الإمام جعفر الصادق عليه السلام الجزء ١

الإمام جعفر الصادق عليه السلام0%

الإمام جعفر الصادق عليه السلام مؤلف:
تصنيف: الإمام الصادق عليه السلام
الصفحات: 228

الإمام جعفر الصادق عليه السلام

مؤلف: العلامة الجليل الشيخ محمد الحسين المظفر
تصنيف:

الصفحات: 228
المشاهدات: 70852
تحميل: 5221


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 228 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 70852 / تحميل: 5221
الحجم الحجم الحجم
الإمام جعفر الصادق عليه السلام

الإمام جعفر الصادق عليه السلام الجزء 1

مؤلف:
العربية

ويقول الرضاعليه‌السلام للمأمون: لا تقس أخي زيداً إِلى زيد بن عليعليهما‌السلام فإنه كان من علماء آل محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم غضب للّه عزّ وجلّ فجاهد أعداءه حتى قُتل في سبيله، إِلى أن يقول: إِن زيد بن عليعليه‌السلام لم يدع ما ليس له بحق، وإنه كان أتقى للّه من ذلك، إنه قال: أدعوكم للرضا من آل محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (١) .

ولم تكن هذه الصراحة من الرضاعليه‌السلام إِلا لأن العهد عهد العبّاسيّين ويقول ابنه يحيى: رحم اللّه أبي كان أحد المتعبّدين قائماً ليله صائماً نهاره جاهد في سبيل اللّه حقّ جهاده، فقال عمير بن المتوكل البلخي: فقلت: يابن رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هكذا يكون الامام بهذه الصفة، فقال: يا عبد اللّه إِن أبي لم يكن بإمام، ولكن كان من السادة الكرام وزهّادهم، وكان من المجاهدين في سبيل اللّه، قال: قلت: يابن رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إِن أباك قد ادعى الامامة لنفسه وخرج مجاهداً في سبيل اللّه، وقد جاء عن رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيمن ادَّعى الامامة كاذباً، فقال: مه مه يا عبد اللّه إِن أبي كان أعقل من أن يدَّعي ما ليس له بحق، إِنما قال: أدعوكم إِلى الرضا من آل محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، عنى بذلك ابن عمّي جعفراًعليه‌السلام ، قال: قلت: فهو اليوم صاحب فقه، قال: نعم هو أفقه بني هاشم.(٢)

وهذا الحديث كما كشف عن منزلة زيد الرفيعة في الدين والفضيلة وبطلان ما نسبوه اليه، فقد أثبت ليحيى مقاماً عليّاً في الورع والعلم والفقه.

والأحاديث عن نزاهة زيد عن تلك الدعوى وافرة جمّة، فهو أتقى وأنقى من أن يلوّث نفسه الطاهرة بدعوى الامامة، وإِنّما ادَّعتها له بعض الناس بعد وفاته فعرفوا بالزيديّة لتلك المقالة.

____________________

(١) نفس المصدر.

(٢) كفاية الأثر: ٣٠٤.

٤١

والزيديّة فِرق يجمعها القول: بأن الامامة في أولاد فاطمةعليها‌السلام ولم يجوّزوا ثبوت إِمامة في غيرهم، إِلا أنهم جوّزوا أن يكون كلّ فاطميّ عالم زاهد شجاع سخيّ خرج بالسيف إِماماً واجب الطّاعة سواء كان من أولاد الحسنعليه‌السلام أو من أولاد الحسينعليه‌السلام ، ومن ثم قالت طائفة منهم بإمامة محمّد وإِبراهيم ابني عبد اللّه بن الحسن بن الحسنعليه‌السلام (١) أحسب أن اشتراط الامامة في بني فاطمة إِنما كان منهم فيمن يكون إِماماً بعد زيد، لأن بعض الفِرق منهم رأت ثبوت الامامة للشيخين كما ستعرف.

البتريّة:

فمن فِرق الزيديّة (البتريّة) وهم أصحاب كثير النوى، والحسن بن صالح بن حي، وسالم بن أبي حفصة، والحكم بن عيينة، وسلمة بن كهيل، وأبي المقدام ثابت الحدّاد، وهم الذين دعوا إِلى ولاية عليعليه‌السلام ثم خلطوها بولاية أبي بكر وعمر وأثبتوا لهما الامامة، وطعنوا في عثمان وطلحة والزبير وعائشة. وقيل: سمّوا بالبتريّة لأن زيد بن علي قال لهم عندما أخذوا يذكرون معتقداتهم: بترتم أمرنا بترَكم اللّه، وقيل: سمّوا بذلك لأنّهم منسوبون إِلى كثير النوى وكان أبتر اليد(٢) .

ولو صحَّت هذه النسبة لكان الأصح فيها أن يقال - الأبتريّة - لا البتريّة.

____________________

(١) المِلل والنِّحل المطبوع في هامش الفصل: ١/١٥٩.

(٢) منهج المقال للشيخ أبي علي الحائري في الألقاب.

٤٢

السليمانيّة:

ومنهم (السليمانيّة) نسبة إِلى سليمان بن جرير، وكانوا يرون إِمامة الشيخين، ولكن يطعنون في عثمان وطلحة والزبير وعائشة، وينسبونهم إِلى الكفر، ويرون أن الامامة شورى، وتنعقد بعقد رجلين من خيار الأُمّة، وأجازوا إِمامة المفضول مع وجود الأفضل وزعموا أَن الاُمّة تركت الأصلح في البيعة لما بايعوا أبا بكر وعمر، وتركوا عليّاًعليه‌السلام لأن عليّاً كان أولى بالامامة منهما، إِلا أن الخطأ في بيعتهما لا يوجب كفراً ولا فسقاً(١) .

ومن ههنا نستظهر أن ما ينسب إِلى الزيديّة من الدعوى بأن الامامة لا تثبت في غير أولاد فاطمة إِنما هو فيمن بعد زيد من القائمين بالسيف.

كما انّنا لا نعرف وجهاً في عدّ هاتين الفِرقتين في عداد فِرق الشيعة.

الجاروديّة:

ومنهم (الجاروديّة) نسبة إِلى زياد بن المنذر أبي الجارود السرحوب الأعمى الكوفي، وقد يسمّون السرحوبيّة، وقيل: إِن السرحوب اسم شيطان أعمى يسكن البحر فسمّي أبو الجارود به، وكان أبو الجارود من أصحاب الباقر والصادقعليهما‌السلام ، ولمّا خرج زيد تغيّر، وجاء عن الصادقعليه‌السلام لعنه وتكذيبه وتكفيره ومعه كثير النوى وسالم بن أبي حفصة وجاء فيه أيضاً أعمى البصر أعمى القلب(٢) .

والجاروديّة يرون أن الناس قصّروا في طلب معرفة الامام لأنه كان

____________________

(١) الفَرق بين الفِرَق: ص ٢٣: والمِلل على الفصل: ١/١٦٤.

(٢) انظر ترجمته في كتب الرجال.

٤٣

بإمكانهم معرفته، بل كفروا حين بايعوا أبا بكر، فهم لا يرون إِمامة الخلفاء الثلاثة، بل يرون كفرهم، حيث ادّعوا الامامة ولم يبايعوا عليّاًعليه‌السلام (١) .

الصالحيّة:

وقيل: إِن منهم (الصالحيّة) نسبة الى الحسن بن صالح، وقد عرفت انّهم من البتريّة، لأن الحسن هذا من رجال البتريّة، فلا وجه لعدّهم فِرقة مستقلّة، نعم هناك فروق طفيفة بينه وبين كثير النوى أوّل رجال البتريّة لا تستدعي أن تكون فرقته فرقة تباين البتريّة.

وقد ذكر الزيديّة النوبختي في كتابه - فِرق الشيعة - على غير هذا النهج، وزاد فيها: غير أننا رأينا أن ما سطّرناه أقرب إِلى ما ذكرته كتب المِلل والنِّحل، فراجع إن طلبت الاستيضاح.

الإسماعيليّة:

ومن فِرق الشيعة (الإسماعيليّة) وقد نشأ القول بإمامة إِسماعيل أيّام الصادقعليه‌السلام ، إلا أنه كان من بعضهم على سبيل الظنّ لأن الامامة في الاكبر وإسماعيل اكبر اخوته، مع ما كان عليه من الفضل، فلمّا مات أيّام أبيه انكشف لهم الخطأ.

وأما من بقي مصرّاً على إمامته فهم على فِرق، لأنَّهم بين من أنكر موته في حياة أبيهعليه‌السلام ، وقالوا: كان ذلك على وجه التلبيس من أبيه على الناس، لأنه خاف عليه فغيّبه عنهم، وزعموا أن إسماعيل لا يموت حتّى يملك الأرض ويقوم بأمر الناس، وأنه هو القائم، لأن أباه أشار اليه بالامامة بعده، فلمّا ظهر موته علمنا أنه قد صدق، وأنه القائم لم يمت.

____________________

(١) الفَرق بين الفِرَق: ص ٢٢، والملل على هامش الفصل: ١/١٦٣.

٤٤

وبين مَن قال بموته وأن الامامة انتقلت الى ابنه محمّد، لأن الامامة لا تكون إلا في الأعقاب، ولا تكون في الاخوة إلا في الحسن والحسينعليهما‌السلام فلما مات إسماعيل وجب أن يكون الامام بعد جعفرعليه‌السلام محمد بن إسماعيل، ولا يجوز أن يكون أحد من اخوة إسماعيل هو الامام، كما لم يكن لمحمّد بن الحنفيّة حقّ مع علي بن الحسينعليهما‌السلام ، وأصحاب هذا القول يسمّون «المباركة» برئيس لم يسمّى المبارك.

وأمّا (الخطّابيّة) أصحاب أبي الخطّاب محمّد بن أبي زينب الأسدي الأجدع فقد دخلوا في الفرقة التي قالت بإمامة محمّد بن إسماعيل بعد قتل أبي الخطّاب، وهم من الأصناف الغالية، وتشعّبوا على فِرق والقرامطة منهم(١) .

وكان أبو الخطّاب من أصحاب الصادقعليه‌السلام ، ولمّا بلغ الصادق أنه يكذب عليه طرده وتبرَّأ منه ولعنه.

ثمّ أنه ادّعى النبوّة واُلوهيّة جعفر بن محمّدعليهما‌السلام ، وأنه مرسَل من قِبله، وظهرت منه ومن جماعته بدع وأهواء وإِباحات، ولمّا بلغ عيسى بن موسى عامل المنصور على الكوفة ما عليه أبو الخطّاب وجماعته وكانوا سبعين رجلاً مجتمعين في مسجد الكوفة حاربهم فقتلهم جميعاً، فلم يفلت منهم إِلا رجل واحد أصابته جراحات فعدَّ في القتلى فتخلّص، وحمل أبو الخطّاب أسيراً فقتله عيسى بن موسى على شاطئ الفرات، وصلبه مع جماعة منهم ثم أمر بإحراقهم فأُحرقوا، وبعث برؤوسهم إِلى المنصور فصلبها على باب مدينة بغداد ثلاثة أيام، ثم أُحرقت(٢) .

____________________

(١) فِرَق الشيعة: ص ٦٧، ٧٦.

(٢) فِرَق الشيعة: ص ٦٩.

٤٥

الإماميّة:

ومن فِرق الشيعة (الإماميّة) ويعرفون بالجعفريّة نسبة إِلى جعفر بن محمّدعليهما‌السلام ، لأنه المذهب الذي ينسبون اليه، وسيأتي أنه كيف صادر مذهباً دون سائر الأئمة وكلّهم مذهب في الأحكام.

والإماميّة هم الذين يرون الامامة في الاثني عشر: علي، والحسن، والحسين، وعلي بن الحسين، ومحمّد بن علي، وجعفر بن محمّد، وموسى بن جعفر، وعلي بن موسى، ومحمّد بن علي، وعلي بن محمّد، والحسن بن علي، وابنه المهدي المغيب الذي يترقّبون ظهوره كلّ حين صلوات اللّه عليهم أجمعين.

ويعتقدون أن إِمامتهم بالنصّ الصريح الجلي من النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن اللّه عزّ شأنه، وأن رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نصَّ على خلافة علي أمير المؤمنين وإِمامته كما نصَّ على اخوَّته ووصايته، وكان النصّ منه في مواطن عديدة، منها يوم الغدير، كما أنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أخبر بأسماء الخلفاء والأئمة الذين هم بعد أمير المؤمنينعليه‌السلام واحداً بعد آخر، على نحو ما ذكرناه من أسمائهم، وأكّدوا ذلك النصَّ من بعضهم على بعض، فنصَّ علي على الحسن، والحسن على الحسين، والحسين على ابنه علي، وهكذا الأب على ابنه إِلى أن انتهت إِلى ابن الحسن المنتظر، كما أنهم يعتقدون حياته ووجوده بعد ولادته عام ٢٥٥، ليلة النصف من شعبان، وأنه تغيب فرقاً من فراعنة عصره، وأنه هو المهدي الذي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً بعد ما ملئت ظلماً وجوراً(١) .

____________________

(١) ذكر كثير من أهل السنّة الامام المهدي وأنه ابن الحسن العسكري واعترفوا بوجوده وأنه الموعود به، انظر مطالب السؤل، والحجّة لابن عرب، ولواقح الأنوار، والتذكرة، وشرح الدائرة، والفصول المهمّة، وفرائد السمطين، الى غيرها، بل ادّعى بعضهم مشاهدته والاجتماع به.

٤٦

ويعتقدون أيضاً في هؤلاء الأئمة أنهم معصومون عن الذنب وعن الخطأ والنسيان والغفلة كما في نبيّنا وجميع الأنبياءعليهم‌السلام وأن علمهم ليس باكتسابي وإنما هو إلهامي ووراثة من النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يورثه الأب لابنه والأخ لأخيه كما في الحسن للحسين، ولمّا كان الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وارث علم الأنبياء والمرسلين، وعنده علم الأوّلين والآخرين، كان أمير المؤمنين واجداً لهذا العلم كلّه، لقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أنا مدينة العلم وعليّ بابها، ولغير ذلك من الأحاديث وآي الكتاب(١) وورث أولاده الأئمة هذا العلم جميعه.

ويعتقدون فيهم أيضاً أنهم عبيد للّه سبحانه مخلوقون له، مرزوقون منه ليس لهم تصرّف في شيء من أمر العباد من حياة أو موت، وعطاء أو منع وشيء سوى ذلك، إِلا باذن منه تعالى على حدّ ما كان عليه النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في شأن الخليقة، وقد جاء في الكتاب عن عيسىعليه‌السلام «ويخلق من الطين كهيئة الطير فينفخ فيه فيكون طيراً بإذن اللّه» .

واستدلّوا على ذلك كلّه بالبراهين العقليّة، وبالأخبار والآثار، وقد يأتي شيء من هذا طيّ هذا السفر.

كما استدلّوا على النصّ عليهم بالخصوص، بالوارد عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من طرق الفريقين من قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : الأئمة من قريش وانهم

____________________

(١) كتبت رسالة عن حديث الثقلين ودلالته على عصمة الأئمة وعلمهم بكلّ شيء، وقد أخرجتها المطابع، ورسالة في علم الامام وكيفيّته وعسى أن نتوفّق لطبعها.

٤٧

اثنا عشر(١) وانهم من ولد عليّ وفاطمةعليهما‌السلام ، وتسميتهم بأسمائهم واحداً بعد آخر.(٢)

هذا فضلاً عن الاستدلال على الامامة باللطف، وانحصارها فيهم لو كان ثمّة إمام تجب إِمامته وطاعته ومعرفته.

والاماميّة ترجع إِلى هؤلاء الأئمة في أحكام الدين، فما ثبت عن النبي أو عنهم أخذوا به، وما اختلفت فيه الأخبار أعملوا فيه قواعد التعادل والتراجيح، حسبما هو مقرّر عندهم في اُصول الفقه.

وعندهم من الأدلّة على الأحكام غير الكتاب والسنّة الاجماع وحكم العقل القطعي، وعند فقدان الأدلّة الأربعة يرجعون إِلى الاُصول العملية، حسبما تقتضيه المقامات وهي قواعد فقهيّة عامّة تثبت بالأدلّة.

ويرون أن الأحاديث المرويّة عنهم من السنّة، لأنهم حملة علم النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وحفّاظ شريعته، فما عندهم فهو عن الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا عن اجتهاد ورأي منهم، والسنّة أحد الأدلّة الأربعة في استنباط الأحكام الفرعيّة، والأدلّة الأربعة كما أشرنا اليها: الكتاب، والسنّة، والإجماع، والعقل، والبيان عن حجّيّتها وكيفيّة الرجوع اليها مذكور في كتب اُصول الفقه.

وأمّا اعتقادهم في اللّه تعالى شأنه، فهو أنّه سبحانه شيء لا كالأشياء ليس بجسم ولا صورة، ولا تقع عليه الرؤية في الدنيا ولا الآخرة، لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار، وأن صفاته عين ذاته، وأنّه تعالى عادل لا يظلم أحداً من عبادة لقبح الظلم بحكم العقل، وأنّه خلق الأشياء لا من شيء.

____________________

(١) مسلم من صحيح جابر، ومسند أحمد: ٥/٨٩ و٢/٢٩ و١٢٨، والصواعق: الفصل الثالث من الباب الأول، والسيوطي في تاريخ الخلفاء ص ٥، إِلى غيرهم.

(٢) ينابيع المودّة: ص ٤٢٧ و٤٣٠ و٤٤٢، وكفاية الأثر، والمقتضب والكنز وغيرها.

٤٨

وأمّا اعتقادهم في نبيّنا محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فهو أنّه معصوم من الخطأ والزلل والنسيان والغفلة والذنوب الكبائر والصغائر، وأنّه ما ارتكب شيئاً منها قبل النبوّة ولا بعدها، وأنه مرسل إِلى العالم كلّه وهكذا اعتقادهم في الرسل والأنبياء من جهة العصمة.

ويرون أن الامامة من الاُصول ويجب إِثباتها بالأدلّة العقليّة عدا النصوص النقليّة، ومن البراهين العقليّة قاعدة اللطف.

وأمّا المعاد فيعتقدون فيه أن اللّه جلّ اسمه يعيد الناس للحساب بتلك الأجسام التي كانت في الدنيا، وهي التي تنعّم في الجنان، أو تعذّب في النيران.

وأمّا أفعال العباد فيعتقدون أنها أمر بين أمرين لا جبر ولا تفويض أي أنّ اللّه تعالى لم يجبر الخلق على أفعالهم حتى يكون قد ظلمهم في عقابهم على المعاصي، بل لهم القدرة والاختيار فيما يفعلون، ولا فوّض اللّه اليهم خلق أفعالهم حتى يكون قد خرج من سلطان قدرته على عباده، بل له الحكم والأمر وهو قادر على كلّ شيء ومحيط بالعباد.

وربّما يهيّئ اللّه تعالى للعبد أسباب الطاعة والهداية، كما يصدّ عنه أسباب العصيان والضلالة، لطفاً منه بعبده، وهذا ما نسمّيه بالتوفيق.

وهذا بعض ما تعتقده الاماميّة في الوجود والوحدانيّة، والصفات، وفي النبوّة والامامة والمعاد، وفي أفعال العباد.

وذكرنا لذلك كان استطراداً على سبيل الايجاز، واستيفاء الكلام على هذه المعتقدات في كتب الكلام والاعتقاد.

والإماميّة اليوم هم السواد الأعظم من الشيعة في جميع الأقطار الاسلاميّة وكتبهم في العلوم كافّة من أوّل يوم ابتدأ فيه التأليف حتّى اليوم مبثوثة بين الاُمم يقرأها الحاضر والبادي، والعالم والجاهل.

وليس اليوم غير الاماميّة، والزيديّة، والاسماعيليّة، فرقة ظاهرة تعرف اللّهمّ سوى بعض الفِرق الغالية التي تنتمي إِلى التشيّع.

ولمّا كان كلامنا عن الفِرق التي كانت في عهد الصادقعليه‌السلام أهملنا عن بعض الفِرق التي حدثت بعد الصادقعليه‌السلام أمثال الفطحيّة والناووسيّة والواقفيّة.

٤٩

٤ - الخوارج

ظهرت هذه الفِرقة يوم صفّين بخدعة ابن العاص، حين أشار على معاوية - وقد عجز عن المناهضة - برفع المصاحف، والدعوة لتحكيمها، فلمّا رفعوها مرقت طائفة من أصحاب أمير المؤمنينعليه‌السلام وقالوا هؤلاء يدعوننا إِلى كتاب اللّه وأنت تدعوننا إِلى السيف، فعذلهم عن ذلك، وحاول رجوعهم عن الاغترار بهذه الخدعة، وقال لهم ويحَكُم أنا أعلم بكتاب اللّه، فلم ينفع معهم عذل وردع، ولا إِقامة حجّة وبرهان، بل قالوا لترجعن مالكاً عن قتال المسلمين، أو لنفعلنّ بك كما فعلنا بعثمان، فاضطر إِلى ارجاع مالك بعد أن هزم الجمع وولّوا الدبر، فحملوه على التحكيم، فأراد أن يبعث عبد اللّه بن عباس فأبوا إلا أن يبعث أبا موسى الأشعري، فلمّا كان التحكيم قالت الخوارج: لِمَ حكمت في دين اللّه الرجال ؟ لا حكم إِلا للّه، فمن هنا سمّوا (المحكّمة) وبعد أن رجع أمير المؤمنين من صفّين وهم مصرّون على المروق والعصيان اجتمعوا بحروراء قرب الكوفة فسمّوا (الحروريّة).

وكان آخر أمرهم أن قتل أمير المؤمنين بالنهروان من أصرَّ منهم على المروق، بعد أن أقام عليهم الحجج، وقطع المعاذير، وبعد أن عاثوا في الأرض فساداً، وقتلوا خباباً أحد خيار الصحابة، وبقروا بطون الحبالى.

ولم يستأصل تلك الروح استئصالهم بالنهروان، وما زال في كلّ عصر وزمن قوم على ذلك الرأي والمروق، وقد أزعجوا الملوك والولاة في تلكم الأعصر، وكلّما فني قوم منهم نبغ آخرون، وكانت الناس منهم على رهبة ووَجَل لما يلاقونه منهم من الفتك الذريع والعمل الفظيع، والقسوة وانتهاك الحرمة، وكانوا يحاربون الملوك والولاة عن عقيدة واطمئنان، فمن ثمّ تجدهم يستبسلون ويحاربون بشجاعة ورباطة جأش، فلا تقف الناس لهم وإن كانوا أضعافهم، إِذ لا يحملون عقيدة يناهضون بها تلك العقيدة، ولكنهم إِذا عرفوا من أنفسهم الضعف قوّضوا ليلاً وبعدوا شاحطين، ومن ذاك لا تسلم بلدة من وبالهم وسوء أعمالهم.

وكان لهم ظاهر نسك وعبادة، وما زالوا يستميلون الهمج الرعاع بتلك المظاهر الصالحة، ودعوى الخروج على سلطان الباطل، والدعوة للعمل بالكتاب والسنّة، وإن ناقضوا تلك المظاهر والدعاية بشدة الوطأة والعيث فساداً، إِلا أن السذّج من الناس ربما انخدعوا بظاهرة النسك والصلاح، وقد خدعوا بهاتيك الظواهر الجميلة بعض أهل الكتاب ومن لا يعتقد صحّة دين الاسلام، فضمّوهم اليهم، وكاثروا بهم.

٥٠

وقد ضعفت بعد ذلك شوكتهم، وهدرت شقاشقهم، واستراح الناس منهم برهة من الزمن، ولكن ظهر لهم شأن أيّام الصادقعليه‌السلام فإنَّ أحد رؤسائهم عبد اللّه بن يحيى الكندي - الملقّب بطالب الحق - نهض في حضرموت بعد ما استشار الأباضيّة في البصرة وأوجبوا عليه النهوض، وشخص اليه منهم أبو حمزة المختار بن عوف الأزدي وبلخ بن عقبة المسعودي في رجال من الأباضيّة، وقد بايعه ألفان وبهم ظهر، ولمّا كثر جمعه توجّه إِلى صنعاء وكتب بذلك إِلى من بها من الخوارج، فجرت بينه وبين عاملها حروب انتصر فيها عبد اللّه واستولى على خزائن الأموال، ثم استولى على اليمن، فلمّا كان وقت الحجّ وجّه أبا حمزة وبلخاً وأبرهة بن الصباح إِلى مكّة والأمير عليهم أبو حمزة في ألف، وأمره أن يقيم بمكّة إِذا صدر النّاس، ويوجّه بلخاً إِلى الشام، فدخلوا مكّة يوم التروية وعليها وعلى المدينة عبد الواحد بن سليمان بن عبد الملك في خلافة مروان الحمار، فكره عبد الواحد قتالهم وفزع الناس منهم فراسلهم عبد الواحد في ألا يعطّلوا على النّاس حجّهم، وأنهم جميعاً آمنون بعضهم من بعض حتّى ينفر الناس النفر الأخير، فلمّا كان النفر الأخير نفَرَ عبد الواحد وترك مكّة لأبي حمزة من غير قتال، ولمّا دخل عبد الواحد المدينة جهّز له جيشاً منها فالتقوا بقديد فكانت الدبرة على جيش المدينة والنصرة للشراة، فبلغ قتلى أهل المدينة ألفين ومائتين وثلاثين رجلاً ثم دخل بلخ المدينة بغير حرب، ورحل عبد الواحد إِلى الشام فجهّز مروان لهم جيشاً عدده أربعة آلاف في فرسان عسكره ووجوههم، ومعهم العدّة الوافرة، وعليه عبد الملك بن عطية السعدي، فلمّا بلغ الشراة توجّه جند الشام اليهم خفوا اليه في ستمائة وعليهم بلخ بن عقبة المسعودي فالتقوا بوادي القرى لأيام خلت من جمادى الاُولى سنة ثلاثين ومائة فتواقفوا ثمّ كانت الدبرة على الخوارج فقتل بلخ والشراة ولم يبق منهم إِلا ثلاثون، فهربوا إِلى المدينة، وكان على المدينة المفضل الأزدي، فدعا عمر بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطّاب الناس لحرب الشراة بالمدينة فلم يجبه أحد، واجتمع عليه البربر والزنوج وأهل السوق، فقاتل بهم الشراة فقتل المفضل وعامّة أصحابه وهرب الباقون، فأقبل ابن عطيّة إِلى المدينة وأقام بها شهراً، وأبو حمزة بمكّة، ثمّ توجّه إليه إِلى مكّة فوقعت بينهما حرب شعواء قتلت فيها الشراة قتلاً ذريعاً وقتل أبو حمزة وأبرهة بن الصباح وأسر منهم أربعمائة ثم قتلوا كلّهم، وصلب ابن عطيّة

٥١

أبا حمزة وأبرهة وعلي بن الحصين على شُعب الخيف، إِلى أن أفضى الأمر إِلى العبّاسيّين فأنزلوا أيام السفاح، ثمّ أن ابن عطيّة خرج الى الطائف وقد بلغ عبد اللّه بن يحيى طالب الحقّ وهو بصنعاء ما آل اليه أمر أبي حمزة وجماعته فتوجّه الى حرب ابن عطيّة، فشخص ابن عطيّة اليه، ولمّا التقوا قتل من الفريقين جمع كبير، وترجّل عبد اللّه في ألف مقاتل، فقاتلوا حتّى قتلوا كلّهم وقتل عبد اللّه، وبعث ابن عطيّة رأسه الى مروان، ثمّ أقام ابن عطيّة بحضرموت بعد ظفره بالخوارج، فأتاه كتاب مروان بالتعجيل الى مكّة ليحجّ بالناس، فشخّص الى مكّة متعجّلاً مخفّفاً في تسعة عشر فارساً، فندم مروان وقال: قتلت ابن عطيّة سوف يخرج متعجّلاً مخفّفاً من اليمن ليدرك الحجّ فيقتله الخوارج، فكان كما قال، فإنه صادفه جماعة متلفّقة من الخوارج وغيرهم فعرفه الخوارج فحملوا عليه وقتلوه(١) .

ثمّ لم يكن الخروج بعد هذا إِلا عقيدة ورأياً من دون أن يكون لهم شأن في محاربة الملوك، وما زال حتّى اليوم منهم اُناس على ذلك المروق، ومنهم قوم في عمان، ولكن لا شأن لهم يرعى ولا سطوة تهاب.

والخوارج هم المارقون الذين أنبأ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمير المؤمنينعليه‌السلام بأنه سيحاربهم ويظفر بهم.

وكانوا فِرقاً كثيرة يجمعها القول بتكفير علي وعثمان والحَكَمين وأصحاب الجمل وكلّ من رضي بتحكيم الحَكَمين، وتكفير مرتكبي الذنوب، ووجوب الخروج على الامام الجائر، كما حكاه في (الفَرق بين الفِرَق) عن الكعبي ص ٥٥.

لكن حكي عن أبي الحسن الأشعري إِنكار إِجماعهم على تكفير مرتكبي الذنوب، ونقل عنهم تفصيلاً في ذلك، وانتهوا في التفريع على هذا الأصل الى فِرق كثيرة، ولكن أخنى عليها الدهر، والموجودون اليوم منهم في عمان من الأباضيّة، على ما يظهر منهم ويسمع عنهم.

____________________

(١) انظر شرح النّهج: ١/٤٥٥ - ٤٦٣ تجد تفصيل ما أوجزناه.

٥٢

الغلاة ومن خرج عن الاسلام ببعض العقائد:

قد ذكرنا في بدء هذا الفصل أن اُصول الفِرق الاسلاميّة أربعة، ومنها تتفرّع الفِرق جميعاً، وأن فِرق الغلاة من فروع تلك الاُصول، فلا تجد أصلاً إلا وله بعض الفروع الغالية.

وهكذا الشأن فيمن ينتحل شيئاً كالتناسخ والحلول والتشبيه أو غير ذلك ممّا يرجع الى الكفر عند فِرق المسلمين، ولكن التهجّم عليهم بالكفر لما ينسب اليهم من الاعتقاد ليس بالأمر السهل، فإن تكفير من يعترف بالشهادتين لا ينبغي أن يقدم عليه من له حريجة في الدين، دون أن يعتمد على ركن وثيق ومادمنا في فسحة من ذلك فلا نلج هذا الباب، ولا نلقي بأنفسنا من شاهق ثمّ نفحص عن سلّم النجاة، ولا سيّما أن تلك الفِرق التي رميت بالخروج عن ربقة الاسلام الصحيح بانتحالها بعض العقائد الباطلة قد أصبحت في خبر كان، ولم يبق منها إِلا شواذ لا مقام لهم يلحظ بين أبناء الاسلام، ولا يخاف من تسرّب معتقداتهم الفاسدة بل أصبحوا يتكتّمون فيما يعتقدون حذراً من سطوة بني الدين في الحجج والبراهين وإبطال ما يدينون به أو نبزهم بالكفر والمروق عن الاسلام.

والحذر من سراية ذلك الداء الى أرباب الجهل أهمّ ما كان لدى الأوائل ممّن قاوم تلك البدع والضلالات بكلّ ذريعة، ونحن اليوم في أمان من الانخداع بضلالات فِرقهم الحاضرة، فكيف ببدع هاتيك الفِرق البائدة التي أصبحت دائرة العين والأثر.

شبه الإلحاد:

إتما الحذر اليوم من سراية شبه الإلحاد، وشكوك عبدة الدهر وأبناء الطبيعة الذين تسول لهم أنفسهم التخلّص من قيود الدين بكلّ وسيلة، تلك القيود التي تجعل الانسان في صفوف الملائكة والروحيّين، وتخرجه عن الوحشيّة الكاسرة، والشهوات الفاتكة، كما تجعله في أمان من اعتداء أحد على أثمن ما يجده في هذه الحياة: النفس والعرض والمال، كما تجعل الناس في أمان منه على نفائسهم تلك، وتلك الحرّية التي ينشدونها، والتي خرجوا بها عن ربقة أهل العقول والعفاف الى أسراب الوحوش وأرباب الخلاعة والدعارة هي التي خدعت بعض الشباب، وجعلته يقع في تلك الفخاخ، وتصيده هاتيك الشباك، والشباب سريع الانجذاب الى الشهوات ونزع القيود المزعومة، من دون أن يرجع الى رشده ويحكّم قبل الانخداع عقله.

٥٣

الإمامة

إن المسلمين على مذاهب في الإمامة بعد أن أجمعوا على وجوبها، باعتبار أنّ الإمام هو الجامع لشتاتها، والهادي لضلالها، والناهض بها لنشر أعلام الشريعة، وبثّ روح تعاليمها الحيّة.

ومن سياسة صاحب الشريعة وبدائع حكمة أمره بمعرفة الإمام، حتّى أنه جعل«من مات ولم يعرف إِمام زمانه ميتاً على الجاهلية» (١) ، كأن لم يدخل في ربقة الاسلام.

فهذا الفرض لو عمل به المسلمون، وقاموا بما يحتّمه الواجب من معرفته والاستماع لقوله بعد الوصول اليه لأصبحوا جيشاً واحداً وقائدهم الإمام، فلا يبقى عند ذاك امرؤ مسلم يجعل أحكام الدين، أو يعلمها ولا يعمل بها، ولا يبقى بلد في العالم لم تخفق عليه بنود الاسلام.

كانت الخلافة والإمامة ميداناً للسباق، لا يقبض على ناصيتها إِلا من حاز قصب السبق، ولو بالدماء المراقة، والحرمات المنتهكة، بل حتّى لو كان الخليفة نفسه بعد استلامه زمام الحكم ماجناً خليعاً لا يبالي بما فعل.

غير أن الشيعة الإمامية كانت من العهد الأوّل لا تقيم وزناً لمثل هذه الخلافة ولا تعترف بمثل هذه الإمامة، بل ترى أن الخليفة والإمام من كان جامعاً لصفات الكمال كلّها، عارياً عن خصال النقص جميعاً، عاملاً بأوامر الشريعة في السرّ والعلن آمراً بها، مرتدعاً عن نواهيها فيما ظهر وبطن ناهياً عنها، منصوصاً عليه من صاحب الشريعة، أو من الإمام قبله أمراً من اللّه سبحانه، لأنه تعالى أنظر لعباده، وأبصر بمن يصلح لهذا المنصب الخطير.

ولا ترى الإمام من قام بالناس بل الإمام من قامت الدلالة عليه، ودلّت الاشارة اليه، وإِن قعد الناس عن اتباعه، بل وإِن قاموا في وجهه صدّاً له عن أدائه فروض إِمامته وواجبات زعامته.

وإِن قعودهم عن طاعته أو قيامهم في معارضته لا تخدش في كفايته للنهوض بأعباء الإمامة، بل حظّهم اخطأوه وسبيل هدى أضاعوه.

فالإمام - على ما تراه الإماميّة - هو الحامل لأعباء الإمامة قام أو قعد، نطق أو سكت، تقدّم للسباق أو تأخّر، لأن إِمامته ليست باللباس المستعار يلبسه إِن استلبه من غيره، ويتعرّى عنه إِن استلبوه منه.

____________________

(١) هكذا الحديث في أصل الكتاب ولم نعثر عليه في الكتب الموجودة، والذي عثرنا عليه هو هذا النص«من مات بغير إمام مات ميتةً جاهلية» كنز العمال: ١/١٠٣.

٥٤

ولمّا كان الإمام هو الحجّة البالغة، وجب عليه إِعلام الناس بإمامته وإِقامة الأدلّة عليها عند الحاجة الماسّة، كما وجب على الاُمّة معرفته وطاعته إِذا عرفوه.

وأما إِقامته الدلالة على إمامته فبالتصريح مرّة وبالتلويح اُخرى، وكفى في الدلالة أن يدلي بالكرامات والمعجزات، ويبدي من العلم ما يعجز الناس عن الحصول على مثله، إِلا أن تحجز السيوف دون بيانه، ولكن أعماله وسجاياه ناطقة بمقامه وإِن صمت لسانه.

والإمامة من الأبحاث التي مازالت موضع الجدل والخصام بين المسلمين من يوم مضى صاحب الدعوة الاسلاميّة، قلماً ولساناً، وسيفاً وسناناً، وإنما تبتني اُسسها اليوم على أنقاض الماضي، وهي اليوم وغداً كما كانت أمس الفارق بين الفِرق، مع وحدتهم في النبي والكتاب والقبلة، وفي الفِرق اليوم وأمس من ذوي العقول الراجحة والآراء السديدة رجال بإمكانها أن يجمعوها تحت لواء واحد، كاشفين لهم الستار عمّا حدا بالامامة إِلى التخالف والتنابز، ويعرّفوها فوائد الاُلفة، وينذروها سوء الفرقة، ويلمسوها ما أنزله ذلك الخصام بالاسلام من الويلات والتدمير والشتات.

ولمّا كانت الامامة هي المفترق للطرق، وجب أن يكون عندها اجتماع ذلك الافتراق، فلو عرف الناس اليوم حقيقة الامامة ومَن الامام، لأوشك أن يهبّ ولو بعضهم إِلى وحدة عندها مجتمع الفِرق، ولمّ الشتات، في هذه الساعة العصيبة التي سادت فيها الفوضويّة وانشقاق الكلمة.

وإِنّي لاُحاول أن أرمز إِلى بعض ما يجب في الامام، وإن ذهبت كلمتي أدراج الرياح، لا تسترعي انتباه غافل، ولا هبة يقظان، ولا يغيظني ذلك مادام القصد صحيحاً والغاية غالية، وهي طلب مراضيه سبحانه.

أقول: إِن النظام الذي جاء به خاتم الأنبياءصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نظام عامّ يجمع بين السيرتين، سيرة المرء مع الخالق، وسيرته مع المخلوق، وإِنَّ مَن جاء بهذا النظام وجب أن يكون قديراً على تطبيقه وتنفيذه حتّى لو ثنيت له الوسادة، فانبسطت دعوته على المعمورة جمعاء، وخيّمت شريعته على العالم كلّه، فالنبي عند تطبيق شريعته وتنفيذها يكون ذا سلطتين زمنيّة وروحيّة، ولّما دعاه اللّه اليه، انتبهت الاُمّة إِلى الضرورة التي دعته إِلى عقد الامامة في حياته، فرأوا أن القيام بوظائف صاحب الدعوة حتمّي ولا يقوم بها إِلا إِمام تكون له الزعامة العامّة على الاُمّة الاسلاميّة كلّها وتكون له السلطتان اللتان كانتا للرسول

الأمينصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإِلا بقي ذلك النظام الكافل للسعادتين بلا تنفيذ، فلا تتمّ الفوائد من تلك الجهود التي قاساها صاحب الرسالة.

٥٥

فلمّا كانت الامامة على الاُمّة واجبة بحكم الضرورة، فمَن الأليَق بتلك الوظيفة الكبرى ؟ أترى الأليَق بها من هو كصاحب الرسالة وصورة حاكية له في العلم والعمل، مهديّ في نفسه هاد لغيره، يقوم بالحجّة فيقطع الحجج، لا يعتري برهانه وهن، ولا حجّته فلل، إِن طلب الناس منه المعجز في الفعل والقول استطاع الإتيان به من غير مطل وعناء، وإِن احتيج لقطع العذر من المسترشد أو المتعنّد على المجيء بالكرامة الباهرة قوي عليها من دون كدّ وجهد، يعلم كلّ ما جاء به صاحب الشريعة عاملاً به، يعرف القرآن تنزيله وتأويله، مرتدياً بجميل الخصال لا تفرّ عنه منها واحدة، بل هو أفضل في كلّ خصلة من الناس كافة، عارياً عن ذميم الصفات لا يرتدي منها واحدة ولو لحظة، وجملة القول أنه المثال الصادق للرسول في جميع ملكاته وصفاته وخصاله وفعاله.

أو الأليَق بها مَن لا يعرف هذه الخلال ولا تعرفه، أو يتقمّص ببعضٍ ويتعرّى عن بعض، لا ريب في أنك سوف تقول: إِن الأوّل أليَق وأحقّ بهذا المنصب الرفيع، وهل يقدم بصير على القول بأحقّيّة الثاني.

ولكني أحسبك تقول: إِن الشأن كلّه في إِثبات أمرين في هذا الباب الأول وجوب نصب إمام على هاتيك السجايا والمزايا، الثاني وجوده جامعاً لهذه الخلال والخصال في الاُمّة الاسلاميّة، ولو ثبت لدينا أن الامام يجب أن يجمع هذه الصفات، وأنه يوجد في الاُمّة ذلك الجامع، لكان التخلّف عن القول بإمامته، لأوامره عناداً محضاً لا يرتضيه ذو دين وبصيرة.

فأقول: إِني سأثبت لك هذين الأمرين، راجياً أن تكون ممّن ألقى السمع وهو شهيد.

أمّا الدليل على الأول فموجزه: إن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان عليماً بما صدع به، لا يجهل ما يُسأل عنه، شريعته واحدة ليس فيها اختلاف، وخالدة إِلى يوم البعث، حلال محمّد حلال إِلى يوم القيامة وحرامه حرام إِلى يوم القيامة، فلو ألقى الحبل على الغارب للاُمّة في ارتياد الامام القائم بوظائفه لألفينا الاُمّة جاهلة بأحكام الشريعة لا تعرف الحرام من الحلال، ولا الحلال من الحرام إِذ ليس لديها حكم فصل في علم الشريعة ترجع إِلى قوله، وحاكم عدل في إِمضاء الحدود تخضع لأمره، فتتشعّب لذلك إِلى مذاهب ونحل، وكلّ يقوم بالحجّة على صحّة رأيه ويقيم الأدلّة على صدق عقيدته كما كان ذلك كلّه حين اختار بعض الناس من أنفسهم لأنفسهم إِماماً وخليفة اختاروا خلفاء لا يعلمون جميع ما جاء به الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويجهلون كثيراً ممّا يُسألون عنه، ولمّا كانوا بعد

٥٦

الاختيار لهم هم الحكم الفصل والحاكم العدل، ولمّا لم يجد الناس عند هؤلاء القائمين بالأمر مطلوبهم في الحكومة والأحكام صار كلّ يبدي مذاهبه وآراءه، وليس عند أحد حجّة قاهرة، وبرهان نيّر يصدع به شبه تلك المذاهب، وشكوك هذه الآراء، وتعارضت النِّحل، وكلّ ينسب ما لديه إِلى الشريعة، وما عنده إِلى الدين، فأين الحلال والحرام اللذان لا يتبدّلان إِلى الساعة الأخيرة من هذا الوجود، وأين الشريعة الواحدة الخالدة عمر الدهر، وقد أصبح في الاسلام بعد نبيّه مشرّعون وشرائع، وأديان ومذاهب.

ولمّا كان هذا التبديل والتحريف طارئاً عن اختيار الناس لمن لا يعلم جميع ما جاء في الشريعة ليكون العالم والحاكم في ساعة واحدة، يقطع حجج المتأوّلين وألسنة المتقوّلين بالبرهان مرّة وحدود الشفار اُخرى فلا تخالفه الناس بعد ذاك ولا تختلف في الآراء والأهواء، وجب على الاُمّة أن تختار لها إِماماً عالماً بكلّ ما جاءت به الشريعة الأحمديّة، عاملاً في تنفيذ علمه، عنده علم ما يُسأل عنه ولديه الحجّة على إِزالة الأوهام والأباطيل والجهالات والأضاليل، لتبقى الشريعة الغرّاء على ما صدع بها الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أبد الدهر وحلاله وحرامه لا يتبدّلان مدى العمر، فلا شرائع ولا مشرّعين ولا مذاهب ولا أديان.

ولكن أين للاُمّة اختيار ذلك الحاكم العالم ؟ ومن أين تعرفه ؟ ولو عرفته فمن أين له اتفاق الكلمة عليه، والناس مختلفو النزعات متباينو الأغراض ؟

فوجب عليه تعالى أن ينصب لهم هذا الامام، ويعرّفهم بواسطة الرسول ذلك الخلف العادل، والعالم العامل، لأن اللّه سبحانه أنظر لعباده، وأدرى بمن يليق لهذا المنصب الخطير، والمقام العظيم.

فاذا كان نصب الامام واجباً عليه تعالى استحال في العقول أن يهمل سبحانه الواجب فيما يصلح عباده، ويهدي خليقته، كما يستحيل على الرسول أن يترك التبليغ عنه تعالى بنصب هذا الامام، ولو جاز عليه ترك هذا الواجب لجاز عليه غيره.

فمتى وجب الرسول وجب الامام، ومتى بعث اللّه رسولاً نصب الامام، فلا رسول بلا إِمام، ولا شريعة بغير تفسير وتنفيذ.

٥٧

وأمّا الدليل على الثاني وهو وجود هذا الامام فالأمر فيه سهل بعد ما تقدّم، لأنا إِذا اعتقدنا بوجوب نصب الامام على تلك الصفات وأنه قد نصبه اللّه تعالى لخلقه اعتقدنا أنه تعالى لا يجعله مجهول الاسم والنسب ويعسر على الاُمّة معرفته، ولا نعرف في الاُمّة أئمة ادّعي فيهم ذلك وادّعوها لأنفسهم غير علي وبنيهعليهم‌السلام ، فلو لم يكونوا هم الأئمة لكانت الامامة وذلك الوجوب لغواً.

فلم يبق إذن إِلا أن نعرف عنهم أنهم اولئك العلماء الذين لا يجهلون، والعدولالذين لا يجورون، أمّا العدل فلم يحكم منهم أحد غير أمير المؤمنين وشأنه لا يحتاج إِلى ايضاح، وأمّا العلم فآثارهم ناطقة به فتتبع تجد صدق ما قيل ويقال وهذا الكتاب بين يديك رشحة من ذلك العلم الغمر(١) .

مَن هو الصادق ؟

حقّاً على الكاتب أن يعطي صورة إجمالية للمترجم له قبل أن يتغلغل في أعماق الترجمة، لئلا يكون غريباً عن القارئ عند قراءته لكل فصل من حياته.

وهنا رأيتُ أن أنقل شطراً من آراء العلماء في كلماتهم عن الصادق جعفرعليه‌السلام ، لأنها تعبّر عن آراء أجيال في هذه الشخصيّة الكريمة، واليك شيئاً منها:

فهذا الذهبي(٢) في ميزان الاعتدال (١: ١٩٢) يقول عند ذكره للامام: «جعفر بن محمّد بن علي بن الحسين الهاشمي أبو عبد اللّه أحد الأئمة الأعلام برّ صادق كبير الشأن».

وممّا قاله النووي(٣) في تهذيب الأسماء واللغات (١: ١٤٩ - ١٥٠): «روى عنه محمّد بن إسحاق، ويحيى الأنصاري، ومالك، والسفيانيان، وابن جريح، وشعبة، ويحيى القطّان، وآخرون، واتفقوا على إِمامته وجلالته وسيادته، قال عمرو بن أبي المقدام: كنت إِذا نظرت إِلى جعفر بن محمّد علمت أنه من سلالة النبيّين».

____________________

(١) إِن شئت المزيد في بحث الإمامة فارجع إِلى رسالتنا المطبوعة «الشيعة والإمامة».

(٢) الحافظ المحدّث شمس الدين أبو عبد اللّه محمّد بن أحمد بن عثمان الدمشقي المولود عام ٦٧٣، والمتوفى عام ٧٤٨.

(٣) الحافظ أبو زكريا محيي الدين بن شرف الدين المتوفى عام ٦٧٦.

٥٨

وابن خلكان(١) يقول: «أحد الأئمة الاثني عشر على مذهب الاماميّة، وكان من سادات أهل البيت، ولقّب بالصادق لصدقه في مقالته، وفضله أشهر من أن يذكر». وقال: «وكان تلميذه أبو موسى جابر بن حيّان الصوفي الطرطوسي(٢) قد الّف كتاباً يشتمل على ألف ورقة تتضمّن رسائل جعفر الصادق وهي خمسمائة رسالة، وقال: ودفن بالبقيع في قبر فيه أبوه محمّد الباقر، وجدّه زين العابدين، وعمّ جدّه الحسن بن عليعليهم‌السلام ، فللّه درُّه من قبر ما أكرمه وأشرفه».

والشبلنجي(٣) في نور الأبصار ص ١٣١ يقول: «ومناقبه كثيرة تكاد تفوت حدّ الحاسب، ويحار في أنواعها فهم اليقظ الكاتب» وقال: وفي حياة الحيوان الكبرى فائدة قال ابن قتيبة في كتاب أدب الكاتب: وكتاب الجفر كتبه الامام جعفر الصادق ابن محمّد الباقر، فيه كلّ ما يحتاجون الى علمه الى يوم القيامة، والى هذا الجفر أشار أبو العلاء بقوله:

لقد عجبوا لآل البيت لما

أتاهم علمهم في جلد جفر

فمرآة المنجم وهي صغرى

تريه كلّ عامرة وقفر

وقال محمّد الصبّان(٤) في كتابه إِسعاف الراغبين المطبوع على هامش نور الأبصار ص ٢٠٨: «وأمّا جعفر الصادق فكان إِماماً نبيلاً. وقال: وكان مجاب الدعوة إِذا سأل اللّه شيئاً لا يتمّ قوله إِلا وهو بين يديه».

____________________

(١) أحمد بن محمّد بن إبراهيم بن أبي بكر بن خلكان ولد بمدينة اربل قرب الموصل وانتقل إِلى الموصل وسافر إِلى حلب ودخل الديار المصرية وناب في القضاء عن السخاوي، ثم ولّي القضاء بالشام عشر سنين وتوفي بدمشق عام ٦٨١، ترجم له في طبقات الشافعيّة: ٥/١٤، وفي فوات الوفيّات: ١/٥٥، والسيوطي في حسن المحاضرة: ١/٢٦٧، ومعجم المطبوعات: ١/٩٨ وغيرها.

(٢) سوف نشير في حياته العلميّة إِلى علم الصادقعليه‌السلام بالكيمياء وأخذ جابر عنه وشيء من حياة جابر.

(٣) مؤمن بن حسن مؤمن المصري. وشبلنج قرية من قرى مصر، اشتغل في طلب العلوم في الجامع الأزهر ولد في نيف و١٢٥٠ ولم تذكر وفاته.

(٤) محمّد بن علي الصبّان الشافعي الحنفي ولد بمصر، ترجم له في معجم المطبوعات: ٢/١١٩٤.

٥٩

والشعراني(١) في لواقح الأنوار يقول: «وكان سلام اللّه عليه اذا احتاج الى شيء قال: يا ربّاه أنا أحتاج الى كذا، فما يستتمّ دعاؤه إِلا وذلك الشيء بجنبه موضوع».

وسبط ابن الجوزي(٢) في تذكرة خواصّ الاُمّة ص ١٩٢ يقول: «قال علماء السير: قد اشتغل بالعبادة عن طلب الرئاسة» وقال: «ومن مكارم أخلاقه ما ذكره الزمخشري في كتابه ربيع الأبرار عن الشقراني مولى رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: خرج العطاء أيام المنصور ومالي شفيع، فوقفت على الباب متحيّراً وإِذا بجعفر بن محمّد قد أقبل فذكرت له حاجتي، فدخل وخرج واذا بعطائي في كمّه فناولني إِيّاه، وقال: إِن الحسن من كلّ أحد حسن وأنه منك أحسن لمكانك منّا، وأن القبيح من كلّ أحد قبيح وأنه منك أقبح لمكانك منّا، وإِنما قال له جعفر ذلك لأن الشقراني كان يشرب الشراب، فمن مكارم أخلاق جعفر أنه رحّب به وقضى له حاجته مع علمه بحاله، ووعظه على وجه التعريض، وهذا من أخلاق الأنبياء».

ومحمّد بن طلحة(٣) في مطالب السؤل ص ٨١ يقول: «وهو من عظماء أهل البيت وساداتهم ذو علوم جمّة، وعبادة موفرة، وأوراد متواصلة، وزهادة بيّنة، وتلاوة كثيرة، يتبع معاني القرآن الكريم، ويستخرج من بحره جواهره، ويستنتج عجائبه، ويقسّم أوقاته على أنواع الطاعات، بحيث يحاسب عليها نفسه، رؤيته تذكّر الآخرة، واستماع حديثه يزهد في الدنيا، والاقتداء بهديه يورث الجنّة، نور قسماته شاهد أنه من سلالة النبوّة، وطهارة أفعاله تصدع بأنه من ذرّيّة الرسالة. وقال: وأمّا مناقبه وصفاته فتكاد تفوت عدد الحاصر، ويحار في أنواعها فهم اليقظ الباصر، حتّى أنه من كثرة علومه المفاضة على قلبه من سجال التقوى صارت الأحكام التي لا تدرك عللها والعلوم التي تقصر الأفهام عن الاحاطة بحكمها، تضاف اليه، وتروى عنه».

____________________

(١) أبو المواهب عبد الوهاب بن أحمد بن علي الأنصاري الشافعي المصري المعروف بالشعراني دخل القاهرة عام ٩١١ وبها توفى، ترجم له في معجم المطبوعات: ١/١١٢٦.

(٢) أبو مظفر شمس الدين يوسف بن قزغلي الواعظ الشهير الحنفي المولود عام ٥٨٢ أو ٥٨١ والمتوفى عام ٦٥٤ في ٢١ ذي الحجّة.

(٣) كمال الدين الشافعي المتوفى عام ٦٥٤.

٦٠