الإمام جعفر الصادق عليه السلام الجزء ١

الإمام جعفر الصادق عليه السلام0%

الإمام جعفر الصادق عليه السلام مؤلف:
تصنيف: الإمام الصادق عليه السلام
الصفحات: 228

الإمام جعفر الصادق عليه السلام

مؤلف: العلامة الجليل الشيخ محمد الحسين المظفر
تصنيف:

الصفحات: 228
المشاهدات: 70803
تحميل: 5221


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 228 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 70803 / تحميل: 5221
الحجم الحجم الحجم
الإمام جعفر الصادق عليه السلام

الإمام جعفر الصادق عليه السلام الجزء 1

مؤلف:
العربية

وأوصياءهمعليهم‌السلام (١) .

وهذه الهيبة التي أحسّها هشام يوم كان جهميّاً كان يحسّها يوم كان إِماميّاً وكانت بين هشام وبين عمرو بن عبيد مناظرة في الإمامة، وقد قصد هشام عَمراً الى البصرة، فسأله الإمام عمّا كان بينهما ليحكي له ما كان، فقال هشام: يا ابن رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إِني أجلّك وأستحييك ولا يعمل لساني بين يديك(٢) .

وهذا ابن أبي العوجاء مع إِلحاده كان أحياناً يحجم عن مناظرة الصادقعليه‌السلام لتلك الهيبة، فإنه حضر يوماً لمناظرة الصادق ولكنه بعد أن جلس سكت، فقال له الصادق: فما يمنعك من الكلام ؟ قال: إِجلال لك ومهابة، ما ينطق لساني بين يديك، فإني شاهدت العلماء، وناظرت المتكلّمين فما تداخلني هيبة قط مثلما تداخلني من هيبتك(٣) .

على أن الصادقعليه‌السلام كان بين أصحابه وجلسائه كواحد منهم لا يتظاهر بالعظمة وحشمة الإمامة، وينبسط لهم بالكلام، ويجلس معهم على المائدة، ويؤنسهم بالحديث، ويحثّهم على زيادة الأكل، لئلا تمنعهم الهيبة من الانبساط على المائدة واكل ما يشتهونه، غير أن تلك الهيبة التي كانت شعاره من الهيبة الذاتيّة التي تمنع العيون من ملاحظته والألسنة من الانطلاق بين يديه ولم يكن محاطاً بخدم ولا حجاب.

____________________

(١) رجال الكشي: ص ١٦٦.

(٢) الكافي: ١/١٦٩/٣.

(٣) كتاب التوحيد: باب إِثبات حدوث العالم.

٢٠١

عبادته

إِن المفهوم من العبادة عند إِطلاق هذه الكلمة، هو العبادة البدنيّة من الصوم والصلاة والحجّ وما سواها، ممّا يحتاج الى نيّة القربة، وكان الصادقعليه‌السلام في هذه العبادات زين العبّاد.

وهذا السبط في التذكرة يقول: قال علماء السير: قد اشتغل بالعبادة عن طلب الرياسة، وابن طلحة في المطالب يقول: ذو علوم جمّة وعبادة موفرة وأوراد متواصلة، ويقول: ويقسّم أوقاته على أنواع الطاعات، وهذا أبو نعيم في الحلّية يقول: أقبل على العبادة والخضوع، وآثر العزلة والخشوع ولها عن الرياسة والجموع، ومالك بن أنس يقول: كان جعفر بن محمّد لا يخلو من إِحدى ثلاث خصال: إِمّا صائماً، وإِمّا قائماً، وإِمّا ذاكراً، وكان من عظماء العبّاد، واكابر الزهّاد، الذين يخشون اللّه عزّ وجل، ولقد حججت معه سنة فلمّا استوت به راحلته عند الإحرام كان كلّما همّ بالتلبية انقطع الصوت في حلقه، وكاد أن يخرّ من راحلته، وقال: ما رأت عين ولا سمعت اُذن ولا خطر على قلب بشر أفضل من جعفر الصادق عِلماً وعبادةً وورعاً، الى سوى هؤلاء ممّن ذكره بالعبادة، وقد مرّت عليك هذه الكلمات وغيرها من ص ٧٢ الى ٨٠.

ولا بدعَ اذا كان أبو عبد اللّه أفضل الناس عبادةً وزهادةً وورعاً، فإن عبادة المرء على قدر علمه بالخالق تعالى«إِنما يخشى اللّهَ من عباده العلماء» وأنت على يقين بما كان عليه الصادق من العلم والمعرفة.

هذا شأن الصادقعليه‌السلام في العبادة البدنيّة، وأمّا شأنه في العبادة الفضلى التي هي أزكى أثراً، وأذكى نشراً، وهي عبادة العلم ونشره وتعليمه والإرشاد والإصلاح، فلا يخفى على أحد، وقد عرفت من حياته العلميّة ومن الفصول الماضية من سيرته وأخلاقه قدر جهاده في التعليم والتثقيف وجهوده في البِرّ والعطف والتربية الأخلاقيّة، وستعرف في المختار من كلامه عظيم اهتمامه في حمل الناس على جدد الطريق، والعمل بالشريعة الغرّاء، والاتّصاف بفاضل الأخلاق.

شجاعته

لم تكن في أيام الصادقعليه‌السلام حروب يحتم الدين عليه الولوج في ميادينها ليعرف الناس عنه تلك الملكة النفسيّة، نعم إِن هناك ظواهر تدلّ على تلك القوى الراسخة، أمثال قوّة القلب واطمئنان الجأش، ومرَّ عليك في مواقفه مع المنصور وولاته من ص ١١٤ - ١٢٢، وفي جَلده ما ينبيك عن تلك القوى الغريزيّة، والجُبن إِنما يكون من ضعف القلب وضعة النفس.

٢٠٢

ومن ثمّ يجب أن يكون المؤمن شجاعاً غير هيّاب ولا نكل في سبيل الدين والحق، وكلّما كان أقوى إِيماناً كان أبسل وأشجع ولذلك تجد أنصار الحسينعليه‌السلام وأهل بيته أبهروا العالم في موقفهم يوم الطف، وما كانوا أشجع الناس لولا ذلك الإيمان الثابت واليقين الراسخ والتوطين على معانقة الرماح والسيوف، ولو كان أهل الكوفة على مثل ذلك اليقين والتوطين والإيمان لما استقامت الحرب الى ما بعد الظهر في ذلك اليوم القايض وهم سبعون ألفاً والأنصار سبعون نفراً، ولما كان قتلى أهل الكوفة لا يحصون عدّاً.

ومن ههنا يستبين لنا أن الصادق لا بدّ أن يكون أشجع الناس وأربطهم جأشاً اذا دارت رحى الحرب، الحرب التي يفرضها الدين وتدعو اليها الشريعة.

زهده

إِن الزهد في الشيء الإعراض عنه، وإِنما يكون للزهد شأن يكسب الزاهد فضلاً اذا كان المزهود فيه ذا قيمة وثمن كبير، وأمّا اذا كان المزهود فيه بخساً لا شأن له يحتسب، ولا قدر يعرف فلا فضل في الزهد فيه، أترى أن الزهد في الشابّة النضرة الخلوق التي جمعت ضروب المحاسن والجمال وفنون الآداب والكمال، مثل الزهد في الشوهاء السوداء العجوز؟ ولا سواء.

فإنما يكون الزهد في الدنيا والإعراض عن لذائذها وشهواتها ذا شأن يزيد المرء قدراً ورفعة، ويكشف عن نفس زكيّة نقيّة، إِذا نظرها فوجدها حسناء فاتنة الشمائل، فولاها ظهره معرضاً عن جمالها، صافحاً عن محاسنها طالباً بهذا الإعراض ما هو أفضل عند اللّه وأطيب، وأمّا اذا تجلّت لديه سافرة النقاب مجرَّدة الثياب، واختبرها معاشرة وصحبة، فرآها شوهاء عجفاء، بارزة العيوب، قبيحة المنظر، سيّئة المخبر والمعشر، لا تفي بوعد، ولا تركن الى عهد، ولا تصدق بقول، ولا تدوم على حال، ولا يسلم منها صديق، فكيف لا يقلاها ساخطاً عليها متوحّشاً منها، وكيف لا ينظرها بمؤخّر عينيه نظر المحتقر الملول.

وإِننا على قصر نظرنا، وقرب غورنا، لنعرف حقّاً أن حياتنا هذه وإِن طالت صائرة الى فناء، وعيشنا وإِن طاب آيل الى نكَد، وإِننا سوف ننتقل من هذه الدار البائدة الى تلك الدار الخالدة، ومن هذا العيش الوبيل الى ذلك العيش الرغيد، وإِن كلّ لذَّة في هذه الحياة محفوفة بالمكاره، وكلّ عيش مشوب بالكدر، وإِن هذه الأيام الزائلة مزرعة لهاتيك الأيام الباقية، وهل يحصد المرء غير ما يرزع، ويجازى بغير ما يفعل، وهل يجمل بالعاقل البصير أن يفتن بمثل هذه الحياة واللذائذ ؟.

٢٠٣

نعم إِنما يحملنا على الافتتان بهذه العاجلة والصفح عن تلك الحياة الآجلة مع فناء هذه وبقاء تلك، اُمور لا يجهلها البصير وإِن لم تكن عذراً عند مناقشة الحساب، ألا وهي حُبّ العاجل، وضعف النفس، ونضارة هذه المناظر والزينة اللتين نصبتهما الدنيا فخاخاً وحبائل، ولو شاء الانسان - وإِن كان أضعف الناس بصراً وبصيرة - أن ينجو من هذه الشباك لكان في مقدوره، فكيف بأقوى الناس عقلاً وأثبتهم يقيناً، وأدراهم بالحقائق، حتّى كأنّ الأشياء لديه مكشوفة الغطاء بل لو كشف لهم الغطاء لما ازدادوا يقيناً.

فإعراض محمّد وآل محمّد عليه وعليهم الصلاة والسلام عن هذه الحياة الدانية ورغائده إِلا بقدر البلغة لتلك الحياة الباقية، إِنما هو لأنهم يرونها أخصّ من حثالة القرظ وأنجس من قراضة الجلم(١) فما كانوا عليه شيء غير الزهد، بل هو أعلى من الزهد، غير أن ضيق المجال في البيان يلجؤنا الى تسميته بالزهد، تنظيراً له بما نعرفه من نفائس هذا الوجود ومن الإعراض عنها.

فلا نستكبر بعد أن نعرف هذا عن محمّد وعترته ما يرويه أهل الحديث والسيرة والتأريخ عن صادقهم أنه كان يلبس الجبّة الغليظة القصيرة من الصوف على جسده والحلّة من الخزّ على ثيابه، ويقول: نلبس الجبّة للّه والخزّ لكم(٢) .

أو يُرى وعليه قميص غليظ خشن تحت ثيابه، وفوقه جبَّة صوف، وفوقها قميص غليظ.

أو يُطعم ضيفه اللحم ينتفه بيده، وهو يأكل الخلّ والزيت ويقول: إِن هذا

____________________

(١) القرظ: ورق السلم، والجلم: ما يجزّ به.

(٢) لواقح الأنوار للشعراني عبد الوهاب بن أحمد الشافعي: ١/٢٨، ومطالب السؤل.

٢٠٤

طعامنا وطعام الأنبياء(١) الى أمثال ذلك من مظاهر الزهد.

إِن من قبض عنان نفسه بيده وتجرّد عن هذه الفتن الخدّاعة في هذه الحياة، واتجه بكلّ جوارحه لرضى خالقه يستكثر منه اذا روت الثقات عنه هذا وأشباهه.

وما كان غريباً ما يُروى من دخول سفيان الثوري(٢) عليه، وكان على الصادقعليه‌السلام جبَّة من خز، وقول سفيان منكراً عليه: إِنكم من بيت نبوَّة تلبسون هذا، وقول الصادقعليه‌السلام : ما تدري أدخِل يدك، فاذا تحته مسح من شعر خشن، ثمّ قالعليه‌السلام : يا ثوري أرني ما تحت جبّتك، فإذا تحتها قميص أرقّ من بياض البيض، فيخجل سفيان ثمّ يقول له الصادقعليه‌السلام : يا ثوري لا تكثر الدخول علينا تضرّنا ونضرّك(٣) .

وأمثال هذا ممّا روي عنه جمّ كثير، نحن في غنى عن سرده، فإنَّ سادات أهل البيت أعلى كعباً، وأرفع شأناً، من أن تحسب مثل هذه الشؤون فضائلهم الجليلة.

وأمّا سفيان فجدير بالامام ألا يرغب في دنوّه مادام يخالفه في رأيه وسيره وعمله وعلمه، وأمّا الضرر على الامام وعليه من دخوله على الامام، فلأن السلطان قد وقف للإمام بالمرصاد، لا يريد أن يظهر له شأن ولا أن يكثر عليه التردّد، فالدخول عليه يجعل الإمام معرّضاً للخطر، ويجعل الداخل معرّضاً للأذى، لا سيّما اذا كان الداخل ذا شأن ومقام بين الناس كسفيان الثوري.

____________________

(١) الكافي: ٦/٣٢٨/٤.

(٢) هو سفيان بن سعيد بن مسروق الكوفي الشهير وله رواية عن الصادقعليه‌السلام ولد أيّام عبد الملك، ومات بالبصرة عام ١٦١.

(٣) لواقح الأنوار ومطالب السؤل وحلية الأولياء: ٣/١٩٣ وقد روي إِنكاره على الإمام حسن بزّته من طرق عديدة وفي كيفيّات عديدة، ولعلّها كانت متعدّدة، فلا يمتنع في الثانية بعد جوابه في الاُولى، وممّن روى ذلك أبو نعيم في حلية الأولياء: ٣/١٩٣ وقد ذكرنا مناظرة الصادقعليه‌السلام الطويلة في الزهد مع سفيان وجماعته في اُخريات حياته العلميّة.

٢٠٥

كراماته

إِن اللّه تعالى أراد بخلقه لخلقه أن يعرفوه، ومن معرفته أن يعبدوه( وما خلقتُ الجنّ والإنس إِلا ليعبدون ) (١) وكانت مخلوقاته آية وجوده، وجمال الصنع، واتصال التدبير دلالة وحدانيّته، وجعل من أنفسهم مرشداً الى ذلك كلّه، وهو العقل.

غير أن العقل لا يهتدي بنفسه الى كيفيّات عبادته، وخصوصيّات طاعته، لأن ذلك لا يعلم إِلا من قِبله تعالى، ومن ثم وجب عليه تعالى - حين أراد منهم عبادته - أن يرسل اليهم من يدلّهم على ما أراد، ويعرّفهم ما أوجب.

ولا يصحّ للعقل أن يصدّق دعوى كلّ من يدَّعي النبوّة من دون بيّنة ومُعجز، فكان على الأنبياء أن يأتوا بالبرهان على تلك الدعوى، ولا نعرف أن المدَّعي نبيّ مُرسَل إِذا لم تكن لديه حُجَّة بالغة، بل شأن اكثر الناس الجحود والإنكار مع الآيات والدلالات، فكيف إِذا لم تكن آية أو دَلالة، فإن لم تكن لتلك الدعوى حُجَّة كانت الحُجَّة على رفضها قائمة بل هي تخصم نفسها بنفسها.

____________________

(١) الذاريات: ٥٦.

٢٠٦

ما الآية؟

جدير بهذا السؤال العناية والنظر، لأن تصديق النبوّة متوقّف على صحّة الآية.

وإِخال أن الجواب عنه سهل جدّاً، نظراً الى ما جاء في الكتاب المنير من استطراد آيات الأنبياء والرسل، فإنك اذا نظرت الى آية موسى وهي اليد البيضاء والعصا، وآية عيسى وهي إِبراء الأكمه والأبرص وإِحياء الموتى وخلق الطير، وآية محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهي القرآن نفسه، لعرفت أن آيات الأنبياء ما يعجز البشر بما هو بشر وبما له من علم وقوّة عن الإتيان بمثلها، ومَن الذي يقدر بعلمه وقوّته وقدرته أن يجعل النار برداً وسلاماً، ويقطّع الطير أجزاء ويفرّقها على الجبال فيدعوها فتأتي اليه فتأتلف بيده بعد ما كانت أجزاء متفرّقة ويجعل يده بيضاء من غير سوء متى أراد، وعصاه حيّة تسعى تلقف ما يأفك الساحرون، ويبرئ الأكمه والأبرص، ويحيي الموتى، ويجعل من الطين كهيئة الطير فينفخ فيه فيكون طيراً، ويجاري القرآن في خصوصيّاته أجمع، الى غير ذلك من آيات الأنبياء التي نطق بها القرآن الحكيم.

وبذلك تعرف الفارق بين المعجزة والسحر، وبينها وبين هذه الصناعة في هذا العصر، لأن المعجزة ما جرت على غير النواميس الطبيعيّة، غير أن الشيء المعجز لا بدّ أن يكون في نفسه ممكناً ذاتيّاً لأن المحال لا يقع، ولا تجري المعجزة إِلا على أيدي أفذاذ من البشر عند الدعوة اليه تعالى، والدلالة عليه سبحانه، لأن المفروض أنها فوق مستوى قدرة البشر فلا تكون إِلا من موهبة من اللّه تعالى يمنحها من يشاء من عباده المقرَّبين.

وأمّا السحر فإنما هو فنّ يقوى عليه كلّ أحد اذا تعلّمه إِذ هو تخييل وتضليل، وليس له واقع وحقيقة.

وأمّا الصناعة فإنما هي أيضاً علم تجري على النواميس الطبيعيّة، يقوى عليها مَن تعلّمها، ويعرف طبائع الأشياء وتركيبها.

٢٠٧

ولربّما يقال: إِن العلم يرفض المعجز اذا كان جارياً على غير النواميس الطبيعيّة، لأن به جرياً على غير الأسباب العاديّة، وكيف يمكن أن تجري الاُمور على غير أسباب اعتياديّة، والجواب عنه من وجوه:

١ - إِن القرآن صريح بإتيان الأنبياء بتلك الآيات الخارقة للعادة الجارية على غير النواميس الطبيعيّة، مثل سلامة إِبراهيم من النار، وإِتيان الطيور له بعد تقطيعها، وجعل موسى يده بيضاء من غير سوء وعصاه حيَّة تسعى، وإِبراء عيسى الأمراض التي عجز الطبّ عن إِبرائها كالأكمه والأبرص وأعظم منه إِحياؤه الموتى، وخلقه الطير، الى ما سوى هذه الآيات، وما قيمة العلم اذا خالف صريح القرآن، بل لا يكون هذا علماً صحيحاً لوجود الخطأ في بعض مقدّماته.

٢ - إِن هذه الآيات إِن كانت ممكنة في حدّ ذاتها فلأيّ شيء نجحدها وهي غير مستحيلة، مع أن الحاجة ماسّة اليها، وقدرة اللّه تعالى شاملة لا يشوبها نقص ولا عجز، إِنه على كلّ شيء قدير.

نعم إِنما نمنع الأشياء المستحيلة بالذات والعرض كإيجاده لشريك له، وجمعه بين النقيضين والضدّين، وجعله الدنيا على كبرها في البيضة على صغرها، لأن المحلّ غير صالح، فالنقص من جهة المقدور لا من جهة القدرة، وأمّا مثل تكلّم الحصا وانشقاق القمر ومشي الشجر، وما ضارع هذا، فلا مانع فيه من جهة المحلّ وقابليّته، ولا من جهة القدرة منه تعالى عليه.

٣ - اذا أحلنا هذه الآيات عليه تعالى، فأيّ شيء يكون المصدق لدعوى الأنبياء النبوّة، واذا جازت النبوّة بلا دليل فكلّ أحد يمكن أن يدّعيها، فأيّ فرق إِذن بين النبيّ الصادق وبين النبيّ الكاذب.

واذا قيل: إِن النبوغ والذكاء والفصاحة والعلم والأمانة والصدق اذا كانت متوفّرة في مُدَّعي النبوَّة على الوجه الأكمل الذي يمتاز به عن سائر البشر كافية في تصديق دعوى النبوَّة منه.

فإنّا نقول: إِن اكثر الناس لا يقيم وزناً لهذه الاُمور، بل لا يستطيع تمييزها فيمن هي فيه حقّ التمييز، فضلاً أن يعرف أنها موجودة في النبي على الوجه الأكمل فلا بدّ من ظهور شيء محسوس على يده يعجز عنه البشر يكون قاطعاً لعذرهم وبرهاناً نيّراً يستوي في الخضوع له وإِدراكه العالم والجاهل والنبيه والعاقل.

٤ - لماذا يمنع العلم عن الاُمور الجارية على غير النواميس الطبيعيّة ؟ أليس خالق النواميس العاديّة وغير العاديّة واحداً ؟ ومن اقتدر على إجراء الاُمور بأسبابها العاديّة يقتدر على إِجرائها بأسباب فوق مستوى قدرتنا وعلمنا.

٢٠٨

واذا نظرنا بعض مصنوعاته تعالى وجدناها جارية على غير نواميس العادة وذلك في بدء الخلقة فإنه ما النواميس الطبيعيّة في صنعة آدم وحواء وابتداء خلق السّموات والأرضين والأشجار والأنهار والمعادن والفلزّات وما سواها فإنه خلقها لا من شيء سبق، ولا على مثال احتذاه، واذا كان ناموسها الطبيعي هو تلك العناصر التي كان منها تركيبها، فما كان الناموس الطبيعي لخلق تلك العناصر أنفسها.

نعم إِنما صرنا نتطلّب النواميس الطبيعيّة في المصنوعات لما اعتدناه في الخليقة من جريانها مستمرّة على تلك النواميس، ولكن ذلك لا يجب في كلّ شيء ما دام خالق النواميس على غير النواميس موجوداً، وكانت له في خلقها على غير النواميس الحجّة على عباده والإرشاد على اُلوهيّته وقدرته ونبوَّة رُسُله. بيَد أننا نحتاج الى تصديق تلك الآيات التي جرت على غير العادة في الأسباب مع إِمكانها الى المشاهدة مع الحضور، والى صحّة النقل مع الغيبة.

وهذه الآيات والكرامات كما تكون للأنبياء تكون لأوصيائهم بذلك الغرض الذي دعا الأنبياء الى الإتيان بها، فإن إِرسال الأنبياء ما كان إِلا لإرشاد الناس الى معرفة الخالق جلّ شأنه والى عبادته، وإِن نصب الأوصياء ما كان إِلا لدلالة على تلك المعرفة، والإشارة الى الصحيح من تلك العبادة، فالحجّة إِذن كما تدعو الى المعجزة في النبي تدعو اليه في الامام الوصي.

ولا فرق في المعجز عند الحاجة اليه في الإمكان عليه بين إحياء الموتى وخلق الطير وبين إِنطاق الحجر والشجر، ولا بين غيرهما ممّا هو أقلّ شأناً لأن القدرة منه تعالى على الجميع واحدة، ولا فرق لديه سبحانه في الخلق بين الذرَّة والطود ولا بين السّموات والحشرات، فلا ينبغي لذي بصر أو بصيرة أن يستنكر أمثال إِحياء الأموات وجعل التراب ذهباً والإخبار عن الغيب من الأنبياء والأوصياء بعد ثبوت النبوّة والإمامة الإلهيّتين، في حين أنه لا يستنكر منهم إِنباط الماء وإِنزال الغيث وإِطعام الناس العنب لغير أوانه وأشباه ذلك، وما هما إِلا واحد في القدرة، وسواء في الإمكان وسيّان عند الحاجة.

فالصادقعليه‌السلام اذا كان إِماماً معصوماً منصوباً منه تعالى لتنفيذ شريعة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وجب عليه الدلالة علي إِمامته بالمعجز عند الحاجة اليه، وعند الأمن من الخطر، كما وجب على النبي عند الدعوة، هذا عند الإماميّة، وأمّا أهل السنّة فالصادق لديهم من العترة الطاهرة الذي جمع الفضائل كلّها، كما أفصحت به كلماتهم، ورويناه عنهم في عنوان - من هو الصادق - ص ٧١، فلا غرابة لديهم لو ظهرت له الآيات والكرامات بل لقد رووها عنه وآثروا نقلها، فلا بدع إِذن لو استطردنا من كراماته ومناقبه ما ينبيك عن علوّ مقامه وسموّ منزلته لديه جلّ شأنه.

٢٠٩

ولقد ذكر له صاحب مدينة المعاجز ما ينوف على ثلاثمائة كرامة ومنقبة وها نحن اُولاء نذكر شيئاً ممّا روته الكتب الجليلة والمؤلّفات القيّمة، وما اتفق على الكثير منها الفريقان، وتسالمت عليه الفِرقتان.

دعاؤه المجاب

يقول الصبّان في «إسعاف الراغبين»: وكان مُجاب الدعوة اذا سأل اللّه شيئاً لا يتمّ قوله إِلا وهو بين يديه، ويقول الشعراني في «لواقح الأنوار»: وكان سلام اللّه عليه اذا احتاج الى شيء قال: يا ربّاه أنا محتاج الى كذا فما يستتمّ دعاؤه إِلا وذلك الشيء بجنبه موضوع.

وهذا القول منهما لا يدلّ على استجابة دعائه فحسب بل وعلى سرعة الإجابة، حتّى لكأنَّ المسؤول عنه كان الى جنبه أو بين يديه، وما كان جزم هؤلاء المؤلّفين بإجابة دعائه بسرعة الإجابة إِلا لكثرة ما تناقلته الطروس والسطور وحفظته الصدور من ذلك، حتّى صار لديهم شيئاً محسوساً وأمراً معلوماً.

وممّا ذكروه لهعليه‌السلام ما كان من قصد المنصور له بالقتل مراراً عديدة، فيحول اللّه تعالى بينه وبين ما عزم عليه ببركة دعائه، بل ينقلب حاله الى ضدّ ما نواه وعزم عليه، فينهض لاستقباله ويبالغ في إِكرامه(١) .

ومن ذلك: أن الحكم بن العبّاس الكلبي قال:

صلبنا لكم زيداً على جذع نخلة

ولم نَر مهديّاً على الجذع يُصلب

وقستم بعثمان عليّاً سفاهة

وعثمان أزكى من عليّ وأطيب

____________________

(١) المناقب: ٤/٢٣١ انظر في ذلك نور الأبصار للشبلنجي، وتذكرة الخواص للسبط، ومطالب السؤل لابن طلحة الشافعي، والفصول المهمّة لابن الصبّاغ المالكي، والصواعق المحرقة لابن حجر، وينابيع المودّة للشيخ سليمان عند استطرادهم لأحوال الصادقعليه‌السلام ، الى كثير سواهم، وقد ذكرنا ذلك مفصّلاً في محلّه.

٢١٠

ولمّا بلغ الصادق ذلك غصب ودعا عليه، فقال: اللّهمّ سلِّط عليه كلباً من كلابك يأكله، فبعثه بنو اُميّة الى الكوفة فافترسه الأسد في الطريق(١) .

ولمّا كان داود بن علي العبّاسي والياً على المدينة من قِبل المنصور بعث على المعلّى بن خنيس مولى الصادقعليه‌السلام فقتله، ولم يقنع بذلك حتّى أراد السوء مع الامام، فغضب الامام لذلك ودعا على داود حتّى سمعوه يقول: الساعة الساعة، فما استتمّ دعاؤه حتّى سمعت الصيحة في دار داود وقالوا: إِنه مات فجأة(٢) .

ومن دعائه المستجاب ما حدّث به الليث بن سعد(٣) قال: حججت سنة ١١٣، فلما صلّيت العصر رقيت أبا قبيس فإذا رجل جالس يدعو فقال: يا ربّ يا ربّ حتّى انقطع نفسه، ثمّ قال: يا حيّ يا حيّ يا حيّ حتّى انقطع نفسه، ثمّ قال: إِلهي أشتهي العنب فأطعمنيه، وإِن بُردي قد خلقا فاكسني، قال الليث: فما تمّ كلامه حتّى نظرت الى سلّة مملوءة عنباً، وليس على الشجر يومئذٍ عنب، واذا ببُردين لم أرَ مثلهما، فأراد الأكل فقلت أنا شريكك لأنك دعوت وأنا اُؤمّن، قال: كل ولا تخبئ ولا تدّخر، ثمّ دفع إِليّ أحد البُردين، فقلت: لي عنه غنى، فاتّزر بأحدهما وارتدي بالآخر، ثمّ أخذ الخلقين ونزل، فلقيه رجل فقال: اكسني يا ابن رسول اللّه، فدفعهما إِليه فقلت: مَن هذا، قال: جعفر الصادق(٤) وفي رواية مطالب السؤل: فتقدّمت فأكلت شيئاً لم آكل مثله قط،

____________________

(١) نور الأبصار، والصواعق، والفصول، والمناقب: ٤/٢٣٤.

(٢) المصادر المتقدمة، والمناقب: ٤/٢٣٠.

(٣) الخزاعي من فقهاء الجمهور روى عن سعيد بن جبير وأضرابه، ولم تُعرف له رواية عن الصادقعليه‌السلام على أنه شاهد منه هذه الكرامة الكبرى، وكم روى عنه من أقرانه خلق كثير.

(٤) إِسعاف الراغبين، ومطالب السؤل، والصواعق، وكشف الغمّة، وصفوة الصفوة، والمناقب: ٤/٢٣٣.

٢١١

واذا عنب لا عجم(١) له فأكلت حتّى شبعت والسلّة لم تنقص.

أقول: إِن هذه الكرامة كانت منه على عهد أبيه الباقرعليه‌السلام قبل رجوع الإمامة اليه لأن وفاة الباقر كانت عام ١١٤، أو عام ١١٧.

وكانت الناس تستشفع بدعائه لما تجد فيه من الإجابة، وهذه حبابة الوالبيّة دخلت عليه وهي من فاضلات النساء، فسألته عن مسائل في الحلال والحرام فتعجّب الحضور من تلك المسائل، لأنهم ما رأوا سائلاً أحسن منها، ثمّ سالت دموعها، فقال الصادقعليه‌السلام : ما لي أرى عينيك قد سالت، قالت: يا ابن رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم داء قد ظهر بي من الأدواء الخبيثة التي كانت تصيب الأنبياءعليهم‌السلام والأولياء، وأن أهل قرابتي وأهل بيتي يقولون: قد أصابتها الخبيثة، ولو كان صاحبها كما قالت مفروض الطاعة لدَعا لها، وكان اللّه يذهب عنها، وأنا واللّه سررت بذلك، وعلمت أنه تمحيص وكفّارات، وأنه داء الصالحين، فقال لها الصادقعليه‌السلام : وقد قالوا: أصابك الخبيثة ؟ قالت: نعم يا ابن رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فحرَّك شفتيه بشيء فلا يُدرى أفي دعاء كان، فقال: ادخلي دار النساء حتّى تنظري الى جسدك، فدخلت وكشفت عن ثيابها فلم تجد في صدرها ولا جسدها شيئاً فقال: اذهبي الآن وقولي لهم: هذا الذي يتقرّب الى اللّه بإمامته(٢) .

وحبابة هذه هي ابنة جعفر الأسدي، والوالبيّة نسبة الى بني والبة بطن من أسد، وهي صاحبة الحصاة التي طبع فيها أمير المؤمنينعليه‌السلام علامة للإمامة، وعمّرت حتّى أدركت الرضاعليه‌السلام وماتت في أيّامه وكفّنها في قميصه، ولم تكن هذه الكرامة الاُولى التي شاهدتها من أئمّة أهل البيت، بل جاءت الى الحسينعليه‌السلام وبها برص فعوفيت منه والى السجّادعليه‌السلام وهي تعدّ يومئذٍ ١١٣ عاماً وقد بلغ بها الكبر حتّى أرعشت فرأته راكعاً وساجداً فيئست من الدلالة فأومأ اليها بالسبابة فعاد اليها شبابها، ولمّا جاءت الى الرضا أعادَ عليها شبابها في رواية، ولكنها اختارت الموت فماتت في داره.

____________________

(١) العجم: النوى.

(٢) بحار الأنوار: ٤٧/١٢١/١٦٩ عن كتاب طبّ الأئمة، وكتاب طبّ الأئمة من جمع عبد اللّه أبي عتاب وأخيه الحسين ابني بسطام الزيّات، وقيل في حقّ الكتاب أنه جمعا في الطبّ على طريقة الطبّ في الأطعمة وفوائدها والرقى والعوذ، وهو كثير الفوائد والمنافع.

٢١٢

وجاءته امرأة اُخرى فقالت له: جعلت فداك، أبي واُمّي وأهل بيتي نتولاكم، فقال: صدقتِ فما الذي تريدين ؟ قالت: جُعلت فداك يا ابن رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أصابني وضح(١) في عضدي فادع اللّه أن يذهبه عنّي فقالعليه‌السلام :

اللّهمّ إِنك تبرئ الأكمه والأبرص وتحيي العظام وهي رميم، ألبسها عفوك وعافيتك ما ترى أثر إِجابة دعائي، فقالت المرأة: واللّه لقد قمت وما بي منه قليل ولا كثير(٢) .

وقال بكر بن محمّد الأزدي(٣) : عرض(٤) لقرابة لي ونحن في طريق مكّة، فلّما صرنا الى أبي عبد اللّهعليه‌السلام ذكرنا ذلك له وسألناه الدعاء له ففعل، قال بكر: فرأيت الرجل حيث عرض له، ورأيته حيث أفاق(٥) .

____________________

(١) برص.

(٢) أمالي الشيخ الطوسي: المجلس / ١٤.

(٣) روى عن الصادق والكاظم والرضاعليهم‌السلام وهو من ثقات الرواة وروى عنه الكثير منهم.

(٤) أصابه جنون.

(٥) بحار الأنوار: ٤٧/١٢٢/١٧٠ عن قرب الاسناد، وهو لأبي جعفر محمّد بن عبد اللّه بن جعفر الحميري القمّي طاب ثراه، وهو من وجوه الأصحاب وثقاتهم، وقد كاتب صاحب الأمر عجّل اللّه فرجه وسأله مسائل في أبواب الشريعة، وله اخوة وهم جعفر وأحمد والحسين وكلّ منهم له مكاتبة، وقيل إِن الكتاب لأبيه.

٢١٣

وجاءه شيخ وهو تحت الميزاب في البيت ومعه جماعة من أصحابه فسلّم عليه، ثمّ قال: يا ابن رسول اللّه إِني احبّكم أهل البيت وأبرأ من عدوّكم وإِني بُليت ببلاء شديد، وقد أتيت البيت متعوّذاً به ممّا أجد، ثمّ بكى واكبّ على الصادق يقبّل رأسه ورجليه والصادق يتنحّى عنه فرحمه وبكى، ثمّ قال: هذا أخوكم وقد أتاكم متعوّذاً بكم فارفعوا أيديكم، فرفع الصادق يديه ورفع القوم أيديهم، ثمّ قال: اللّهم إِنك خلقت هذه الأنفس من طينة أخلصتها، وجعلت منها أولياءك وأولياء أوليائك، وإِن شئت أن تنحي عنهم الآفات فعلت، اللّهمّ وقد تعوّذنا ببيتك الحرام الذي يأمن به كلّ شيء وقد تعوّذ بنا، وأنا أسألك يا من احتجب بنوره عن خلقه أسألك بحقّ محمّد وعليّ وفاطمة والحسن والحسين يا غاية كلّ محزون وملهوف ومكروب ومضطرّ مبتلى أن تؤمنه بأماننا ممّا يجد، وأن تمحو من طينته ممّا قدّر عليها من البلاء، وأن تفرّج كربته يا أرحم الراحمين، فلما فرغ من الدعاء انطلق الرجل فلمّا بلغ باب المسجد رجع وبكى، ثمّ قال: اللّه أعلم حيث يجعل رسالته، واللّه ما بلغت باب المسجد وبي ممّا أجد قليل ولا كثير(١) .

واستحال وجه يونس بن عمّار(٢) الى البياض فنظر الصادقعليه‌السلام الى جبهته فصلّى ركعتين، ودعا ببعض الدعوات فما خرج من المدينة حتّى ذهب ما كان بوجهه من البياض(٣) .

____________________

(١) بحار الأنوار: ٤٧/١٢٢/١٧٠.

(٢) الصيرفي الكوفي وهو أخو إِسحاق وإِسماعيل الثقتين، ولربّما عدّ يونس أيضاً في الثقات.

(٣) مناقب ابن شهراشوب: ٤/٢٣٢.

٢١٤

وقال طرخان النخاس(١) : مررت بأبي عبد اللّهعليه‌السلام وقد نزل الحيرة، فقال: ما علاجك ؟ قلت: نخّاس، قال: اصب لي بغلة فضخاء، قلت: جُعلت فداك وما الفضخاء ؟ قال: دهماء بيضاء البطن بيضاء الأفخاذ بيضاء الجحفلة(٢) فقلت: واللّه ما رأيت مثل هذه الصحيفة، فرجعت من عنده فساعة دخلت الخندق اذا أنا بغلام قد أسقى بغلة على هذه الصفة، فسألت الغلام: لمن هذه البغلة ؟ قال: لمولاي، قلت يبيعها ؟ قال: لا أدري، فتبعته حتّى أتيت مولاه فاشتريتها منه وأتيته فقلت: هذه الصفة التي أردتها جُعلت فداك ادع اللّه لي، فقال: اكثر اللّه مالك وولدك، قال: فصرت من اكثر أهل الكوفة مالاً وولداً(٣) .

وسأله حمّاد بن عيسى(٤) أن يدعو اللّه بأن يرزقه ما يحجُّ به كثيراً وأن يرزقه ضياعاً حسنة وداراً حسنة وزوجة من أهل البيوتات صالحة وأولاداً أبراراً، فدعا له الصادقعليه‌السلام بما طلب، وقيّد الحجّ بخمسين حجّة، فرزقه اللّه جميع ما سأله، وحجَّ خمسين حجّة، ولمّا ذهب في الواحدة والخمسين وانتهى الى وادي الجحفة - بين مكّة والمدينة - جاء السيل فأخذه فأخرجه غلمانه ميّتاً، فُسمّي حمّاد غريق الجحفة(٥) .

وقال زيد الشحّام(٦) : إِني لأطوف حول الكعبة وكفّي في كفّ أبي عبد اللّهعليه‌السلام ، فقال - ودموعه تجري على خدّيه -:

____________________

(١) النخاس: بيّاع الرقيق وبيّاع الدواب ودلالها.

(٢) بتقديم الجيم المعجمة على الحاءالمهملة، وهي لذوات الحافر كالشفّة للانسان.

(٣) بحار الأنوار: ٤٧/١٥٢/٢٠٠.

(٤) الجهني البصري، وكان من ثقات أصحاب الصادق والكاظمعليهما‌السلام .

(٥) الخرائج والجرائح: ص ٢٧١.

(٦) سنذكره في المشاهير من ثقات رواته.

٢١٥

يا شحّام ما رأيت ما صنع ربي إِليّ، ثمّ بكى ودعا، ثمّ قال: يا شحّام إِني طلبت الى إِلهي في سدير وعبد السلام بن عبد الرحمن(١) وكانا في السجن فوهبهما لي وخلّى سبيلهما(٢) .

وسجن المنصور عبد الحميد(٣) فأخبروا الصادقعليه‌السلام بذلك وهو في الموقف بعد صلاة العصر، فرفع يديه ساعة، ثمّ التفت الى محمّد بن عبد اللّه(٤) . وقالعليه‌السلام : قد واللّه خلّى سبيل صاحبك، قال محمّد: فسألت عبد الحميد أيّ ساعة خلاك أبو جعفر المنصور ؟ قال: يوم عرفة بعد العصر(٥) .

وهذه الكرامة الجليلة جمعت بين استجابة دعائه وإِعلامه عن الإفراج عن عبد الحميد، كسابقتها.

هذه بعض دعواته المستجابة التي سجّلتها الكتب، وحفظتها الرُّواة، وما كانت دعواته إِلا لخير الناس، نعم قد يدعو على أحد اذا كان في ذلك صلاح وإِلا فإنّه الحليم الأوّاه الذي لاقى من أعدائه أذىً تسيخ عن حمله متون الرواسي ولم يَدع على واحد منهم، اللّهمّ إِلا على داود بن علي والحَكم الكلبي لأمر هو أعرف به، كما دعا على بعض غلمان زمزم.

كان أبو عبد اللّهعليه‌السلام ومعه بعض أصحابه يتغذّون فقال لغلامه: انطلق وآتنا بماء زمزم، فانطلق الغلام فما لبث أن جاء وليس معه ماء، فقال:

____________________

(١) سنذكرهما أيضاً في المشاهير.

(٢) الكشي: ص ١٣٨.

(٣) الظاهر أنه ابن أبي العلاء الأزدي السمين الكوفي، وفي رواية كشف الغمّة التصريح به، وهو من أصحاب الصادقعليه‌السلام وثقات رواته.

(٤) مشترك بين كثيرين، ولا يبعد أن يكون هاشميّاً وهو أيضاً فيهم كثير.

(٥) مناقب ابن شهراشوب: ٢/٣٦٠.

٢١٦

إِن غلاماً من غلمان زمزم منعني الماء وقال: أتريد الماء لاله العراق، فتغيّر لون أبي عبد اللّهعليه‌السلام ورفع يده عن الطعام وتحرّكت شفتاه، ثمّ قال للغلام: ارجع فجئنا بالماء، ثمّ أكل فلم يَلبث أن جاء الغلام بالماء وهو متغيّر اللون، فقال: ما وراك ؟ فقال: سقط ذلك الغلام في بئر زمزم فتقطّع وهم يخرجونه، فحمد اللّه عليه(١) .

وأرسل غلامه مرَّة الى بئر زمزم ليأتيه بالماء ثمّ سمعوه يقول: اللّهمّ اعمِ بصره، اللّهمّ أخرس لسانه، اللّهم أصم سمعه، فرجع الغلام يبكي، فقال: ما لَكَ ؟ قال: إِنَّ فلاناً القرشي ضربني ومنعني من السقاء، قال: ارجع فقد كفيته، فرجع وقد عُمي وصُمَّ وخرُس وقد اجتمع عليه الناس(٢) .

إِعلامه عن الحوادث

كم أعلمَعليه‌السلام عن حادثة وقعت بعد حين، وعن أمر حدث كما أخبر عن مُلك بني العبّاس مراراً قبل أن يكون، جاءه أبو مسلم الخراساني وناجاه سرّاً بالدعوة له، وأعلمه أنّ خلقاً كثيراً أجابوه، فقال له الصادقعليه‌السلام : إِن ما تؤمي اليه غير كائن لنا حتّى يتلاعب بها الصبيان من وُلد العبّاس، فمضى الى عبد اللّه بن الحسن فدعاه، فجمع عبد اللّه أهل بيته وَهَمَّ بالأمر، ودعا أبا عبد اللّهعليه‌السلام للمشاورة، فلما حَضر جلس بين السفّاح والمنصور، وحين استُشير ضرب على منكب السفّاح، فقال: لا واللّه أو يملكها هذا أوّلاً، ثمّ ضرب بيده الاُخرى على منكب المنصور وقال: وتتلاعب بها الصبيان من وُلد هذا، ووثب

____________________

(١) بحار الأنوار: ٤٧/٩٨/١٥، الخرائج والجرائح لقطب الدين سعد اللّه بن هبة اللّه الراوندي، وكان من العلماء المتبحّرين والفقهاء المحدّثين ومن تآليفه شرح النهج وكانت وفاته في شوال عام ٥٧٣.

(٢) بحار الأنوار: ٤٧/١٠٨/١٣٩.

٢١٧

وخرج من المجلس(١) .

ودعاه عبد اللّه بن الحسن مرّة اُخرى للبيعة لابنه محمّد، فقال له: إِنَّ هذا الأمر واللّه ليس لك ولا لابنيك، وإِنمّا هو لهذا - يعني السفّاح - ثمّ لهذا - يعني المنصور - ثمّ لولده من بعده، ولمّا خرج تبعه أبو جعفر فقال: أتدري ما قلت يا أبا عبد اللّه ؟ قالعليه‌السلام : اي واللّه أدريه وأنّه لكائن(٢) وما اكثر ما أنبأ عن مُلك بني العبّاس.

كما أخبر عن مقتل محمّد وإِبراهيم ابني عبد اللّه بن الحسن في مواطن عديدة، فقد قال يوماً: مروان خاتم بني اُميّة، وإِن خرج محمّد بن عبد اللّه قُتل(٣) .

وقال لمحمّد يوماً وقد فاخره: فكأني أرى رأسك وقد جيء به ووضع على حجر بالزنابير، يسيل منه الدم الى موضع كذا وكذا، فصار محمّد إِلى أبيه فأخبره بمقالة الصادقعليه‌السلام فقال أبوه: آجرني اللّه فيك، إِن جعفراً أخبرني أنك صاحب الزنابير(٤) .

وأخبر بذلك يوماً اُمّ الحسين بنت عبد اللّه بن محمّد بن علي بن الحسينعليهم‌السلام وقد سألته عن أمر محمّد فقالعليه‌السلام : فتنة يقتل فيها محمّد عند بيت رومي، ويقتل أخوه لاُمّه وأبيه بالعراق، وحوافر فرسه في الماء(٥) .

____________________

(١) كتاب الوصيّة للمسعودي: ص ١٤١.

(٢) مقاتل الطالبيّين في تسمية المهدي: ٢٥٥ - ٢٥٦، بحار الأنوار: ٤٧/١٣١.

(٣) كتاب الوصيّة.

(٤) أعلام الورى للطبرسي طاب ثراه: ٢٦٩، وهو الفضل بن الحسن بن الفضل من أعيان علماء الاماميّة وهو صاحب مجمع البيان في تفسير القرآن الذي لم يؤلّف مثله، وله مؤلّفات اُخر جليلة، توفي ليلة النحر في سبزوار عام ٥٤٨.

(٥) المقاتل في تسمية المهدي.

٢١٨

وقال لعبد اللّه بن جعفر بن المسور(١) : أرأيت صاحب الرداء الأصفر - يعني أبا جعفر ؟ - قلت: نعم، قالعليه‌السلام : فإنّا واللّه نجده يقتل محمّداً، قلت: أوَيقتل محمّد ؟ - قال: نعم، قلت في نفسي: حسده وربّ الكعبة، ثمّ ما خرجت واللّه من الدنيا حتّى رأيته قُتل.

وأخبر بذلك أباهما عبد اللّه بن الحسن وقال له: إِن هذا - يعني المنصور - يقتل محمّداً على أحجار الزيت، ثمّ يقتل أخاه بعده بالطفوف(٢) وقوائم فرسه في الماء(٣) .

فكان كلّ ما أخبر به من أمر العبّاسيّين ومحمّد وإِبراهيم قد وقع لم يفلت منه شيء.

وأخبر شعيب بن ميثم(٤) بدنوّ أجله معرضاً به، قال له أبو عبد اللّهعليه‌السلام : يا شعيب ما أحسن بالرجل يموت وهو لنا ولي ويعادي عدوّنا، فقال له شعيب: واللّه إِني لأعلم أن من مات على هذا أنه لعلى حال حسنة، قالعليه‌السلام : يا شعيب أحسن الى نفسك، وصِل قرابتك، وتعاهد إِخوانك، ولا تستبدل بالشيء تقول: أدّخر لنفسي وعيالي، إِن الذي خلقهم هو الذي يرزقهم، قال شعيب: قلت في نفسي نعى إِليَّ واللّه نفسي، فما لبث بعد ذلك إِلا شهراً فمات(٥) .

____________________

(١) الظاهر أنه المخرمي نسبة الى جدّه مخرمة أب المسور، وعدّوه في أصحاب الصادقعليه‌السلام ، الخرائج والجرائح: ص ٢٤٤.

(٢) جمع طف: الشاطي.

(٣) المقاتل في تسمية المهدي: ٢٥٥ - ٢٥٦.

(٤) التمّار: وهو من أصحاب الصادقعليه‌السلام وقد كتبنا عنه في رسالتنا في ميثم التمّار ص ٧٨.

(٥) بحار الأنوار: ٤٧/١٢٦، المناقب: ٣/٣٥٠.

٢١٩

وأخبر أيضاً إِسحاق بن عمّار الصيرفي الثقة الجليل بأنه سيموت في شهر ربيع، وذلك أن إِسحاق قال للصادقعليه‌السلام يوماً: إِن لنا أموالاً ونحن نعامل الناس، وأخاف إِن حدث أن تفرّق أموالنا، فقالعليه‌السلام : إِجمع أموالك في شهر ربيع، فمات إِسحاق في شهر ربيع(١) .

وأخبر عن قتل مولاه المعلّى بن خنيس، الذي قتله داود بن علي قبل أن يقتله بسنة وأخبر بجميع ما يجري عليه(٢) .

وسأل أبا بصير عن أبي حمزة الثمالي فقال: خلفته صالحاً، قالعليه‌السلام : إِذا رجعت اليه فاقرأه السلام واعلمه أنه يموت كذا من شهر كذا، قال أبو بصير: فرجعت، فما لبث أبو حمزة أن مات في تلك الساعة من ذلك اليوم(٣) .

ولمّا بلغه خبر قتل زيد وصلبه وهرب ابنه يحيى الى خراسان واجتماع الناس عليه، قالعليه‌السلام : إِنه يُقتل كما قُتل أبوه ويُصلب كما صُلب أبوه، فقُتل بالجوزجان وصُلب(٤) .

هذا بعض إِعلامه عن حوادث لم تقع فوقعت كما أعلَم، وأمّا إِعلامه عن حوادث وقعت فما أوفرها، وهاك شيئاً منها:

وقع شجار بين مهزم بن أبي بريدة الأسدي الكوفي - وهو من رواة الامامعليه‌السلام - وبين اُمّه، وقد جاء بها حاجّاً، وكان كلامه معها في المدينة وقد أغلظ لها فيه، فلمّا أصبح ودخل على الصادقعليه‌السلام ابتدأه قائلاً: يا مهزم مالَك وللوالدة أغلظت لها البارحة، أوَما علمت أن بطنها منزل سكنته، وأن

____________________

(١) مناقب ابن شهراشوب: ٣/٣٦٨، وأعلام الورى: ص ٢٧٠.

(٢) الكشي، في أحوال المعلّى: ص ٢٣٩.

(٣) كشف الغمّة: ٣/١٩٠.

(٤) ينابيع المودّة: ص ٣٨١.

٢٢٠