البيان في تفسير القرآن

البيان في تفسير القرآن0%

البيان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 526

البيان في تفسير القرآن

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: السيد أبو القاسم الموسوي الخوئي
تصنيف: الصفحات: 526
المشاهدات: 32223
تحميل: 6140

توضيحات:

بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 526 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 32223 / تحميل: 6140
الحجم الحجم الحجم
البيان في تفسير القرآن

البيان في تفسير القرآن

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

إلى راية الباطل حتّى آل الأمر إلى أنْ يُكفّر بعض المسلمين بعضاً ، ويتقرّب إلى الله بقتْلِه ، وهتْك حُرمته ، وإباحة مالِه ، وأيّ دليل على إهمال الأمّة للقرآن أكبَرَ مِن هذا التشتّت العظيم ؟ ! !

وقال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) في صفة القرآن :

( ثمّ أنزل عليه الكتاب نوراً لا تطفأ مصابيحه ، وسِراجاً لا يخبو توَقّده ، وبحراً لا يُدرك قعْرُه ، ومنهاجاً لا يضلّ نهجه ، وشُعاعاً لا يظلم ضَوءه ، وفرقاناً لا يخمد برهانه ، وتِبياناً (١) لا تُهدم أركانه ، وشفاء لا تُخشى أسقامه ، وعزّاً لا تُهزم أنصاره ، وحقّ لا تُخذل أعوانه ، فهو معدن الإيمان وبحبوحته ، وينابيع العِلم وبحوره ، ورياض العدْل وغدرانه ، وأثافيّ الإسلام وبنيانه ، وأَودية الحقّ وغِيطانه ، وبحرٌ لا يُنزفه المنتزفون ، وعيون لا ينضبها الماتحون ، ومناهل لا يغيضها الواردون ، ومنازل لا يضلّ نهجها المسافرون ، وأعلام لا يعمى عنها السائرون ، وآكام لا يجوز عنها القاصدون ، جعله الله ريّاً لعطش العلماء ، وربيعاً لقلوب الفقهاء ، ومحاجّ لطُرق الصلحاء ، ودواء ليس بعده داء ، ونوراً ليس معه ظلمة ، وحبلاً وثيقاً عُرْوَته ، ومعقلاً منيعاً ذروَته ، وعِزّاً لمَن تولاّه ، وسلماً لمَن دخله ، وهدىً لمَن ائتمّ به ، وعُذراً لمَن انتحله ، وبرهاناً لمَن تكلّم به ، وشاهداً لمَن خاصم به ، وفلجاً لمَن حاجّ به ، وحاملاً لمًن حمله ، ومَطِيّة لمَن أعمله ، وآية لمَن توسّم ،

_____________________

(١) في بحار الأنوار (بنياناً) بدل (تبياناً)

٢١

وجُنّة لمَن استلأم ، وعِلْماً لمَن وعى ، وحديثاً لمَن روى ، وحُكماً لمَن قضى ) (١) .

وقد استعرضتْ هذه الخطبة الشريفة كثيراً مِن الأمور المهمّة التي يجب الوقوف عليها ، والتدبّر في معانيها فقوله :

( لا يخبو توقده ) (٢) يريد بقوله هذا وبكثير مِن جُمَل هذه الخطبة ، أنّ القرآن لا تنتهي معانيه ، وأنّه غضٌّ جديد إلى يوم القيامة فقد تنزل الآية في مورد أو في شخص أو في قَوم ، ولكنّها لا تختصّ بذلك المورد أو ذلك الشخص أو أولئك القَوم ، فهي عامّة المعنى

وقد روى العياشي بإسناده عن أبي جعفر ( عليه السلام ) في قوله تعالى: ( ولِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ ) ١٢ : ٨

أنّه قال :

( عليٌّ : الهادي ، ومنّا الهادي ، فقلتُ : فأنت جُعِلت فداك الهادي قال : صدقت ، إنّ القرآن حيٌّ لا يموت ، والآية حيّة لا تموت ، فلو كانت الآية إذ نزلت في الأقوام وماتوا ماتت الآية ؛ لمات القرآن ، ولكن هي جارية في الباقين كما جرَتْ في الماضين )

وعن أبي عبد الله ( عليه السلام ) :

( إنّ القرآن حيٌّ لم يمُتْ ، وإنّه يجري كما يجري الليل والنهار ، وكما تجري الشمس والقمر ، ويجري على آخرنا كما يجري على أوّلنا ) .

_____________________

(١) نهج البلاغة مِن خطبة أوّلها : (يعلم عجيج الوحوش) .

(٢) خبت النار : خَمُد لَهَبُها

٢٢

وفي الكافي عن الصادق ( عليه السلام ) ، أنّه قال لعمر بن يزيد لمّا سأله عن قوله تعالى: ( وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ ) ١٣ : ٢١

( هذه نزلت في رحِم آل محمّد ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) ، وقد تكون في قرابتك ، فلا تكوننّ ممّن يقول للشيء : إنّه في شيء واحد )

وفي تفسير الفرات :

( ولو أنّ الآية إذا نزلت في قَوْم ، ثمّ مات أولئك ماتت الآية ، لَما بقيَ مِن القرآن شيء ، ولكنّ القرآن يجري أوّله على آخره مادامت السماوات والأرض ، ولكلّ قوْم آية يتلوها هم منها مِن خير أو شرّ ) .

إلى غير هذه مِن الروايات الواردة في المقام(١)

( ومنهاجاً لا يضلّ نهجه ) ، يريد به : أنّ القرآن طريق لا يضلّ سالكه ، فقد أنزله الله تعالى هداية لخلْقِه ، فهو حافظ لمَن اتّبعه عن الضلال .

( وتبياناً لا تُهدم أركانه ) ، المحتمل في المراد مِن هذه الجملة أحد وجهَين :الأوّل : إنّ أركان القرآن في معارفه وتعاليمه، وجميع ما فيه مِن الحقائق مُحكمة لا تقبل التضعضع والانهدامالثاني : إنّ القرآن بألفاظه لا يتسرّب إليه الخلل والنقصان ، فيكون فيها إيماء إلى حِفظ القرآن عن التحريف

( ورياض العدل وغدرانه ) (٢) ، معنى هذه الجملة : أنّ العدْل بجميع نواحيه

_____________________

(١) مرآة الأنوار ص ٣ ـ ٤ .

(٢) الرياض : جمع رَوْضة : وهي الأرض الخضرة بحُسن النبات والغدران : جمع غدير : وهو الماء الذي تغدره السيول. والعدْل : الاستقامة

٢٣

مِن الاستقامة في العقيدة والعمل والأخلاق ، قد اجتمع في الكتاب العزيز ، فهو مَجمعُ العدالة وملتقى متفرّقاتها

( وأثافيّ الإسلام ) (١) ، ومعنى ذلك : أنّ استقامة الإسلام وثباته بالقرآن ، كما أنّ استقامة القِدْر على وضعه الخاصّ تكون بسبب الأثافيّ

( وأَودية الحقّ وغِيطانه ) ، يريد بذلك : أنّ القرآن منابت الحقّ ، وفى الجملة تشبيه القرآن بالأرض الواسعة المطمئنّة ، وتشبيه الحقّ بالنبات النابت فيها وفي ذلك دلالة على أنّ المتمسّك بغير القرآن لا يمكن أنْ يُصيب الحقّ ، لأنّ القرآن هو منبت الحقّ ، ولا حقّ في غيره .

( وبحرٌ لا يُنزفه المنتزفون )(٢) ، ومعنى هذه الجملة والجُمَل التي بعدها : أنّ المتصدّين لفَهْم معاني القرآن لا يصِلون إلى منتهاه ، لأنّه غير متناهي المعاني ، بل وفيها دلالة على أنّ معاني القرآن لا تنقص أصلاً ، كما لا تنضب العيون الجارية بالسقاية منها

( وآكامٌ لا يجوز عنها القاصدون ) (٣) ، والمراد أنّ القاصدين لا يصِلون إلى أعاليّ الكتاب ليتجاوزوها ، وفي هذا القَول إشارة إلى أنّ للقرآن بواطن لا تصِل إليها أفهام أُولي الأفهام وسنُبيّن هذا في ما سيأتي إنْ شاء الله تعالى .

وقد يكون المراد : أنّ القاصدين إذا وصلوا إلى أعاليه وقفوا عندها ولم يطلبوا غيرها ، لأنّهم يجدون مقاصدهم عندها على الوجه الأتمّ .

فضْل قراءة القرآن :

القرآن : هو الناموس الإلهي الذي تكفّل للناس بإصلاح الدين والدنيا ، وضمن

_____________________

(١) الأثافيّ كأمانيّ جمع أثفية - بالضمّ والكسر - : وهي الحجارة التي يوضع عليها القِدر .

(٢) نزف ماء البئر : نزح كلّه .

(٣) والآكام جمع أُكَم ، كقصب ، وهو جمع أكَمَة ، كقصبة ، وهي التلّ

٢٤

لهم سعادة الآخرة والأُولى ، فكلّ آية مِن آياته منبعٌ فيّاض بالهداية ، ومعدن مِن معادن الإرشاد والرحمة ، فالذي تروقه السعادة الخالدة والنجاح في مسالك الدين والدنيا ، عليه أنْ يتعاهد كتاب الله العزيز آناء الليل وأطراف النهار ، ويجعل آياته الكريمة قَيْدَ ذاكرته ، ومزاج تفكيره ، ليسير على ضوء الذِكر الحكيم إلى نجاحٍ غير منصرم ، وتجارةٍ لن تبور .

وما أكثر الأحاديث الواردة عن أئمّة الهدى ( عليهم السلام ) ، وعن جدّهم الأعظم ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) في فضْل تلاوة القرآن .

منها : ما عن الإمام الباقر ( عليه السلام ) ، قال :

( قال رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) : مَن قرأ عشر آيات في ليلة لم يُكتب مِن الغافلين ، ومَن قرأ خمسين آية كُتِب مِن الذاكرين ، ومَن قرأ مِئة أية كُتِب مِن القانتين ، ومَن قرأ مِئتَي آية كُتِب مِن الخاشعين ، ومَن قرأ ثلاثمِئة آية كُتِب مِن الفائزين ، ومَن قرأ خمسمِئة أية كُتِب مِن المجتهدين ، ومَن قرأ ألف آية كتِب له قنطار مِن تَبْر . )

ومنها : ما عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) ، قال :

( القرآن عهد الله إلى خلْقِه ، فقد ينبغي للمرء المسلم أنْ ينظر في عهده ، وأنْ يقرأ منه في كلّ يوم خمسين آية ) وقال :

( ما يمنع التاجر منكم المشغول في سوقه إذا رجع إلى منزله ، أنْ لا ينام حتّى يقرأ سورة مِن القرآن ، فيُكتب له مكان كلّ آية يقرأها عشر حسنات ، ويُمحى عنه عشر سيّئات ؟ ) وقال :

٢٥

( عليكم بتلاوة القرآن ، فإنّ درجات الجنّة على عدد آيات القرآن ، فإذا كان يوم القيامة ، يُقال لقارئ القرآن : إقرأ واَرْقَ ، فكلّما قرأ آية رقى درجة ) .

وقد جَمعتْ كتُب الأصحاب مِن جوامع الحديث ، كثيراً مِن هذه الآثار الشريفة مَن أرادها فليطلبها وفي التاسع عشر مِن كتاب بحار الأنوار الشيء الكثير مِن ذلك .

وقد دلّت جملة مِن هذه الآثار على فضْل القراءة في المصحف على القراءة عن ظهر القلب ومِن هذه الأحاديث : قَول اسحاق بن عمّار للصادق ( عليه السلام ) :

( جُعلت فِداك إنّي أحفظ القرآن عن ظهْرِ قلبي ، فأقرأه عن ظهْرِ قلبي أفضل ، أو أنظر في المصحف ؟ قال : فقال لي : لا ، بل اقرأه وانظر في المصحف ، فهو أفضل أَما علِمتَ أنّ النظر في المصحف عبادة ؟ ) وقال :

( مَن قرأ القرآن في المصحف مُتِّع ببصره ، وخُفِّف عن والدَيه وإنْ كانا كافرَين )(١)

وفي الحثّ على القراءة في نفس المصحف نكتة جليلة ينبغي الالتفات إليها ، وهو الإلماع إلى كلاءة القرآن عن الاندراس بتكثّر نُسَخِه ، فإنّه لو اكتفى بالقراءة عن ظهر القلب ؛ لهُجِرَتْ نُسَخ الكتاب ، وأدّى ذلك إلى قلِّتها ، ولعلّه يؤدّي أخيراً إلى انمحاء آثارها .

على أنّ هناك آثاراً جزيلة نصّت عليها الأحاديث ، لا تحصل إلاّ بالقراءة في المصحف ،منها : قوله : ( مُتِّع ببصره ) وهذه الكلمة مِن جوامع الكَلِم ، فيراد

_____________________

(١) هذه الروايات في أصول الكافي ، كتاب فضل القرآن وفي الوسائل طبعة عين الدولة ج ١ ص ٣٧٠

٢٦

منها : أنّ القراءة في المصحف سبب لحِفْظ البصر مِن العَمى والرمَد ، أو يُراد منه أنّ القراءة في المصحف سبب لتمتّع القارئ بمغازي القرآن الجليلة ونكاته الدقيقة ؛ لأنّ الإنسان عند النظر إلى ما يروقه مِن المرئيّات تبتهج نفسه ، ويجد انتعاشاً في بصره وبصيرته .

وكذلك قارئ القرآن إذا سرّح بصره في ألفاظه ، وأطْلق فِكره في معانيه ، وتعمّق في معارفه الراقية وتعاليمه الثمينة ، يجد في نفسه لذّة الوقوف عليها ، ومتعة الطموح إليها ، ويشاهد هشّة مِن روحِه ، وتطلّع مِن قلبِه .

وقد أرشدَتْنا الأحاديث الشريفة إلى فضْل القراءة في البيوت ومِن أسرار ذلك إذاعة أمر الإسلام ، وانتشار قراءة القرآن ، فإنّ الرجل إذا قرأه في بيته قرأتْه المرأة ، وقرأه الطفل ، وذاع أمره وانتشر أمّا إذا جُعِل لقراءة القرآن أماكن مخصوصة ، فإنّ القراءة لا تتهيّأ لكلّ أحد ، وفي كلّ وقت ، وهذا مِن أعظم الأسباب في نشْر الإسلام .

ولعلّ مِن أسراره أيضاً إقامة الشعار الإلهي ، إذا ارتفعت الأصوات بالقراءة في البيوت بُكْرَةً وعشيّاً ، فيَعْظُم أمر الإسلام في نفوس السامعين ، لِما يعروهم مِن الدهشة عند ارتفاع أصوات القُرّاء في مختلف نواحي البلد

ومِن آثار القراءة في البيوت ما ورَد في الأحاديث :

( إنّ البيت الذى يُقرأ فيه القرآن ويُذكر الله تعالى فيه تكثر بركته ، وتحضره الملائكة ، وتهجره الشياطين ، ويُضئ لأهل السماء كما يُضئ الكوكب الدرّيّ لأهل الأرض ، وإنّ البيت الذي لا يُقرأ فيه القرآن ، ولا يُذكر الله تعالى فيه تقلّ بركته ، وتهجره الملائكة ، وتحضره الشياطين )(١) .

_____________________

(١) أصول الكافي ، كتاب فضْل القرآن

٢٧

نعم قد ورَد في الأحاديث في فضْل القرآن ، وفي الكرامات التي يختصّ الله بها قارءه ما يُذهل العقول ويُحيِّر الألباب ، وقد قال رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) :

( مَن قرأ حرفاً مِن كتاب الله تعالى ، فله حسنة ، والحسنة بعَشْر أمثالها ، لا أقول ألم حرف ، ولكنْ : ألفٌ حرف ، ولامٌ حرف ، وميمٌ حرف ) .

وقد ورد هذا الحديث مِن طُرُق العامّة ، فقد نقله القرطبي(١) عن الترمذي عن ابن مسعود ، وروى الكُلَيني قريبا منه عن الصادق ( عليه السلام ) وإنّ الناظر في جوامع كتُب الحديث ومفرداتها ، يرى مِن أمثال هذا الحديث الشيء الكثير في فضْل القرآن وقراءته ، وخواصّ سِوَره وآياته .

وهناك حُثالة مِن كَذَبَة الرواة ، توَهّموا نقصان ما ورَد في ذلك ، فوضعوا مِن أنفسهم أحاديث - في فضْل القرآن وسِوَره - لم ينزل بها وَحْيٌ ، ولم ترِد به سُنّة ، وهؤلاء كأبي عصمة فرج بن أبي مريم المروزي ، ومحمّد بن عكاشة الكرماني ، وأحمد بن عبد الله الجويباري

وقد اعترف أبو عصمة المروزي بذلك ، فقد قيل له : مِن أين لك عن عكرمة عن ابن عباس في فضْل سِوَر القرآن سورة سورة ؟ فقال :

( إنّي رأيت الناس قد أعرضوا عن القرآن ، واشتغلوا بفقه أبي حنيفة ، ومغازي محمّد بن إسحاق ، فوَضعتُ هذا الحديث حِسْبة )

وقال أبو عمرو عثمان بن الصلاح في شأن الحديث ، الذي يُروى عن أُبَي بن كعب عن رسول الله ( ص ) في فضْل القرآن سورة سورة : ( قد بحث باحثٌ عن مخرجه حتّى انتهى إلى مَن

_____________________

(١) تفسير القرطبي ج ١ ص ٧ ، وفي الكافي كتاب فضل القرآن

٢٨

اعترف بأنّه وجماعة وضعوه وقد أخطأ الواحدي وجماعة مِن المفسّرين ، حيث أو دعوه في تفاسيرهم )(١) .

انظر إلى هؤلاء المجترئين على الله ، كيف يكذبون على رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) في الحديث ؟! ثمّ يجعلون هذا الافتراء حِسْبة يتقرّبون به إلى الله :

( كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) ١٠ : ١٢ .

التدبّر في القرآن ومعرفة تفسيره :

ورَد الحثّ الشديد في الكتاب العزيز ، وفى السُنّة الصحيحة على التدبّر في معاني القرآن ، والتفكّر في مقاصده وأهدافه قال الله تعالى :

( أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا ) ٤٧ : ٢٤

وفى هذه الآية الكريمة توبيخ عظيم على ترْك التدبّر في القرآن وفي الحديث عن ابن عبّاس عن النبيّ - ص - أنّه قال : ( أعرِبوا القرآن والتمسوا غرائبه ) وعن أبي عبد الرحمن السلمي قال :

( حدّثنا مَن كان يُقرئنا مِن الصحابة : أنّهم كانوا يأخذون مِن رسول الله ( ص ) عشْر آيات ، فلا يأخذون في العشْر الأخرى حتّى يعلموا ما في هذه مِن العِلم والعمل )(٢) .

وعن عثمان وابن مسعود وأُبَي :

( أنّ رسول الله ( ص ) كان يُقرئهم العشْر ، فلا

_____________________

(١) نفس المصدر ج ١ ص ٧٨ ـ ٧٩ .

(٢) تفسير القرطبي ج ١ ص ٢٦

٢٩

يجاوزونها إلى عشْر أخرى ، حتّى يتعلّموا ما فيها مِن العمل ، فيعلّمهم القرآن والعمل جميعا )(١)

وعن عليّ بن أبي طالب ( عليه السلام ) ، أنّه ذكر جابر بن عبد الله ووصفه بالعِلم ، فقال له رجل : جُعلتُ فداك تصف جابراً بالعِلم وأنت أنت ؟! فقال : إنّه كان يعرف(٢) تفسير قوله تعالى :

( إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ ) ٢٨ : ٨٥ .

والأحاديث في فضْل التدبّر في القرآن كثيرة ففي الجزء التاسع عشر مِن بحار الأنوار طائفة كبيرة مِن هذه الأحاديث ، على أنّ ذلك لا يحتاج إلى تتبّع أخبار وآثار .

فإنّ القرآن هو الكتاب الذي أنزله الله نظاماً يقتدي الناس به في دنياهم ، ويستضيؤن بنوره في سلوكهم إلى أُخراهم ، وهذه النتائج لا تحصل إلاّ بالتدبّر فيه والتفكّر في معانيه وهذا أمر يَحكم به العقل وكلّ ما ورَد مِن الأحاديث أو مِن الآيات في فضْل التدبّر ، فهي ترشد إليه .

ففي الكافي بإسناده عن الزهري ، قال : سمعت عليّ بن الحسين ( عليهما السلام ) يقول :

( آيات القرآن خزائن ، فكلّما فُتحت خزينة ينبغي لك أنْ تنظر ما فيها )(٣) .

_____________________

(١) أصول الكافي ، كتاب فضْل القرآن .

(٢) تفسير القرطبي ج ١ ص ٢٦

(٣) أصول الكافي ، كتاب فضْل القرآن

٣٠

إعجاز القرآن

٣١

معنى الإعجاز لا بدّ للنبيّ مِن إقامة المُعجِز ، خير المُعجزات ما شابه أرقى فنون العصر القرآن معجزة إلهية القرآن معجزة خالدة القرآن والمعارف القرآن والاستقامة في البيان القرآن في نظامه وتشريعه القرآن والإتقان في المعاني القرآن والإخبار بالغَيْب القرآن وأسراره الخليقة

٣٢

قد ذُكر للإعجاز في اللغة عدّة معانٍ : الفَوْت وجدان العَجْز إحداثه كالتعجيز فيقال : أعجزه الأمر الفلاني أي فاته ، ويقال : أعجزت زيداً ، أي وجدته عاجزاً ، أو جعلته عاجزاً .

وهو في الاصطلاح : أنْ يأتي المدّعي لمنصب مِن المناصب الإلهية بما يخرق نواميس الطبيعة ، ويعجز عنه غيره شاهداً على صِدْق دعواه

وإنّما يكون المُعجِز شاهداً على صِدْق ذلك المدّعي ، إذا أمكن أنْ يكون صادقاً في تلك الدعوى وأمّا إذا امتنع صِدْقه في دعواه بحُكم العقل ، أو بحكم النقل الثابت عن نبيٍّ ، أو إمامٍ معلوم العصمة ، فلا يكون ذلك شاهداً على الصِدْق ، ولا يسمّى معجزاً في الاصطلاح ، وإنْ عجز البشر عن أمثاله :

مثال الأوّل : ما إذا ادّعى أحد أنّه إله ، فإنّ هذه الدعوى يستحيل أنْ تكون صادقة بحُكم العقل ، للبراهين الصحيحة الدالّة على استحالة ذلك .

ومثال الثاني : ما إذا ادّعى أحد النبوّة بعد نبيِّ الإسلام ، فإنّ هذه الدعوى كاذبة قطعاً بحُكم النقل المقطوع بثبوته الوارد عن نبيِّ الإسلام ، وعن خلفائه المعصومين ، بأنّ نبوّته خاتمة النبوّات ، وإذا كانت الدعوى باطلة قطعاً ، فماذا يُفيد الشاهد إذا أقامه المدّعي ؟ ولا يجب على الله جلّ شأنه ، أنْ يُبطل ذلك بعد حُكم العقل باستحالة دعواه ، أو شهادة النقل ببطلانها .

( البيان - ٣ )

٣٣

وقد يدّعي أحد منصباً إلهياً ، ثمّ يأتي بشيء يعجز عنه غيره مِن البشر ، ويكون ذلك الشيء شاهداً على كَذِب ذلك المدّعي ، كما يُروى أنّ ( مسيلمة ) تفل في بئر قليلة الماء ليكثر ماؤها ، فغار جميع ما فيها مِن الماء ، وأنّه أمَرَّ يده على رؤوس صبيان بني حنيفة وحنّكهم ، فأصاب القَرَع كلّ صبيٍّ مسح رأسه ، ولثغ كلَّ صبيّ حنّكه(١) ، فإذا أتى المدّعي بمثل هذا الشاهد لا يجب على الله أنْ يُبطله ، فإنّ في هذا كفاية لإبطال دعواه ، ولا يسمّى ذلك مُعجزاً في الاصطلاح .

وليس مِن الإعجاز المصطلح عليه ما يُظهره الساحر والمشعوِذ ، أو العالِم ببعض العلوم النظرية الدقيقة ، وإنْ أتى بشيء يعجز عنه غيره ، ولا يجب على الله إبطاله إذا عُلِم استناده في عمله إلى أمرٍ طبيعيّ مِن : سحرٍ ، أو شعبذة ، أو نحو ذلك ، وإنْ ادّعى ذلك الشخص منصباً إلهياً ، وقد أتى بذلك الفعل شاهداً على صِدقه ، فإنّ العلوم النظرية الدقيقة لها قواعد معلومة عند أهلها ، وتلك القواعد لا بدّ مِن أنْ توصِل إلى نتائجها ، وإنْ احتاجت إلى دقّة في التطبيق .

وعلى هذا القياس تخرج غرائب عِلم الطبّ المنوطة بطبايع الأشياء ، وإنْ كانت خفيّة على عامّة الناس ، بل وإنْ كانت خفيّة على الأطبّاء أنفسهم

وليس مِن القبيح أن يختص الله أحدا من خلقه بمعرفة شئ من تلك الاشياء ، وإن كانت دقيقة وبعيدة عن متناول أيدي عامة الناس ، ولكنّ القبيح أنْ يغري الجاهل بجهله ، وأنْ يجري المُعجز على يد الكاذب ، فيضلّ الناس عن طريق الهدى

لا بد للنبيّ مِن إقامة المُعجز :

تكليف عامّة البشر واجب على الله سبحانه ، وهذا الحُكم قطعيّ ، قد ثبت بالبراهين الصحيحة ، والأدلّة العقلية الواضحة ، فإنّهم محتاجون إلى التكليف في

_____________________

(١) الكامل لابن الأثير ج ٢ ص ١٣٨

٣٤

طريق تكاملهم ، وحصولهم على السعادة الكبرى ، والتجارة الرابحة فإذا لم يكلّفهم الله سبحانه : فإمّا أنْ يكون ذلك لعدم عِلمه بحاجتهم إلى التكليف ، وهذا جهل يتنزّه عنه الحقّ تعالى ، وإمّا لأنّ الله أراد حجْبَهم عن الوصول إلى كمالاتهم ، وهذا بُخْل يستحيل على الجواد المطلق ، وإمّا لأنّه أراد تكليفهم فلم يمكنه ذلك ، وهو عجْزٌ يمتنع على القادر المطلق ، وإذن فلا بدّ مِن تكليف البشر ، ومِن الضروري أنّ التكليف يحتاج إلى مُبلّغ مِن نوع البشر يوقِفهم على خفيّ التكليف وجليِّه :

( لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ ) ٨ : ٤٢ .

ومِن الضروريّ أيضاً ، أنّ السفارة الإلهية مِن المناصب العظيمة التى يكثر لها المدّعون ، ويرغب في الحصول عليها الراغبون ، ونتيجة هذا أنْ يشتبه الصادق بالكاذب ، ويختلط المضلّ بالهادي .

وإذن فلابدّ لمدّعي السفارة أنْ يُقيم شاهداً واضحاً ، يدلّ على صدْقِه في الدعوى ، وأمانته في التبليغ ، ولا يكون هذا الشاهد مِن الأفعال العادية التي يمكن غيره أن يأتي بنظيرها ، فينحصر الطريق بما يخرق النواميس الطبيعية .

وإنّما يكون الإعجاز دليلاً على صدْق المدّعي ، لأنّ المُعجز فيه خًرْق للنواميس الطبيعية ، فلا يمكن أنْ يقع مِن أحدٍ إلاّ بعناية مِن الله تعالى ، وإقدار منه ، فلو كان مدّعي النبوّة كاذباً في دعواه ، كان إقداره على المعجز مِن قِبَل الله تعالى ، إغراءً بالجَهْل وإشادةً بالباطل ، وذلك محال على الحكيم تعالى فإذا ظهرت المعجزة على يده كانت دالّة على صِدقه ، وكاشفة عن رضا الحقّ سبحانه بنبوّته .

وما ذكرناه قاعدة مطّردة يجري عليها العقلاء مِن الناس فيما يشبه هذه الأمور ، ولا يشكّون فيها أبداً ، فإذا ادّعى أحدٌ مِن الناس سفارة عن مَلِك

٣٥

مِن الملوك في أمور تختصّ برعيّته ، كان مِن الواجب عليه أوّلاً أنْ يُقيم على دعواه دليلاً يعضدها ، حين تشكّ الرعيّة في صِدقه، ولابدّ مِن أنْ يكون ذلك الدليل في غاية الوضوح ، فإذا قال لهم ذلك السفير : الشاهد على صِدْقي ، أنّ المَلِك غداً سيُحيّيني بتحيّته الخاصّة التي يحيّي بها سفراءه الآخرين .

فإذا عَلِم المَلِك ما جرى بين السفير وبين الرعيّة ، ثمّ حيّاه في الوقت المعيّن بتلك التحيّة ، كان فِعْل المَلِك هذا تصديقاً للمدّعي في السفارة ، ولا يرتاب العقلاء في ذلك ؛ لأنّ المَلِك القادر المحافظ على مصالح رعيّته يقبح عليه أنْ يُصدّق هذا المدّعي ، إذا كان كاذباً ، لأنّه يريد إفساد الرعيّة .

وإذا كان هذا الفِعْل قبيحاً مِن سائر العقلاء ، كان محالاً على الحكيم المطلق ، وقد أشار سبحانه إلى هذا المعنى بقوله في كتابه الكريم :

( وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ ، لأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ، ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ ) ٦٩ : ٤٤ - ٤٦ .

والمراد مِن الآية الكريمة ، أنّ محمّداً الذي أثبتْنا نبوّته ، وأظهرنا المعجزة لتصديقه ، لا يمكن أنْ يتقوّل علينا بعض الأقاويل ، ولو صنع ذلك لأخذنا منه باليمين ، ولقطعنا منه الوتين ، فإنّ سكوتنا عن هذه الأقاويل إمضاء منّا لها ، وإدخال للباطل في شريعة الهدى ، فيجب علينا حِفْظ الشريعة في مرحلة البقاء ، كما وجَب علينا في مرحلة الحدوث .

ولكن دلالة المُعجِز على صِدق مدّعي النبوّة متوقّفة على القول : بأنّ العقل يحكم بالحسن والقبح .

أمّا الأشاعرة الذين يُنكرون هذا القول ، ويمنعون حُكم العقل بذلك ، فلابدّ لهم مِن سدّ باب التصديق بالنبوّة وهذا أحدُ مفاسد هذا القول ، وإنّما لَزِم مِن قَولهم هذا سدّ باب التصديق بالنبوّة ؛ لأنّ المعجز إنّما يكون دليلاً على صِدق النبوّة ، إذا قَبُح في العقل أنْ يَظهر المعجز على يد الكاذب ، وإذا لم يحكم العقل بذلك لم يستطع أحد أنْ يُميّز بين الصادق والكاذب

٣٦

وقد أجاب ( الفضل بن روزبهان ) عن هذا الإشكال : بأنّ فِعْل القبيح وإنْ كان ممكناً على الله تعالى ، ولكنّ عادة الله قد جَرتْ على تخصيص المعجزة بالصادق ، فلا تظهر معجزة على يد الكاذب ، ولا يلزم سدّ باب التصديق بالنبوّة على قَول الأشعريين وهذا الجواب بيِّن الضَعْف ، متفكّك العُرى .

أوّلاً : إنّ عادة الله التي يُخبِر عنها ( ابن روزبهان ) لَيست مِن الأمور التي تُدرك بالحسّ ، ويقع عليها السمع والبصر ، فينحصر طريق العِلم بها بالعقل ، وإذا امتنع على العقل أنْ يَحكم بالحُسن والقُبح - كما يراه الأشعري - لم يمكن لأحدٍ ، أنْ يعلم باستقرار هذه العادة لله تعالى .

ثانياً : إنّ إثبات هذه العادة يتوّف على تصديق الأنبياء السابقين ، الذين جاءوا بالمعجزات ، حتّى نعلم أنّ عادة الله قد استقرّت على تخصيص المعجزة بالصادق أمّا المنكرون لتلك النبوّات ، أو المشكّكون فيها ، فلا طريق لهم إلى إثبات هذه العادة التي يدّعيها ( ابن روزبهان ) ، فلا تقوم عليهم الحُجّة بالمعجزة .

ثالثاً : إذا تساوى الفِعل والتَرْك في نظر العقل ، ولم يحكم في ذلك بقُبحٍ ولا حُسْن ، فأيّ مانع يمنع الله أنْ يُغيّر عادته ؟ وهو القادر المطلق الذي لا يُسأل عمّا يفعل ، فيُظهر المعجزة على يد الكاذب

رابعاً : إنّ العادة مِن الأمور الحادثة التي تحصل مِن تكرّر العمل ، وهو يحتاج إلى مُضيّ زمان ، وعلى هذا فما هي الحُجّة على ثبوت النبوّة الأُولى الثابتة قبل أنْ تستقرّ هذه العادة ؟

وسنتعرّض لأقوال الأشعريين فيما يأتي ، ونوضّح وجوه فسادها .

خير المعجزات ما شابه أرقى فنون العصر :

المعجز - كما عرفت - هو ما يخرِق نواميس الطبيعة ، ويَعجز عنه سائر أفراد البشر ، إذا أتى به المدّعي شاهداً على سفارة إلهية وممّا لا يرتاب فيه أنّ

٣٧

معرفة ذلك تختصّ بعلماء الصنعة التي يشابهها ذلك المعجز ، فإنّ علماء أيّ صنعة أعرف بخصوصيّاتها ، وأكثر إحاطة بمزاياها ، فهم يُميّزون بين ما يعجز البشر عن الإتيان بمثله وبين ما يمكنهم ؛ ولذلك فالعلماء أسرع تصديقاً بالمُعجز .

أمّا الجاهل فباب الشكّ عنده مفتوح على مصراعيه ، ما دام جاهلاً بمبادئ الصنعة ، وما دام يحتمل أنّ المدّعي قد اعتمد على مبادئ معلومة عند الخاصّة مِن أهل تلك الصنعة ، فيكون متباطئاً عن الإذعان ؛ ولذلك اقتضت الحكمة الإلهية أنْ يخصّ كلّ نبيّ بمعجزة تشابه الصنعة المعروفة في زمانه ، والتي يَكثر العلماء بها مِن أهل عصره ، فإنّه أسرع للتصديق وأقوَم للحجّة .

فكان مِن الحكمة أنْ يخصّ موسى ( عليه السلام ) بالعصا واليد البيضاء ، لمّا شاع السِحر في زمانه وكثُر الساحرون ؛ ولذلك كانت السحرة أسرع الناس إلى تصديق ذلك البرهان والإذعان به ، حين رأَوا العصا تنقلّب ثعباناً ، وتلقف ما يأفكون ، ثمّ ترجع إلى حالتها الأُولى ، رأى علماء السِحر ذلك فعلِموا أنّه خارج عن حدود السِحر وآمنوا بأنّه معجزة إلهية ، وأعلنوا إيمانهم في مجلس فرعون ، ولم يعبأوا بسَخَط فرعون ولا بوعيده .

وشاع الطبّ اليوناني في عصر المسيح ( عليه السلام ) ، وأتى الأطبّاء في زمانه بالعَجَب العُجاب ، وكان للطبّ رَواج باهر في سوريا وفلسطين ، لأنّهما كانتا مستعمرتَين لليونان ، وحين بعث الله نبيّه المسيح في هذَين القُطْرَين ، شاءت الحكمة أنْ تجعل برهانه شيئاً يشبه الطبّ ، فكان مِن معجزاته أنْ يُحيي الموتى ، وأنْ يُبرئ الأكمَه والأبرص ؛ ليعلم أهل زمانه أنّ ذلك شيء خارج عن قدرة البشر ، وغير مرتبط بمبادئ الطبّ ، وأنّه ناشئ عمّا وراء الطبيعة

وأمّا العرب ، فقد برعت في البلاغة ، وامتازت بالفصاحة ، وبلغت الذرْوَة في فنون الأدب ، حتّى عقدَتْ النوادي وأقامتْ الأسواق للمباراة في الشِعر والخطابة ، فكان المرء يقدر على ما يُحسنه مِن الكلام ، وبلغ مِن تقديرهم للشِعر أنْ عمَدوا لسبع قصائد مِن خِيرة الشِعر القديم ، وكتبوها بماء الذهب في القباطي ،

٣٨

وعُلِّقت على الكعبة ، فكان يُقال هذه مذهّبة فلان ، إذا كانت أجْوَد شِعره(١) .

واهتمّت بشأن الأدب رجال العرب ونساؤهم ، وكان النابغة الذبياني هو الحَكَم في شِعر الشعراء ، يأتي سوق عُكاظ في المَوسم ، فتُضرب له قُبّة حمراء مِن الأدَم ، فتأتيه الشعراء تعرض عليه أشعارها ليحكم فيها(٢) ؛ ولذلك اقتضت الحكمة أنْ يخصّ نبيّ الإسلام بمعجزة البيان ، وبلاغة القرآن ، فعَلِم كلّ عربيّ أنّ هذا مِن كلام الله ، وأنّه خارج ببلاغته عن طَوْق البشر، واعترف بذلك كلّ عربيّ غير معاند .

ويدلّ على هذه الحقيقة ما رُوي عن ابن السكّيت ، أنّه قال لأبي الحسن الرضا ( عليه السلام ) :

( لماذا بعث الله موسى بن عمران ( عليه السلام ) بالعصا ، ويده البيضاء ، وآلة السِحر ؟ وبعث عيسى بآلة الطبّ ؟ وبعث محمّداً ( صلّى الله عليه وآله وسلّم وعلى جميع الأنبياء ) بالكلام والخُطَب ؟ .

فقال أبو الحسن ( عليه السلام ) : إنّ الله لمّا بعث موسى ( عليه السلام ) كان الغالب على أهل عصره السِحر ، فأتاهم مِن عند الله بما لم يكن في وسْعِهم مثله ، وما أبطل به سِحرهم ، وأثبت به الحُجّة عليهم .

وإنّ الله بعث عيسى ( عليه السلام ) في وقت قد ظهرت فيه الزمانات ، واحتاج الناس إلى الطبّ ، فأتاهم مِن عند الله بما لم يكن عندهم مثله ، وبما أحيى لهم الموتى ، وأبرأ الأكمه والأبرص بإذن الله ، وأثبت به الحجّة عليهم .

_______________________

(١) العمدة : لابن رشيق ج ١ ص ٧٨ .

(٢) شعراء النصرانية ج ٢ ص ٦٤٠ طَبْع بيروت

٣٩

وإنّ الله بعث محمّداً ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) في وقت كان الغالب على أهل عصره الخُطَب والكلام - وأظنّه قال : الشِعر - فأتاهم من عند الله ، مِن مواعظه وحِكَمِه ما أبطل به قَولهم ، وأثبت به الحجّة عليهم )(١) .

وقد كانت للنبيّ معجزات أخرى غير القرآن ، كشَقّ القمر ، وتكلّم الثعبان ، وتسبيح الحصى ، ولكنّ القرآن أعظم هذه المعجزات شأناً ، وأقْوَمها بالحجّة ؛ لأنّ العربيّ الجاهل بعلوم الطبيعة وأسرار التكوين ، قد يشكّ في هذه المعجزات ، وينسبها إلى أسباب عِلميّة يجهلها ، وأقرب هذه الأسباب إلى ذهنه هو السِحر فهو ينسبها إليه ، ولكنّه لا يشكّ في بلاغة القرآن وإعجازه؛ لأنّه يحيط بفنون البلاغة ، ويُدرك أسرارها .

على أنّ تلك المعجزات الأخرى مؤقّتة لا يمكن لها البقاء ، فسرعان ما تعود خبراً مِن الأخبار ينقله السابق للاّحق ، وينفتح فيه باب التشكيك .

أمّا القرآن فهو باقٍ إلى الأبد ، وإعجازه مستمرّ مع الأجيال ، وسنضع بحثاً خاصّاً عن معجزات النبيّ غير القرآن ، ونتفرّغ فيه لمحاسبة مَن أنكر هذه المعجزات مِن الكُتّاب المعاصرين وغيرهم .

القرآن معجزة إلهية :

قد علِمَ كلّ عاقل بلُغَتِه الدعوة الإسلامية ، أنّ محمّداً - ص - بشّر جميع الأمم بدعوَتهم إلى الإسلام ، وأقام الحجّة عليهم بالقرآن ، وتحدّاهم بإعجازه ، وطلب منهم أنْ يأتوا بمثله ، وإنْ كان بعضهم لبعضٍ ظهيراً ، ثمّ تنَزّل عن ذلك ، فطلب منهم أنْ يأتوا بعَشْر سِوَر مثله مفتريات ، ثمّ تحدّاهم إلى الإتيان بسورة واحدة .

وكان مِن الجدير بالعرب - وفيهم الفُصحاء النابغون في الفصاحة - أنْ

_______________________

(١) أصول الكافي ( كتاب العقل والجهل ) الرواية ٢٠

٤٠