اقتصادنا

اقتصادنا0%

اقتصادنا مؤلف:
تصنيف: فقه مقارن
الصفحات: 741

اقتصادنا

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: السيد محمد باقر الصدر
تصنيف: الصفحات: 741
المشاهدات: 139348
تحميل: 7722

توضيحات:

اقتصادنا
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 741 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 139348 / تحميل: 7722
الحجم الحجم الحجم
اقتصادنا

اقتصادنا

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

في نطاق الملكية الخاصة ، ولا ينزع عنها طابع ملكية الدولة ولا يمنع الإمام من فرض الخَراج والأجرة على الأرض وإنّما ينتج عن الإحياء حقّ للفرد الذي يسمح له بالانتفاع من الأرض ، ومنع الآخرين من مزاحمته ، كما مرّ بنا سابقاً

وأمّا السببان الأخيران ، فإنّهما يمنحان الفرد المسلم أو المصالح ملكية الأرض ، فتصبح بذلك مندرجة في نطاق الملكية الخاصة .

والاختصاص الشخصي للفرد بالأرض ـ سواء كان على مستوى حقّ أو على مستوى ملكية ـ ليس اختصاصاً مطلقاً من الناحية الزمنية ، بل هو اختصاص وتفويض محدود بقيام الفرد بمسؤولية تجاه الأرض ، فإذا أخلّ بمسؤوليّته بالصورة التي سوف توضحها الروايات الآتية سقط حقّه في الأرض ، ولم يجز له احتكارها وتحجيرها ، ومنع الآخرين من إعمارها واستثمارها وبذلك اتّخذ المفهوم القائل بأنّ الملكية وظيفة اجتماعية يمارسها الفرد أقوى تعبير في مجال الأرض و حقوق الأفراد فيها.

والدليل على ذلك من الشريعة عدّة نصوص تشريعية :

فقد جاء حديث أحمد بن محمّد بن أبي نصر ، عن الإمام علي بن موسى الرضاعليه‌السلام ، قال :( من أسلم طوعاً تركت أرضه في يده وأخذ منه العشر ، ممّا سقت السماء والأنهار ، ونصف العشر ممّا كان بالرِشا ، فيما عمّروه منها ، وما لم يعمّر منها أخذه الإمام فقبّله من يعمّره وكان للمسلمين ، وعلى المتقبّلين في حصصهم العشر أو نصف العشر ) (١) .

وورد في صحيح معاوية بن وهب : أنّ الإمام جعفرعليه‌السلام قال :( أيّما رجلٌ أتى خربة بائرة فاستخرجها ، وكرى أنهارها وعمرها ، فإنّ عليه فيها الصدقة

ـــــــــــــــ

(١) وسائل الشيعة ١٥ : ١٧٥ ، الباب ٧٢ من أبواب جهاد العدوّ ، الحديث الأوّل .

٤٠١

(الزكاة) ، فإن كانت لرجل قبله فغاب عنها وتركها فأخربها ، ثمّ جاء بعد يطلبها ، فإنّ الأرض لله ولمن عمرها ) (١) .

وفي صحيح الكابلي(٢) ، جاء النصّ عن أمير المؤمنين عليعليه‌السلام :( بأنّ من أحيى أرضاً مَيتَة من المسلمين فليعمرها ، وليؤدّ خراجها إلى الإمام من أهل بيتي ، وله ما أكل منها فإن تركها أو أخربها فأخذها رجلٌ من المسلمين من بعده فعمرها وأحياها ، فهو أحقّ بها من الذي تركها ، فليؤدّ خراجها إلى الإمام ) (٣)

ففي ضوء هذه النصوص نعرف : أنّ حقّ الفرد في الأرض الذي يخولّه منع غيره من استثمارها يزول بخراب الأرض وإهماله لها ، وامتناعه عن عِمارتها ، فلا يجوز له بعد إهمال الأرض على هذا الشكل أن يمنع غيره من السيطرة عليها واستثمارها ما دام مهملاً لها .

ولا فرق في ذلك بين الفرد الذي مارس إحياء الأرض وغيره ممّن حصل

ـــــــــــــــ

(١) وسائل الشيعة ٢٥ : ٤١٤ ، الباب ٢ من أبواب إحياء المَوات ، الحديث الأوّل .

(٢) المصدر السابق : الحديث ٢ .

(٣) ولا يمكن أن يعارض صحيحاً الكابلي ومعاوية بن وهب ، برواية الحلبي عن الإمام الصادقعليه‌السلام : ( أنّه سأله عن الرجل يأتي الأرض الخربة ، فيستخرجها ويجري أنهارها ويعمرها ويزرعها، ما عليه ؟ قال : الصدقة قلت : فإنّ كان يعرف صاحبها قال : فليؤدّ إليه حقّه ) .

وذلك ؛ لأنّ الجواب في رواية الحلبي لم يُفرض فيه إلاّ مجرّد كون الأرض خربة قد زال عمرانها ، هذا العنوان أعمّ من كون الخراب مستنداً إلى إهمال صاحب الأرض وامتناعه عن القيام بحقّها وحيث إنّ صحيحة معاوية بن وهب أُخذ في موضوعها أنّ صاحب الأرض السابق ترك الأرض وأخربها ، فهي أخصّ مطلقاً من رواية الحلّي ومقتضى التخصيص : أنّ علاقة صاحب الأرض بأرضه تزول بخراب الأرض وامتناعه عن أحيائها (المؤلّف قدّس سرّه) .

٤٠٢

على الأرض بأسباب أخرى ، فإنّه لا يسمح له باحتكار الأرض بعد خرابها وإهمالها ، مهما كان السبب في حصوله عليها إذا كانت الأرض من أراضي الدولة (الإمام) ، وأهملها الشخص الذي عمرها حتى أخرجها ، عادت بعد خرابها حرّة طليقة تطبّق عليها نفس الأحكام التي تطبّق على سائر الأراضي المَيتَة التي تملكها الدولة ، فيفسح المجال لإحيائها من جديد ، ويترتّب على إحيائها نفس الأحكام التي تترتّب على إحيائها الأوّل .

وللشهيد الثانيرحمه‌الله نصّ يوضح هذا المعنى في المسالك ، إذ كتب يقول :( إنّ هذه الأرض ـ أيّ الأرض التي أحياها الفرد ثمّ خربت ـ أصلها مباح ، فإذا تركها عادت إلى ما كانت عليه وصارت مباحة ، وأنّ العلّة في تملّك هذه الأرض الإحياء والعمارة ، فإذا زالت العلّة زال المعلول ) (١) .

ويريد بذلك : أنّ الحقّ الذي يحصل عليه الفرد في الأرض إنّما هو نتيجة للإحياء ومعلول له ، فيبقى حقّه ما دامت العلّة باقية والأرض عامرة ، فإذا زالت معالم الحياة عن الأرض سقط حقّه ؛ لزوال العلّة(٢) .

ـــــــــــــــ

(١) مسالك الأفهام ١٢ : ٤٠٠ .

(٢) ويلاحظ : لدى مقارنة هذا النصّ الفقهي بالنصوص التشريعية التي مرّت بنا في رواية معاوية بن وهب ورواية الكابلي ، أنّ النصّ للشهيد واضح كلّ الوضوح في انقطاع صلة الفرد بالأرض نهائياً إذا خربت وزال عمرانها ؛ لأنّ العلّة إذا زالت زال المعلول ، وأمّا النصوص التشريعية السابقة فهي تسمح عند خراب الأرض وإهمال صاحبها لها بأحيائها من أيّ فرد آخر ، وتمنحه الأرض بدلاً عن صاحبها السابق ، ولكنّها لا تدلّ على انقطاع صلة صاحب الأرض بأرضه انقطاعاً نهائياً بسبب خرابها ، فمن الممكن في حدود المعطى التشريعي لهذه النصوص أن يفترض لصاحب الأرض حقّ فيها ، وعلاقة بها حتى بعد خرابها ، بدرجة يجعل له حقّ السبق إلى تجديد إحيائها إذا نافسه غيره على ذلك ، ويستمرّ هذا الحقّ ما لم يسبقه شخص آخر إلى إحياء الأرض ، فإنّ أحياها فردٌ آخر فعلاً حال إهمال صاحبها الأوّل ، انقطعت صلة الأرض بصاحبها القديم .

فعل أساس النصٍّ الفقهي للشهيد يزول حقّ الفرد في الأرض لدى خرابها بصورة كاملة .

وعلى أساس النصوص الأخرى ، يمكن أن نفترض بقاء علاقة الفرد الأوّل بأرضه ، وحقّه فيها بعد الخراب بدرجة ما ، وزوال حقّ الاحتكار فقط ، أي : حقّ منع الآخرين عن استثمار الأرض والانتفاع بها .

وينعكس الفرق عملياً بين هاتين الفرضيتين ، فيما إذا أهمل الفرد أرضه وخربت ، ثمّ مات قبل أحياء فردٌ آخر لها ، فإنّ الانطلاق مع رأي الشهيد يؤدّي إلى القول بعدم انتقال الأرض إلى الورثة ، لأنّ صاحبها انقطعت صلته بها نهائياً بعد خرابها ، فلا معنى لاندراجها في تركته التي تورث وأمّا على الأساس الثاني ، فالأرض تورث بمعنى أنّ الورثة يتمتعون بنفس الدرجة من الحقّ ، التي بقيت للميّت بعد خراب الأرض وسوف تتجه بحوث الكتاب المقبلة إلى تبني رأي الشهيد الثاني (المؤلّفقدس‌سره )

٤٠٣

وقد ذكر المحقّق الثاني في (جامع المقاصد)(١) ، أنّ زوال اختصاص المُحيي بالأرض بعد خرابها ، وجواز أخذ الغير لها ، واختصاصه بها ، هو المشهور بين الأصحاب والرأي الفقهي السائد في كلماتهم(٢) . وقال الإمام مالك ( ولو أنّ رجلاً أحيا أرضاً مَوَاتاً ثمّ أهملها بعدُ حتى تهدّمت آبارها وهلكت أشجارها ، وطال زمانها حتى عفت بحال ما وصفت لك

ـــــــــــــــ

(١) انظر جامع المقاصد ٧ : ١٧ .

(٢) ولا فرق في سقوط الاختصاص بسبب الخراب والإهمال بين أن يكون المهمل نفس المُحيي للأرض أو شخصاً آخر ، انتقلت إليه الأرض من المُحيي ، لإطلاق الدليل بالنحو الذي تقدّم وقد مال إلى ذلك المحقّقان الفقيهان صاحب الكفاية وصاحب المفاتيح (المؤلّف قدّس سرّه)

٤٠٤

وصارت إلى حالها الأوّل ثمّ أحياها آخر بعده كانت لمن أحياها بمنزلة الذي أحياها أوّل مرّة(١) .

وقال بعض فقهاء الأحناف بهذا أيضاً ، معلّلين ذلك : بأنّ الأوّل ملك استغلال الأرض لا رقبتها فإذا تركها كان الثاني أحقّ بها(٢) .

وإذا كانت الأرض التي أهملها صاحبها ، مندرجة في نطاق الملكية الخاصة ـ كالأراضي التي أسلم عليها أهلها طوعاً ـ فإنّ ملكية صاحبها لها ، لا تحول دون سقوط حقّه فيها ، بإهمالها الامتناع عن القيام بحقّها ، كما عرفنا ، وتعود ـ في رأي ابن البرّاج(٣) وابن حمزة(٤) وغيرهم(٥) ـ مِلكاً للمسلمين ، وتدخل في نطاق الملكية العامة .

وهكذا نعرف ، أنّ الاختصاص بالأرض ـ حقّاً أو مِلكاً ـ محدود بإنجاز الفرد لوظيفته الاجتماعية في الأرض فإذا أهملها وامتنع عن إعمارها حتى خربت ، انقطعت صلته بها وتحرّرت الأرض من قيوده وعادت مِلكاً طليقاً للدولة إن كانت مَوَاتاً بطبيعتها ، وأصبحت ملكاً عاماً للمسلمين إن كان الفرد الذي أهملها وسقط حقّه فيها قد ملكها بسبب شرعي ، كما في الأراضي التي أسلم عليها أهلها طوعاً(٦) .

ـــــــــــــــ

(١) المدوّنة الكبرى ٦ : ١٩٥ .

(٢) انظر : فتح القدير ٩ : ٤ .

(٣) المهذّب : ١ : ٨٢ .

(٤) الوسيلة : ١٣٢ .

(٥) مسالك الأفهام ٣ : ٥٨ .

(٦) تحرير الأحكام الشرعية ٢ : ١٦٩ ، ومسالك الأفهام ٣ : ٥٨ .

٤٠٥

نظرة الإسلام العامة إلى الأرض

في ضوء الأحكام المتنوّعة التي شرّعها الإسلام للأرض ، ووقفنا على تفصيلاتها ، يمكننا أن نستخلص النظرة العامة للإسلام إلى الأرض ، ومصيرها في ظلّ الإسلام الذي يمارس النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تطبيقه ـ أو خليفته الشرعي ـ وسوف نحدّد الآن النظرة العامة للإسلام إلى الأرض فإذا استعرضنا بعد ذلك أحكام الإسلام التي تتّصل بسائر ثروات الطبيعة ومصادر الإنتاج الأساسية ، عُدنا إلى هذه النظرة الإسلامية العامة عن الأرض ، لنضعها في موضعها من نظرة أشمل وأوسع ، تشكّل الأساس والقاعدة المذهبية لتوزيع ما قبل الإنتاج .

لكي نستطيع تجلية الموقف ، وفحص المضمون الاقتصادي للنظرة الإسلامية في الأرض ، وعزله عن سائر العوامل والاعتبارات الأخرى ذات الصفة السياسية التي سنأتي على ذكرها بعد ذلك لكي يتأتّى لنا ذلك كلّه يحسن بنا أن ننطلق ـ في تحديد نظرة الإسلام العامة ـ من فرضية تساعدنا على إبراز المضمون الاقتصادي للنظرية ، مستقلاً عن الاعتبارات السياسية .

فلنفترض : أنّ جماعة من المسلمين قرّرت أن تستوطن منطقة من الأرض كانت لا تزال غير مستثمرة ، فأنشأت في تلك المنطقة مجتمعاً إسلامياً وأقامت علاقتها على أساس الإسلام ، ولنتصوّر أنّ الحاكم الشرعي ، النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو (الخليفة) يقوم بتنظيم تلك العلاقات ، وتجسيد الإسلام في ذلك المجتمع بكلّ خصائصه ومقوّماته الفكرية والحضارية والتشريعية فماذا سوف يكون موقف الحاكم والمجتمع من الأرض ؟ وكيف تنظّم مِلكيّتها ؟

والجواب على هذا السؤال جاهزٌ في ضوء التفصيلات التي قدّمناها ، فإن

٤٠٦

الأرض التي قدّر لها في فرضيتنا أن تصبح وطناً للمجتمع الإسلامي ، وتنمو على تربتها حضارة السماء ، قد افترضناها أرضاً طبيعية غير مستثمرة ، لم يتدّخل العنصر الإنساني فيها بعدُ ، ومعنى هذا أنّ هذه الأرض تواجه الإنسان وتدخل في حياته لأوّل مرّة في الفترة المنظورة من التأريخ .

ومن الطبيعي أن تنقسم هذه الأرض في الغالب إلى قسمين ، ففيها الأراضي التي وفرّت لها الطبيعةشروط الحياة والإنتاج من ماءٍ ودفءٍ ومرونة في التربة ، وما إلى ذلك ، فهي عامرة طبيعياً ، وفيها الأراضي التي لم تظفر بهذه المميّزات من الطبيعة ، بل هي بحاجة إلى جهد إنساني يوفّر لها تلك الشروط ، وهي الأرض المَيتَة في العرف الفقهي ، فالأرض التي افترضنا أنّها سوف تشهد ولادة المجتمع الإسلامي هي إذن : إمّا أرض عامرة طبيعياً ، وإمّا أرض مَيتَة ولا يوجد قسم ثالث .

والعامر طبيعياً من تلك الأرض مِلك للدولة ، أو بتعبير آخر : مِلك المنصب الذي يمارسه النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وخلفاؤه الشرعيون ، كما مرّ بنا وفقاً للنصوص التشريعية والفقهية ، حتى جاء في تذكرة العلامة الحلّي : أنّ إجماع العلماء قائم على ذلك(١) .

وكذلك أيضاً الأرض المَيتَة كما عرفنا سابقاً َ، وهو واضح أيضاً في النصوص التشريعية والفقهية حتى ذكر الشيخ الإمام المجدد الأنصاري في المكاسب : أنّ النصوص بذلك مستفيضة ، بل قيل : إنّها متواترة(٢) .

فالأرض كلّها إذن يُطبِّق عليها الإسلام ـ حين ينظر إليها في وضعها

ـــــــــــــــ

(١) تذكرة الفقهاء ( ط. الحجرية ) ٢ : ٤٠٢ .

(٢) المكاسب ٤ : ١٣ .

٤٠٧

الطبيعي ـ مبدأ ملكية الإمام ، وبالتالي ملكية ذات طابع عام .

وعلى هذا الضوء نستطيع أن نفهم النصوص التشريعية المنقولة عن أئمّة أهل البيت بأسانيد صحيحة ، التي تؤكّد أنّ الأرض كلّها ملك الإمام(١) ؛ فإنّها حين تقرّر ملكية الإمام للأرض ، تنظر إلى الأرض بوضعها الطبيعي كما تقدّم(٢) .

ولننظر الآن إلى ما يأذن به الإسلام لأفراد المجتمع ـ الذي افترضناه ـ من ألوان الاختصاص بالأرض وفي هذا المجال يجب أن نستبعد الحيازة والاستيلاء المجرد بوصفه مبرراً أصيلاً لاختصاص الفرد بالأرض التي يحوزها ويستولي عليها ، لأنّا لا نملك نصّاً صحيحاً يؤكّد ذلك في الشريعة ، كما ألمعنا سابقاً ، وإنّما الشيء الوحيد الذي عرفنا أنّه يبرّر الاختصاص شرعاً هو الإحياء ، أي : إنفاق الفرد جهداً خاصاً على أرض مَيتَة من أجل بعث الحياة فيها فإنّ ممارسة هذا العمل ، أو العمليات التمهيدية له ، تعتبر في الشريعة سبباً للاختصاص ولكنّه بالرغم

ـــــــــــــــ

(١) منها في وسائل الشيعة ٩ : ٥٤٨ ، الباب ٤ من أبواب الأنفال ، الحديث ١٢ ، و ٥٣٠ ، الباب الأوّل من أبواب الأنفال ، الحديث ١٩ .

(٢) وبهذا نعرف : أنّ في الإمكان تفسير مِلكية الإمام للأرض كلّها ـ في هذه النصوص ـ على أساس كونها حكماً شرعياً وملكية اعتبارية ، ما دامت منصبّة على الوضع الطبيعي للأرض من حيث هي ، ولا تتعارض مع تملّك غير الإمام لشيءٍ من الأرض بأسباب شرعية طارئة على الوضع الطبيعي للأرض ، من إحياء أو غيره فلا ضرورة لتأويل الملكية في تلك النصوص واعتبارها أمراً معنوياً لا حكماً شرعياً ، مع أن هذا التأويل يعارض سياق تلك النصوص بوضوح ؛ فلاحظ رواية الكابلي كيف قرّرت أنّ الأرض كلّها ملك الإمام ، وانتهت من ذلك إلى القول بأنّ للإمام حقّ الطَّسق على أن يُحيي شيئاً من الأرض ، فإنّ فرض الطَّسق أو الأجرة للإمام ، تفريعاً على ملكيّته يدلّ بوضوح على أنّ الملكية هنا بمعناها التشريعي ، الذي تترتب عليه هذه الآثار لا بمعنى آخرٍ روحيٍّ بحت (المؤلّف قدّس سرّه)

٤٠٨

من ذلك لا يكون سبباً لتملّك الفرد رقبة الأرض ملكية خاصة تخرج بها عن مبدأها الأوّل ، وإنّما ينتج حقّاً للفرد ، يصبح بموجبه أولى بالانتفاع بالأرض التي أحياها من غيره ، بسبب الجهود التي بذلها في الأرض ، ويظلّ للإمام ملكية الرقبة ، وحقّ فرض الضريبة على المُحيي ، وفقاً للنصّ الفقهي الذي كتبه الشيخ الفقيه الكبير محمّد بن الحسن الطوسي ، حين قال في فصل الجهاد من كتاب المبسوط :( فأمّا الموات فإنّها لا تُغنم ، وهي للإمام ، فإن أحياها أحدٌ كان أولى بالتصرّف فيها ، ويكون للإمام طَّسقها ) (١) وقد مرّ بنا النصّ سابقاً .

ويستمر الحقّ الذي يمنح للفرد بالإحياء ما دام عمله مجسّداً في الأرض ، فإذا استهلك عمله واحتاجت الأرض إلى جهد جديد للحفاظ على عمرانها ، فلا يمكن للفرد أن يحتفظ بحقّه إلاّ بمواصلة إعمارها وتقديم الجهود اللازمة لذلك ، أمّا إذا أهملها وامتنع عن عمرانها حتى خربت ، سقط حقّه فيها .

نستطيع الآن أن نستوعب الصورة كاملة ، وأن نحدّد النظرة العامة : فالأرض بطبيعتها ملك الإمام ، ولا يملك الفرد رقبتها ، ولا يصلح أيّ اختصاص فرديّ بها إلاّ على أساس ما ينفقه الشخص على الأرض من عمل لأجل إعدادها واستثمارها وهذا الاختصاص أو الحقّ الذي يكسبه الفرد نتيجة لعمله فيها لا يمنع الإمام عن فرض الطَّسق أو الضريبة على الأرض المحياة لتساهم الإنسانية الصالحة كلّها في الاستفادة منها ، ولا يتعارض هذا مع العفو عن الطَّسق أو الضريبة أحياناً لظروف استثنائية ، كما جاء في أخبار التحليل(٢) .

ـــــــــــــــ

(١) المبسوط ٢ : ٢٩ .

(٢) وسائل الشيعة ٩ : ٥٤٣ ، الباب الرابع من أبواب الأنفال .

٤٠٩

هذه هي نظرة الإسلام نحو الأرض ، كما تبدو لنا ـ حتى الآن ـ قبل إبراز العنصر السياسي منها وفي الواقع أنّها جديرة بحلّ التناقض القائم بين أنصار مِلكية الأرض وخصومها ، فإنّ ملكية الأرض من القضايا الاجتماعية ، التي لعبت دوراً مهماً في التفكير البشري تبعاً لأهمّيتها ، بوصفها ظاهرة عاشت في حياة الإنسان منذ آلاف السنين .

وأكبر الظنّ أنّ هذه الظاهرة ولدت في تأريخ الإنسان أو اتسعت بعد اكتشافه للزراعة واعتماده في حياته عليها إذ وجد الإنسان المزارع نفسه بحاجة إلى الاستقرار في أرضٍ خاصة مدّة من الزمان ، لِما يتطلّبه هذا الإنتاج من وقت فكان من الطبيعي أن يرتبط إلى حدٍّ ما بمساحة معيّنة من الأرض ، ويمارس فيها عمله ، ويقيم له فيها مأوى ومسكناً يسكنه قريباً من زرعه ؛ ليكون قادراً على مراقبته والمحافظة عليه وفي النهاية وجد الإنسان المزارع ـ أيّ مزارع ـ نفسه مشدوداً إلى مساحة من الأرض ومرتبطاً بها بعدّة روابط تـنبع كلّها أخيراً من عمله الذي أنفقه على الأرض ، وجهده الذي اختلط بتربتها وكلّ ذرّة من ذرّاتها ، فكان من أثر ذلك أن نشأت فكرة الاختصاص ؛ لأنّها كانت تعكسمن ناحية : هذا الارتباط الذي يجده المزارع بينه وبين عمله المنفصل الذي جسده في الأرض ومزجه بوجودها ومنناحية أخرى : كانت فكرة الاختصاص تحقّق الاستقرار ، وتسفر عن تقسيم الأرض على أساس الكفاءة ، إذ يحتفظ كلّ فرد بالمساحة التي عمل فيها ، وأثبت كفاءته إلى درجة ما في استثمارها .

وعلى هذا الأساس نرجّح أن تكون الحقوق الخاصة في الأرض نشأت تأريخياً ـ في أكبر الظنّ ـ نتيجة للعمل ، واتّخذت هذه الحقوق على مرّ الزمن شكل الملكية .

٤١٠

مع خصوم ملكية الأرض :

والشكوك التي تثار عادة من خصوم ملكية الأرض حولها ، تتّجه تارّةً : إلى اتّهام واقعها التأريخي وجذورها الممتدّة في أعماق الزمن وتذهب تارّة أُخرى : إلى أكثر من ذلك ، فتدين نفس فكرة الملكية وحقّ الفرد في الأرض بمجافاتها لمبادئ العدالة الاجتماعية .

أمّا اتهام واقع ملكية الأرض ، والسند التأريخي لهذه الملكية فينصبّ في الغالب على أسباب القوّة والسيطرة التي تقول عنها التهمة : إنّها لعبت دورها الرئيسي على مرّ التأريخ في توزيع الأرض توزيعاً غير عادل ، ومنح الأفراد حقوقاً خاصة فيها ، وإذا كانت القوّة والاغتصاب وعوامل العنف ، هي المبرّرات الواقعية والسند التأريخي لملكية الأرض ، والحقوق الخاصة التي شهدها تأريخ الإنسان فمن الطبيعي أن تُشجب هذه الحقوق وتعتبر ملكية الأرض في التأريخ لوناً من السرقة .

ونحن لا ننكر عوامل القوة والاغتصاب، ودورها في التأريخ ، ولكنّ هذه العوامل لا تفسّر ظهور ملكية الأرض وحقوقها الخاصة في التأريخ ، إذ يجب ـ لكي تستولي على الأرض بالعنف والاغتصاب ـ أن يكون هناك من تَغتصب منه الأرض وتَطرده بالقوّة لتضمّها إلى أراضيك وهذا يفترض مسبقاً أن تكون تلك الأرض التي تعرّضت للاغتصاب والعنف ، قد دخلت في حيازة شخص أو أشخاص قبل ذلك ، وأصبح لهم حقّ فيها .

وحين نريد أن نفسّر هذا الحقّ السابق على عمليات الاغتصاب ، يجب أن ندع جانباً التفسير بالقوّة والعنف ، لنفتّش عن سببه ، في نوع العلاقة التي كانت قائمة بين الأرض وأصحاب الحقّ فيها.

٤١١

ومنناحية أخرى : أنّ هذا الشخص الغاصب ، الذي نفترض أنّه كان يستولي على الأرض بالقوّة لم يكن على الأكثر شخصاً طريداً لا مأوى له ولا أرض ، بل هو ـ في أقرب صورة إلى القبول ـ شخص استطاع أن يعمل في مساحة من الأرض ويستثمرها ، واتّسعت إمكاناته بالتدرج ، فأخذ يفكّر في الاستيلاء بالعنف على مساحات جديدة من الأرض فهناك إذن قبل العنف والقوّة العمل المثمر والحقّ القائم على أساس العمل والاستثمار .

وأقرب الأشياء إلى القبول ، حين نتصوّر طائفة بدائية تسكن في أرض وتدخل الحياة الزراعية أن يشغل كلّ فرد فيها مساحة من تلك الأرض تبعاً لإمكاناته ويعمل لاستثمارها ومن خلال هذا التقسيم الذي يبدأ بوصفه تقسيماً للعمل ـ إذ لا يتاح لجميع المزارعين المساهمة في كلّ شِبر ـ تنشأ الحقوق الخاصّة للأفراد ، ويصبح لكلّ فردٍ حقّه في الأرض ، التي أجهدته وامتّصت عمله وأتعابه وتظهر بعد ذلك عوامل العنف والقوّة ، حين يأخذ الأكثر قدرة وقوّة يغزو أراضي الآخرين ويستولي على مزارعهم .

ولسنا نريد بهذا أن نبرّر الحقوق والملكيات الخاصة للأرض التي مرّت في تأريخ الإنسان ، وإنّما نستهدف القول : بأنّ الإحياء ـ العمل في الأرض ـ هو في أكبر الظنّ السبب الأوّل الوحيد الذي اعترفت به المجتمعات الفطرية ، بوصفه مصدراً لحقّ الفرد في الأرض ، التي أحياها وعمل فيها ، والأسباب الأخرى كلّها عوامل ثانوية ولّدتها الظروف والتعقيدات التي كانت تبتعد بالمجتمعات الأولى عن وضعها الفطري وإلهامها الطبيعي .

وقد فقد السبب الأوّل اعتباره تأريخياً بالتدريج خلال نمو هذه العوامل الثانوية ، وتزايد سيطرة الهوى على الفطرة ، حتى امتلأ تأريخ الملكية الخاصة للأرض بألوان من الظلم والاحتكار ، وضاقت الأرض على جماهير الناس بقدر

٤١٢

ما اتسعت للمحظوظين منهم .

والإسلام ـ كما رأينا ـ قد أعاد إلى هذا السبب الفطري اعتباره ، إذ جعل الإحياء المصدر الوحيد لاكتساب الحقّ من الأرض ، وشجب الأسباب الأخرى كلّها وبهذا أحيى الإسلام سنة الفطرة التي كاد الإنسان المصطَنع أن يطمس معالمها .

هذا فيما يتّصل باتهام السند التأريخي لملكية الأرض ولكن الاتهام الأوسع والأخطر من ذلك هو : اتهام نفس فكرة الملكية والحقّ الخاص بالأرض بالذات وبشكلٍ مطلق ، كما تؤكّد عليه بعض الاتّجاهات المذهبية الحديثة ، أو نصف الحديثة ـ إن صحّ هذا التعبير ـ كالاشتراكية الزراعية ، وغالباً ما نسمع بهذا الصدد : أنّ الأرض ثروة طبيعية لم يصنعها إنسان ، وإنّما هي هبة من هبات الله ، فلا يجوز لأحدٍ أن يستأثر بها دون الآخرين .

ومهما قيل في هذا الصدد ، فإنّ الصورة الإسلامية ـ التي قدمناها في مستهل هذا الحديث ـ سوف تبقى فوق كلّ تهمة منطقية ؛ لأنّنا رأينا أنّ الأرض ـ منظوراً إليها بوضعها الطبيعي الذي هي عليه حين تسلّمت الإنسانية هذه الهبة من الله تعالى ـ ليست مِلكاً أو حقّاً لأيّ فردٍ من الأفراد ، وإنّما هي ملك الإمام ـباعتبار المنصب لا الشخص ـ ولا تزول ـ بموجب النظرية الاقتصادية للإسلام عن الأرض ـ ملكية الإمام لها ، ولا تصبح الأرض مِلكاً للفرد بالعنف والاستيلاء ، بل وحتى بالإحياء ، وإنّما يعتبر الإحياء مصدراً لحقّ الفرد في الأرض ، فإذا بادر شخص بصورة مشروعة إلى إحياء مساحة من الأرض وأنفق فيها جهوده ، كان من الظلم أن يساوى في الحقوق بينه وبين سائر الأفراد الذي لم يمنحوا تلك الأرض شيئاً من جهودهم ، بل وجب اعتباره أولى من غيره بالأرض والانتفاع بها .

فالإسلام يمنح العامل في الأرض حقّاً يجعله أولى من غيره ، ويسمح من

٤١٣

الناحية النظرية للإمام بفرض الضريبة أو الطَّسق عليه ؛ لتساهم الإنسانية الصالحة كلّها في الاستفادة من الأرض ، عن طريق الانتفاع بهذا الطَّسق .

ولمّا كان الحقّ في نظر الإسلام يقوم على أساس العمل الذي أنفقه الفرد على الأرض ، فهو يزول ـ بطبيعة الحال ـ إذا استهلكت الأرض ذلك العمل وتطلّبت المزيد من الجهد لمواصلة نشاطها وإنتاجها ، فامتنع صاحب الأرض من عمرانها وأهملها حتى خربت ، والأرض ـ في هذه الحالة ـ تنقطع صلتها بالفرد الذي كان يمارسها لزوال المبرّر الشرعي الذي كان يستمدّ منه حقّه الخاص فيها ، وهو عمله المتجسّد في عمران الأرض وحياتها .

العنصر السياسي في ملكية الأرض :

والآن وقد استوعبنا النظرية الاقتصادية للإسلام نحو الأرض ، يتحتّم علينا أن نبرّز العنصر السياسي ، الذي يكمن في نظرة الإسلام العامة إلى الأرض ، فإنّ الإسلام قد اعترف إلى جانب الإحياء ، الذي هو عمل اقتصادي بطبيعة بالعمل السياسي والعمل السياسي الذي يتجسّد في الأرض ويمنح العامل حقّاً فيها ، هو العمل الذي يتمّ بموجبه ضمّ الأرض إلى حوزة الإسلام ، وجعلها مساهمة بالفعل في الحياة الإسلامية وتوفير إمكاناتها المادّية .

وفي الواقع أنّ مساهمة الأرض فعلاً في الحياة الإسلامية وتوفير إمكاناتها المادّية تنشأ :

تارّة : عن سبب اقتصادي ، وهو عملية الإحياء التي ينفقها الفرد على أرض داخلة في حوزة الإسلام لتدّب فيها الحياة وتساهم في الإنتاج .

كما تنشأتارّة أخرى : عن سبب سياسي ، وهو العمل الذي يتمّ بموجبه ضَمّ أرض حيّة عامرة إلى حوزة الإسلام وكلّ من العملين له اعتباره الخاص في الإسلام .

وهذا العمل الذي ينتج ضمّ أرض حيّة عامرة إلى حوزة الإسلام على نوعين ؛ لأنّ الأرض :

٤١٤

تارّة : تفتح فتحاً جهادياً وعلى يد جيش الدعوة .

وأخرى : يسلم عليها أهلها طوعاً .

فإنّ كان ضمّ الأرض إلى حوزة الإسلام ومساهمتها في الحياة الإسلامية نتيجة للفتح ، فالعمل السياسي هنا يعتبر عمل الأمّة لا عمل فرد من الأفراد ، ولذلك تكون الأمّة هي صاحبة الأرض ، ويطبّق على الأرض ـ لأجل ذلك ـ مبدأ الملكية العامة .

وإن كان ضمّ الأرض العامرة وإسهامها في الحياة الإسلامية عن طريق إسلام أهلها عليها ، كان العمل السياسي هنا عمل الأفراد لا عمل الأمّة ولأجل ذلك اعترف الإسلام هنا بحقّهم في الأرض العامرة التي أسلموا عليها ، وسمح لهم بالاحتفاظ بها .

وهكذا نعرف : أنّ العمل السياسي يقوم بدورٍ في النظرة الإسلامية العامة إلى الأرض ، ولكنّه لا ينتزع طابع اللافردية في الملكية إذا كان عملاً جماعياً ، تشترك فيه الأمّة بمختلف ألوان الاشتراك كالفتح ، بل تصبح الأرض عندئذٍ مِلكاً عاماً للأمّة والملكية العامة للأمّة تتفق في الجوهر والمغزى الاجتماعي مع ملكية الدولة ، وإنّ كانت ملكية الدولة أرحب منها وأوسع ؛ لأنّ ملكية الأمّة بالرغم من كونها عامّة داخل نطاق الأمّة ، لكنّها خاصة بالأمّة على أيّ حال ، ولا يجوز استخدامها إلاّ في مصالحها العامة وأمّا ملكية الدولة ، فيمكن للإمام استثمارها في نطاق أوسع فالعمل السياسي الجماعي بالنسبة إلى الأراضي العامرة التي فتحها المسلمون ، أنتج وضعها في نطاق إسلامي ، بدلاً عن نطاق إنساني أوسع ، ولم يخرجها عن طابع اللافردية في الملكية على أيّ حال ، وإنّما تخرج الأرض عن هذا الطابع ، وتخضع لمبدأ الملكية الخاصة ، حين يكون العمل السياسي عملاً فردياً ، كإسلام الأفراد على أراضيهم طوعاً .

٤١٥

وفي هذه الضوء نعرف : أنّ المجال الأساسي للملكية الخاصة لرقبة الأرض في التشريع الإسلامي هو ذلك القسم من الأرض الذي كان ملكاً لأصحابه ، وفقاً لأنظمة عاشوها قبل الإسلام ، ثمّ استجابوا للدعوة ودخلوا في الإسلام طوعاً أو صالحوا ، فإنّ الشريعة تحترم ملكيّاتهم ، وتقرّهم على أموالهم(١) .

وأمّا في غير هذا المجال ، فالأرض تعتبر مِلكاً للإمام ولا تعترف الشريعة بتمّلك الفرد لرقبتها ، وإنّما يمكن للفرد الحصول على حقّ خاص فيها عن طريق الأعمار والاستثمار ، كما مرّ في رأي الشيخ الطوسي وهذا الحقّ وإن كان لا يختلف عملياً في واقعنا المعاش عن الملكية ، ولكنّه يختلف عنها نظرياً ؛ لأنّ الفرد ما دام لا يملك رقبة الأرض ، ولا ينتزعها من نطاق ملكية الإمام ، فللإمام أن يفرض عليه الخَراج ، كما قرّره الشيخ الطوسي وإن كنّا غير مسئولين فعلاً عن هذا الخَراج من الناحية العملية ؛ لأجل أخبار التحليل التي رفعته بصور استثنائية مع اعترافها به نظرياً .

فالشريعة على الصعيد النظري ـ إذن ـ لم تعترف بالملكية الخاصة لرقبة الأرض إلاّ في حدود احترامها للملكيات الثابتة في الأرض قبل دخولها في حوزة الإسلام طوعاً وصلحاً .

ويمكننا بسهولة أن نجد المبرّرات السياسية لهذا الاعتراف ، إذا ربطناه باعتبارات الدعوة ومصلحتها الرئيسية ، بدلاً عن ربطه بالمضمون الاقتصادي للنظرة الإسلامية ؛ لأنّ أولئك الذين أسلموا على أراضيهم طوعاً ، أو دخلوا في حوزة الإسلام صلحاً ، كان من الضروري أن تترك المساحات التي عمروها في أيديهم ، وأن لا يطالبوا بتقديمها إلى دولة الدعوة ، التي دخلوا فيها أو انضمّوا إلى

ـــــــــــــــ

(١) انظر : جواهر الكلام ٢١ : ١٧١ ـ ١٧٥ .

٤١٦

سلطانها ، وإلاّ لشكّل ذلك عقبة كبيرة في وجه الدعوة وامتدادها في مختلف مراحلها .

وبالرغم من إعطاء الإسلام لهؤلاء حقّ الملكية الخاصة ، فإنّه لم يمنحها بشكل مطلق ؛ وإنّما حدّدها باستمرار هؤلاء الأفراد في استثمار أراضيهم ، والعمل لإسهامها في الحياة الإسلامية وأمّا إذا أهملوا الأرض حتى خربت فإنّ عدداً من الفقهاء كابن البرّاج وابن حمزة يرى أنّها تعود عندئذٍ مِلكاً للأمّة(١) .

نظرة الإسلام في ضوء جديد :

ويمكننا أن نتجاوز ما وصلنا إليه من استنتاجات حتى الآن عن نظرة الإسلام التشريعية إلى الأرض لنضع هذه النظرة في إطار أكثر اتساقاً على ضوء بعض المواقف الفقهية الخاصة من النصوص ويتمثل ذلك في المحاولة التالية :

إنّنا لاحظنا قبل لحظات أنّ الأرض حينما ينظر إليها ضمن وضعها الطبيعي ، وبصورة مستقلّة عن الاعتبارات السياسية ، تعتبر إسلامياً مِلكاً للدولة ؛ لأنّها إمّا مَيتَة بطبيعتها أو حيّة ، وكِلا القسمين مِلك للإمام كما رأينا أنّ الفرد بممارسة الإحياء للأرض المَيتَة يكتسب حقّاً خاصاً يجعله أولى بها من الآخرين ما دامت حيّة ، وبممارسته للانتفاع بالأرض العامرة يكتسب حقّاً يجعله أولى بالانتفاع بها ما دام مواصلاً لذلك .

والآن نريد أن نجد ما إذا كانت هناك تعديلات يجب إدخالها على هذه الصورة التشريعية وما هي حدود هذه التعديلات ، وذلك ضمن النقاط التالية :

ـــــــــــــــ

(١) المهذّب ١ : ١٨٢ ، والوسيلة : ١٣٢ .

٤١٧

أوّلاً : الأرض المفتوحة عَنوة العامرة حين الفتح .

وقد تقدم أنّ هذه الأرض يُحكم بأنّها مِلك عام للمسلمين ، ولهذا قلنا : إنّها تدخل في نطاق الملكية العامّة للأمّة لا في نطاق ملكية الدولة ولكن يمكن أن نقول بهذا الصدد : إنّ هذه الأرض إذا نظرنا إليها قبل الفتح نجد أنّها أرض مَيتَة قد أحياها كافر فتكون رقبتها على ضوء ما تقدّم ملكاً للإمام أو الدولة ، وللكافر المُحيي لها أو لمن انتقلت إليه من المحيي حقّ الإحياء ، والروايات الواردة عن الأئمّة (عليهم السلام) بشأن الأرض المفتوحة وأنّها للمسلمين لا يفهم منها سوى أنّ ما كان للكافر من حقّ في الأرض ينتقل بالفتح إلى الأمّة ويصبح حقّاً عامّاً ، ولا تدلّ على أنّ حقّ الإمام يسقط بالفتح ؛ لأنّ المسلمين إنّما يغنمون من أعدائهم لا من إمامهم ، وعلى هذا فسوف تظلّ رقبة الأرض مِلكاً للإمام ويتحوّل ما فيها من حقّ خاص إلى حقّ عام للأمّة .

ثانياً : الأرض التي أسلم أهلها عليها طوعاً .

وقد تقدّم أنّ هذه الأرض ملك خاص لأصحابها ، غير أنّ بالإمكان القول بأنّ الروايات الواردة لبيان حكم هذه الأرض كانت متجهة إلى الأمر بتركها في أيدي أصحابها في مقابل ما يصنع بالأرض المفتوحة من تجريد أصحابها من حقوقهم فيها ، فما يترك لمن أسلم طوعاً هو نفس ما ينتزع من حقّ ممّن قهر عَنوة وهذا هو الحقّ الخاص دون ملكية رقبة الأرض .

وبكلمة أخرى : أنّ الأرض قبل إسلام أهلها عليها طوعاً كانت ملِكاً للدولة بحكم دليل الأنفال وكان لصاحبها حقّ خاص فيها هو حقّ الإحياء ، والإسلام يحقن ما له من حقوق لا أنّه يمنحه من الحقوق ما لم يكن له ، وعليه فيظلّ محتفظاً بحق الإحياء مع بقاء الأرض مِلكاً للدولة ، ولذا وجدنا أنّه إذا أخلّ بواجبة وأهمل الأرض ولم يعمرها كان على الإمام أن يبادر إلى الاستيلاء عليها

٤١٨

واستثمارها ؛ لأنّ رقبتها لا تزال ضمن نطاق مِلكية الدولة .

ثالثاً : الأرض التي صولح أهلها على أن تكون لهم .

وهنا في الحقيقة عقد تنقل الدولة بموجبه ملكية هذه الأرض إلى المصالحين في مقابل امتيازات معيّنة تكسبها ، كالجزية مثلاً ، وقد سبق أنّ الأراضي التي تملكها الدولة تعتبر من الأموال الخاصة للدولة التي يمكن لها أن تتصرّف فيها بمعاوضة ونحوها ولكن عقد الصلح هذا عقد سياسي بطبيعته وليس عقد معاوضة ، فهو لا يعني حقّاً إسقاط ملكية الدولة أو النبيّ والإمام لرقبة الأرض ونقلها إليهم ، وإنّما يعني رفع اليد عن أرضهم وتركها لهم في مقابل امتيازات معيّنة ، ووجوب الوفاء بهذا العقد يحتّم على الإمام ألاّ يفرض عليهم أُجرة في مقابل انتفاعهم بالأرض ، وهذا غير نقل ملكية الرقبة ، فالمصالحة على أن تكون الأرض لهم تعني المدلول العَملي لهذه العبارة ، لا المدلول التشريعي ؛ لأنّ المدلول العَملي هو كلّ ما يهمّ الكفّار المصالحين ، فهي نظير عقد الذمّة الذي هو عقد سياسي تتنازل فيه الدولة عن جِباية الزكاة والخمس من الذمّي في مقابل إعطاء الجِزية ، فإنّ هذا لا يعني سقوط الزكاة عن الكافر من الوجهة التشريعية ، وإنّما يعني إلزام الدولة بأن لا تمارس جباية هذه الضريبة وإن كانت ثابتة تشريعاً .

فإذا تمّ كلّ ما تقدّم أمكن القول : بأنّ الأرض كلّها ملك الدولة أو المنصب الذي يمثّله النبيّ أو الإمام ، ولا استثناء لذلك إطلاقاً ، وعلى هذا الضوء نفهم قول الإمام علي في رواية أبي خالد الكابلي ، عن محمّد بن علي الباقرعليه‌السلام ، عنهعليه‌السلام :( والأرض كلّها لنا ، فمن أحيى أرضاً من المسلمين فليعمرها وليؤدّ خراجها إلى الإمام ) (١) .

ـــــــــــــــ

(١) وسائل الشيعة ٢٥ : ٤١٤ ، الباب الثالث من إحياء الموات ، الحديث ٢ .

٤١٩

فالمبدأ في الأرض هو ملكية الدولة ، وإلى جانب هذا المبدأ يوجد حقّ الإحياء ، وهو الحقّ الذي يجعل المُحيي أو من انتقلت إليه الأرض من المُحيي أولى بالأرض من غيره ، وهذا الحقّ يكسبه الفرد إذا مارس الإحياء في حالة عدم منع الإمام منه سواء كان مسلماً أو كافراً ، ويكون حقّاً خاصّاً ، غير أنّه إذا كان كافراً واحتلّ المسلمون أرضه عَنوة في حرب جهاد تحوّل هذا الحقّ الخاص إلى حقّ عام ، وأصبح قائماً بالأمّة الإسلامية ككلّ .

وإذا لوحظ أنّ الأرض الخَراجية لا يجوز للإمام إخراجها عن كونها خَراجية ببيع رقبتها أو هبتها ، أمكن القول : بأنّ هذا الحقّ العام وإن كان لا يقطع صلة الدولة برقبة الأرض وملكيّتها لها ، ولكنّه يحوّل الأرض من الأموال الخاصة للدولة إلى الأموال العامّة لها التي لا بدّ أن تستثمرها في المصالح المقرّرة لها مع الاحتفاظ بها وهذا ما يؤكّده التعبير عن الأرض الخَراجية بأنّها موقوفة(١) ، ولأجل ذلك سوف نعبّر بالملكية العامة عن كلّ حالة من هذا القبيل تمييزاً لها عن حالات مِلكية الدولة البحتة ، وهي حالات كون الرقبة مِلكاً للدولة مع عدم وجود حقّ عام من هذا النوع .

ـــــــــــــــ

(١) تهذيب الأحكام ٤ : ١٣٠ ، ذيل الحديث ٣٦٦ .

٤٢٠