البيان في تفسير القرآن

البيان في تفسير القرآن0%

البيان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 526

البيان في تفسير القرآن

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: السيد أبو القاسم الموسوي الخوئي
تصنيف: الصفحات: 526
المشاهدات: 31791
تحميل: 5913

توضيحات:

بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 526 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 31791 / تحميل: 5913
الحجم الحجم الحجم
البيان في تفسير القرآن

البيان في تفسير القرآن

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

الخامس عشر مِن أعمال الرُسُل ( عدد ٢٤ - ٣٠ ) ، وفي جُملة مِن رسائل بولِس الرسول .

٧ - وجاء في الإصحاح الرابع والعشرين مِن التثنية ( عدد ١ - ٣ ) :

( إذا أخَذ رجُل امرأة وتزوّج بها فإنْ لم تجد نعمةً في عينَيه ، لأن وجد فيها عيبُ شيء ، وكتب لها كتابُ طلاق ودفعه إلى يدها ، وأطلقها مِن بيته ، ومتى خرجتْ مِن بيته ذهبتْ وصارت لرجُلٍ آخَر ، فإنْ أبغضَها الرجُل الآخَر ، وكتَب لها كتاب طلاق ، ودفعه إلى يدها وأطلقها مِن بيته ، أو إذا مات الرجُل الأخير الذي اتّخذها له زوجة ، لا يقدر زوجها الأوّل الذي طلّقها أنْ يعود يأخذها ، لتصير له زوجة ) .

وقد نَسَخ الإنجيل ذلك ، وحرّم الطلاق بما جاء في الإصحاح الخامس مِن متّى ( عدد ٣١ - ٣٢ ) : ( وقيل مَن طلّق امرأته، فليُعطِها كتابَ طلاقٍ ، وأمّا أنا فأقول لكم : إنّ مَن طلّق امرأته ، إلاّ لعِلّة الزنا ، يجعلها تزني ، ومَن يتزوّج مطلّقة فإنّه يزني ) .

 وقد جاء مثل ذلك في الإصحاح العاشر مِن مرقس : عدد ( ١١ ، ١٢ ) ، والإصحاح السادس عشر مِن لوقا ( عدد ١٨ ).

وفيما ذكرناه كفاية لمَن ألقى السمْعَ وهو شهيد ، ومَن أراد الاطّلاع على أكثر مِن ذلك ، فليُراجع كتابَي إظهار الحقّ(١) والهدى إلى دين المصطفى(٢)

النَسْخ في الشريعة الإسلامية :

لا خِلاف بين المسلمين في وقوع النَسْخ ، فإنّ كثيراً مِن أحكام الشرائع السابقة قد نُسِخَت بأحكام الشريعة الإسلامية ، وإنّ جملة مِن أحكام هذه

_______________________

(١) للشيخ رحمة الله بن خليل الرحمن الهندي ، وهو كتاب جليل نافع جدّاً .

(٢) للإمام البلاغي

٢٨١

الشريعة قد نُسِخَت بأحكامٍ أخرى مِن هذه الشريعة نفسها ، فقد صرّح القرآن الكريم بنَسْخ حُكم التوَجّه في الصلاة إلى القِبلة الأُولى ، وهذا ممّا لا رَيب فيه وإنّما الكلام في أنْ يكون شيء مِن أحكام القرآن منسوخاً بالقرآن ، أو بالسُنّة القطعيّة ، أو بالإجماع ، أو بالعقل .

وقبل الخوض في البحث عن هذه الجهة ، يحْسُن بنا أنْ نتكلّم على أقسام النَسْخ ، فقد قسّموا النَسْخ في القرآن إلى ثلاثة أقسام :

١ - نَسْخ التلاوة دون الحُكم :

وقد مثّلوا لذلك بآية الرجْم ، فقالوا : إنّ هذه الآية كانت مِن القرآن ثمّ نُسِخَت تِلاوتها وبقِيَ حُكمُها ، وقد قدّمنا لك في بحث التحريف : أنّ القول بنَسْخ التلاوة هو نفس القول بالتحريف ، وأوضحنا أنّ مستند هذا القول أخبار آحاد ، وأنّ أخبار الآحاد لا أثَر لها في أمثال هذا المقام .

فقد أجمَع المسلمون على أنّ النَسْخ لا يثبت بخبر الواحد ، كما أنّ القرآن لا يثبت به ، والوجه في ذلك - مضافاً إلى الإجماع - أنّ الأمور المهمّة التي جَرَت العادة بشيوعها بين الناس ، وانتشار الخبر عنها على فرْض وجودها لا تثبُتْ بخبر الواحد ، فإنّ اختصاص نقْلها ببعضٍ دون بعض بنفسه دليل على كِذْب الراوي أو خطئِه ، وعلى هذا فكيف يثبت بخبر الواحد أنّ آية الرجْم مِن القرآن ، وأنّها قد نُسِخت تلاوتها ، وبقيَ حُكمها ؟ نعم قد تقدّم أنّ عُمَر أتى بآية الرجْم وادّعى أنّها مِن القرآن ، فلم يَقبل قوله المسلمون ؛ لأنّ نقْل هذه الآية كان منحصراً به ، ولم يُثبتوها في المصاحف ، فالتزم المتأخّرون بأنّها آية منسوخة التلاوة باقية الحُكم .

٢ - نَسْخ التلاوة والحُكم :

ومثّلوا لنَسْخ التلاوة والحُكم معاً بما تقدّم نقْله عن عائشة في الرواية العاشرة

٢٨٢

مِن نسْخ التلاوة في بحث التحريف ، والكلام في هذا القِسم كالكلام على القِسم الأوّل بعَينِه .

٣ - نَسْخ الحُكم دون التلاوة :

وهذا القِسم هو المشهور بين العلماء والمفسّرين ، وقد ألّف فيه جماعة مِن العلماء كتُباً مستقلّة ، وذكروا فيها الناسِخ والمنسوخ ، منهم العالِم الشهير أبو جعفر النحّاس ، والحافظ المظفّر الفارسي ، وخالَفهم في ذلك بعض المحقّقين ، فأنكروا وجود المنسوخ في القرآن وقد اتّفق الجميع على إمكان ذلك ، وعلى وجود آيات مِن القرآن ناسخة لأحكامٍ ثابتة في الشرائع السابقة ، ولأحكام ثابتة في صدر الإسلام .

ولتوضيح ما هو الصحيح في هذا المقام نقول : إنّ نسْخ الحُكم الثابت في القرآن يمكن أنْ يكون على أقسام ثلاثة :

١ - إنّ الحُكم الثابت بالقرآن يُنسَخ بالسُنّة المتواترة ، أو بالإجماع القطعيّ الكاشف عن صدور النسْخ عن المعصوم ( عليه السلام ) ، وهذا القِسم مِن النسْخ لا إشكال فيه عقلاً ونقلاً ، فإنْ ثبتَ في مورد فهو المتّبَع ، وإلاّ فلا يُلتزَم بالنسْخ ، وقد عرفت أنّ النسْخ لا يثبُت بخبر الواحد .

٢ - إنّ الحُكم الثابت بالقرآن يُنسَخ بآيةٍ أخرى منه ناظرة إلى الحُكم المنسوخ ، ومُبيِّنة لرفْعِه ، وهذا القِسم أيضاً لا إشكال فيه ، وقد مثّلوا لذلك بآية النجوى ( سيأتي الكلام عليها إنْ شاء الله تعالى ) .

٣ - إنّ الحُكم الثابت بالقرآن يُنسَخ بآيةٍ أخرى غير ناظرة إلى الحُكم السابق ، ولا مُبيِّنة لرفْعِه ، وإنّما يُلتزَم بالنسْخ لمجرّد التنافي بينهما ، فيُلتزَم بأنّ الآية المتأخِّرة ناسخة لحُكم الآية المتقدّمة .

٢٨٣

والتحقيق : أنّ هذا القِسم مِن النسْخ غير واقعٍ في القرآن ، كيف وقد قال الله عزّ وجلّ :

( أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً ) ٤ : ٨٢ .

ولكن كثيراً مِن المفسّرين وغيرهم لم يتأمّلوا حقّ التأمّل في معاني الآيات الكريمة ، فتوهّموا وقوع التنافي بين كثير مِن الآيات ، والتزموا لأجله بأنّ الآية المتأخّرة ناسخة لحُكم الآية المتقدّمة ، وحتّى أنّ جُملة منهم جعلوا مِن التنافي ما إذا كانت إحدى الآيتين قرينة عُرفية على بيان المراد مِن الآية الأخرى ، كالخاصّ بالنسبة إلى العامّ ، وكالمقيّد بالإضافة إلى المطلق ، والتزموا بالنَسْخ في هذه الموارد وما يشبَهُها ، ومنشأ هذا قلّة التدبّر ، أو التسامح في إطلاق لفْظ النَسْخ بمناسبة معناه اللُغَوي ، واستعماله في ذلك ، وإنْ كان شائعاً قبل تحقّق المعنى المصطلح عليه ، ولكن إطلاقه - بعد ذلك - مبنيٌّ على التسامح لا محالة .

مناقشة الآيات المدّعى نسْخُها :

وعلى كلٍّ فلا بدّ لنا مِن الكلام في الآيات التي اُدُّعيَ النسْخُ فيها ونذكر منها ما كان في معرفة وقوع النَسْخ فيه وعدم وقوعه ، غموض في الجملة أمّا ما كان عدم النَسْخ فيه ظاهراً - بعد ما قدّمناه - فلا نتعرّض له في المقام ( وسنتعرّض لذلك عند تفسيرنا الآيات إنْ شاء الله تعالى ) .

وليكن كلامنا في الآيات على حسب ترتيبها في القرآن الكريم :

١ -( وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ

٢٨٤

الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) ٢ : ١٠٩ .

فعن ابن عبّاس وقتادة والسدي ، أنّها منسوخة بآية السيف واختاره أبو جعفر النحّاس(١) وآية السيف هو قوله تعالى :

( قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ ) ٩ : ٢٩ .

والالتزام بالنَسْخ - هنا - يتوقّف على الالتزام بأمرين فاسدين :

الأوّل : أنْ يكون ارتفاع الحُكم المُوَقّت بانتهاء وقتِه نسْخاً ، وهذا واضح الفساد ، فإنّ النسْخ إنّما يكون في الحُكم الذي لم يُصرّح فيه لا بالتوقيت ولا بالتأييد ، فإنّ الحُكم إذا كان موَقّتاً - وإنْ كان تَوقيته على سبيل الإجمال - كان الدليل الموضِّح لوَقتِه والمبيِّن لانتهائه ، مِن القرائن الموَضِّحة للمراد عرفاً ، وليس هذا مِن النسْخ في شيء فإنّ النسخ هو رفْع الحُكم الثابت الظاهر بمقتضى الإطلاق في الدوام ، وعدم الاختصاص بزمانٍ مخصوص .

وقد توَهّم الرازي أنّ مِن النَسْخ بيان الوقت في الحُكم الموَقّت بدليل منفصل ، وهو قولٌ بيِّن الفساد ، وأمّا الحُكم الذي صرّح فيه بالتأييد ، فعدم وقوع النَسْخ فيه ظاهر .

_______________________

(١) في كتابه الناسخ والمنسوخ ص ٢٦ طَبْع المكتبة العلامية بمصر

٢٨٥

الثاني : أنْ يكون أهل الكتاب أيضاً ممّن أمَر النبيّ ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) بقتالهم ، وذلك باطل ، فإنّ الآيات القرآنية الآمرة بالقتال ، إنّما ورَدَت في جهاد المشركين ودعوتهم إلى الإيمان بالله تعالى وباليوم الآخِر وأمّا أهل الكتاب ، فلا يجوز قتالهم إلاّ مع وجود سببٍ آخر ، مِن قتالهم للمسلمين ، لقوله تعالى :

( وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ) ٢ : ١٩٠ .

أو إلقائهم الفتنة بين المسلمين ، لقوله تعالى بعد ذلك :

( وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ ) ٢ : ١٩١ .

أو امتناعهم عن إعطاء الجِزية للآية المتقدّمة ، وأما مع عدم وجود سبب آخر ، فلا يجوز قتالهم لمجرّد الكُفْر ، كما هو صريح الآية الكريمة .

وحاصل ذلك : أنّ الأمر في الآية المباركة بالعفْوِ والصَفْح عن الكتابِيّين ؛ لأنّهم يَودّون أنْ يردّوا المسلمين كُفّاراً - وهذا لازم عادي لكُفرِهم - لا ينافيه الأمر بقتالِهم عند وجود سببٍ آخَر يقتضيه ، على أنّ متوَهّم النسْخ في الآية الكريمة قد حَمَل لفظ الأمْر مِن قوله تعالى :

( حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ ) ٢ : ١٠٩ .

على الطَلَب ، فتوَهّم أنّ الله أمَر بالعفْوِ عن الكُفّار ، إلى أنْ يأمر المسلمين بقتالهم ، فحَمَله على النسْخ .

وقد اتّضح للقارئ أنّ هذا - على فَرْض صحّته - لا يستلزم النَسْخ ولكن

(البيان - ١٩)

٢٨٦

هذا التوَهّم ساقط ، فإنّ المراد بالأمْر هنا الأمْر التكويني وقضاء الله تعالى في خَلْقِه ، ويدلّ على ذلك تعلّق الإتيان به ، وقوله تعالى بعد ذلك :

( إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) ٢ : ١٠٩ .

وحاصل معنى الآية : الأمر بالعفْوِ والصَفْح عن الكتابيّين بِوِدِّهم هذا ، حتّى يفعل الله ما يشاء في خلْقِه مِن عِزّ الإسلام ، وتقْوية شَوكته ، ودخول كثير مِن الكفّار في الإسلام ، وإهلاك كثير مِن غيرهم ، وعذابهم في الآخرة ، وغير ذلك ممّا يأتي الله به مِن قضائه وقَدَرِه

٢ -( وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ) ٢ : ١١٥ .

فقد نُسِب إلى جماعة منهم ابن عبّاس ، وأبو العالية ، والحسن ، وعطاء ، وعكرمة ، وقتادة ، والسدي ، وزيد بن أسلم ، أنّ الآية منسوخة(١) ، واختُلِف في ناسخِها ، فذَكر ابن عبّاس أنّها منسوخة بقوله تعالى :( وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ ) ٢ : ١٥٠ وذهب قتادة إلى أنّ الناسِخ قوله تعالى :

( فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ) ٢ : ١٥٠ .

كذلك ذكر القرطبي(٢) ، وذكروا في وجه النسْخ أنّ النبيّ ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) وجميع

_______________________

(١) تفسير ابن كثير ج ١ ص ١٥٧ ، ١٥٨ .

(٢) تفسير القرطبي ج ٢ ص ٧٤

٢٨٧

المسلمين كانوا مخيّرين في الصلاة إلى أية جهةٍ شاءوا ، وإنْ كان رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) قد اختار مِن الجهات جِهة بيت المقدِس ، فنُسِخ ذلك بالأمر بالتوجّه إلى خصوص بيت الله الحرام .

ولا يخفى ما في هذا القول مِن الوَهن والسقوط ، فإنّ قوله تعالى :

( وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلاّ لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ ) ٢ : ١٤٣ .

صريح في أنّ توجّهه إلى بيت المقدس ، كان بأمْرٍ مِن الله تعالى لمصلحةٍ كانت تقتضي ذلك ، ولم يكن لاختيار النبيّ ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) في ذلك دَخْلٌ أصلاً .

والصحيح أنْ يقال في الآية الكريمة : إنّها دالّة على عدم اختصاص جِهة خاصّة بالله تعالى ، فإنّه لا يُحيط به مكان ، فأينما تَوَجَّه الإنسان في صلاته ودعائه وجميع عباداته ، فقد توجّه إلى الله تعالى .

ومِن هنا استدلّ بها أهل البيت ( ع ) على الرخصة للمسافر أنْ يتوَجّه في نافلته إلى أيّة جهة شاء ، وعلى صحّة صلاة الفريضة فيما إذا وقعَتْ بين المشرق والمغرب خطأً ، وعلى صحّة صلاة المتحيِّر إذا لم يعلم أين وَجْه القِبلة ، وعلى صحّة سجود التلاوة إلى غير القِبلة ، وقد تلاها سعيد بن جبير ( رحِمه الله ) لمّا أمَر الحجّاج بذبْحِه إلى الأرض(١) .

فهذه الآية مطلقة ، وقد قُيِّدت في الصلاة الفريضة بلزوم التوَجّه فيها إلى بيت المقدس تارةً ، وإلى الكعبة تارةً أخرى ، وفي النافلة أيضاً في غير حال المشي على قول وأمّا ما في بعض الروايات مِن أنّها نزلتْ في النافلة ، فليس المراد أنّها مختصّة بذلك ( وقد تقدّم أنّ الآيات لا تختصّ بموارد نزولها ) .

وجُملة القول : إنّ دعوى النَسْخ في الآية الكريمة يتوقّف ثبوتها على أمرين :

_______________________

(١) تفسير القرطبي ج ٢ ص ٧٥

٢٨٨

الأوّل : أنْ تكون واردة في خصوص صلاة الفريضة ، وهذا معلوم بطلانه ، وقد وردَت روايات مِن طريق أهل السُنّة في أنّها نزلتْ في الدعاء وفي النافلة للمسافر ، وفي صلاة المتحيِّر ، وفي مَن صلّى إلى غير القِبلة خطأً(١) ، وقد مَرّ عليك - آنفاً - استشهاد أهل البيت ( ع ) بالآية المباركة في عدّة موارد .

الثاني : أنْ يكون نزولها قبل نزول الآية الآمرة بالتوجّه إلى الكعبة ، وهذا أيضاً غير ثابت ، وعلى ذلك فدعوى النسْخ في الآية باطلة جزْماً وفي بعض الروايات المأثورة عن أهل البيت ( ع ) التصريح بأنّ الآية المباركة ليست منسوخة نعم قد يراد مِن النسْخ معنى عامّاً شاملاً للتقييد ، فإذا أُريد به ذلك في المقام فلا مانع منه ، ولا يبعد أنْ يكون هذا هو مراد ابن عبّاس مِن النسْخ فيها ، وقد أشرنا إليه فيما تقدّم .

٣ -( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنْثَى بِالأُنْثَى ) ٢ : ١٧٨ .

فقد ادُّعيَ أنّها منسوخة بقوله تعالى :

( وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنْفَ بِالأَنْفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ ) ٥ : ٤٥ .

ومِن أجْل ذلك ذهب الجمهور مِن أهل السُنّة إلى : أنّ الرجُل يُقتَل بالمرأة مِن غير أنْ يُرَدَّ إلى ورثته شيء مِن الديّة(٢) ، وخالَف في ذلك الحَسن وعطاء ، فذهبا

_______________________

(١) تفسير الطبري ج ١ ص ٤٠٠ - ٤٠٢ .

(٢) تفسير القرطبي ج ٢ ص ٢٢٩

٢٨٩

إلى : أنّ الرجُل لا يُقتَل بالمرأة وقال الليث : إذا قَتَل الرجُل امرأته لا يُقتل بها خاصّة(١) وذهبت الإمامية إلى : أنّ وليَّ دَم المرأة مخيّر بين المطالبة بديِّتها ، ومطالبة الرجُل القاتل بالقصاص ، بشرط أداء نصف ديّة الرجُل .

والمشهور بين أهل السُنّة : أنّ الحُرّ لا يُقتَل بالعبد ، وعليه إجماع الإمامية ، وخالَفهم في ذلك أبو حنيفة ، والثوري ، وابن أبي ليلى ، وداود ، فقالوا : إنّ الحُرّ يُقتل بعَبدِ غيره(٢) ، وذهب شواذٌّ منهم إلى : أنّ الحُرّ يُقتل بالعَبْد وإنْ كان عَبْد نفسه(٣) .

والحقّ : أنّ الآية الأُولى مُحكَمة ، ولم يرِد عليها ناسِخ ، والوَجه في ذلك : أنّ الآية الثانية مطلقة مِن حيث العَبْد ، والحُرّ ، والذَكَر ، والأُنثى ، فلا صراحة له في حُكم العبْد ، وحُكم الأُنثى ، وعلى كلٍّ فإنْ لم تكن الآية في مقام البيان مِن حيث خصوصية القاتل والمقتول ، بل كانت في مقام بيان المساواة في مقدار الاعتداء فقط ، على ما هو مفاد قوله تعالى :

( فَمَن اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ ) ٢ : ١٩٤ .

كانت مهملة ولا ظهور لها في العموم لتكون ناسخة للآية الأُولى ، وإنْ كانت في مقام البيان مِن هذه الناحية - وكانت ظاهرة في الإطلاق ، وظاهرة في ثبوت الحُكم في هذه الأمّة أيضاً ، ولم تكن للإخبار عن ثبوت ذلك في التوراة فقط - كانت الآية الأُولى مقيِّدة لإطلاقها ، وقرينة على بيان المراد منها ، فإنّ المطلَق

_______________________

(١) تفسير ابن كثير ج ١ ص ٢١٠ .

(٢) نفس المصدر ص ٢٠٩ وقال ابن كثير : قال البخاري وعليّ بن المديني ، وإبراهيم النخعي ، والثوري في رواية عنه : ويُقتَل السيّد بعبْدِه .

(٣) أحكام القرآن للجصاص ج ١ ص ١٣٧

٢٩٠

لا يَصلُح لأنْ يكون ناسخاً للمقيِّد وإنْ كان متأخِّراً عنه ، بل يكون المقيِّد قرينة على التصرّف في ظهور المطلَق ، على ما هو الحال في المقيِّد المتأخِّر ، وعلى ذلك فلا موجِب للقول بجواز قتْل الحُرِّ بالعبْد

وأمّا الرواية التي رَوَوها عن عليّ ( عليه السلام ) عن رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) مِن قوله : ( المسلمون تتكافأ دماؤهم ) ، فهي - على تقدير تسليمها - مخصّصة بالآية ، فإنّ دلالة الرواية على جواز قتْل الحُرّ بالعبْد إنّما هي بالعموم .

ومِن البيِّن أنّ حُجّية العامّ موقوفة على عدم ورود المخصِّص عليه المتقدّم منه والمتأخّر وأمّا ما رُوي عن رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) بطريق الحسَن عن سمرة ، فهو ضعيف السنَد ، وغير قابل للاعتماد عليه قال أبو بكر بن العربي : ( ولقد بلغَتْ الجهالة بأقوام أنْ قالوا : يُقتَل الحُرّ بعبْد نفسه ) ، ورَوَوا في ذلك حديث عن الحسَن عن سمرة : قال النبيّ ( صلّى الله عليه [وآله] وسلّم ) : ( مَن قتَل عبده قتلناه ) ، وهذا حديثٌ ضعيف(١) .

أقول : هذا ، مضافاً إلى أنّها معارَضة : برواية عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدِّه : أنّ رجُلاً قتَل عبْدَه متعمّداً ، فجلَده النبيّ ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) ونفاه سنة ، ومَحا سهمه مِن المسلمين ، ولم يَقُدْه به(٢) .

وبما رواه ابن عبّاس عن النبيّ ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) ، وبما رواه جابر عن عامر عن عليّ ( عليه السلام ) : ( لا يُقتَل حُرٌّ بعبْد )(٣) .

وبما رواه عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدِّه : أنّ أبا بكر وعُمَر كانا لا يقتلان الحُرّ بقتْل العبْد(٤) .

وقد عرفتَ أنّ روايات أهل البيت ( ع ) مُجْمِعة على : أنّ الحُرّ لا يُقتَل

_______________________

(١) أحكام القرآن لأبي بكر بن العربي ج ١ ص ٢٧ .

(٢) سُنن البيهقي ج ٨ ص ٣٦ .

(٣) نفس المصدر ص ٣٤ ، ٣٥ .

(٤) نفس المصدر ص ٣٤

٢٩١

بالعبْد ، وأهل البيت هم المَرجِع في الدين بعد جدِّهم الأعظم ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) ، وبعد هذا فلا يبقى مجال لدعوى نسْخ الآية الكريمة مِن جِهة قتْل الحُرّ بالعبْد .

وأمّا بالإضافة إلى قتْل الرجُل بالمرأة ، فليست الآية منسوخة أيضاً ، بناءً على مذهب الإمامية والحسَن وعَطاء ، نعم تكون الآية منسوخة على مسلَك الجمهور ، وتوضيح ذلك : أنّ ظاهر قوله تعالى :

( كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ ) ٢ : ١٧٨ .

أنّ القِصاص فرْضٌ واجب ، ومِن الواضح أنّه إنّما يكون فرضاً عند المطالبة بالقِصاص مِن وليِّ الدم ، وذلك أمْر معلوم مِن الخارج ، ويدلّ عليه مِن الآية قوله تعالى فيها :

( فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ ) ٢ : ١٧٨ .

وعلى ذلك فالمستفاد مِن الآية الكريمة : أنّ القاتل يجب عليه أنْ يخضع لحُكم القِصاص ، إذا طالبَه وليُّ الدم بذلك ، ومِن الواضح أنّ هذا الحُكم إنّما يكون في قتْل الرجُل رجُلاً ، أو قتْل المرأة رجُلاً أو امرأة ، فإنّ الرجُل إذا قتَل امرأة لا يجب عليه الانقياد للقِصاص بمجرّد المطالبة ، وله الامتناع حتّى يأخُذ نِصف ديّتِه ، ولا يأخذه الحاكم بالقصاص قبل ذلك .

وبتعبير آخَر : تدلّ الآية المباركة على أنّ بدَل الأنثى هي الأنثى ، فلا يكون الرجُل بدَلاً عنها ، وعليه فلا نسْخ في مدلول الآية ، نعم ثبَت مِن دليلٍ خارجيّ : أنّ الرجُل القاتل يجب عليه أنْ ينقاد للقصاص ، حين يدفع وليُّ المرأة المقتولة نِصف ديّته ، فيكون الرجُل بدَلاً عن مجموع الأنثى ونِصف الديّة ، وهو حُكمٌ آخَر لا يمسّ بالحُكم الأوّل المستفاد مِن الآية الكريمة ، وأين هذا مِن النسْخ الذي يدّعيه القائلون به .

وجُملة القول : أنّ ثبوت النسْخ في الآية يتوقّف على إثبات وجوب الانقياد

٢٩٢

على القاتل بمجرّد مطالبَة وليِّ المرأة بالقِصاص ، كما عليه الجمهور وأنّى لهم إثباته ؟ فإنّهم قد يتمسّكون لإثباته بإطلاق الآية الثانية على ما صرّحوا به في كلماتهم ، وبعموم قول النبيّ ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) : ( المسلمون تتكافأ دماؤهم ) ، وقد عرفتَ ما فيه .

وقد يتمسّكون لإثبات ذلك بما رَوَوه عن قتادة عن سعيد بن المسيب : أنّ عُمَر قتَل نفراً مِن أهل صنعاء بامرأة ، وقادهم بها.

وعن ليث عن الحكَم عن عليّ وعبد الله قالا : ( إذا قتَل الرجُل المرأة متعمّداً ، فهو بها قَوَد ) وعن الزهري عن أبي بكر بن محمّد بن عمرو بن حزم عن أبيه عن جدِّه : أنّ رسول الله ( ص ) قال : ( إنّ الرجُل يُقتَل بالمرأة )(١) .

وهو باطل مِن وجوه :

١ - إنّ هذه الروايات - لو فُرِضت صحّتها - مخالِفة للكتاب ، وما كان كذلك لا يكون حُجّة ، وقد عرفتَ - فيما تقدّم - قيام الإجماع على أنّ النسْخ لا يثبُت بخبر الواحد .

٢ - إنّها معارَضة بالروايات المرويّة عن أهل البيت ( ع ) وبما رواه عَطاء والشعبي ، والحسن البصريّ عن عليٍّ ( عليه السلام ) أنّه قال في قتْل الرجُل امرأة : ( إنّ أولياء المرأة إنْ شاءوا قتلوا الرجُل وأدّوا نِصف الديّة ، وإنْ شاءوا أخذوا نِصف ديّة الرجُل )(٢) .

٣ - إنّ الرواية الأُولى منها ، مِن المراسيل ، فإنّ ابن المسيب وُلِد بعد مُضيِّ سنتين مِن خلافة عُمَر(٣) ، فتَبْعُد روايته عن عُمَر بلا واسطة ، وإذا سلّمنا صحّته فهي تشتمل على نقْل فِعْل عُمَر ، ولا حُجّية لفِعله في نفسه ، وأنّ الرواية الثانية

_______________________

(١) أحكام القرآن للجصاص ج ١ ص ١٣٩ .

(٢) نفس المصدر ج ١ ص ١٢٠ .

(٣) تهذيب التهذيب ج ٤ ص ٨٦

٢٩٣

ضعيفة مُرسَلة ، وأمّا الرواية الثالثة فهي على فَرْض صحّتها مطلَقة ، وقابلة لان تُقيَّد بأداء نِصف الديّة .

ونتيجة ما تقدّم :

أنّ الآية الكريمة لم يثبت نسْخَها بشيء ، وأنّ دعوى النسْخ إنّما هي بملاحظة فتوى جماعة مِن الفقهاء ، وكيف يمكن أنْ تُرفَع اليد عن قول الله تعالى بملاحظة قول زيد أو عمرو ؟ وممّا يبعث على العجَب أنّ جماعة يفتون بخلاف القرآن ، مع إجماعهم على أنّ القرآن لا يُنسَخ بخبر الواحد وقد اتّضح ممّا بيّناه أنّ قوله تعالى :

( وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً ) ١٧ : ٣٣ .

وقوله تعالى :

( وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الأَلْبَابِ ) ٢ : ١٧٩ .

لا يَصلحان أنْ يكونا ناسِخَين للآية المتقدّمة التي فرَّقت بين الرجُل والأنثى ، وبين الحُرّ والعبْد .

 وسيأتي استيفاء البحث في هذا الموضوع عند تفسيرنا الآية الكريمة ، إنْ شاء الله تعالى .

٤ -( كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ ) ٢ : ١٨٠ .

فقد ادّعى جَمْعٌ أنّها منسوخة بآية المواريث ، وادّعى آخَرون أنّها منسوخة

٢٩٤

بما عن النبيّ ( ص ) مِن قوله : ( لا وصيّة لوارث )(١) .

والحقّ : أنّ الآية ليست منسوخة أمّا القول بنسْخِها بآية المواريث ، فيردّه أنّ الآيات قد دلّت على أنّ الميراث مترتِّب على عدم الوصية ، وعدم الدَين ومع ذلك فكيف يُعقَل كَونها ناسِخة لحُكم الوصيّة ؟ وقد قيل في وجه النسْخ للآية : إنّ الميراث في أوّل الإسلام لم يكن ثابتاً ، على الكيفيّة التي جُعلت في الشريعة بعد ذلك ، وإنّما كان الإرث يُدفع جميعُه للولَد ، وما يُعطى الوالدان مِن المال فهو بطريق الوصيّة ، فنُسِخ ذلك بآية المواريث .

وهذا القول مدفوع :

أوّلاً : بأنّ هذا غير ثابت ، وإنْ كان مروِيّاً في صحيح البخاري ؛ لأنّ النسْخ لا يثبت بخبر الواحد إجماعاً .

ثانياً : إنّه موقوف على تأخّر آية المواريث عن هذه الآية ، وأنّى للقائل بالنسْخ إثبات ذلك ؟ أمّا دعوى القطع بذلك مِن بعض الحنَفِيّة ، فعُهدتُها على مدّعيها .

ثالثاً : إنّ هذا لا يتمّ في الأقربين ، فإنّه لا إرث لهم مع الولَد ، فكيف يُعقل أنْ تكون آية المواريث ناسخة لحُكم الوصية للأقربين ؟ وعلى كلٍّ ، فإنّ آية المواريث مِن حيث ترتّبها على عدم الوصية ، تكون مؤكِّدة لتشريع الوصية ونفوذها ، فلا معنى لكَونها ناسخة لها .

وأمّا دعوى نسْخ الآية بالرواية المتقدّمة فهي أيضاً باطلة مِن وجوه :

١ - إنّ الرواية لم تثبت صحّتها ، والبخاري ومسلم لم يرْضَياها ، وقد تكلّم في تفسير المنار على سندهما(٢) .

_______________________

(١) الناسخ والمنسوخ للنحّاس ص ٢٠ .

(٢) الجزء الثاني ص ١٣٨

٢٩٥

٢ - إنّها معارَضة بالروايات المستفيضة عن أهل البيت ( عليهم السلام ) الدالّة على جواز الوصية للوارث ففي صحيحة محمّد بن مسلم عن أبي جعفر ( عليه السلام ) قال : سألته عن الوصية للوارث ، فقال : تجوز قال : ثمّ تلا هذه الآية :

( إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ ) ٢ : ١٨٠ .

وبمضمونها روايات أخرى(١) .

٣ - إنّ الرواية لو صحّت ، وسلِمَت عن المعارضة بشيء فهي لا تصلُح لنسْخ الآية ؛ لأنّها لا تُنافيها في المدلول غاية الأمر أنّها تكون مقيِّدة لإطلاق الآية ، فتختصّ الوصية بالوالدين إذا لم يستحقّا الإرث لمانع ، وبمَن لا يرِث مِن الأقربين وإذا فُرِض وجود المنافاة بينها وبين الآية ، فقد تقدّم : أنّ خبر الواحد لا يصلُح أنْ يكون ناسخاً للقرآن بإجماع المسلمين ، فالآية مُحكَمة وليست منسوخة ثمّ إنّ الكتابة عبارة عن القضاء بشيء ، ومنه قوله تعالى :

( كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ ) ٦ : ١٢ .

والعقل يحكُم بوجوب امتثال حُكم المولى وقضائه ، ما لم تثبت فيه رخصة مِن قِبَل المَولى ومعنى هذا أنّ الوصية للوالدين والأقربين واجبة بمقتضى الآية ، ولكنّ السيرة المقطوع بثبوتها بين المسلمين ، والروايات المأثورة عن الأئمّة مِن أهل البيت ( عليهم السلام ) ، والإجماع المتحقّق مِن الفقهاء في كلّ عصْرٍ ، قد أثبتَ لنا الرخصة ، فيكون الثابت مِن الآية بعد هذه الرخصة : هو استحباب الوصية المذكورة ، بل تأكّدَ استحبابها على الإنسان ، ويكون المراد مِن الكتابة فيها هو : القضاء بمعنى التشريع لا بمعنى الإلزام .

_______________________

(١) الوافي ج ١٣ ص ١٧

٢٩٦

٥ -( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ) ٢ : ١٨٣ .

فقد ادُّعيَ أنّها منسوخة بقوله تعالى :

( أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ ) ٢ : ١٨٧ .

وذكروا في وَجْه النسْخ : أنّ الصوم الواجب على الأمّة في بداية الأمر كان مماثلاً للصوم الواجب على الأمّة السالفة ، وأنّ مِن أحكامه أنّ الرجُل إذا نام قبل أنْ يتعشّى في شهر رمضان ، لم يجز له أنْ يأكل بعد نَومه في ليلته تلك ، وإذا نام أحدهم بعد المساء حَرُم عليه الطعام والشراب والنساء ، فنُسِخ ذلك بقوله تعالى :

( وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ ) ٢ : ١٨٧ .

وبقوله تعالى :

( أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ ) ٢: ١٨٧ .

وقد اتّفق علماء أهل السُنّة على أنّ آية التحليل ناسِخة(١) ، ثمّ اختلفوا ، فقال بعضهم : هي ناسِخة للآية السابقة ، فإنّهم استفادوا منها : أنّ الصوم الواجب في هذه الشريعة مماثلٌ للصوم الواجب على الأمم السالِفة ، وقال بذلك أبو العالية ، وعطاء ، ونَسَبه أبو جعفر النحّاس إلى السدي أيضاً(٢) ، وقال بعضهم : إنّ آية التحليل ناسِخة لفِعْلهم الذي كانوا يفعلونه .

_______________________

(١) الناسخ والمنسوخ للنحّاس ص ٢٤ .

(٢) نفس المصدر ص ٢١

٢٩٧

ولا يخفى أنّ النَسْخ للآية الأُولى موقوف على إثبات تقدّمها على الآية الثانية في النزول ، ولا يستطيع القائل بالنسْخ إثباته ، وعلى أنْ يكون المراد مِن التشبيه في الآية تشبيه صيام هذه الأمّة بصيام الأمم السالفة ، وهو خِلاف المفهوم العُرْفي ، بل وخلاف صريح الآية ، فإنّ المراد بها تشبيه الكتابة بالكتابة ، فلا دلالة فيها على أنّ الصَومَين متماثلان لتصُحّ دعوى النسْخ ، وإذا ثبَت ذلك مِن الخارج كان نسْخاً لحُكمٍ ثابت بغير القرآن ، وهو خارج عن دائرة البحث :

٦ -( وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ ) ٢ : ١٨٤ .

فادُّعيَ أنّها منسوخة بقوله تعالى :

( فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ) ٢ : ١٨٥ .

ودعوى النسْخ في هذه الآية الكريمة واضحة الثبوت لو كان المراد مِن الطَوق السِعة والقدرة ، فإنّ مفاد الآية على هذا : أنّ مَن يستطِع الصوم ، فلَه أنْ لا يصوم ويُعطي الفِدْية : طعام مسكين بدلاً عنه ، فتكون منسوخة .

ولكن مِن البيِّن أنّ المراد مِن الطاقة : القدرة مع المشقّة العظيمة وحاصل المراد مِن الآية : أنّ الله تعالى بعد أنْ أوجَب الصوم وجوباً تعيينيّاً في الآية السابقة ، وأسقَطَه عن المسافر والمريض ، وأَوجَب عليهما عدّة مِن أيّامٍ أُخَر بدل عنه ، أراد أنْ يُبيِّن حُكماً آخَر لصِنفٍ آخَر مِن الناس ، وهُم الذين يجِدون في الصوم مشقّة عظيمة وجُهداً بالغاً ، كالشيخ الهِمّ ، وذي العُطاش ، والمريض الذي استمرّ مرضُه إلى شهر رمضان الآخَر ، فأَسْقط عنهم وجوب الصوم أداءً

٢٩٨

وقضاءً ، وأَوجَب عليهم الفِدية ، فالآية المبارَكة حيث دلّت على تعيين وجوب الصوم على المؤمنين في الأيّام المعدودات ، وعلى تعيُّن وجوبه قضاءً في أيّامٍ أُخَر على المريض والمسافر ، كانت ظاهرة في أنّ وجوب الفِدية تعييناً إنّما هو على غير هذين الصِنفَين اللذَين تعيَّن عليهما الصوم .

ومع هذا فكيف يُدّعى : أنّ المستفاد مِن الآية هو الوجوب التخييري بين الصوم والفِدية لمَن تمكّن مِن الصوم ؟ .

وإنّ أخبار أهل البيت ( ع ) مستفيضة بما ذكرناه في تفسير الآية(١) .

ولفْظ الطاقة وإنْ اُستُعمل في معنى القدرة والسِعة ، إلاّ أنّ معناه اللُغَوي هو القدرة مع المشقّة العظيمة ، وإعمال غاية الجُهد. ففي لسان العرب : ( الطَوق الطاقة أيْ أقصى غايته ، وهو اسم لمقدار ما يمكنه أنْ يفعلَه بمشقّة منه ) .

ونُقِل عن ابن الأثير والراغب أيضاً التصريح بذلك ولو سلّمْنا أنّ معنى الطاقة هي السِعة كان لفظ الإطاقة بمعنى إيجاد السِعة في الشيء ، فلا بدّ مِن أنْ يكون الشيء في نفسه مضيّقاً ؛ لتكون سِعته ناشئة مِن قِبَل الفاعل ، ولا يكون هذا إلاّ مع إعمال غاية الجُهد قال في تفسير المنار ، نقلاً عن شيخه : ( فلا تقول العرب : أطاق الشيء إلاّ إذا كانت قدرته عليه في نهاية الضَعف ، بحيث يتحمّل به مشقّة شديدة )(٢) .

فالآية الكريمة مُحكَمة لا نسْخ لها ، ومدلولها حُكمٌ مغاير لحُكم مَن وجَب عليه الصوم أداءً وقضاءً وجميع ما قدّمناه مبنيٌّ على القراءة المعروفة أمّا على قراءة ابن عبّاس ، وعائشة ، وعكرمة ، وابن المسيب ، حيث قرأوا يُطَوَّقونه بصيغة المبنيّ للمجهول مِن باب التفعيل(٣) ، فالأمر أَوضح نعَم بناءً على قول

_______________________

(١) الوافي ج ٧ باب العاجز عن الصيام ص ٤٣ .

(٢) الجزء الثاني ص ١٥٦ .

(٣) أحكام القرآن للجصاص ص ١٧٧

٢٩٩

ربيعة ومالك ، بأنّ المشايخ والعجائز لا شيء عليهم إذا أَفطَروا(١) ، تكون الآية منسوخة ، ولكنّ الشأن في صحّة هذا القول ، والآية الكريمة حُجّة على قائلِه .

٧ -( وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ ) ٢ : ١٩١ .

قال أبو جعفر النحّاس : وأكثر أهل النظر على هذا القول : إنّ الآية منسوخة ، وإنّ المشركين يقاتلون في الحرَم وغيره ونُسب القول بالنسْخ إلى قتادة أيضاً(٢) .

والحقّ : أنّ الآية مُحكَمة ليست منسوخة فإنّ ناسخ الآية إنْ كان هو قوله تعالى :

( فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ ) ٩ : ٥ .

فهذا القول ظاهر البطلان ؛ لأنّ الآية الأُولى خاصّة ، والخاصّ يكون قرينة على بيان المراد مِن العامّ ، وإنْ عُلِم تقدّمه عليه في الورود ، فكيف إذا لم يُعلَم ذلك ؟ وعلى هذا ، فيختصّ قتال المشركين بغير الحرَم ، إلاّ أنْ يكونوا هُم المبتدئين بالقتال فيه ، فيجوز قتالهم فيه حينئذٍ

وإنْ استندوا في نسْخ الآية إلى الرواية القائلة : إنّ النبيّ ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) أمَر بقتْل ابن خطل - وقد كان متعلِّقاً بأستار الكعبة - فهو باطل أيضاً :

_______________________

(١) الناسخ والمنسوخ للنحّاس ص ٢٣ .

(٢) نفس المصدر ص ٢٨ .

٣٠٠