :

١ - إنّها واردة في الزكاة ، وإنّ وجوبَها قد نُسِخ في غير الحنطة ، والشعير ، والتمر ، والزبيب ، على ما هو الأشهر ، بل ولا قائل مِن الصحابة والتابعين بوجوبه في كلّ ما أنبتَتْ الأرض ، نعَم ذهب أبو حنيفة وزفر إلى وجوبها في غير الحَطَب والحشيش ، والقصب(١) .

٢ - إنّ حُكم الآية قد نُسِخ بالسُنّة : العُشْر ونِصف العُشْر ، وذهب إلى ذلك السدي ، وأنس بن مالك ، ونُسِب ذلك إلى ابن عبّاس ، ومحمّد بن الحنفيّة(٢) .

٣ - إنّ مَورِد الآية غير الزكاة ، وقد نُسِخ وجوب إعطاء شيءٍ مِن المال بوجوب الزكاة ، ذهب إلى ذلك عكرمة ، والضحاك ، ونُسِب ذلك إلى سعيد بن جبير أيضاً(٣) .

_______________________

(١) أحكام القرآن للجصاص ج ٣ ص ٩ .

(٢) الناسخ والمنسوخ للنحّاس ص ١٤٠ .

(٣) نفس المصدر

٣٤٣

والحقّ : بطلان القول بالنسْخ في مدلول الآية الكريمة ، والدليل على ذلك وجوه :

الأوّل : الروايات المستفيضة عن أهل البيت ( ع ) الدالّة على : أنّ الحقّ المذكور في الآية هو غير الزكاة ، وهو باقٍ ولم يُنسَخ :

منها ما رَواه الشيخ الكُلَيني بإسناده عن معاوية بن الحجّاج ، قال : ( سمعت أبا عبد الله ( عليه السلام ) يقول : في الزرع حقّان : حقٌّ تؤخَذ به ، وحقٌّ تُعطيه ، قلت : وما الذي أُؤخذ به ، وما الذي أعطيه ؟ قال : أمّا الذي تؤخَذ به فالعُشر ونِصف العُشر ، وأمّا الذي تُعطيه فقَول الله عزّ وجلّ :( وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ ) )(١) ، وقد روى ابن مردويه بإسناده عن أبي سعيد الخدري عن النبيّ ( صلّى الله عليه وآله ) في قول الله تعالى : (وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ ، قال : ما سَقط مِن السُنبُل )(٢) .

الثاني : إنّ سورة الأنعام نزلت بمكّة جملةً واحدةً ، وقد صرّحت بذلك روايات كثيرة ، منها : ما رواه الشيخ الكُليني ، بإسناده عن الحسن بن عليّ بن أبي حمزة ، قال :

( قال أبو عبد الله ( عليه السلام ) : إنّ سورة الأنعام نزلتْ جُملةً ، شيَّعها سبعون ألف ملَك ، حتّى نزلتْ على محمّد ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) فعَظّموها وبَجّلوها ، فإنّ اسم الله عزّ وجلّ فيها في سبعين موضعاً ، ولو يعلَم الناس ما في قراءتها ما تركوها )(٣) .

ومنها : ما رُويَ عن ابن عبّاس قال :

_______________________

(١) تفسير البرهان ج ١ ص ٣٣٨ .

(٢) تفسير ابن كثير ج ٢ ص ١٨٢ .

(٣) تفسير البرهان ج ١ ص ٣١٣

٣٤٤

( نزلتْ سورة الأنعام بمكّة ليلاً جُملةً واحدةً ، حَولها سبعون ألف ملَك يجأرون حَولها بالتسبيح )(١) .

وممّا لا رَيب فيه أنّ وجوب الزكاة إنّما نزَل في المدينة ، فكيف يُمكن أنْ يُقال : إنّ الآية المذكورة نزلت في الزكاة ! وحكى الزجاج أنّ هذه الآية قيل فيها : إنّها نزلت بالمدينة(٢) ، وهذا القول مخالِف للروايات المستفيضة المتقدّمة ، وهو مع ذلك قولٌ بغير عِلم .

الثالث : إنّ الإيتاء الذي أمَرتْ به الآية الكريمة قد قُيِّد بيوم الحصاد ، فلا بدّ أنْ يكون هذا الحقّ غير الزكاة ؛ لأنّها تؤدّى بعد التنقية والكَيْل ، وممّا يشهد على أنّ هذا الحقّ غير الزكاة ، أنّه قد وَرَد في عِدّة مِن الروايات المأثورة عن أهل البيت ( ع ) النهي عن حصاد الليل ، معلَّلاً في بعضها أنّه يُحرَم منه القانع والمعترّ(٣) .

وروى جعفر بن محمّد بن إبراهيم ، بإسناده عن جعفر بن محمّد عن أبيه عن جدِّه :

( أنّ رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) نهى عن الجَداد بالليل ، والحصاد بالليل ، قال جعفر : أراه مِن أجْل المساكين )(٤) .

وأمّا ما قيل في توجيه ذلك : إنّ يوم الحصاد يُمكن أنْ يكون ظرفاً لتعلّق الحقّ بالمال لا للإيتاء ، فيُبطلُه :

١ - إنّه خلاف الظاهر الذي يفهمه العُرف مِن الآية ، بل كاد يكون خلاف صريحها ، فإنّ الظرف إنّما يتعلّق بما تدلّ عليه مادّة الفِعل ، ولا يتعلّق بما تدلّ

_______________________

(١) رواه أبو عبيد ، وابن المنذر ، والطبراني ، وابن مردويه ، تفسير الشوكاني ج ٢ ص ٩١ .

(٢) تفسير القرطبي ج ٧ ص ٩٩ .

(٣) تفسير البرهان ج ١ ص ٣٣٨ .

(٤) سُنن البيهقي ج ٤ ص ١٣٣ .

٣٤٥

عليه هيئته ، فإذا قيل أكرم زيداً يوم الجُمُعة كان معناه : أنّ يوم الجُمُعة ظرفٌ لتحقّق الإكرام ، لا أنّه ظرفٌ لوجوبه .

٢ - أنّ الزكاة لا تجب يوم الحصاد ، بل يتعلّق الحقّ بالمال إذا انعقد الحَبّ ، وصدَقَ عليه اسم الحنطة والشعير ، وعلى ذلك ، فذِكر يوم الحصاد في الآية قرينة قطعيّة على أنّ هذا الحقّ هو غير الزكاة ، وممّا يؤيِّد أنّ هذا الحقّ هو غير الزكاة : أنّه تعالى نهى في هذه الآية عن الإسراف ، وذلك لا يُناسب الزكاة المقدَّرة بالعُشر ونِصف العُشر ، وإذا اتّضح أنّ الحقّ الذي أمَرت الآية الكريمة بإيتائه هو غير الزكاة الواجبة ، لم تكن الزكاة ناسِخة له .

وجُملة القول : أنّ دعوى النسْخ في الآية المبارَكة تتوقّف على إثبات وجوب حقٍّ آخَر في الزروع ، حتّى يُنسَخ بوجوب الزكاة ، ولا يستطيع القائل بالنسْخ إثبات ذلك ؛ لأنّ ظهور الأمر في الوجوب ، وظهوره في الدوام والاستمرار لا يمكن الاحتفاظ بهما جميعاً في الآية ؛ وذلك للعِلم بأنّه لا يجب حقٌّ آخَر بعد الزكاة ، فلا بدّ - إذن - مِن التصرّف في أحد الظهورَين :

إمّا برفْع اليد عن الظهور في الوجوب ، وإبقائه على الدوام والاستمرار ، فيُلتزَم - حينئذٍ - بثبوت حقٍّ آخَر استحبابيّ باقٍ إلى الأبد وإمّا برفْع اليد عن الدوام والاستمرار ، وإبقائه على الظهور في الوجوب ، فيُلتزَم بالنسْخ ، ولا مرجِّح للثاني على الأوّل ، بل الترجيح للأوّل ، والدليل على ذلك أمْران :

١ - الروايات المستفيضة عن الأئمّة المعصومين ( ع ) ببقاء هذا الحقّ واستحبابه ، ( وقد أشرنا إلى هذه الروايات آنفاً )

٢ - إنّ هذا الحقّ لو كان واجباً ؛ لشاعَ بين الصحابة والتابعين ، ولم ينحصرْ القول به بعكرمة ، والضحاك ، أو بواحدٍ واثنين غيرهما .

وحاصل ما تقدّم : أنّ الحريّ بالقبول : هو القول بثبوت حقٍّ آخَر نَدْبيٍّ في الثمار والزروع ، وهذا هو مذهب الشيعة الإمامية ، وعليه فلا نسْخ لمدلول الآية الكريمة

٣٤٦

٢٠ -( قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَن اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) ٦ : ١٤٥ .

قال جماعة : إنّ الآية منسوخة بتحريم النبيّ ( ص ) بعد ذلك لبعض الأشياء غير المذكورة في الآية

والحقّ : عدم النسْخ ؛ لأنّ مفاد الآية هو الإخبار عن عدم وجدان محرّم غير ما ذُكر فيها ، وهو دليل على عدم الوجود حين نزولها وعليه فلا معنى لدعوى النسْخ فيها ، فإنّ النسْخ لا يقع في الجملة الخبَرية ، وإذن : فلا بدّ مِن الالتزام بأنّ الحَصْر في الآية إضافيّ ، فإنّ المشركين حرّموا على أنفسهم أشياءً ، وهي ليست محرّمة في الشريعة الإلهية ، وهذا يظهر مِن سياق الآيات التي قبل هذه الآية .

أو الالتزام بأنّ الحَصْر حقيقيّ ، وأنّ المحرّمات حين نزول هذه الآية كانت محصورة بما ذُكر فيها ، فإنّ هذه الآية مكّية وقد حرّمت بعد نزولها أشياءً أخرى ، وكانت الأحكام تنزل على التدريج .

ومِن الظاهر أنّ تحريم شيء بعد شيء لا يكون مِن النسْخ في شيء ، وكَون الحَصْر حقيقيّاً أظهر الاحتمالَين وأقربهما إلى الفَهْم العُرفي ، ومع ذلك فلا نسْخ في مدلول الآية - ولو كان الحصْر إضافياً - كما عرفت .

٢١ -( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا

٣٤٧

 زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ ٨ : ١٥. وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاّ مُتَحَرِّفاً لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ٨ : ١٦) .

فقد ذهب بعضهم إلى أنّ هذا الحُكم منسوخ بقوله تعالى :

( الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ ) ٨ : ٦٦ .

فإنّ المسلمين إذا قلَّ عددهم عن نِصف عدد الكفّار جاز لهم تَرْك القتال ، والفِرار مِن الزحف ومِن القائلين بهذا القول : عطاء بن أبي رياح(١) .

والجواب عن ذلك :

إنّ تقييد إطلاق هذه الآية بآيةِ التخفيف المذكورة مؤكِّد لبقاء حُكمها ، ومعنى ذلك : أنّ الفِرار مِن الزحف محرّمٌ في الشريعة الإسلامية ، إذا لم يكن عدد المسلمين أقَلّ مِن نِصف عدد الكفّار ، وأمّا إذا كان المسلمون أقلّ عدداً مِن ذلك فلا يَحرُم عليهم الفِرار ، وهذا ليس مِن النسْخ في شيء .

ورُويَ عن عمرو بن عمر ، وأبي هريرة ، وأبي سعيد ، وأبي نضرة ، ونافع مولى ابن عمَر ، والحسن البصريّ ، وعكرمة ، وقتادة ، وزيد بن أبي حبيب ، والضحاك : أنّ الحُكم مخصوص بأهل بَدْر ، ولا يَحرُم الفِرار مِن الزحف على

_______________________

(١) الناسخ والمنسوخ للنحّاس ص ١٥٤ ، وتفسير الطبري ج ٩ ص ١٣٥

٣٤٨

غيرهم وبه قال أبو حنيفة(١) .

وهذا القول أيضاً باطل :

فإنّ مَورد الآية وإنْ كان يوم بَدْر ، إلاّ أنّ ذلك لا يوجِب اختصاص الحُكم به ، بعد أنْ كان اللفظ عامّاً ، وكان الخِطاب شاملاً لجميع المسلمين ، ولا سيّما إذا كان نزول الآية المبارَكة بعد انقضاء الحرب مِن يوم بَدْر(٢)

وذهب ابن عبّاس(٣) وجميع الشيعة الإمامية ، وكثير مِن علماء أهل السُنّة إلى أنّ الآية مُحكَمة ، وحُكمُها مُستمرّ إلى يوم القيامة ، وهذا هو القول الصحيح ، وقد عرفت الدليل عليه ، والروايات في ذلك متظافرة مِن الطريقَين

روى الكُلَيني بإسناده عن محمّد عن أبي عبد الله ( عليه السلام ) قال :

( سمعتُه يقول الكبائر سَبْع : قَتْل المؤمن متعمّداً ، وقَذْف المُحصَنة ، والفِرار مِن الزحف ، والتعرُّب بعد الهجرة ، وأكْل مال اليتيم ظلماً ، وأكْل الرِبا بعد البيِّنة ، وكلّ ما أوجَب الله عليه النار )(٤) .

وروى أبو هريرة قال : قال رسول الله [صلّى الله عليه وآله] :

( واجتنبوا السَبْع الموبِقات ، قالوا : يا رسول الله وما هُنّ ؟ قال ( صلّى الله عليه [وآله] وسلّم ) : الشِرك بالله ، والسِحر ، وقتْل النفس التي حرّم الله إلاّ بالحقّ ، وأكْل الرِبا ، وأكْل

_______________________

(١) تفسير الشوكاني ج ٢ ص ٢٨٠ .

(٢) نفس المصدر .

(٣) الناسخ والمنسوخ للنحّاس ص ١٥٤ ، وتفسير الطبري ج ٩ ص ١٣٥ .

(٤) الوافي ج ٣ باب تفسير الكبائر ص ١٧٤

٣٤٩

مال اليتيم ، والتوَلّي يوم الزحْف ، وقَذْف المُحصَنات المؤمنات الغافلات ) (١) .

٢٢-( وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا ) ٨ : ٦١ .

فذهب ابن عبّاس ، ومجاهد ، وزيد بن أسلم ، وعطاء ، وعكرمة ، والحسن ، وقتادة : إلى أنّها منسوخة بآية السيف(٢) .

والحقّ : أنّها مُحكَمة غير منسوخة ، والدليل على ذلك .

أوّلاً : إنّ آية السيف خاصّة بالمشركين دون غيرهم ، ( وقد تقدّم بيان ذلك ) ، ومِن هنا صالَحَ النبيُّ ( صلّى الله عليه وآله ) نصارى نجْران في السنة العاشرة مِن الهجرة(٣) ، مع أنّ سورة براءة نزلَتْ في السنة التاسعة ، وعليه فتكون آية السيف مخصِّصة لعموم الحُكم في الآية الكريمة ، وليست ناسِخة لها .

وثانياً : إنّ وجوب قتال المشركين ، وعدم مسالَمَتِهم مقيّد بما إذا كان للمسلمين قوّة واستعداد للمقاتلة ، وأمّا إذا لم تكن لهم قوّة تُمَكّنهم مِن الاستظهار على عدوِّهم ، فلا مانع مِن المسالَمة ، كما فعَل النبيّ ( صلّى الله عليه وآله ) ذلك مع قريش يوم الحُدَيبية ، وقد دلّ على التقييد قوله تعالى :

( فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ ) ٤٧ : ٣٥ .

_______________________

(١) صحيح البخاري باب قول الله تعالى :( إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ) ج ٣ ص ١٩٥ ، وصحيح مسلم باب بيان الكبائر ج ١ ص ٦٤ ، وسُنن أبي داود باب التشديد في أكْل مال اليتيم ج ٢ ص ٩٣ ، وسُنن النسائي باب اجتناب أكْل مال اليتيم ج ٢ ص ١٣١ ، إلاّ أنّه ذَكر الشُحّ بدَل السِحر .

(٢) تفسير ابن كثير ج ٢ ص ٣٢٢ .

(٣) أمتاع الأسماع للمقريزي ص ٥٠٢

(البيان -٢٣)

٣٥٠

٢٣ -( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِئَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ ٨ : ٦٥. الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ ٨ : ٦٦) .

فقد ذكروا أنّ حُكم الآية الأُولى قد نُسِخ بالآية الثانية ، وأنّ الواجب في أوّل الأمْر على المسلمين أنْ يقاتلوا الكفّار ، ولو كانوا عَشرة أضعافهم ، ثمّ خفّف الله عن المسلمين ، فجعَل وجوب القتال مشروطاً : بأنْ لا يزيد الكفّار على ضِعف عدد المسلمين .

والحقّ : أنّه لا نسْخ في حُكم الآية ، فإنّ القول بالنسْخ يتوقّف على إثبات الفصْل بين الآيتين نزولاً ، وإثبات أنّ الآية الثانية نزلتْ بعد مجيء زمان العمل بالآية الأُولى ؛ وذلك لئلاّ يلزم النسْخ قبل حضور وقت الحاجة ، ومعنى ذلك : أنْ يكون التشريع الأوّل لَغْواً ، ولا يستطيع القائل بالنسْخ إثبات ذلك ، إلاّ أنْ يتمسّك بخبر الواحد ، ( وقد أوضحنا أنّ النسْخ لا يثبُت به إجماعاً )(١) ، أضِف إلى ذلك أنّ سياق الآيتين أصدَق شاهد على أنّهما نزَلتا مرّةً واحدةً

ونتيجةُ ذلك : أنّ حُكم مقاتلة العشرين للمئتَين استحبابيّ ، ومع ذلك كيف يُمكن دعوى النسْخ ؟ على أنّ لازم كلام القائل بالنسْخ : أنّ المجاهدين في

_______________________

(١) تقدّم ذلك في ص ٢٨٥ مِن هذا الكتاب

٣٥١

بَدء أمْر الإسلام كانوا أربطُ جأشاً ، وأشدُّ شكيمةً مِن المجاهدين بعد ظهور الإسلام ، وقوَّته وكَثرة أنصاره ، وكيف يُمكن القول بأنّ الضَعف طَرأ على المؤمنين بعد قوّتهم ؟ ! .

والظاهر أنّ مدلول الآيتين هو تحريض المؤمنين على القتال ، وأنّ الله يَعِدُهم بالنصر على أعدائهم ، ولو كانت الأعداء عَشرة أضعاف المسلمين ، إلاّ أنّه تعالى لعِلمه بضَعف قلوب غالِب المؤمنين ، وعدم تحمّلهم هذه المقاومة الشديدة ، لم يوجِب ذلك عليهم ، ورخّص لهم بتَرْك المقاومة إذا زاد العدوّ على ضِعفهم ، تخفيفاً عنهم ، ورأفةً بهم ، مع وعْدِه تعالى إيّاهم بالنصر ، إذا ثبتتْ أقدامُهم في إعلاء كلمة الإسلام .

وقد جعل وجوب المقاومة مشروطاً بأنْ لا يبْلُغ العدوّ أكثر مِن ضِعف عدد المسلمين ، فإنّ الكفّار لجهلِهم بالدِين ، وعدم ركونهم إلى الله تعالى في قتالهم لا يتحمّلون الشدائد ، وإنّ عقيدة الإيمان في الرجُل المؤمن تَحْدوه إلى الثبات أمام الأخطار ، وتدعوه إلى النهضة لإعزاز الإسلام ؛ لأنّه يعتقد بنجاحه على كلّ حال ، وربْحِه في تجارته على كلّ تقدير ، سواء أكان غالباً أم كان مغلوباً ، قال الله تعالى :

( وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً ) ٤ : ١٠٤ .

٢٤ -( إِلاّ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً ) ٩ : ٣٩ .

٣٥٢

فعن ابن عبّاس ، والحسن ، وعكرمة : أنّها منسوخة(١) بقوله تعالى :( وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً ) ٩ : ١٢٢

وهذا القول مبنيٌّ على أنّ النَفْر كان واجباً ابتداءً على جميع المسلمين ، مع أنّ الآية المبارَكة ظاهرة : في أنّ الوجوب إنّما هو على الذين يستنفرون إلى الجهاد ، فقد قال تعالى :

( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاّ قَلِيلٌ ٩ : ٣٨. إِلاّ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ٩ : ٣٩)

وحاصل الآية : أنّ مَن أُمِر بالنفير إلى الجهاد ولم يخرج استحقّ العذاب بتَرْكه الواجب ، ولا صِلة لهذا بوجوب الجهاد على جميع المسلمين .

وبهذا البيان يتّضح بطلان دعوى النسْخ(٢) في قوله تعالى :

( انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ) ٩ : ٤١ .

_______________________

(١) الناسخ والمنسوخ للنحّاس ص ١٦٩ ، ونسَبه القرطبي في تفسيره إلى الضحاك أيضاً ج ٨ ص ١٤٢ .

(٢) نسَبها القرطبي في تفسيره إلى قائل ولم يُسَمِّه ج ٨ ص ١٥٠ ، ونسَبها الطبرسي في مَجْمع البيان إلى السدي ج ٣ ص ٣٣

٣٥٣

على أنّا قد أوضحنا للقارئ - مِراراً - أنّ تخصيص العامّ ببعض أفراده ليس مِن النسْخ ، بل إنّ قوله تعالى :

( وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً ) ٩ : ١٢٢ .

بنفسه دليل على عدم النسْخ ، فإنّه دلّ على أنّ النَفْر لم يكن واجباً على جميع المسلمين مِن بداية الأمْر ، فكيف يكون ناسخاً للآية المذكورة .

٢٥ -( عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ ٩ : ٤٣. لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ ٩ : ٤٤. إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ٩ : ٤٥) .

فعن ابن عبّاس ، والحسن ، وعكرمة ، وقتادة : أنّ هذه الآيات منسوخة(١) بقوله تعالى :

( فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ ) ٢٤ : ٦٢ .

والحقّ : أنّ الآيات الثلاث لا نسْخ فيها ؛ لأنّ صريحها أنّ المنْعَ مِن الاستيذان ، وعِتاب النبيّ ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) على إذنه ، إنّما هو في مَورد عدم تميّز الصادق مِن الكاذب ،

_______________________

(١) الناسخ والمنسوخ للنحّاس ص ١٧٠

٣٥٤

وقد بيّن سبحانه وتعالى : أنّ غير المؤمنين كانوا يستأذنون النبيّ ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) في البقاء ؛ فِراراً مِن الجهاد بين يديه ، فأمَرَه بأنْ لا يأذن لأحدٍ إذا لم تبِين الحال ، أمّا إذا تبيّن الحال ، فقد أجاز الله المؤمنين أنْ يستأذنوا النبيَّ ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) في بعض شأنهم ، وأجاز للنبيّ ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) أنْ يأذَن لمَن شاء منهم ، وإذن فلا منافاة بين الآيتين لتكون إحداهما ناسِخة للأخرى .

 ٢٦ -( مَا كَانَ لأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ) ٩ : ١٢٠ .

فعن ابن زيد : أنّها منسوخة(١) بقوله تعالى :

( وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً ) ٩ : ١٢٢ .

والحقّ : أنّه لا نسْخ فيها ، فإنّ الآية الثانية قرينةٌ متّصلة بالآية الأُولى ، وحاصل المراد منهما : أنّ وجوب النَفْر إنّما هو على البعض مِن المسلمين على نحْوِ الكفاية ، فلا تكون ناسِخة ، نعم قد يجب النفير إلى الجهاد على جميع المسلمين ، إذا اقتضته ضرورةٌ وقتيّة ، أو طَلبَه الوليّ العامّ الشرعيّ ، أو لِما سوى ذلك مِن الطوارئ ، وهذا الوجوب هو غير وجوب الجهاد كِفائياً ، الذي ثبَت بأصل الشرع على المسلمين بذاته ، وكِلا الوجوبَين باقٍ ، ولم يُنسَخ

_______________________

(١) الناسخ والمنسوخ للنحّاس ص ١٨١ ، ونسَب القرطبي القول بالنسْخ فيها إلى مجاهد أيضاً ج ٨ ص ٣٩٢

٣٥٥

٢٧ -( وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ ) ١٠ : ١٠٩ .

فعن ابن زيد : أنّ هذه الآية منسوخة بالأمْر بالجهاد ، والغِلظة على الكفّار(١) .

وبطلان هذا القول يظهر ممّا قدّمناه في إبطال دعوى النسْخ في الآية الأُولى مِن الآيات ، التي نبحث عن نسْخِها ، فلا حاجة إلى الإعادة ، أضِف إلى ذلك أنّه لا دلالة على أنّ المراد مِن الصبر في هذه الآية : هو الصبر على الكفّار ، نعَم الصبر عليهم يشمِلُه إطلاق الآية ، وعليه فلا وجْه لدعوى النسْخ فيها

٢٨ -( وَإِنَّ السَّاعَةَ لآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ ) ١٥ : ٨٥ .

فعن ابن عبّاس ، وسعيد ، وقتادة : أنّها منسوخة بآية السيف(٢) ، وغيرُ خفيٍّ أنّ الصفْحَ المأمور به في الآية المبارَكة : هو الصفْح عن الأذى ، الذي كان يصل مِن المشركين إلى النبيّ ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) على تبليغه شريعة ربِّه ، ولا علاقة له بالقتال ، ويشهد لهذا قوله تعالى بُعَيد ذلك .

( فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ ١٥ : ٩٤. إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ ١٥ : ٩٥) .

وحاصل الآية : أنّ الله سبحانه يُحرّض النبيَّ ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) على المصابرة في تبليغ

_______________________

(١) الناسخ والمنسوخ للنحّاس ص ١٧٨ .

(٢) نفس المصدر ص ١٨٠

٣٥٦

أوامره ، ونشْر أحكامه ، وأنْ لا يلتفِت إلى أذى المشركين واستهزائهم ، ولا علاقة لذلك بحُكم القتال الذي وجَب بعد ما قَوِيَت شَوكة الإسلام ، وظهرتْ حُجّته .

نعَم إنّ النبيّ الأكرم لم يؤمَر بالجهاد في بادئ الأمْر ؛ لأنّه لم يكن قادراً على ذلك حسَب ما تقتضيه الظروف مِن غير طريق الإعجاز ، وخَرْق نواميس الطبيعة ، ولمّا أصبح قادراً على ذلك ، وكَثُر المسلمون ، وقوِيَت شَوكتُهم ، وتمّت عِدّتهم وعُدّتهم أُمِر بالجهاد ، وقد أسلفنا أنّ تشريع الأحكام الإسلامية كان على التدريج ، وهذا ليس مِن نسْخ الحُكم الثابت بالكتاب في شيء .

* * *

٢٩ -( وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً ) ١٦ : ٦٧ .

فعن قتادة ، وسعيد بن جبير ، والشعبي ، ومجاهد ، وإبراهيم ، وأبي رزين : أنّ هذه الآية منسوخة بتحريم الخمْر(١) .

والحقّ : أنّ الآية مُحكَمة ، فإنّ القول بالنسْخ فيها يتوقّف على إثبات أمرَين :

١ - أنْ يُراد بلفظ ( سكَراً ) الخمْر والشراب المُسكِر ، والقائل بالنسْخ لا يستطيع إثبات ذلك ، فإنّ أحَد معانيه في اللُغة : الخَلّ ، وبذلك فسّره عليّ بن إبراهيم(٢) ، وعلى هذا المعنى يكون المراد بالرِزق الحسَن : الطعام اللذيذ مِن الدِبْس وغيره

٢ - أنْ تدلّ الآية على إباحة المُسكِر ، وهذا أيضاً لا يستطيع القائل بالنسْخ إثباته ، فإنّ الآية الكريمة في مقام الإخبار عن أمْرٍ خارجيٍّ ، ولا دلالة لها على

_______________________

(١) الناسخ والمنسوخ للنحّاس ص ١٨١ .

(٢) تفسير البرهان ج ١ ص ٥٧٧

٣٥٧

إمضاء ما كان يفعله الناس ، وقد ذُكرت الآية في سياق إثبات الصانع الحكيم بآياته الآفاقية ، فقال عزّ مِن قائل :

( وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ ١٦ : ٦٥. وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَناً خَالِصاً سَائِغاً لِلشَّارِبِينَ ١٦ : ٦٦. وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ١٦ : ٦٧. وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَن اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ ١٦ : ٦٨. ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ١٦ : ٦٩) .

فذَكر سبحانه وتعالى أنّ مِن آياته أنْ يُنزل الماء مِن السماء ، وأنّه يُحيي به الأرض بعد موتها ثمّ ذَكر تدبيره في صُنع الحيوان ، وأنّه يُخرج اللبَن الخالِص مِن بين فرْثٍ ودم ثمّ ذَكر ما أودعه في ثمَرات النخيل والأعناب ، مِن الاستعداد لاتّخاذ السَكَر منها والرِزق الحسَن ، وقد امتازت هي مِن بين الثِمار بذلك ثمّ ذَكر ما يصنَعُه النحْل مِن الأعمال ، التي يَحار فيها العقلاء العارفون بمزايا صُنع العسل ومبادئه ، وأنّ ذلك بوحيِ الله تعالى وإلهامه .

وإذن فليس في الآية دلالة على إباحة شُرب المُسكِر أصلاً على أنّ في الآية إشعاراً - لو سُلِّم إرادة المُسكِر مِن

٣٥٨

لفظ سَكَراً - بعدم جواز شُرب المُسكِر ، فإنّها جعَلتْ المُسكِر مقابلاً للرِزق الحسَن ومعنى هذا : أنّ المُسكِر ليس مِن الرِزق الحسَن ، فلا يكون مباحاً .

وتدلّ على ما ذكرناه الروايات المأثورة عن أهل البيت ( عليهم السلام ) ، فإنّها دلّت على أنّ الخمْر لم تزلْ محرّمة .

روى الشيخ الصَدوق بإسناده عن محمّد بن مسلم ، قال :

( سُئل أبو عبد الله ( عليه السلام ) عن الخمْر ، فقال : قال رسول الله ( ص ) : إنّ أوّل ما نهاني عنه ربّي عزّ وجلّ عبادة الأَوثان ، وشُرب الخمْر . ) .

وروى عن الريان عن الرضا ( عليه السلام ) ، قال :

( ما بَعث الله نبيّاً إلاّ بتحريم الخمْر )(١) ، وقد تقدّم في بحْث الإعجاز تحريم الخمْر في التوراة(٢) ، ولكن الشيء الذي لا يُشكّ فيه : أنّ الشريعة الإسلامية لم تجهرْ بحُرمة الخمْر بُرهةً مِن الزمن ، ثمّ جهَرتْ بها بعد ذلك ، وهذا هو حال الشريعة المقدّسة في جميع الأحكام ومِن البيِّن أنّه ليس معنى ذلك أنّ الخمْر كان مباحاً في الشريعة ، ثمّ نسخت حرمته .

* * *

٣٠ -( الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلاّ زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُهَا إِلاّ زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ ) ٢٤ : ٣ .

_______________________

(١) البحار تتمة ج ١٦ باب حُرمة شُرب الخمْر ص ١٨ ، ٢٠ وقد أفرَد لذلك باباً في الوافي ج ١١ ص ٧٩ .

(٢) تقدّم ذلك في ص ٥٤ مِن هذا الكتاب

٣٥٩

فعن سعيد بن المسيب ، وأكثر العلماء : أنّ هذه الآية منسوخة بقوله تعالى :

( وَأَنْكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ ) ٢٤ : ٣٢ .

فدخلت الزانية في أيامى المسلمين(١) .

والحقّ : أنّ الآية غير منسوخة ، فإنّ النسْخ فيها يتوقّف على أنْ يكون المراد مِن لفظ النكاح هو التزويج ، ولا دليل يُثبِت ذلك على أنّ ذلك يستلزم القول بإباحة نكاح المسلم الزاني المُشرِكة ، وبإباحة نكاح المُشرِك المسلمة الزانية ، وهذا مُنافٍ لظاهر الكتاب العزيز ، ولِما ثبَتَ مِن سيرة المسلمين ، وإذن فالظاهر أنّ المراد مِن النكاح في الآية هو الوَطء ، والجملة خبَرية قُصِد بها الاهتمام بأمْر الزنا .

ومعنى الآية : أنّ الزاني لا يزني إلاّ بزانية ، أو بمَن هي أخسّ منها وهي المُشرِكة ، وأنّ الزانية لا تزني إلاّ بزانٍ ، أو بمَن هو أخسّ منه وهو المُشرِك وأمّا المؤمن فهو ممتنع عن ذلك ؛ لأنّ الزنا محرّم ، وهو لا يرتكب ما حُرِّم عليه .

* * *

٣١ -( قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ ) ٤٥ : ١٤ .

فذهبتْ جماعة إلى أنّ هذه الآية الكريمة منسوخة بآية السيف ، وقالوا : إنّ هذه الآية مكّية ، وقد نزلت في عُمَر بن الخطّاب حين شتَمه رجُلٌ مِن المشركين بمكّة قبل الهجرة ، فأراد عُمَر أنْ يبطشَ به ، فأنزل الله تعالى هذه الآية ، ثمّ نُسِخت بقوله تعالى:

_______________________

(١) الناسخ والمنسوخ للنحّاس ص ١٩٣

٣٦٠