البيان في تفسير القرآن

البيان في تفسير القرآن0%

البيان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 526

البيان في تفسير القرآن

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: السيد أبو القاسم الموسوي الخوئي
تصنيف: الصفحات: 526
المشاهدات: 32044
تحميل: 6086

توضيحات:

بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 526 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 32044 / تحميل: 6086
الحجم الحجم الحجم
البيان في تفسير القرآن

البيان في تفسير القرآن

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

( بعث أبو موسى الأشعريّ إلى قُرّاء أهل البصرة ، فدخل عليه ثلاثمئة رجُل ، قد قرأوا القرآن ، فقال : أنتم خِيار أهل البصرة وقرّاؤهم ، فاتْلوه ولا يطولَنّ عليكم الأمَد فتَقْسوا قلوبُكم ، كما قسَتْ قلوبُ العرب ، مَن كان قبلكم ، وإنّا كنّا نقرأ سورةً كنّا نشبِّهُها في الطول والشدّة ببراءة فأُنْسيتُها ، غير أنّي قد حفِظْتُ منها : لو كان لابن آدمَ وادِيان مِن مالٍ ، لابتغى وادياً ثالثاً ولا يملأ جوفَ ابن آدم إلاّ التراب وكنّا نقرأ سورةً كنّا نُشبّهُها بإحدى المُسبِّحات فأُنْسيتُها ، غير أنّي حفِظْتُ منها : يا أيّها الذين آمنوا لِم تقولون ما لا تفعلون ، فتُكتَب شهادةٌ في أعناقكم ، فتُسألون عنها يوم القيامة )(١) .

٨ - وروى زرّ ، قال : قال أُبَيّ بن كعب يا زرّ :

( كأيّن تقرأ سورة الأحزاب ، قلت : ثلاث وسبعين آية ، قال : إنْ كانت لتُضاهي سورة البقرة ، أو هي أطوَل مِن سورة البقرة . )(٢) .

٩ - وروى ابن أبي داود وابن الأنباري عن ابن شهاب قال :

( بلَغَنا أنّه كان أُنزل قرآن كثير ، فقُتل علماؤه يوم اليمامة ، الذين كانوا قد وعَوه ، ولم يُعلَم بعدهم ولم يُكتَب . )(٣)

١٠ - وروى عمرة عن عائشة ، أنّها قالت :

( كان فيما أُنزل مِن القرآن : عشرُ رَضَعاتٍ معلوماتٍ يُحرِّمنَ ، ثمّ نُسِخْنَ بـ : خَمْسٍ معلومات ، فتوفّيَ رسول الله ( ص ) وهُنّ فيما يُقرأ مِن القرآن )(٤) .

١١ - وروى المسوّر بن مخرمة قال :

_______________________

(١) صحيح مسلم ج ٣ ص ١٠٠ .

(٢) منتخب كنز العمّال بهامش مسند أحمد ج ٢ ص ٤٣ .

(٣) منتخب كنز العمّال بهامش مسند أحمد ج ٢ ص ٥٠ .

(٤) صحيح مسلم ج ٤ ص ١٦٧

٢٠١

( قال عُمَر لعبد الرحمن بن عوف : ألَم تجد فيما أُنزل علينا : أنْ جاهدوا كما جاهدتم أوّل مرّة فإنّا لا نجدها ، قال : أُسقطت فيما أُسقط مِن القرآن )(١) .

١٢ - وروى أبو سفيان الكلاعي : أنّ مسلمة بن مخلد الأنصاري قال لهم ذات يوم :

( أخبروني بآيتَين في القرآن لم يُكتَبا في المصحف ، فلم يُخبروه ، وعندهم أبو الكنود سعد بن مالك ، فقال ابن مسلمة ، إنّ الذينَ آمَنوا وهاجَروا وجاهَدوا في سَبيلِ اللهِ بأمْوالهِم وأنفسِهم ، أَلا أبشروا أنتُم المفلحون والذينَ آوَوْهُم ونَصَروهم وجادَلوا عنهُم القَومَ ، الذينَ غَضِبَ اللهُ عليهِم ، أولئك لا تَعْلَم نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لهم مِن قُرَّةِ أعْيُنِ جزاءً بما كانوا يعملون )(٢) .

وقد نُقل بطُرُق عديدة عن ثبوت سورتَي الخَلع والحَفد ، في مصحف ابن عبّاس وأُبَيّ بن كعب : ( اللهمّ إنّا نستعينُكَ ونستغفركَ ونُثني عليك ، ولا نكْفرك ، ونَخلَع ونترك من يَفْجُرك ، اللهمّ إيّاكَ نَعْبُد ، ولكَ نُصَلّي ونَسْجُد ، وإليكَ نَسْعى ونَحْفَد ، نرجوا رحمتكَ ونَخشى عذابَك ، إنَّ عذابَك بالكافرين مُلْحق ) وغير ذلك ممّا لا يهمّنا استقصاؤه(٣) .

وغير خفِيٍّ أنّ القول بنَسْخِ التلاوة بعينه ، القول بالتحريف والإسقاط .

وبيان ذلك : أنّ نَسْخ التلاوة هذا : إمّا أنْ يكون قد وقع مِن رسول الله ( ص ) ، وإمّا أنْ يكون ممّن تصدّى للزعامة مِن بعده ، فإنْ أراد القائلون

_______________________

(١) الإتقان ج ٢ ص ٤٢ .

(٢) نفس المصدر السابق .

(٣) الإتقان ج ١ ص ١٢٢ - ٢١٣

٢٠٢

بالنَسْخ وقوعه مِن رسول الله ( ص ) ، فهو أمرٌ يحتاج إلى الإثبات وقد اتّفق العلماء أجْمَع على عدم جواز نَسْخ الكتاب بخبر الواحد ، وقد صرّح بذلك جماعة في كتُب الأصول وغيرها(١) ، بل قطَع الشافعيُّ وأكثر أصحابه ، وأكثر أهل الظاهر بامتناع نَسْخ الكتاب بالسُنّة المتواترة ، وإليه ذهب أحمد بن حنبل في إحدى الروايتَين عنه ، بل إنّ جماعة ممّن قال بإمكان نَسْخ الكتاب بالسُنّة المتواترة مَنَع وقوعه(٢) ، وعلى ذلك فكيف تصحّ نسبة النَسْخ إلى النبيّ ( ص ) بأخبار هؤلاء الرواة ؟ مع أنّ نِسبة النَسْخ إلى النبيّ ( ص ) تُنافي جملة مِن الروايات ، التي تضمّنت أنّ الإسقاط قد وقع بعده .

وإنْ أرادوا أنّ النَسْخ قد وقع مِن الّذين تصدّوا للزعامة بعد النبيّ ( ص ) ، فهو عَين القول بالتحريف وعلى ذلك فيمكن أنْ يُدّعى أنّ القول بالتحريف هو مذهب أكثر علماء أهل السُنّة ؛ لأنّهم يقولون بجواز نَسْخ التلاوة ، سواء أنُسِخ الحُكم أم لم يُنسَخْ، بل تردّد الأصوليّون منهم في جواز تلاوة الجُنُب ما نُسِخت تلاوته ، وفي جواز أنْ يمسّه المُحدِث ، واختار بعضهم عدم الجواز نعم ذهبت طائفة مِن المعتزلة إلى عدم جواز نَسْخ التلاوة(٣) .

ومِن العجيب ، أنّ جماعة مْن علماء أهل السُنّة أنكروا نِسبة القول بالتحريف إلى أحد مِن علمائهم ، حتّى إنّ الآلوسي كذَّب الطبرسي في نِسبة القول بالتحريف إلى الحَشوِيّة ، وقال : ( إنّ أحداً مِن علماء أهل السُنّة لم يذهب إلى ذلك ) ، وأعجَبُ مِن ذلك أنّه ذَكر : أنّ قول الطبرسي بعدم التحريف نشأ مِن ظهور فساد قول أصحابه بالتحريف ، فالتجأ هو إلى إنكاره(٤) .

مع أنّك قد عرفت أنّ القول بعدم التحريف هو المشهور ، بل المتسالَم عليه بين علماء الشيعة ومحقّقيهم ، حتّى

_______________________

(١) الموافقات لأبي إسحاق الشاطبي ج ٣ ص ١٠٦ طبعة المطبعة الرحمانية بمصر .

(٢) الإحكام في أصول الأحكام للآمدي ج ٣ ص ٢١٧ .

(٣) نفس المصدر ج ٣ ص ٢٠١ - ٢٠٣ .

(٤) روح المعاني ج ١ ص ٢٤ .

٢٠٣

إنّ الطبرسي قد نقَل كلام السيّد المرتضى بطولِه ، واستدلاله على بطلان القول بالتحريف بأتمّ بيان وأقوى حُجّة(١) .

التحريف والكتاب :

والحقّ بعد هذا كلّه أنّ التحريف ( بالمعنى الذي وقع النزاع فيه ) ، غير واقع في القرآن أصلاً بالأدلّة التالية :

الدليل الأوّل - قوله تعالى :

( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ) ١٥ : ٩ .

فإنّ في هذه الآية دلالة على حِفظ القرآن مِن التحريف ، وإنّ الأيدي الجائرة لن تتمكّن مِن التلاعب فيه

والقائلون بالتحريف قد أوَّلوا هذه الآية الشريفة ، وذكروا في تأويلها وجوهاً :

الأوّل : ( أنّ الذِكر هو الرسول ) ، فقد ورَد استعمال الذِكر فيه في قوله تعالى :

( قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرا ً ٦٥ : ١٠رَسُولاً يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ ٦٥ : ١١) .

وهذا الوجه بيِّن الفساد ؛ لأنّ المراد بالذِكر هو القرآن في كِلتا الآيتين بقرينة التعبير ( بالتنزيل والإنزال ) ، ولو كان المراد هو الرسول ، لكان المناسب أنْ يأتي

_______________________

(١) مجمع البيان ج ١ مقدّمة الكتاب ص ١٥

٢٠٤

بلفْظ ( الإرسال ) ، أو بما يُقارِبه في المعنى ، على أنّ هذا الاحتمال إذا تمّ في الآية الثانية ، فلا يتمّ في آية الحِفظ ، فإنّها مسبوقة بقوله تعالى :

( وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ ) ١٥ : ٦ .

ولا شُبهة في أنّ المراد بالذِكر في هذه الآية هو القرآن ، فتكون قرينة على أنّ المراد مِن الذِكر في آية الحِفظ هو القرآن أيضاً .

الثاني : ( أنْ يُراد مِن حِفظ القرآن صيانته عن القدح فيه ، وعن إبطال ما يتضمّنه مِن المعاني العالية ، والتعاليم الجليلة ) .

وهذا الاحتمال أبْيَنُ فساداً مِن الأوّل ؛ لأنّ صيانته عن القدح :

إنْ أُريد بها حِفظه مِن قَدْح الكفّار والمعاندين ، فلا رَيب في بطلان ذلك ؛ لأنّ قدْحَ هؤلاء في القرآن فوق حدِّ الإحصاء .

وإنْ أُريد أنّ القرآن رصين المعاني ، قويّ الاستدلال مستقيم الطريقة ، وأنّه لهذه الجهات ونحوها أرفع مقاماً مِن أنْ يصل إليه قدْحُ القادحين ، ورَيْب المرتابين ، فهو صحيح ، ولكن هذه ليس مِن الحِفظ بعد التنزيل كما تقوله الآية ؛ لأنّ القرآن بما له مِن الميّزات حافظٌ لنفسه ، وليس محتاجاً إلى حافظٍ آخر ، وهو غير مفاد الآية الكريمة ؛ لأنّها تضمّنت حِفظه بعد التنزيل .

الثالث : ( أنّ الآية دلّت على حِفظ القرآن في الجملة ، ولم تدلّ على حِفظ كلّ فردٍ مِن أفراد القرآن ، فإنّ هذا غير مرادٍ مِن الآية بالضرورة ، وإذا كان المراد حِفظه في الجملة ، كفى في ذلك حِفظه عند الإمام الغائب عليه السلام ) .

وهذا الاحتمال أَوهنُ الاحتمالات ؛ لأنّ حِفظ القرآن يجب أنْ يكون عند مَن أُنزل إليهم ، وهُم عامّة البشر ، أمّا حِفظه عند الإمام ( عليه السلام ) ، فهو نظير حِفظه في

٢٠٥

اللوح المحفوظ ، أو عند مَلَك مِن الملائكة ، وهو معنىً تافه يشبه قول القائل : إنّي أرسلت إليك بهديّة وأنا حافظٌ لها عندي ، أو عند بعض خاصّتي .

ومِن الغريب قول هذا القائل إنّ المراد في الآية حِفظ القرآن في الجملة ، لا حِفظ كلّ فردٍ مِن أفراده ، فكأنّه توهّم أنّ المراد بالذِكر هو القرآن المكتوب ، أو الملفوظ لتكون له أفراد كثيرة ، ومِن الواضح أنّ المراد ليس ذلك ؛ لأنّ القرآن المكتوب أو الملفوظ لا دوام له خارجاً ، فلا يمكن أنْ يُراد مِن آية الحِفظ ، وإنّما المراد بالذِكر هو المحكيّ بهذا القرآن الملفوظ أو المكتوب ، وهو المُنزَل على رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) ، والمراد بحِفظه صيانته عن التلاعب ، وعن الضياع ، فيمكن للبشر عامّة أنْ يَصِلوا إليه ، وهو نظير قولنا القصيدة الفلانية محفوظة ، فإنّا نريد مِن حِفظها صيانتها ، وعدم ضياعها ، بحيث يمكن الحصول عليها .

نعم هنا شُبهة أخرى ترِد على الاستدلال بالآية الكريمة على عدم التحريف وحاصل هذه الشُبهة أنّ مدّعي التحريف في القرآن ، يَحتمل وجود التحريف في هذه الآية نفسها ؛ لأنّها بعض آيات القرآن ، فلا يكون الاستدلال بها صحيح ، حتّى يثبت عدم التحريف ، فلو أردنا أنْ نُثبت عدم التحريف بها كان ذلك مِن الدَور الباطل .

وهذه شُبهة تدلّ على عَزْل العترة الطاهرة عن الخلافة الإلهية ، ولم يُعتمَد على أقوالهم وأفعالهم ، فإنّه لا يسَعُه دفْع هذه الشُبهة ، وأمّا مَن يرى أنّهم حُجَج الله على خلْقِه ، وأنّهم قُرَناء الكتاب في وجوب التمسّك ، فلا ترِد عليه هذه الشُبهة ؛ لأنّ استدلال العترة بالكتاب ، وتقرير أصحابهم عليه يَكشِف عن حُجّية الكتاب الموجود ، وإنْ قيل بتحريفه ، غاية الأمر أنّ حجّية الكتاب على القول بالتحريف تكون متوقّفة على إمضائهم .

(البيان - ١٤)

٢٠٦

الدليل الثاني : قوله تعالى :

( وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ ٤١ : ٤١لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ ٤١ : ٤٢) .

فقد دلّت هذه الآية الكريمة على نفْيِ الباطل بجميع أقسامه عن الكتاب ، فإنّ النفي إذا ورَد على الطبيعة أفاد العموم ، ولا شُبهة في أنّ التحريف مِن أفراد الباطل ، فيجب أنْ لا يتطرّق إلى الكتاب العزيز .

وقد أُجيب عن هذا الدليل :

بأنّ المراد مِن الآية صيانة الكتاب مِن التناقض في أحكامه ، ونفْيِ الكَذِب عن أخباره ، واستشهد لذلك برواية عليّ بن إبراهيم القمّي ، في تفسيره عن الإمام الباقر ( عليه السلام ) قال : ( لا يأتيه الباطل مِن قِبَل التوراة ، ولا مِن قِبَل الإنجيل ، والزبور ، ولا مِن خلفِه أي لا يأتيه مِن بعده كتابٌ يُبطلُه ) ورواية مجمع البيان عن الصادقين ( ع ) أنّه : ( ليس في إخباره عمّا مضى باطل ، ولا في إخباره عمّا يكون في المستقبل باطل ) .

ويردّ هذا الجواب :

أنّ الرواية لا تدلّ على حَصْر الباطل في ذلك ، لتكون منافية لدلالة الآية على العموم ، وخصوصاً إذا لا حظنا الروايات التي دلّت على أنّ معاني القرآن لا تختصّ بموارد خاصّة ، وقد تقدّم بعض هذه الروايات في مبحث ( فضْل القرآن ) ، فالآية دالّة على تنزيه القرآن في جميع الأعصار عن الباطل بجميع أقسامه ، والتحريف مِن أظهر أفراد الباطل ، فيجب أنْ يكون مصوناً عنه ، ويشهد لدخول التحريف في الباطل ، الذي نفَتْه الآية عن الكتاب أنّ الآية وصفَت الكتاب

٢٠٧

بالعِزّة ، وعِزّة الشيء تقتضي المحافظة عليه مِن التغيير والضياع ، أمّا إرادة خصوص التناقض والكَذِب مِن لفْظ الباطل في الآية الكريمة ، فلا يُناسبها توصيف الكتاب بالعِزّة .

التحريف والسُنّة :

الدليل الثالث : أخبار الثقَلَيْن اللَذَين خلّفهما النبيّ ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) في أمّته ، وأخبَر أنّهم لن يفترقا حتّى يرِدا عليه الحوض ، وأمَر الأمّة بالتمسّك بهما ، وهما الكتاب والعترة وهذه الأخبار متظافرة مِن طُرق الفريقَين(١) ، والاستدلال بها على عدم التحريف في الكتاب يكون مِن ناحيتَين :

الناحية الأُولى : إنّ القول بالتحريف يستلزم عدم وجوب التمسّك بالكتاب المُنزَل ؛ لضياعه على الأمّة بسبب وقوع التحريف، ولكن وجوب التمسّك بالكتاب باقٍ إلى يوم القيامة ، لصريح أخبار الثقلَين ، فيكون القول بالتحريف باطلاً جزماً .

وتوضيح ذلك :

أنّ هذه الروايات دلّت على اقتران العترة بالكتاب ، وعلى أنّهما باقِيان في الناس إلى يوم القيامة ، فلا بدّ مِن وجود شخص يكون قريناً للكتاب ، ولا بدّ مِن وجود الكتاب ليكون قريناً للعترة ، حتّى يرِدا على النبيّ الحوض ، وليكون التمسّك بهما حافظاً للأمّة عن الضلال ، كما يقول النبيّ ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) في هذه الحديث .

ومِن الضروري أنّ التمسّك بالعترة إنّما يكون بموالاتهم ، واتّباع أوامرهم ونواهيهم والسَيْر على هُداهم ، وهذا شيء لا يتوقّف على الاتّصال بالإمام ، والمخاطبة معه شفَاهاً ، فإنّ الوصول إلى الإمام والمخاطبة معه لا يتيسّر لجميع المكلّفين في زمان

_______________________

(١) تقدّمت الإشارة إلى مصادر هذه الأخبار في ص ٢٦ مِن هذا الكتاب

٢٠٨

الحضور ، فضلاً عن أزمنة الغَيبة ، واشتراط إمكان الوصول إلى الإمام ( عليه السلام ) لبعض الناس ، دعوىً بلا برهان ولا سبب يوجِب ذلك ، فالشيعة في أيّام الغَيبة متمسّكون بإمامِهم يُوَالونه ويتّبعون أوامره ، ومِن هذه الأوامر الرجوع إلى رُواة أحاديثهم في الحوادث الواقعة .

أمّا التمسّك بالقرآن فهو أمْرٌ لا يمكن إلاّ بالوصول إليه ، فلا بدّ مِن كَونه موجوداً بين الأمّة ، ليُمكِنَها أنْ تتمسّك به ، لئلاّ تقع في الضلال ، وهذا البيان يُرشِدُنا إلى فساد المناقشة : بأنّ القرآن محفوظ وموجود عند الإمام الغائب ، فإنّ وجوده الواقعيّ لا يكفي لتمسّك الأمّة به .

وقد أُشكِل على هذا الدليل :

بأنّ أخبار الثقلَين إنّما تدلّ على نفْيِ التحريف في آيات الأحكام مِن القرآن ؛ لأنّها هي التي أُمِرَ الناس بالتمسّك بها ، فلا تنفي وقوع التحريف في الآيات الأخرى منه .

وجوابه :

أنّ القرآن بجميع آياته ممّا أنزله الله لهداية البشر ، وإرشادهم إلى كمالِهم الممكن مِن جميع الجهات ، ولا فرق في ذلك بين آيات الأحكام وغيرها ، وقد قدّمنا في بيان فضْل القرآن أنّ ظاهر القرآن قصّة وباطنَه عِظة ، على أنّ عُمدة القائلين بالتحريف يدَّعون وقوع التحريف في الآيات ، التي ترجع إلى الولاية وما يشبهها ، ومِن البيِّن أنّها لو ثبتَ كَونها مِن القرآن ، لوَجَب التمسّك بها على الأمّة .

الناحية الثانية : إنّ القول بالتحريف يقتضي سقوط الكتاب عن الحُجّية ، فلا يُتمسّك بظواهره ، فلا بدّ للقائلين بالتحريف مِن الرجوع إلى إمضاء الأئمّة الطاهرين لهذا الكتاب الموجود بأيدينا ، وإقرار الناس على الرجوع إليه بعد ثبوت تحريفه ، ومعنى هذا : أنّ حُجّية الكتاب الموجود متوقّفة على إمضاء الأئمّة للاستدلال به ، وأُولى الحُجّتَين المستقلّتَين اللتَين يجب التمسّك بهما ، بل هو الثِقْل

٢٠٩

الأكبر ، فلا تكون حجّيته فرعاً على حجّية الثِقل الأصغر ، والوجه في سقوط الكتاب عن الحُجّية - على القول بالتحريف - هو احتمال اقتران ظواهره بما يكون قرينة على خلافها ، أمّا الاعتماد في ذلك على أصالة عدم القرينة فهو ساقط ، فإنّ الدليل على هذا الأصل هو بناء العُقلاء على اتّباع الظهور ، وعدم اعتنائهم باحتمال القرينة على خلافه ، وقد أَوضحنا في مباحث الأصول أنّ القدَر الثابت مِن البناء العُقلائي ، هو عدم اعتناء العُقَلاء باحتمال وجود القرينة المنفصلة ، ولا باحتمال القرية المتّصلة إذا كان سببه احتمال غفلة المتكلّم عن البيان ، أو غفلة السامع عن الاستفادة .

أمّا احتمال وجود القرينة المتّصلة مِن غير هذين السببَين ، فإنّ العُقَلاء يتوقّفون عن اتّباع الظهور معه ، ومثال ذلك : ما إذا ورَد على إنسان كتاب ممّن يجب عليه طاعته ، يأمره فيه بشراء دار ، ووجد بعض الكتاب تالفاً ، واحتمل أنْ يكون في هذا البعض التالف بيان لخصوصياتٍ في الدار التي أُمِر بشرائها مِن حيث السِعة والضِيق ، أو مِن حيث القِيمة أو المَحل ، فإنّ العُقَلاء لا يتمسّكون بإطلاق الكلام الموجود ، اعتماداً على أصالة عدم القرينة المتّصلة ، ولا يشترون أيّة دارٍ امتثالاً لأمر هذا الآمر ، ولا يَعدّون مَن يعمل مثل ذلك مُمتثل لأمر سيِّدِه .

ولعلّ القارئ يذهب به وَهْمُه بعيداً ، فيقول : إنّ هذا التقريب يهدم أساس الفِقه ، واستنباط الأحكام الشرعية ؛ لأنّ العُمدة في أدلّتها هي الأخبار المروِيّة عن المعصومين ( عليهم السلام ) ، ومِن المحتمَل أنْ تكون كلماتهم مقرونة بقرائن متّصلة ، ولم تُنقَل إلينا .

ولو تأمَّل قليلاً لم يستقر في ذهنه هذا التوهّم ، فإنّ المتَّبَع في مقام الأخبار ، هو ظهور كلام الراوي في عدم وجود القرينة المتّصلة ، فإنّ اللازم عليه البيان لو كان كلام المعصوم متّصلاً بقرينة ، واحتمال غفلته عنها مدفوع بالأصل .

نعم إنّ القول بالتحريف يلزمه عدم جواز التمسّك بظواهر القرآن ، ولا

٢١٠

يحتاج في إثبات هذه النتيجة إلى دعوى العِلم الإجمالي باختلال الظواهر في بعض الآيات ، حتّى يُجاب عنه بأنّ وقوع التحريف في القرآن لا يلزمه العلم الإجمالي المذكور ، وبأنّ هذا العلم الإجمالي لا يُنَجّز ؛ لأنّ بعض أطرافه ليس مِن آيات الأحكام ، فلا يكون له أثر في العمل ، والعلم الإجمالي إنّما يُنَجِّز إذا كان له أثر عمَلي في كلِّ طرف مِن أطرافه .

وقد يدّعي القائل بالتحريف : أنّ إرشاد الأئمّة المعصومين ( عليهم السلام ) إلى الاستدلال بظواهر الكتاب ، وتقرير أصحابهم عليه قد أَثْبتَ الحُجّية للظواهر ، وإنْ سقطت قبل ذلك بسبب التحريف .

ولكن هذه الدعوى فاسدة ، فإنّ هذا الإرشاد مِن الأئمّة المعصومين ( عليهم السلام ) ، وهذا التقرير منهم لأصحابهم على التمسّك بظواهر القرآن ، إنّما هو مِن جهة كَون القرآن في نفسه حُجّة مستقلّة ، لا أنّهم يريدون إثبات الحجّية له بذلك ابتداءً .

ترخيص قراءة السِوَر في الصلاة :

الدليل الرابع : أنّه قد أمَر الأئمّة مِن أهل البيت ( ع ) ، بقراءة سورةٍ تامّة بعد الفاتحة في الركعتَين الأوّليَّين مِن الفريضة ، وحَكموا بجواز تقسيم سورة تامّة أو أكثر في صلاة الآيات ، على تفصيل مذكور في مَوضعه .

ومِن البيِّن أنّ هذه الأحكام إنّما ثبَتتْ في أصل الشريعة ، بتشريع الصلاة وليس للتقيّة فيها أثَر ، وعلى ذلك فاللازم على القائلين بالتحريف ، أنْ لا يأتوا بما يُحتمَل فيه التحريف مِن السِوَر ؛ لأنّ الاشتغال اليقيني يقتضي البراءة اليقينيّة وقد يدّعي القائل بالتحريف أنّه غير متمكِّن مِن إحراز السورة التامّة ، فلا تجب عليه ؛ لأنّ الأحكام إنّما تتوجّه إلى المتمكّنين ، وهذه الدعوى إنّما تكون مسلّمة ، إذا احتُمِلَ وقوع التحريف في جميع السِوَر .

٢١١

أمّا إذا كان هناك سورة لا يُحتمل فيها ذلك كسورة التوحيد ، فاللازم عليه أنْ لا يَقرأ غيرها ، ولا يُمكن للخصْم أنْ يجعل ترخيص الأئمّة ( ع ) للمُصلّي بقراءة أيّة سورة شاء ، دليلاً على الاكتفاء بما يختاره مِن السِوَر ، وإنْ لم يَجُز الاكتفاء بها قبل هذا الترخيص بسبب التحريف ، فإنّ هذا الترخيص مِن الأئمّة ( ع ) بنفسه دليل على عدم وقوع التحريف في القرآن ، وإلاّ لكان مستلزِم لتفويت الصلاة الواجبة على المكلّف بدون سببٍ موجِب ، فإنّ مِن البيِّن أنّ الإلزام بقراءة السِوَر ، التي لم يقع فيها تحريف ليس فيه مخالفة للتقيّة ، ونرى أنّهم ( عليهم السلام ) أمَرونا بقراءة سورة ( القَدْر والتوحيد ) في كلّ صلاة استحباباً ، فأيّ مانعٍ مِن الإلزام بهما ، أو بغيرهما ممّا لا يُحتمَل وقوع التحريف فيه .

اللهمّ إلاّ أنْ يدّعي : نَسْخ وجوب قراءة السورة التامّة إلى وجوب قراءة سورة تامّة مِن القرآن الموجود ، ولا أظنّ القائل بالتحريف يلتزم بذلك ؛ لأنّ النَسْخ لم يقع بعد النبيّ ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) قطعاً ، وإنْ كان في إمكانه وامتناعه كلام بين العلماء ، وهذا خارج عمّا نحن بصددِه .

وجملة القول : أنّه لا رَيب في أمْر أهل البيت ( ع ) ، بقراءة سورةٍٍ مِن القرآن الذي بين أيدينا في الصلاة ، وهذا الحُكم الثابت مِن دون رَيبٍ ، ولا شائبةِ تقيّةٍ ، إمّا أنْ يكون هو نفس الحُكم الثابت في زمان رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) ، وإمّا أنْ يكون غيره ، وهذا الأخير باطل ؛ لأنّه مِن النَسْخ الذي لا رَيب في عدم وقوعه بعد النبيّ ( صلّى الله عليه وآله وسلّم )، وإنْ كان أمراً ممكناً في نفسه ، فلا بدّ وأنْ يكون ذلك هو الحُكم الثابت على عهد رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) ، ومعنى ذلك عدم التحريف .

وهذا الاستدلال يجري في كلّ حُكمٍ شرعيّ ، رتّبه أهل البيت ( عليهم السلام ) على قراءة سورةٍ كاملة ، أو آية تامّة .

دعوى وقوع التحريف مِن الخُلَفاء :

الدليل الخامس : أنّ القائل بالتحريف إمّا أنْ يدّعي وقوعه مِن الشيخَين ،

٢١٢

بعد وفاة النبيّ ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) ، وإمّا مِن عثمان بعد انتهاء الأمْر إليه ، وإمّا مِن شخصٍ آخر بعد انتهاء الدور الأوّل مِن الخلافة ، وجميع هذه الدعاوى باطلة .

أمّا دعوى وقوع التحريف مِن أبي بكرٍ وعُمَر ، فيُبطِلُها أنّهما في هذا التحريف : إمّا أنْ يكونا غير عامدَين ، وإنّما صدر عنهما مِن جهة عدم وصول القرآن إليهما بتمامه ؛ لأنّه لم يكن مجموعاً قبل ذلك وإمّا أنْ يكونا متعمّدَين في هذا التحريف ، وإذا كان عامِدَين : فإمّا أنْ يكون التحريف الذي وقع منهما في آيات تمسّ بزعامتهما ، وإمّا أنْ يكون في آيات ليس لها تعلّق بذلك ، فالاحتمالات المتصوّرة ثلاثة :

أمّا احتمال عدم وصول القرآن إليهما بتمامه ، فهو ساقط قطعاً ، فإنّ اهتمام النبيّ ( ص ) بأمْر القرآن بحِفظه ، وقراءته ، وترتيل آياته ، واهتمام الصحابة بذلك في عهد رسول الله ( ص ) ، وبعد وفاته يورِث القطع بكون القرآن محفوظ عندهم ، جمْعاً أو متفرّقاً ، حِفظاً في الصدور ، أو تدويناً في القراطيس .

وقد اهتمّوا بحِفظ أشعار الجاهلية وخُطَبِها ، فكيف لا يهتمّون بأمر الكتاب العزيز ، الذي عرّضوا أنفسهم للقتْل في دعوَتِه ، وإعلان أحكامه ، وهجَروا في سبيله أوطانهم ، وبذلوا أموالهم ، وأعرَضوا عن نسائهم وأطفالهم ، ووقفوا المواقف التي بيّضوا بها وجه التاريخ ، وهل يَحتمِل عاقل مع ذلك كلّه عدم اعتنائهم بالقرآن ؟ حتّى يضيع بين الناس ، وحتّى يحتاج في إثباته إلى شهادة شاهدَين ؟ وهل هذا إلاّ كاحتمال الزيادة في القرآن ، بل كاحتمال عدم بقاء شيء مِن القرآن المُنزَل ؟ .

على أنّ روايات الثقلَين المتظافرة - المتقدّمة - دالّة على بطلان هذا الاحتمال ، فإنّ قوله ( ص ) : ( إنّي تاركٌ فيكم الثقلَين : كتاب الله وعترتي ) لا يصحّ إذا كان بعض القرآن ضائعاً في عصره ، فإنّ المتروك حينئذٍ يكون بعض الكتاب لا جميعه ، بل وفي هذه الروايات دلالة صريحة على تدوين القرآن ، وجَمْعه في زمان النبيّ ( ص ) ؛ لأنّ الكتاب لا يَصدُق على مجموع المتفرّقات ، ولا على المحفوظ في الصدور .

- وسنتعرّض للكلام فيمَن جمَع القرآن على عهد رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) - وإذا سُلِّم عدم اهتمام المسلمين بجَمْعِ القرآن على عهده ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) ،

٢١٣

فلماذا لم يهتمّ بذلك النبيّ ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) بنفسه مع اهتمامه الشديد بأمْر القرآن ؟ فهل كان غافلاً عن نتائج هذا الإغفال ، أو كان غير متمكّن مِن الجَمْع ، لعدم تهيّؤ الوسائل عنده ؟ ! ومِن الواضح بطلان جميع ذلك .

وأمّا احتمال تحريف الشيخَين للقرآن - عمداً - في الآيات ، التي لا تمسّ بزعامتهما ، وزعامة أصحابهما ، فهو بعيد في نفسه ، إذ لا غَرض لهما في ذلك ، على أنّ ذلك مقطوعٌ بعدمه ، وكيف يمكن وقوع التحريف منهما ، مع أنّ الخلافة كانت مبتنية على السياسة ، وإظهار الاهتمام بأمر الدين ؟ وهلاّ احتجّ بذلك أحد الممتنعين عن بَيعتِهما ، والمعترضين على أبي بكر في أمر الخلافة كسعد بن عبادة وأصحابه ؟ وهلاّ ذَكر ذلك أمير الؤمنين ( عليه السلام ) في خُطبتِه الشقشقيّة المعروفة ، أو في غيرها مِن كلماته التي اعترض بها على مَن تقدّمه ؟ ولا يُمكن دعوى اعتراض المسلمين عليهما بذلك ، واختفاء ذلك عنّا ، فإنّ هذه الدعوى واضحة البطلان .

وأمّا احتمال وقوع التحريف مِن الشيخَين عمداً ، في آيات تَمُسّ بزعامتهما ، فهو أيضاً مقطوع بعدمه ، فإنّ أمير المؤمنين ( عليه السلام ) وزوجته الصدّيقة الطاهرة ( عليها السلام ) وجماعة مِن أصحابه ، قد عارضوا الشيخَين في أمر الخلافة ، واحتجّوا عليهما بما سمِعوا مِن النبيّ ( ص ) ، واستشهدوا على ذلك مَن شهِد مِن المهاجرين والأنصار ، واحتجّوا عليه بحديث الغدير وغيره .

وقد ذُكِر في كتاب الاحتجاج : احتجاج اثنَي عشر رجلاً على أبي بكر في الخلافة ، وذكروا له النصّ فيها ، وقد عقد العلاّمة المجلسي باباً لاحتجاج أمير المؤمنين ( عليه السلام ) في أمر الخلافة(١) ، ولو كان في القرآن شيءٌ يمُسّ زعامتهم ، لكان أحقّ بالذِكر في مقام الاحتجاج ، وأحرى بالاستشهاد عليه مِن جميع المسلمين ، ولا سيّما أنّ أمْرَ الخلافة كان قبل جمْع القرآن على زعمهم بكثير ، ففي ترْك الصحابة ذِكر ذلك في أوّل

_______________________

(١) بحار الأنوار ج ٨ ص ٧٩

٢١٤

أمْرِ الخلافة ، وبعد انتهائها إلى عليّ ( عليه السلام ) ، دلالة قطعيّة على عدم التحريف المذكور .

وأمّا احتمال وقوع التحريف مِن عثمان ، فهو أبعد مِن الدعوى الأُولى :

١ - لأنّ الإسلام قد انتشر في زمان عثمان ، على نحوٍ ليس في إمكان عثمان أنْ يُنقِص مِن القرآن شيئاً ، ولا في إمكان مَن هو أكبر شأناً مِن عثمان .

٢ - ولأنّ تحريفه إنْ كان للآيات التي لا ترجع إلى الولاية ، ولا تمُسّ زعامة سلَفِه بشيء ، فهو بغير سببٍ موجِب ، وإنْ كان للآيات التي ترجع إلى شيء مِن ذلك ، فهو مقطوعٌ بعدمه ؛ لأنّ القرآن لو اشتمل على شيء مِن ذلك وانتشر بين الناس ، لَما وصَلَت الخلافة إلى عثمان .

٣ - ولأنّه لو كان محرِّفاً للقرآن ، لكان في ذلك أَوضح حُجّة ، وأكبر عُذر لقتَلَة عثمان في قتْلِه عَلَناً ، ولَما احتاجوا في الاحتجاج على ذلك إلى مخالفته لسيرة الشيخَين في بيت مال المسلمين ، وإلى ما سِوى ذلك مِن الحُجَج .

٤ - ولكان مِن الواجب على عليٍّ ( عليه السلام ) بعد عثمان أنْ يردّ القرآن إلى أصله ، الذي كان يُقرأ به في زمان النبيّ ( ص ) وزمان الشيخَين ، ولم يكن عليه في ذلك شيء يُنتقَد به ، بل ولكان ذلك أبْلَغ أثراً في مقصوده ، وأظهر لحُجّتِه على الثائرين بدمِ عثمان ، ولا سيّما أنّه ( عليه السلام ) قد أمَر بإرجاع القطائع التي أقْطَعَها عثمان ، وقال في خُطبةٍ له :

( والله لو وجدتُه قد تُزوِّج به النساء ، ومُلِك به الإماء لرددتُه ، فإنّ في العدْل سعَة ، ومَن ضاق عليه العدْل ، فالجَور عليه أضيَق )(١) .

_______________________

(١) نهج البلاغة : فيما ردّه على المسلمين مِن قطائع عثمان

٢١٥

هذا أمرُ عليٍّ في الأموال ، فكيف يكون أمره في القرآن لو كان محرّفاً ، فيكون إمضاؤه ( عليه السلام ) للقرآن الموجود في عصره ، دليلاً على عدم وقوع التحريف فيه .

وأمّا دعوى وقوع التحريف بعد زمان الخُلفاء ، فلم يدَّعِها أحد فيما نعلم ، غير أنّها نُسِبَت إلى بعض القائلين بالتحريف ، فادّعى أنّ الحجّاج لمّا قام بنُصرة بني أُميّة أسقَطَ مِن القرآن آيات كثيرة ، كانت قد نزلت فيهم ، وزاد فيه ما لم يكن منه ، وكتَب مصاحف وبعثها إلى مصر ، والشام ، والحرمَين ، والبصرة والكوفة ، وأنّ القرآن الموجود اليوم مطابق لتلك المصاحف وأمّا المصاحف الأخرى ، فقد جمعَها ولم يبق منها شيئاً ولا نسخة واحدة(١) .

وهذه الدعوى تشبه هذَيان المحمومين ، وخُرافات المجانين والأطفال ، فإنّ الحجّاج واحد مِن ولاةِ بني أُميّة ، وهو أقصر باعاً ، وأصغر قدْراً مِن أنْ ينال القرآن بشيء ، بل وهو أعْجَز مِن أنْ يُغيِّر شيئاً مِن الفروع الإسلامية ، فكيف يغيِّر ما هو أساس الدين ، وقوام الشريعة ؟ ومِن أين له القدرة والنفوذ في جميع ممالك الإسلام وغيرها ، مع انتشار القرآن فيها ؟ وكيف لم يَذكُر هذا الخَطْبَ العظيم مؤرخٌ في تاريخه ، ولا ناقدٌ في نقْدِه مع ما فيه مِن الأهمّية ، وكَثرة الدواعي إلى نقلِه ؟ وكيف لم يتعرّض لنقْلِه واحدٌ مِن المسلمين ، في وقته ؟ وكيف أغضى المسلمون عن هذا العمل ، بعد انقضاء عهد الحجّاج ، وانتهاء سلطته ؟!

وهَبْ أنّه تمكّن مِن جَمْع نُسَخ المصاحف جميعها ، ولم تشذ عن قدرته نسخة واحدة مِن أقطار المسلمين المتباعدة ، فهل تمكّن مِن إزالته عن صدور المسلمين وقلوب حفَظَة القران ؟ وعددهم في ذلك الوقت لا يُحصيه إلاّ الله ، على أنّ القرآن لو كان في بعض آياته شيء يمُسّ بني أُميّة ، لاهتمّ معاوية بإسقاطه قبل

_______________________

(١) مناهل العرفان ص ٢٥٧

٢١٦

زمان الحجّاج ، وهو أشدّ منه قدرة ، وأعظم نفوذاً ، ولاستدلّ به أصحاب عليّ ( عليه السلام ) على معاوية ، كما احتجّوا عليه بما حفظه التاريخ ، وكتُب الحديث والكلام وبما قدّمناه للقارئ ، يتّضح له أنّ مَن يدّعي التحريف يُخالف بداهة العقل ، وقد قيل في المَثَل : حدِّث الرجل بما لا يليق ، فإنْ صدّق فهو ليس بعاقل .

شُبُهات القائلين بالتحريف :

وهنا شُبهات يتشبّث بها القائلون بالتحريف ، لا بدّ لنا مِن التعرّض لها ودفعها واحدةً واحدة :

الشُبهة الأُولى :

أنّ التحريف قد وقع في التوراة والإنجيل ، وقد ورَد في الروايات المتواترة مِن طريقَي الشيعة والسُنّة : أنّ كلّ ما وقع في الأمم السابقة لا بدّ وأنْ يقع مثلُه في هذه الأمّة ، فمنها ما رواه الصدوق في ( الإكمال ) عن غياث بن إبراهيم ، عن الصادق عن آبائه ( عليهم السلام ) قال :

( قال رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) : كلّ ما كان في الأمم السالفة ، فإنّه يكون في هذه الأمّة مِثلُه حَذْو النَعل بالنَعل ، والقِذّة بالقِذّة )(١) .

ونتيجة ذلك : أنّ التحريف لا بدّ مِن وقوعه في القرآن ، وإلاّ لم يصحّ معنى هذه الأحاديث .

_______________________

(١) البحار ، باب افتراق الأمّة بعد النبيّ ( ص ) على ثلاث وسبعين فرقة ج ٨ ص ٤ وقد تقدّم بعض مصادر هذا الحديث ، مِن طُرُق أهل السُنّة في ما تقدّم مِن هذا الكتاب

٢١٧

والجواب عن ذلك :

أوّلاً : أنّ الروايات المشار إليها أخبار آحاد لا تُفيد عِلماً ولا عمَلاً ، ودعوى التواتر فيها جُزافية لا دليل عليها ، ولم يُذكر مِن هذه الروايات شيء في الكتُب الأربعة ؛ ولذلك فلا ملازمة بين وقوع التحريف في التوراة ووقوعه في القرآن .

ثانياً : أنّ هذا الدليل لو تمّ لكان دالاًّ على وقوع الزيادة في القرآن أيضاً ، كما وقعَت في التوراة والإنجيل ، ومِن الواضح بطلان ذلك .

ثالثاً : أنّ كثيراً مِن الوقائع التي حدثت في الأمم السابقة ، لم يصدر مِثلها في هذه الأمّة ، كعبادة العِجْل ، وتَيْه بني إسرائيل أربعين سنة ، وغَرَق فرعون وأصحابه ، ومُلك سليمان للإنس والجنّ ، ورَفْع عيسى إلى السماء ، وموت هارون وهو وصيّ موسى قبل موت موسى نفسه ، وإتيان موسى بتِسع آيات بيِّنات ، وولادة عيسى مِن غير أب ، ومَسْخ كثير مِن السابقين قِرَدَة وخنازير ، وغير ذلك ممّا لا يسَعُنا إحصاؤه ، وهذا أدلّ دليل على عدم إرادة الظاهر مِن تلك الروايات ، فلا بدّ مِن إرادة المشابَهَة في بعض الوجوه .

وعلى ذلك فيكفي في وقوع التحريف في هذه الأمّة عدم اتّباعهم لحدود القرآن ، وإنْ أقاموا حروفه ، كما في الرواية التي تقدّمت في صدْر البحث ، ويؤكّد ذلك ما رواه أبو واقد الليثي : ( أنّ رسول الله ( صلّى الله عليه [وآله] وسلّم ) لمّا خرج إلى خيبر مَرّ بشجرة للمشركين يُقال لها ذات أنواط ، يُعلِّقون عليها أسلحتهم فقالوا : يا رسول الله اجعل لنا ذات أنواط ، كما لهم ذات أنواط ، فقال النبيّ ( صلّى الله عليه [وآله] وسلّم ) سبحان الله هذا كما قال قَوم موسى : اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة ، والذي نفسي بيده لتركَبُنَّ سُنّة مَن كان قَبلَكم )(١) ، فإنّ هذه الرواية صريحة في أنّ الذي يقع في هذه الأمّة ، شبيه بما وقع في تلك الأمم مِن بعض الوجوه .

_______________________

(١) صحيح الترمذي ، باب ما جاء لترْكَبُنّ سُنن مَن قبلكم ج ٩ ص ٢٦

٢١٨

رابعاً : لو سُلِّم تواتر هذه الروايات في السَنَد ، وصحّتها في الدلالة ، لَما ثبتَ بها ، أنّ التحريف قد وقع فيما مضى مِن الزمن ، فلعلّه يقع في المستقبل زيادة ونقيصة ، والذي يظهر مِن رواية البخاري تحديده بقيام الساعة ، فكيف يستدلّ بذلك على وقوع التحريف في صدر الإسلام ، وفي زمان الخُلَفاء .

الشُبهة الثانية :

أنّ عليّاً ( عليه السلام ) كان له مصحف غير المصحف الموجود ، وقد أتى به إلى القَوم ، فلم يقبلوا منه ، وأنّ مصحفه ( عليه السلام ) كان مشتملاً على أبعاض ليست موجودة في القرآن الذي بأيدينا ، ويترتّب على ذلك نَقْص القرآن الموجود عن مصحف أمير المؤمنين عليّ ( عليه السلام ) ، وهذا هو التحريف الذي وقع الكلام فيه ، والروايات الدالّة على ذلك كثيرة :

منها : ما في رواية احتجاج عليّ ( عليه السلام ) على جماعة مِن المهاجرين والأنصار ، أنّه قال :

( يا طلحة إنّ كلّ آية أنزَلها الله تعالى على محمّد ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) عندي بإملاء رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) وخطّ يدي ، وتأويل كلّ آية أنزلَها الله تعالى على محمّد ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) ، وكلّ حلال ، أو حرام ، أو حدّ ، أو حُكم ، أو شيء تحتاج إليه الأمّة إلى يوم القيامة ، فهو عندي مكتوب بإملاء رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) وخطّ يدي ، حتّى أرش الخدش . )(١)

ومنها : ما في احتجاجه ( عليه السلام ) على الزنديق ، مِن أنّه :

_______________________

(١) مقدّمة تفسير البرهان ص ٢٧ وفي هذه الرواية تصريح بأنّ ما في القرآن الموجود كلّه قرآن

٢١٩

( أتى بالكتاب كملاً مشتملاً على التأويل والتنزيل ، والمُحكَم والمتشابه ، والناسخ والمنسوخ ، لم يسقط منه حرف ألف ولا لام ، فلم يقبلوا ذلك )(١) .

ومنها ما رواه في الكافي ، بإسناده عن جابر ، عن أبي جعفر ( عليه السلام ) قال :

( ما يستطيع أحد أنْ يدّعي أنّ عنده جميع القرآن كلّه ، ظاهره وباطنه غير الأوصياء )(٢) .

وبإسناده عن جابر ، قال :

( سمعت أبا جعفر ( عليه السلام ) يقول : ما ادّعى أحدٌ مِن الناس أنّه جمَع القرآن كلّه كما أُنزل إلاّ كذّاب ، وما جمَعَه وحَفِظَه كما نزّله الله تعالى ، إلاّ عليّ بن أبي طالب والأئمّة مِن بعده - عليهم السلام - )(٣) .

والجواب عن ذلك :

- أنّ وجود مُصحف لأمير المؤمنين ( عليه السلام ) يُغاير القرآن الموجود في ترتيب السِوَر ، ممّا لا ينبغي الشكّ فيه ، وتَسالُم العلماء الأعلام على وجوده أغنانا عن التكلّف لإثباته ، كما أنّ اشتمال قرآنه ( عليه السلام ) على زيادات ليست في القرآن الموجود ، وإنْ كان صحيحاً ، إلاّ أنّه لا دلالة في ذلك على أنّ هذه الزيادات ، كانت مِن القرآن وقد أسقطت منه بالتحريف ، بل الصحيح أنّ تلك الزيادات كانت تفسيراً بعنوان التأويل ، وما يؤول إليه الكلام ، أو بعنوان التنزيل مِن الله شرحاً للمراد .

_______________________

(١) تفسير الصافي المقدّمة السادسة ص ١١ .

(٢) الوافي ج ٢ كتاب الحُجّة باب ٧٦ ص ١٣٠ .

(٣) نفس المصدر

٢٢٠