اقتصادنا

اقتصادنا0%

اقتصادنا مؤلف:
تصنيف: فقه مقارن
الصفحات: 741

اقتصادنا

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: السيد محمد باقر الصدر
تصنيف: الصفحات: 741
المشاهدات: 138948
تحميل: 7654

توضيحات:

اقتصادنا
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 741 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 138948 / تحميل: 7654
الحجم الحجم الحجم
اقتصادنا

اقتصادنا

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

[ التمييز بين علم الاقتصاد والمذهب الاقتصادي : ]

فالمذهب والعلم يدخلان في كلّ تلك المجالات ويدرسان الإنتاج والتوزيع معاً ، ولكن هذا يجب أن لا يؤدّي بنا إلى عدم التمييز بينهما أو الخلط بينالطابع العلمي والمذهبي في البحث الاقتصادي ، الأمر الذي مُني به بعض أولئك الذين يؤكّدون على عدم وجود اقتصاد في الإسلام ، إذ لم يتح لهم أن يميّزوا بشكل حاسمٍ بين العلم والمذهب ، فظنّوا أنّ القول بوجود اقتصاد إسلامي يستهدف ادعاء أنّ الإسلام سبق المفكّرين الغربيين في الإبداع العلمي للاقتصاد السياسي ، وظنّوا أيضاً أنّ القول بوجود اقتصاد إسلامي يعني أنّنا سوف نجد لدى الإسلام فكراً اقتصادياً ، وبحثاً علمياً في قوانين الحياة الاقتصادية ؛ من إنتاجٍ وتوزيعٍ وغيرهما ، نظير ما نجد في بحوث ( آدم سميث) و( ريكاردو ) ومَن إليهما من أقطاب الاقتصاد السياسي ، ولمّا كنا لا نجد في الإسلام بحوثاً من هذا القبيل فليس الاقتصاد الإسلامي إلاّ أسطورة وخيالاً مجنحاً .

ويمكن لهؤلاء أن يتنازلوا عن تأكيدهم على عدم وجود اقتصاد إسلامي إذا عرفوا ـ بوضوحٍ ـ : الفرقَ بين المذهب الاقتصادي وعلم الاقتصاد ، أو ما يسمّى بالاقتصاد السياسي وعرفوا : أنّ الاقتصاد الإسلامي مذهبٌ وليس علماً .

فالمذهب الاقتصادي يشمل كلّ قاعدة أساسية في الحياة الاقتصادية ، تتّصل بفكرة : (العدالة الاجتماعية ) .

والعلم يشمل كلّ نظرية تفسّر واقعاً من الحياة الاقتصادية بصورة منفصلةٍ عن فكرة مسبقة أو مَثلٌ أعلى للعدالة .

ففكرة العدالة هي الحدّ الفاصل بين المذهب والعلم ، والعلامة الفارقة التي تميّز بها الأفكار المذهبية عن النظريات العلمية ؛ لأنّ فكرة العدالة نفسها ليست علمية ، ولا أمراً حسيّاً قابلاً للقياس والملاحظة ، أو خاضعاً للتجربة بالوسائل العلمية ، وإنّما العدالة تقدير وتقويم خُلُقي فأنت حين تريد أن تعرف مَدى العدالة في نظام الملكية الخاصة ، أو تصدر حكماً على نظام الفائدة الذي تقوم على أساسه المصارف بأنّه نظام عادل أو ظالم لا تلجأ إلى نفس الأساليب والمقاييس العلمية التي تستخدمها حينما تريد قياس حرارة الجو ، أو درجة الغليان في مائعٍ معيّن ؛ لأنّ الحرارة والتبخّر ظاهرتان طبيعيتان يمكن إخضاعهما للحسّ العلمي ، وأمّا العدالة فتلجأ في تقديرها إلى قيم خُلُقية ومُثُل عُليا خارجة عن حدود القياس المادّي .

٣٢١

فالعدالة إذن ليست فكرة علمية بذاتها ، وهي لذلك حين تندمج بفكرة تدمغها بالطابع المذهبي وتميّزها عن التفكير العلمي فمبدأ الملكية الخاصة ، أو الحرّية الاقتصادية ، أو إلغاء الفائدة ، أو تأميم وسائل الإنتاج كلّ ذلك يندرج في المذهب ؛ لأنّه يرتبط بفكرة العدالة ، وأمّا قانون تناقض الغلّة ، وقانون العرض والطلب ، أو القانون الحديدي للأجور فهي قوانين علميّة ؛ لأنّها ليست بصدد تقويم تلك الظواهر الاقتصادية فقانون تناقص الغلّة لا يحكم بأنّ هذا التناقض عادل أو ظالم ، وإنّما يكشف عنه بوصفه حقيقة موضوعية ثابتة ، كما أنّ قانون العرض والطلب لا يبرّر ارتفاع الثمن بسبب قلّة العرض أو زيادة الطلب على أساس مفهوم معيّن عن العدالة ، وإنّما يبرز الترابط موضوعياً بين الثمن وكمّية العرض والطلب ، باعتباره ظاهرة من الظواهر الحتميّة للسوق الرأسمالية ، وكذلك الأمر في قانون الأجور الحديدي ، فهو يشرح الواقع المحتوم للعمّال الذي يجعلهم دائماً لا يحصلون في المجتمع الرأسمالي إلاّ على معيشة الكفاف ، بقطع النظر عمّا إذا كانت ضآلة نصيب العمّال في التوزيع تتّفق مع العدالة أو لا .

فكلّ القوانين العلمية لا ترتكز على فكرة العدالة ، وإنّما ترتكز على استقراء الواقع وملاحظة مختلف ظواهره المتنوعة وعلى العكس من ذلك القواعد المذهبية التي تجسّد دائماً فكرة معيّنة للعدالة.

وهذا الفصل الحاسم بين البحث المذهبي والبحث العلمي لا يمنع عن اتخاذ المذهب إطاراً للبحث العلمي في بعض الأحيان ، كما في قوانين العرض والطلبأو قانون الأجور الحديدي للعمّال ، فإن أمثال هذه القوانين إنّما تصدّق علمياً وتنطبق على الواقع الذي تفسّره في مجتمع رأسمالي يطبق الرأسمالية المذهبية ، فهي قوانين علمية ضمن إطار مذهبي معيّن ، وليست علمية ولا صحيحة ضمن إطار آخر ، كما أوضحنا ذلك بكلّ تفصيلٍ في بحثٍ سابقٍ من هذا الكتاب (١) .

وبمجرّد أن نضع هذا الفصل الحاسم بين المذهب الاقتصادي وعلم الاقتصاد ، نعرف أنّ القول بوجود مذهب اقتصادي في الإسلام لا يعني أنّ الإسلام يبحث في قوانين العرض والطلب ، ويحدّد مدى تأثير زيادتهما أو انكماشهما على الثمن في السوق الحرّة ، وإنّما يبحث بدلاً عن ذلك في توفير الحرّية للسوق ، فيدعو إلى توفيرها له وصيانتها ، أو إلى الإشراف على السوق والتحديد من حرّيته ، تبعاً للصورة التي يتبنّاها للعدالة .

ـــــــــــــــ

(١) راجع مبحث : القوانين العلمية في الاقتصاد الرأسمالي ذات إطار مذهبي .

٣٢٢

وكذلك لا يبحث الإسلام في العلاقة وردود الفعل بين الفائدة والربح ، أو بين حركة رأس المال الرَّبوي والتجارة ، ولا في العوامل التي تؤدّي إلى زيادة الفائدة أو انخفاضها ، وإنّما يقوّم نفس الفائدة والربح ، ويصدر حكمه على الاستثمار الرَّبوي والتجاري بما يتّفق مع مفاهيمه عن العدالة .

ولا يبحث الإسلام أيضاً في ظاهرة تناقص إنتاج الغلّة وأسبابها ، وإنّما يبحث عمّا إذا كان من الجائز ومن العدل أن يوضح الإنتاج تحت إشراف هيئة مركزية عُليا .

نعرف من ذلك كلّه : أنّ وظيفة المذهب الاقتصادي هي وضع حلول لمشاكل الحياة الاقتصادية ترتبط بفكرته ومُثُله في العدالة وإذا أضفنا إلى هذهالحقيقة : أنّ تعبيرَي ( الحلال والحرام) في الإسلام تجسيدان للقِيَم والمُثُل التي يؤمن بها الإسلام ، فمن الطبيعي أن ننتهي من ذلك إلى اليقين بوجود اقتصاد مذهبي إسلامي ؛ لأنّ قصّة الحلال والحرام في الإسلام تمتد إلى جميع النشاطات الإنسانية ، وألوان السلوك ؛ سلوك الحاكم والمحكوم ، وسلوك البائع والمشتري ، وسلوك المستأجر والأجير ، وسلوك العامل والمتعطّل ، فكلّ وحدة من وحَدات هذا السلوك هي إمّا حرام وإمّا حلال ، وبالتالي هي إمّا عدل وإمّا ظلم ؛ لأنّ الإسلام إن كان يشتمل على نصٍّ يمنع عن سلوك معيّن سلبي أو إيجابي فهذا السلوك حرام ، وإلاّ فهو حلال .

وإذا كانت كلّ ألوان النشاط في الحياة الاقتصادية خاضعة لقضية الحلال والحرام ، بما تعبّر عنه هذه القضية من قِيم ومُثل، فمن حقّ البحث في الإسلام أن يدعونا إلى التفكير في استخلاص وتحديد المذهب الاقتصادي ، الذي تعبّر عنه قضية الحلال والحرام بقِيَمها ومُثُلها ومفاهيمها .

العلاقة بين المذهب والقانون :

كما عرفنا أنّ المذهب الاقتصادي يختلف عن علم الاقتصاد ، كذلك يجب أن نعرف الفرق بين المذهب الاقتصادي والقانون المدني أيضاً ، فإنّالمذهب هو : مجموعة من النظريات الأساسية التي تعالج مشاكل الحياة الاقتصادية .

٣٢٣

والقانون المدني هو : التشريع الذي ينظّم تفصيلات العلاقات المالية بين الأفراد وحقوقهم الشخصية والعينية وعلى هذا الأساس لا يمكن أن يعتبر المذهب الاقتصادي لمجتمعٍ نفس قانونه المدني فالرأسمالية مثلاً بوصفها المذهب الاقتصادي لدول كثيرة في العالم ليست هي نفس القوانين المدنية في تلك الدول ، ولذا قد تختلف دولتان رأسماليتان في تشريعاتهما القانونية ؛ تبعاً لاتجاهات رومانية وجرمانية ـ مثلاًً ـ مختلفة في التشريع ، بالرغم من وحدة المذهب الاقتصادي فيهما ؛ لأنّ تلك التشريعات القانونية ليست من المذهب الرأسمالي فليس من الرأسمالية ـ باعتبارها مذهباً اقتصادياً ـ الأحكام التي يُنظِّم بها القانونُ المدني في الدولة الرأسمالية عقودَ المقايضة من بيعٍ وإيجارٍ وقرضٍ مثلاً فلو قدّمت هذه الأحكام باعتبارها المضمون الرأسمالي للمذهب ، كان ذلك ينطوي على التباس وخلطٍ بين النظريات الأساسية والتفصيلات التشريعية ، بين المذهب والقانون ، أي بين النظريات الأساسية للرأسمالية في حرّية التملّك وحرّية التصرّف وحرّية الاستثمار ، وبين التشريعات القانونية التي ترتكز على أساسها تلك المبادئ الرأسمالية في الحرّية .

ولأجل هذا يكون من الخطأ أن يقدّم الباحث الإسلامي مجموعة من أحكام الإسلام ـ التي هي في مستوى القانون المدني حسب مفهومه اليوم ـ ويعرضها طبقاً للنصوص التشريعية والفقهية بوصفها مذهباً اقتصادياً إسلامياً ، كما يصنع بعض الكتّاب المسلمين حين يحاولون دراسة المذهب الاقتصادي في الإسلام ، فيتحدثون عن مجموعة من تشريعات الإسلام التي نظّم بها الحقوق المالية والمعاملات ، كالأحكام الشرعية بشأن البيع والإيجار والشِّركة والغش والقمار وما إليها من تشريعات ، فإنّ هؤلاء كمن يريد أن يدرس ويحدّد المذهب الاقتصادي للمجتمع في (إنكلترا ) ـ مثلاً ـ فيقتصر في دراسة على القانون المدني لتلك البلاد وما يضمّه من تشريعات ، بدلاً عن استعراض الرأسمالية ومبادئها الأساسية في حرّية التملّك والتصرّف والاستثمار ، وما تعبّر عنه هذه المبادئ من مفاهيم وقِيم .

ونحن حين نؤكّد على ضرورة التمييز بين الكيان النظري للمذهب الاقتصادي ، وبين القانون المدني ، لا نحاول بذلك قطع الصلة بينهما ، بل نؤكّد في نفس الوقت على العلاقة المتينة التي تربط المذهب بالقانون ، بوصفهما جزءين من بناء نظريٍّ كامل للمجتمع فليس المهم فقط أن نرتفع إلى مستوى التمييز بين المذهب الاقتصادي والقانون المدني ، بل لا بدّ أنّ ندرك باستيعاب أيضاً الروابط التي تشدّ أحدهما إلى الآخر ؛ باعتبارهما مندمجين في مركّبٍ عضوي نظري واحد .

٣٢٤

فالمذهب الاقتصادي بنظريّاته وقواعده يشكل قاعدة لبناء فوقي من القانون ، ويعتبر عاملاً مهمّاً في تحديد اتجاهه العام وكون المذهب قاعدة نظرية للقانون لا ينفي اعتبار المذهب بدوره بناءً عُلْوياً لقاعدة يرتكز عليها ، فإنّ البناء النظري الكامل للمجتمع يقوم على أساس نظرة عامة ، ويضمّ طوابق متعدّدة يرتكز بعضها على بعض ، ويعتبر كلّ طابق متقدّم أساساً قاعدة للطابق العُلْوي المشاد عليه فالمذهب والقانون طابقان من البناء النظري ، والقانون هو الطابق العُلْوي منهما الذي يتكيف وفقاً للمذهب ، ويتحدّد في ضوء النظريات والمفاهيم الأساسية التي يعبّر عنها ذلك المذهب .

ولنأخذ لأجل التوضيح مثالاً على ذلك من المذهب الرأسمالي الحرّ في الاقتصاد ، وعلاقاته بالقوانين المدنية على صعيدها النظري والواقعي ، لتتجسّد لنا الصلة بين المذهب والقانون ، ومدى تأثّر القانون نظرياً وواقعياً بالنظريات المذهبية .

ففي مجال الحقوق الشخصية من القانون المدني نستطيع أن نفهم أثر المذهب فيه إذا عرفنا أنّ نظرية الالتزام ـ وهي حجر الزاوية في القانون المدني ـ قد استمدّت محتواها النظري من طبيعة المذهب الرأسمالي ، في الفترة التي طغت فيها الأفكار الرأسمالية على الحرّية الاقتصادية ، وسيطرت مبادئ الاقتصاد الحرّ على التفكير العام ، فكان من نتيجة ذلك ظهور مبدأ سلطان الإرادة في نظرية الالتزام ، الذي يحمل الطابع المذهبي للرأسمالية ، إذ يؤكّد ـ تبعاً لإيمان الرأسمالية بالحرّية واتجاها الفردي ـ على أنّ الإرادة الخاصة للفرد هي وحدها مصدر جميع الالتزامات والحقوق الشخصية ، ويرفض القول بوجود أيّ حقّ لفردٍ على آخر ، أو لجماعة على فردٍ ، ما لم تكمن وراءه إرادة حرّة يتقبّل الفرد بموجبها ثبوت الحقّ عليه بملء حرّيته .

ومن الواضح أنّ رفض أيّ حقٍ على الشخص ما لم يُنشئ ذلك الشخص الحقّ على نفسه بملء إرادته ، ليس إلاّ نقلاً أميناً للمضمون الفكري للمذهب الرأسمالي ـ وهو الحرّية الاقتصادية ـ من الحقل المذهبي الاقتصادي إلى الحقل القانوني ، ولذا نجد أنّ نظرية الالتزام حين تقام على أساس مذهبي آخر في الاقتصاد، تختلف عن ذلك ، وقد يتضاءل دور الإرادة فيها حينئذٍ إلى حدٍ بعيد .

٣٢٥

ومن مظاهر نقل المضمون النظري للمذهب الرأسمالي إلى التفصيلات التشريعية على الصعيد القانوني : سماح القانون المدني القائم على أساس رأسمالي في تنظيماته ، لعقود البيع والقرض والإيجار ، ببيع كمّية عاجلة من الحنطة بكمّية أكبر منها تدفع بعد ذلك ، وبإقراض المال بفائدة معيّنة بنسبة مئوية ، وباستئجار الرأسمالي عمّالاً يستخدمهم في استخراج البترول من الأرض بالوسائل التي يملكها لكي يتملّك ذلك البترول إنّ القانون حين يجيز كلّ ذلك إنّما يستمدّ في الحقيقة مبرّرات هذا الجواز من النظريات الرأسمالية للمذهب الذي يرتكز القانون عليه .

والأمر نفسه نجده أيضاً في مجال الحقوق العينية من القانون المدني : فحقّ الملكية وهو الحقّ العيني الرئيسي ، ينظّمه القانون وفقاً للموقف العام الذي يتّخذه المذهب الاقتصادي من توزيع الثروة ، فالرأسمالية المذهبية حين آمنت بحرّية التملّك ، وكانت تنظر إلى الملكية بوصفها حقّاً مقدّساً فرضت على الطابق الفوقي في البناء الرأسمالي أن يسمح للأفراد بملكية المعادن تطبيقاً لحرّية التملّك ، وأن يقدّم مصلحة الفرد في الانتفاع بما يملك على أيّ اعتبار آخر ، فلا يمنع الفرد عن ممارسة أمواله بالطريقة التي تحلو له مهما كان أثر ذلك على الآخرين ، ما دامت الملكية والحرّية حقاً طبيعياً للفرد ، وليست وظيفة اجتماعية يمارسها الفرد ضمن الجماعة .

وحين أخذ دور الحرّية الاقتصادية يتضاءل ، ومفهوم الملكية الخاصة يتطوّر ، بدأت القوانين المدنية تمنع عن تملك الفرد لبعض الثروات أو المرافق الطبيعية ، ولا تسمح له بالإساءة في استعمال حقه في التصرّف والانتفاع بماله .

فهذا كلّه يجلي علاقة التبعية بين القانون المدني والمذهب إلى درجة يجعل من الممكن التعرّف على المذهب وملامحه الأصيلة عن طريق القانون المدني ، فالشخص الذي لم يتح له الإطلاع المباشر على المذهب الاقتصادي لبلدٍ ما ، يمكنه أن يرجع إلى قانونه المدني ، لا بوصفه المذهب الاقتصادي ، فإنّ المذهب غير القانون ، بل باعتباره البناء العُلْوي للمذهب والطابق الفوقي الذي يعكس محتوى المذهب وخصائصه العامة ، ويمكنه عندئذِ في ضوء دراسة القانون المدني للبلد أن يعرف بسهولة كون البلد رأسمالياً أو اشتراكياً ، بل وحتى الدرجة التي يؤمن البلد بها من الرأسمالية والاشتراكية .

٣٢٦

تلخيص:

تحدّثنا حتى الآن عن الفرق بين المذهب الاقتصادي بشكلٍ عامٍ وعلم الاقتصاد ، والفرق بين المذهب الاقتصادي والقانون المدني ، وعرفنا على هذه الأساس أنّ من الخطأ أن نتحدّث عن المذهب الاقتصادي الإسلامي بوصفه علماً ، أو باعتباره مجموعة من التشريعات في مستوى القانون المدني الذي ينظّم أحكام المعاملات وما إليها .

وليس هذا فقط ، فقد عرفنا إلى ذلك أيضاً طبيعة العلاقة بين المذهب والقانون ، وسوف يكون لهذه العلاقة أثرها الكبير في العملية التي نمارسها في هذا الكتاب ، كما سنرى إن شاء الله تعالى .

والآن وقد اتّفقنا على وجود المذهب الاقتصادي في الإسلام بتمييزه عن علم الاقتصاد ، وفرّقنا بين المذهب والقانون مع إدراك نوع العلاقة بينهما ، فلنتحدّث عن العلمية التي نمارسها في هذا الكتاب بشأن الاقتصاد الإسلامي ، ونحدّد نوعيتها ومعالمها الرئيسية ، ونشرح منهجنا في ممارستها على ضوء المعلومات السابقة عن المذهب بشكلٍ عامٍ وتميزه عن العلم والقانون ، وعلى ضوء نوع العلاقة التي تربط القانون المدني بالمذهب .

عملية اكتشاف وعملية تكوين

إنّ العملية التي نمارسها في دراستنا للمذهب الاقتصادي الإسلامي تختلف عن طبيعة العمل الذي مارسه الرواد المذهبيّون الآخرون ؛ فإنّ الباحث الإسلامي يحسّ منذ البدء بالفارق الأساسي بين موقفه من المهمّة التي يحاول إنجازها ، وموقف أيّ باحثٍ مذهبيٍّ آخر ممّن مارسوا عملية البحث المذهبي في الاقتصاد ، وبشّروا بمذاهب اقتصادية معيّنة كالرأسمالية والاشتراكية .

وهذا الفارق الجوهري هو الذي يحدّد لكلّ من البحثين ، الإسلامي وغيره ، معالم الطريق ونوع العملية التي يجب أن يمارسها البحث ، وطابعها المميّز كما سنرى بعد لحظات .

فالمفكّر الإسلامي أمام اقتصاد مُنجز تمّ وضعه ، وهو مدعو إلى تمييزه بوجهه الحقيقي ، وتحديده بهيكله العام ، والكشف عن قواعده الفكرية ، وإبرازه بملامحه الأصيلة ، ونفض غبار التأريخ عنها ، والتغلب بقدر الإمكان على كثافة الزمن المتراكم والمسافات التأريخية الطويلة ، وإيحاءات التجارب غير الأمينة التي مارست ـ ولو اسمياً ـ عملية تطبيق الإسلام ، والتحرر من أُطر الثقافات غير الإسلامية التي تتحكّم في فهم الأشياء ، وفقاً لطبيعتها واتجاهها في التفكير .

٣٢٧

إنّ محاولة التغلّب على كلّ هذه الصعاب واجتيازها للوصول إلى اقتصاد إسلامي مذهبي هي وظيفة المفكّر الإسلامي .

وعلى هذا الأساس يمكن القول : بأنّ العملية التي نمارسها هي عملية اكتشاف وعلى العكس من ذلك المفكّرون المذهبيّون الذين بشّروا بمذاهبهم الرأسمالية والاشتراكية ، فإنّهم يمارسون عملية تكوين المذهب وإبداعه .

ولكلّ من عملية الاكتشاف وعملية التكوين خصائصها ومميّزاتها ، التي تنعكس في البحث المذهبي الذي يمارسه المكتشفون الإسلاميون والمبدعون الرأسماليون والاشتراكيون وأهم تلك الخصائص والمميّزات تحديد سير العملية ومنطلقها ففي عملية تكوين المذهب الاقتصادي ، وعندما يراد تشييد بناء نظري كامل للمجتمع ، تأخذ الفكرة اطّرادها وسيرها الطبيعي ، فتمارس بصورة مباشرة وضع النظريات العامة للمذهب الاقتصادي ، وتجعل منها أساساً لبحوث ثانوية وأبنية عُلْوية من القوانين التي ترتكز على المذهب ، وتعتبر طابقاً فوقياً بالنسبة إليه ، كالقانون المدني الذي عرفنا سابقاً تبعيّته للمذهب وقيامه على أساسه فالتدرج في عملية تكوين البناء تدرّج طبيعي من الأساس إلى التفريعات ، ومن القاعدة إلى البناء العُلْوي ، وبكلمة أخرى : من الطابق المتقدّم في البناء النظري العام للمجتمع إلى طابق أعلى منه .

وأمّا في عملية الاكتشاف للمذهب الاقتصادي ، فقد ينعكس السير ويختلف المنطلق ، وذلك حينما نكون بصدد اكتشاف مذهب اقتصادي لا نملك له أو لبعض جوانبه صورة واضحة ، ولا صيغة محدّدة من قبل واضعيه ، كما إذا كنّا لا نعرف أنّ المذهب يؤمن بمبدأ الملكية العامة أو مبدأ الملكية الخاصة ، أو لا نعرف الأساس النظري للملكية الخاصة في المذهب هل هو الحاجة أو العمل أو الحرّية ؟ ففي هذه الحالة ، ما دمنا لا نملك نصّاً محدّداً لواضعي المذهب الذي يراد اكتشافه يبدّد الغموض الذي يكتنف المذهب فلا بدّ من الفحص عن طريقة أخرى لاستخدامها في اكتشاف المذهب ، أو النواحي المظلمة منه .

وهذه الطريقة يمكننا تحديدها في ضوء علاقة التبعية التي شرحناها سابقاً بين المذهب والقانون ، فما دام القانون المدني طابقاً فوقياً بالنسبة إلى المذهب ، يرتكز عليه ويستمدّ منه اتّجاهاته ، فمن الممكن اكتشاف المذهب عن طريق القانون ، إذا كنّا على علمٍ بالقانون الذي يرتكز على ذلك

٣٢٨

المذهب المجهول وهكذا يصبح من الواجب على عملية الاكتشاف أن تفتّش عن إشعاعات المذهب في المجال الخارجي ، أي : عن أبنيته العُلْوية وآثاره التي ينعكس ضمنها في مختلف الحقول ، لتصل عن طريق هذه الإشعاعات والآثار إلى تقدير محدّد لنوعية الأفكار والنظريات في المذهب الاقتصادي ، الذي يختفي وراء تلك المظاهر .

وبهذا يتعيّن على عملية الاكتشاف أن تسلك طريقاً معاكساً للطريق الذي سلكته عملية التكوين ، فتبدأ من البناء العُلْوي إلى القاعدة ، وتنطلق من جمع الآثار وتنسيقها إلى الظفر بصورة محددة للمذهب، بدلاً عن الانطلاق من وضع المذهب إلى تفريع الآثار.

وهذا تماماً هو موقفنا في عملية الاكتشاف التي نمارسها من الاقتصاد الإسلامي أو من جزءٍ كبيرٍ منه بتعبيرٍ أصح ؛ لأنّ بعض جوانب المذهب الاقتصادي في الإسلام وإن كان بالإمكان استنباطها مباشرة من النصوص ، ولكن هناك من النظريّات والأفكار الأساسية التي يتكوّن منها المذهب الاقتصادي ليس من الميسور الحصول عليها في النصوص مباشرة ، وإنّما يتعيّن الحصول عليها بطريق غير مباشر ، أي على أساس اللبنات الفوقية في الصرح الإسلامي ، وعلى هدى الأحكام التي نظم بها الإسلام العقود والحقوق فنحن ننطلق من الطابق العُلْوي وندرج منه إلى الطابق المتقدّم ؛ لأنّنا نمارس عملية اكتشاف وأمّا أولئك الذين يمارسون عملية التكوين ويحاولون تشييد البناء لا اكتشافه ، فهم يصعدون من الطابق الأوّل إلى الثاني ؛ لأنّهم يمارسون عملية بناء وتكوين ، والطابق الثاني لا يكون في عملية البناء إلاّ أخيراً .

هكذا نختلف في موقفنا منذ البدء عن موقف الروّاد المذهبيين من الرأسماليين والاشتراكيين ، بل نختلف أيضاً حتى عن أولئك الذين يدرسون المذاهب الرأسمالية والاشتراكية دراسة اكتشاف وتحديد ؛ لأنّ هؤلاء بإمكانهم دراسة هذه المذاهب عن طريق الاتصال بها مباشرة وفقاً لصيغها العامة التي بشّر بها روّاد تلك المذاهب ، فليس التعرّف على المذهب الاقتصادي لـ (آدم سميث ) مثلاً متوقّفاً على أن ندرس أفكاره القانونية في المجال المدني ، والطريقة التي يفضّلها في تنظيم الالتزامات والحقوق ، بل يمكننا الاندماج ابتداءً مع فكره المذهبي في المجال الاقتصادي

وعلى العكس من ذلك حين نريد أن نتعرّف على كثيرٍ من محتوى المذهب الاقتصادي الذي يؤمن به الإسلام ، فإنّنا ما دمنا لا نستطيع أن نجد الصيغة المحدّدة لذلك في مصادر الإسلام ، كما نجدها عند (آدم سميث ) فسوف نضطر بطبيعة الحال إلى تتبع الآثار واكتشاف المذهب بصورة غير مباشرة، عن طريق معالمه المنعكسة في لبنات فوقية من الصرح الإسلامي .

٣٢٩

وهذا هو الذي يجعل عملية الاكتشاف التي يمارسها المفكر الإسلامي تظهر أحياناً بشكل مقلوب ، بل قد يبدو أنّها لا تميّز بين المذهب والقانون المدني حين تستعرض أحكاماً إسلامية في مستوى القانون المدني ، وهي تريد أن تدرس المذهب الاقتصادي في الإسلام ، ولكنّها في الواقع على حّق ما دامت تستعرض تلك الأحكام بوصفها بناءً عُلْوياً للمذهب قادراً على الكشف عنه ، لا باعتبار أنّها هي المذهب الاقتصادي والنظريّات الاقتصادية نفسها .

النظام المالي كالقانون المدني :

ومن الضروري بهذا الصدد أن نضيف إلى القانون المدني النظام المالي أيضاً ؛ بوصفه أحد الأبنية العُلْوية للمذهب الاقتصادي ، التي تعكس ملامحه وتتكيف بمقتضياته فكما يمكن الاستفادة في عملية الاكتشاف من إشعاعات المذهب المنعكسة على القانون المدني ، كذلك يمكن الاستفادة من إشعاعات مذهبية مماثلة في النظام المالي .

وإذا أردنا أن نضرب مثلاً لهذا التأثير من المذهب الاقتصادي على التنظيم المالي بوصفه بناءً عُلْوياً للمذهب ، فيمكننا أن نجد هذا المثال في صلة المذهب الرأسمالي بالمالية العامة ، كما استعنّا سابقاً بتحديد صلته بالقانون المدني على فهم العلاقة بين المذهب والقانون ، فإنّ من مظاهر الصلة بين الرأسمالي والمالية العامة : تأثّر فكرة (الدومين )(١) بالناحية المذهبية والدومين يعتبر في المالية أحد المصادر الرئيسية لإيرادات الدولة ، فقد تضاءلت فكرة الدومين وانكمش نطاق المشروعات التي تملكها الدولة وكادت أن تختفي من التنظيم المالي ؛ تحت تأثير مبدأ الحرّية الاقتصادية حينما طغى المذهب الرأسمالي وساد التفكير المذهبي للرأسمالية ، الذي كان من مقتضاه عدم تدخّل الدولة في النشاط الإنتاجي ؛ حفاظاً على الحرّية الاقتصادية للأفراد ، إلاّ في الحدود الضئيلة التي يعجز النشاط الفردي عن القيام بها وكان من الطبيعي لأجل ذلك أن تعتمد الدولة الرأسمالية في ماليتها العامة على الضريبة ونحوها من مصادر الإيرادات الأخرى ثمّ استأنف الدومين وجوده بوصفه مصدراً مهمّاً واتسع نطاقه بعد ظهور الاتجاهات الاشتراكية نحو التأميم ، وتزلزل مبدأ الحرّية الاقتصادية في التفكير الاقتصادي العام .

ـــــــــــــــ

(١) يراد بالدومين : تلك الأموال التي تكون مملوكة للدولة كالأراضي والغابات والمصانع التي تملكها الدولة وتدرّ عليها إيراداً ، كما تدرّ الأرضي والغايات والمصانع التي يملكها الأفراد ملكيّة خاصة أرباحاً مختلفة على مالكيها ( المؤلّف قدّس سرّه ) راجع دراسات في المالية العامّة : ٨٢ و ٨٦ و ٨٩ ودائرة معارف القرن العشرين ٤ : ٩٤ .

٣٣٠

ومن مظاهر الصلة بين المذهب والمالية العامة : أنّ إيرادات الدولة اختلفت وظيفتها تبعاً لنوع الأفكار الاقتصادية المذهبية التي تأثّرت بها ، ففي الفترة التي ساد فيها المذهب الرأسمالي بأفكاره عن الحرّية ، كانت الوظيفة الأساسية للإيرادات هي تغطية نفقات الدولة ، بوصفها جهازاً لحماية الأمن في البلاد والدفاع عنها ، وعندما بدأت الأفكار الاشتراكية تغزو الصعيد المذهبي أصبح للإيرادات مهمّة أخرى أضخم ، وهي علاج سوء التوزيع والتقريب بين الطبقات وإقامة العدالة الاجتماعية وفقاً للأفكار المذهبية الجديدة ولم تعد الدولة تكتفي من الإيرادات أو الضرائب بالقدر الذي يغطّي نفقاتها كجهاز ، بل توسّعت في ذلك بقدر ما تفرضه المهمّة الجديدة .

فهذه المظاهر تبرهن على تكييف المالية العامة للمجتمع تبعاً لقاعدته المذهبية كما يتكيّف القانون المدني ، الأمر الذي يجعل منها رصيداً لعملية الاكتشاف ، بوصفها طابقاً عُلْوياً يشرف المكتشف منه على الطابق المتقدّم ، أي على المذهب الاقتصادي .

تلخيص واستنتاج :

على أساس ما تقدّم يصبح من الضروري أن ندرج عدداً من أحكام الإسلام وتشريعاته التي تعتبر بناءً فوقياً للمذهب في نطاق عملية اكتشاف المذهب ، وإن لم تكن داخلة كلها في صميم المذهب ذاته .

ولأجل هذا سوف يتّسع البحث في هذا الكتاب لكثير من أحكام الإسلام في المعاملات والحقوق التي تنظّم العلاقات المالية بين الأفراد ، كما يتّسع لبعض أحكام الشريعة في تنظيم العلاقات المالية بين الدولة والأمة ، وتحديد موارد الدولة وسياستها العامة في إنفاق تلك الإيرادات ؛ لأنّ هذا الكتاب ليس كتاب عرض للمذهب الاقتصادي فحسب ، وإنّما هو كتاب يحاول أن يمارس عملية اكتشاف لهذا المذهب ، ويحدّد لهذه العملية أسلوبها وسيرها ومضمونها ونتائجها .

ولهذا أيضاً سوف نقتطف وننسّق من أحكام الإسلام في المعاملات والحقوق والضرائب ما يُعد بناءً عُلْوياً للمذهب ، ويلقي ضوء عليه في عملية الاكتشاف ، وأمّا الأحكام التي لا تساهم في هذا الضوء فهي خارجة عن مجال البحث .

٣٣١

فعلى سبيل المثال نذكر الرِّبا ، والغش ، وضريبة التوازن ، وضريبة الجهاد فإنّ الإسلام قد حرّم الرِّبا في المعاملة كما حرّم الغشّ أيضاً ، غير أنّ تحريم الرِّبا والمنع عن القرض بفائدة يساهم في عملية الاكتشاف ؛ لأنّه جزء من بناء عُلْوي لنظرية توزيع الثروة المنتجة ، فهو يكشف عن القاعدة العامة للتوزيع في الإسلام كما سيأتي في بحث توزيع ما بعد الإنتاج وأمّا حرمة الغشّ فليس لها إطار مذهبي ، ولذلك قد تتّفق عليها قوانين جميع البلاد المختلفة في مذاهبها الاقتصادية .

وكذلك الأمر في ضريبتي التوازن والجهاد ، فإنّ الضريبة التي يشرّعها الإسلام لحماية التوازن ـ كالزكاة مثلاً ـ تدخل في عملية الاكتشاف دون ضريبة الجهاد التي يأمر بها الإسلام لتمويل جيش المجاهدين ، فإنّها تتّصل بدور الدعوة في الدولة الإسلامية ، لا بالمذهب الاقتصادي في الإسلام .

 [ الذاتية في الاجتهاد وأسبابها : ]

ولأجل تعاظم خطر الذاتية على العملية التي يمارسها ، كان لزاماً علينا كشف هذه النقطة بوضوح ، وتحديد منابع هذا الخطر وبهذا الصدد يمكننا أن نذكر الأسباب الأربعة التالية بوصفها أهم المنابع لخطر الذاتية :

أ ـ تبرير الواقع .

ب ـ دمج النصّ ضمن إطار خاص .

ج ـ تجريد الدليل الشرعي من ظروفه وشروطه .

د ـ اتخاذ موقف معني بصورة مسبقة تجاه النصّ .

٣٣٢

أ ـ تبرير الواقع :

إنّ عملية تبرير الواقع هي المحاولة التي يندفع فيها الممارس ـ بقصد أو بدون قصد ـ إلى تطوير النصوص وفهمها فهماً خاصاً يبرّر الواقع الفاسد الذي يعيشه المُمارس ، ويعتبره ضرورة واقعة لا مناص عنها ، نظير ما قام به بعض المفكّرين المسلمين ممن استسلم للواقع الاجتماعي الذي يعيشه وحاول أن يُخضع النصّ للواقع بدلاً عن التفكير في تغيير الواقع على أساس النص ، فتأوّل أدلّة حرمة الرِّبا والفائدة ، وخرج من ذلك بنتيجة تواكب الواقع الفاسد ، وهي : أنّ الإسلام يسمح بالفائدة إذا لم تكن أضعافاً مضاعفة ، وإنّما ينهى عنها إذا بلغت مبلغاً فاحشاً ، يتعدّى الحدود المعقولة كما في الآية الكريمة :

( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ الرِّبا أَضْعَافاً مُّضَاعَفَةً وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ) (١) . والحدود المعقولة هي الحدود التي ألفها هذا المتأوّل من واقعه في حياته ومجتمعه وقد منعه واقعه عن إدراك غرض هذه الآية الكريمة ، التي لم تكن تستهدف السماح بالفائدة التي لا تضاعف القرض ، وإنّما كانت تريد لفت نظر المرابين إلى النتائج الفظيعة التي قد يسفر عنها الرِّبا إذ يصبح المدين مثقلاً بأضعاف ما استقرضه ؛ لتراكم فوائد الرِّبا ، ونموّ رأس المال الرَّبوي نموّاً شاذّاً باستمرار ، يواكبه تزايد بؤس المَدِين وانهياره في النهاية .

ولو أراد هذا المتأوّل أن يعيش القرآن خالصاً وبعيداً عن إيحاءات الواقع المعاش وإغرائه ، لقرأ قوله تعالى :( وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ ) (٢) . ويفهم أنّ المسألة ليست مسألة حرب مع نوعٍ خاصٍّ من الرِّبا الجاهلي ، الذي يضاعف الدَّين أضعافاً مضاعفة ، وإنّما هي مسألة مذهب اقتصادي له نظرته الخاصة إلى رأس المال ، التي تحدّد له مبررات نموّه ، وتشجب كلّ زيادة له منفصلة عن تلك المبرّرات مهما كانت ضئيلة ، كما يقرره إلزام الدائن بالاكتفاء برأس ماله ، لا يَظلم ولا يُظلم .

ـــــــــــــــ

(١) سورة آل عمران : ١٣٠ .

(٢) سورة البقرة : ٢٧٩ .

٣٣٣

ب ـ دمج النص ضمن إطار خاص :

وأمّا عملية دمج النصّ ضمن إطار معيّن ، فهي : دراسة النصّ في إطار فكريٍّ غير إسلامي وهذا الإطار قد يكون منبثقاً عن الواقع المعاش ، وقد لا يكون ، فيحاول الممارس أن يفهم النصّ ضمن ذلك الإطار المعيّن ، فإذا وجده لا ينسجم مع إطاره الفكري أهمله ، واجتازه إلى نصوص أخرى تواكب إطاره ، أو لا تصطدم به على أقلّ تقدير .

وقد رأينا سابقاً كيف أهملت نصوص تحدّ من سلطة المالك ، وتسمح أحياناً بانتزاع الأرض منه ، وفضلّ عليها غيرها ؛ لمجرّد أنّ تلك النصوص لا تتّفق مع الإطار الفكري الذي يشعّ بتقديس الملكية الخاصة بدرجة يجعلها فوق سائر الاعتبارات .

وقد كتب فقيه ـ معلقاً على النصّ القائل : بأنّ الأرض إذا لم يعمرها صاحبها أخذها منه ولي الأمر واستثمرها لحساب الأمّة ـ :( إنّ الأولى عندي ترك العمل بهذه الرواية ؛ فإنّها تخالف الأصول والأدلّة العقلية ) (١) . وهو يعنيبالأدلّة العقلية : الأفكار التي تؤكّد قدسية الملكية ، بالرغم من أنّ قدسية الملكية ودرجة هذه القدسية يجب أن تؤخذ من الشريعة ، وأمّا حين تقرّر بشكلٍ مسبق ، وبصورة تتيح لها أن تتحكّم في فهم النصّ التشريعي فهذا هو معنى الاستنباط في إطار فكري مستعار ، وإلاّ فأي دليل عقليّ على قدسية الملكية بدرجة تمنع عن الأخذ بالنصّ التشريعي الآنف الذكر ؟!

وهل الملكية الخاصة إلاّ علاقة اجتماعية بين الفرد والمال ؟! والعلاقة الاجتماعية افتراض واعتبار يشرّعه المجتمع بين الفرد والمال ؟! والعلاقة الاجتماعية افتراض واعتبار يشرّعه المجتمع أو أي مشرّع آخر لتحقيق غرض معيّن ، فهو لا يدخل في نطاق البحث العقلي المجرّد ، ولا العقلي التجريبي .

وكثيراً ما نجد بعض الممارسين يستدلّ في مثل هذا المجال على حرمة انتزاع المال من المالك : بأنّ الغصب قبيح عقلاً وهو استدلال عقيمٌ ؛ لأنّ الغصب هو انتزاع المال بدون حقّ ، والشريعة هي التي تحدّد ما إذا كان هذا الانتزاع بحقٍّ أم لا ، فيجب أن نأخذ منها ذلك دون أن نفرض عليها فكرة سابقة فإذا قرّرت : أنّ الانتزاع بغير حقّ ، كان غصباً ، وإذا فرضت لشخص حقّاً في الانتزاع لم يكن الانتزاع غصباً، وبالتالي لم يكن قبيحاً .

ـــــــــــــــ

(١) السرائر ١ : ٤٧٧ .

٣٣٤

وكتب فقيه آخر يستدل على تشريع الملكية الخاصة في الأرض :( أنّ الحاجة تدعو إلى ذلك وتشتد الضرورة إليه ؛ لأنّ الإنسان ليس كالبهائم ، بل هو مدني بالطبع ، لا بدّ له من مسكن يأوي إليه ، وموضع يختصّ به ، فلو لم يشرّع لزم الحرج العظيم ، بل تكليف ما لا يطاق )(١) .

وكلنا نعترف ـ طبعاً ـ بوجود الملكية الخاصة في الإسلام ، وفي الأرض بوجه خاص أيضاً ، ولكنّ الشيء الذي لا نقرّه هو أن يستمدّ الحكم في الشريعة الإسلامية من الرسوخ التأريخي لفكرة الملكية ، كما اتفق لهذا الفقيه الذي لم تمتد أبعاده الفكرية وتصوّراته عن الماضي والحاضر والمستقبل خارج نطاق التأريخ الذي عاشته الملكية الخاصة ، فكان يجد وراء كلّ اختصاص في تأريخ حياة الإنسان شبح الملكية الخاصة يبرّره ويفسّره ، حتى لم يعد يستطيع أن يميّز بين الواقع والشبح ، فأخذ يعتقد أنّ الإنسان ما دام بحاجة إلى الاختصاص بمسكن يأوي أليه ـ على حدّ تعبيره ـ فهو بحاجة إذن إلى أن يتملّكه ملكية خاصة ، ليختصّ به ويأوي إليه ولو استطاع هذا الممارس أن يميّز بين سكنى الإنسان مسكناً خاصاً وبين تملّكه لذلك المسكن ملكيّة خاصة ، لما خُدع بالتشابك التأريخي بين الأمرين ، ولأمكنه أن يدرك بوضوح : أن تكليف ما لا يطاق إنّما هو في منع الإنسان من اتخاذ مسكن خاص ، لا في عدم منحه الملكية الخاصة لذلك المسكن فالطلاب في مدينة جامعية أو الأفراد في مجتمع اشتراكي يأوي كلّ منهم إلى مسكن خاصّ دون أن يتملّكه ملكيّة خاصة .

وهكذا نجد أن فقيهنـا هـذا اتخذ ـ بدون قصـد ـ من الجـلال التأريخي للملكية الخاصة ، وما يوحي به من أفكار عن ضرورتها للإنسانية ، إطاراً لتفكيره الفقهي .

ـــــــــــــــ

(١) مفتاح الكرامة ٧ : ٣ .

٣٣٥

ومن الإطارات الفكرية التي تلعب دوراً فعّالاً في عملية فهم النصّ الإطار اللغوي ، كما إذا كانت الكلمة الأساسية في النصّ لفظاً مشحوناً بالتأريخ ، أي ممتدّاً ومتطوّراً عبر الزمن ، فمن الطبيعي أن يبادر الممارس بصورة عفوية إلى فهم الكلمة كما تدل عليه في واقعها ، لا في تأريخها البعيد وقد يكون هذا المدلول حديثاً في عمر الكلمة ، ونتاجاً لغوياً لمذهب جديد ، أو حضارة ناشئة ولأجل ذلك يجب عند تحديد معنى النصّ الانتباه الشديد إلى عدم الاندماج في إطار لغوي حادث لم يعش مع النصّ منذ ولادته .

وقد يتفق أن تساهم عملية الإشراط الاجتماعي للملكية في تضليل الممارس للنصّ عن الفهم الصحيح ، فالكلمة حتى إذا كانت محتفظة بمعناها الأصيل على مرّ الزمن ، قد تصبح ـ خلال ملابسات اجتماعية معيّنة بين مدلولها فكر خاص أو سلوك معين ـ مشروطة بذلك الفكر أو السلوك ، حتى ليطغى أحياناً مدلولها السيكولوجي ـ على أساس عملية الإشراط التي ينتجها وضع اجتماعي معين ـ على مدلولها اللغوي الأصيل ، أو يندمج على أقلّ تقدير ، المعطى اللغوي للكلمة بالمعطى الشرطي النفسي الذي هو في الحقيقة نتيجة وضع اجتماعي يعيشه الممارس أكثر من كونه نتيجة للكلمة ذاتها .

وخذ إليك مثلاً كلمة : (الاشتراكية ) فقد أشرطت هذه الكلمة خلال مذاهب اجتماعية حديثة عاشها الإنسان المعاصر بكتلة من الأفكار والقيم والسلوك ، وأصبحت هذه الكتلة تشكّل إلى حدّ ما جزءاً مهماً من مدلولها الاجتماعي اليوم ، وإن لم تكن على الصعيد اللغوي المجرّد تحمل شيئاً من هذا الكتلة .

ويناظرها كلمة : (الرعية ) التي حمّلها تأريخ الإقطاع تبعة كبيرة ، وأشرطها بسلوك الإقطاعي صاحب الأرض مع الأقنان الذين يزرعون له أرضه فإذا جئنا إلى نصوص تشتمل على كلمة الاشتراكية ، أو كلمة الرعية ، كالنص القائل :الناس شركاء في الماء والنار والكلأ . والنصّ القائل :إنّ للوالي على الرعية حقّاً نواجه خطر الاستجابة للإشراط الاجتماعي في تلك الكلمات ، وإعطائها المعنى الاجتماعي الذي عاشته بعيداً عن جوّ النصّ ، بدلاً عن إعطائها المعنى اللغوي الذي ترمز إليه .

٣٣٦

ج ـ تجريد الدليل الشرعي من ظروفه وشروطه :

تجريد الدليل الشرعي من ظروفه وشروطه ، هو عملية تمديد للدليل دون مبرّر موضوعي وهذه العملية كثيراً ما ترتكب في نوع خاص من الأدلة الشرعية ، وهو ما يطلق عليه فقهياً اسم : (التقرير ) ونظراً إلى أنّ هذا النوع من الأدلّة له أثر كبير على عملية الاجتهاد في الأحكام والمفاهيم ، التي تتّصل بالمذهب الاقتصادي ، فمن الضروري أن نبرز الخطر الذي يتهدّد هذا الدليل نتيجة لتجريده عن ظروفه وشروطه .

ولنشرح أوّلاً معنى (التقرير ) : إنّ التقرير مظهر من مظاهر السنة الشريعة ، ونعني به سكوت النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أو الإمام ، عن عمل معيّن يقع على مرأى منه ومسمع ، سكوتاً يكشف عن سماحه به وجوازه في الإسلام .

والتقرير على قسمين : لأنّهتارة يكون تقريراً لعمل معيّن يقوم به فرد خاص ، كما إذا شرب أحدٌ الفقاع أمام النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فسكت عنه ، فإنّ هذا السكوت يكشف عن جواز شربه في الإسلاموأخرى : يكون تقريراً لعمل عام يتكرر صدوره من الناس في حياتهم الاعتيادية ، كما إذا عرفنا من عادة الناس في عهد التشريع الإسلامي قيام الإفراد باستخراج الثروات المعدنية وتملّكها بسبب استخراجها ، فإنّ سكوت الشريعة عن هذه العادة وعدم معارضتها يعتبر تقريراً منها ودليلاً على سماح الإسلام للفرد باستخراج المادة الطبيعية وتملّكها وهذاما يطلق عليه في البحث الفقهي اسم : العرف العام أو ( السيرة العقلائية ) ومردّه في الحقيقة إلى اكتشاف موافقة الشريعة على سلوك عام معاصر لعهد التشريع ، عن طريق عدم ورود النهي عنه في الشريعة ، إذ لو لم تكن الشريعة موافقة على ذلك السلوك الذي عاصرته لنهت عنه ، فعدم النهي دليل الموافقة .

ويتوقف هذا الاستدلال من الناحية الفقهية على عدّة أمور :

فأوّلاً : يجب التأكّد من وجود ذلك السلوك تأريخياً في عصر التشريع ، إذ لو كان السلوك متأخّراً زمنياً عن عصر التشريع لم يكن سكوت الشريعة عنه دليلاً على رضاها به ، وإنّما يستكشف الرضا من السكوت إذا عاش السلوك عصر التشريع .

وثانياً : يجب التأكّد من عدم صدور النهي من الشريعة عن ذلك السلوك ، ولا يكفي عدم العلم بصدوره ؛ فما لم يجزم الباحث بعدم صدور النهي ليس من حقّه أن يستكشف سماح الإسلام بذلك السلوك ؛ ما دام من المحتمل أن تكون الشريعة قد نهت عنه .

٣٣٧

وثالثاً : يجب أخذ جميع الصفات والشروط الموضوعية المتوفّرة في ذلك السلوك بعين الاعتبار ؛ لأنّ من الممكن أن يكون لبعض تلك الصفات والشروط أثر في السماح بذلك السلوك وعدم تحريمه فإذا ضبطناً جميع الصفات والشروط التي كانت تكتنف ذلك السلوك الذي عاصر التشريع ، أمكننا أن نستكشف من سكوت الشريعة عنه : سَمَاحَها بذلك السلوك متى ما وجد ضمن تلك الصفات والشروط التي ضبطناها .

نستطيع الآن في ضوء هذا الشرح أن نفهم كيف يتسرّب العنصر الذاتي إلى هذا الدليل ، متمثّلاً في تجريد السلوك من ظروفه وشروطه .

وعملية التجريد هذه تتّخذ شكلين :

[ الشكل الأوّل : ] ففي بعض الأحيان يجد الممارس نفسه يعيش واقعاً عامراً بسلوك اقتصادي معيّن ، ويحسّ بوضوح هذا السلوك وأصالته وعمقه إلى درجة يتناسى العوامل التي ساعدت على إيجاده ، والظروف الموقّتة التي مهّدت له ، فيخيّل له أنّ هذا السلوك أصيل ، وممتدٌ في التأريخ إلى عصر التشريع ، بينما هو وليد عوامل وظروف معيّنة حادثة ، أو من الممكن أن يكون كذلك على أقل تقدير .

ولنذكر لذلك على سبيل المثال : الإنتاج الرأسمالي في الأعمال والصناعات الاستخراجية فإنّ الواقع اليوم يغص بهذا اللون من الإنتاج ، الذي يتمثّل في عمل أُجراء يستخرجون المواد المعدنية من ملح أو نفط ، ورأسمالي يدفع إليهم الأجور ، ويعتبر نفسه لأجل ذلك مالكاً للمادّة المستخرجة

وعقد الإجارة ـ هذا الذي يقوم بين الرأسمالي والعمّال ـ يبدو الآن طبيعياً في مضمونه ونتائجه الآنفة الذكر ـ أي تمّلك العامل للأجرة ، وتمّلك الرأسمالي للمادة ـ إلى درجة قد تتيح للكثير أن يتصوّروا هذا النوع من الاتفاق قديماً ، بقدم اكتشاف الإنسان للمعادن واستفادته منها ، ويؤمنون على أساس هذا التصوّر : بأنّ هذا النوع من الإجارة كان موجوداً في عصر التشريع ومن الطبيعي أن ينتج عن ذلك التفكير في الاستدلال على جواز هذه الإجارة ، وتمّلك الرأسمالي للمادة المستخرجة ؛ بدليل التقرير ، فيقال : إنّ سكوت الشريعة عن هذه الإجارة وعدم نهيها عنها دليل على سماح الإسلام بها .

٣٣٨

ولا نريد هنا أن نقول شيئاً عن هذا الإجارة ومقتضياتها من الناحية الفقهية ، ولا عن أقوال الفقهاء الذين يشكّون فيها أو في مقتضياتها ، فإننا سوف ندرس الحكم الشرعي لهذه الإجارة ومقتضياتها بكلّ تفصيل في بحثٍ مقبل ، ونستعرض جميع الأدلّة التي يمكن الاستناد إليها في الموضوع إيجابياً أو سلبياً ، وإنّما نريد هنا أن ندرس فقط الاستدلال على تلك الإجارة ومقتضياتها بدليل التقرير ، لنبرز شكلاً من تجريد السلوك عن شروطه وظروفه .

فإنّ هؤلاء الذين يستدلون بدليل التقرير على صحّة تلك الإجارة ومقتضياتها لم يعيشوا عصر التشريع ليتأكّدوا من تداول هذا النوع من الإجارة في ذلك العصر ، وإنّما شهدوا تداولها في واقعهم المعاش وأدّى رسوخها في النظام الاجتماعي السائد إلى الإيمان بأنّها ظاهرة مطلقة ، ممتدّة تأريخياً إلى عصر التشريع وهذا هو الذي نعنيه بتجريد السلوك من ظروفه وشروطه دون مبرّر موضوعي ، وإلاّ فهل نملك دليلاً حقّاً على أنّ هذا اللون من الإجارة كان موجوداً وشائعاً في عصر التشريع الإسلامي ؟! وهل يعلم هؤلاء الذين يؤكّدون على وجوده في ذلك العصر : أنّ هذا الإجارة هي المظهر القانوني للإنتاج الرأسمالي ، الذي لم يوجد تأريخياً على نطاق واسع ـ خصوصاً في ميادين الصناعة ـ إلاّ متأخراً ؟!

وليس معنى هذا الكلام الجزم بنفي وجود الإنتاج الرأسمالي للمواد المعدنية في عصر التشريع ، أيّ العمل بأجرة في استخراجها ، ولا تقديم دليل على هذا النفي ، بل مجرّد الشك في ذلك ، وأنّه كيف تتأصل ظاهرة معيّنة وتبدو طبيعية حتى توحي باليقين بعمقها وقدمها لمجرد أنّها راسخة في الواقع المعاش ، مع عدم توفّر أدلّة منطقية كاملة على قدمها تأريخياً ، وانفصالها عن ظروف مستجدّة .

هذا هو الشكل الأوّل من عملية التجريد ـ تجريد السلوك المعاش عن ظروفه الواقعية ـ وتمديده تأريخياً إلى عصر التشريع .

[ الشكل الثاني : ] وأمّا الشكل الآخر من عملية التجريد في دليل التقرير فهو ما يتّفق عندما ندرس سلوكاً معاصراً لعهد التشريع حقّاً ، ونستكشف سماح الإسلام به من سكوت الشريعة عنه فإنّ الممارس في هذه الحالة قد يقع في خطأ التجريد عندما يجرّد ذلك السلوك المعاصر لعهد التشريع عن خصائصه ، ويعزله عن العوامل التي قد تكون دخيلة في السماح به ، ويعمّم القول : بأنّ هذا

٣٣٩

السلوك جائز وصحيح إسلامياً في كلّ حال مع أنّ من الضروري لكي يكون الاستدلال بدليل التقرير موضوعياً : أنّ ندخل في حسابنا كلّ حالة من المحتمل تأثيرها في موقف الإسلام من ذلك السلوك فحين تتغيّر بعض تلك الحالات والظروف يصبح الاستدلال بدليل التقرير عقيماً ، فإذا قيل لك مثلاً : إنّ شرب الفقاع في الإسلام جائزٌ ؛ بدليل أنّ فلان ـ حين مرض على عهد النبيّ صلّى الله عليه وآله ـ شرب الفقاع ، ولم ينهَ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن ذلك .

كان لك أن تقول : إنّ دليل التقرير هذا وحده لا يكفي دليلاً على سماح الإسلام بشرب الفقاع لكلّ فرد ، ولو كان سليماً ؛ لأنّ من الممكن أن تكون بعض الأمراض مجوّزة لشربه بصورة استثنائية فمن الخطأ إذن أن نعزل السلوك المعاصر لعهد التشريع عن ظروفه وخصائصه ، ونعمم حكم ذلك السلوك بدون مبرّر لكلّ سلوك مشابه ، وإن اختلف في الخصائص التي قد يختلف الحكم بسببها بل يجب أن نأخذ بعين الاعتبار جميع الحالات الفردية والأوضاع الاجتماعية ، التي تكتنف السلوك المعاصر لعهد التشريع .

د ـ اتخاذ موقف معيّن بصورة مسبقة تجاه النصّ :

ونقصد باتخاذ موقف معين تجاه النص : الاتجاه النفسي للباحث ، فإنّ للاتجاه أثره الكبير على عملية فهم النصوص ولكي تتّضح فكرة الموقف نفترض شخصين يمارسان دراسة النصوص ، يتّجه أحدهما نفسياً إلى اكتشاف الجانب الاجتماعي وما يتّصل بالدولة من أحكام الإسلام ومفاهيمه ، بينما ينجذب الآخر لاتجاه نفسي نحو الأحكام التي تتّصل بالسلوك الخاص للأفراد فإنّ هذين الشخصين بالرغم من أنّهما يباشران نصوصاً واحدة ، سوف يختلفان في المكاسب التي يخرجان بها من دراستهما لتلك النصوص ، فيحصل كلّ منهما على مكاسب أكبر فيما يتّصل باتجاهه النفسي وموقفه الخاص ، وقد تنطمس أمام عينيه معالم الجانب الإسلامي الذي لم يتّجه إليه نفسياً .

وهذا الموقف النفسي الذي تفرضه ذاتية الممارس لا موضوعية البحث ، لا يقتصر تأثيره على إخفاء بعض معالم التشريع ، بل قد يؤدّي أحياناً إلى التضليل في فهم النصّ التشريعي ، والخطأ في استنباط الحكم الشرعي منه ، وذلك حينما يريد الممارس أن يفرض على النصّ موقفه الذاتي الذي اتخذه بصورة مسبقة ، فلا يوفق حينئذٍ إلى تفسيره بشكلٍ موضوعي صحيح والأمثلة على هذا من الفقه عديدة .

٣٤٠