الإمام جعفر الصادق عليه السلام الجزء ١

الإمام جعفر الصادق عليه السلام0%

الإمام جعفر الصادق عليه السلام مؤلف:
تصنيف: الإمام الصادق عليه السلام
الصفحات: 228

الإمام جعفر الصادق عليه السلام

مؤلف: العلامة الجليل الشيخ محمد الحسين المظفر
تصنيف:

الصفحات: 228
المشاهدات: 70860
تحميل: 5222


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 228 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 70860 / تحميل: 5222
الحجم الحجم الحجم
الإمام جعفر الصادق عليه السلام

الإمام جعفر الصادق عليه السلام الجزء 1

مؤلف:
العربية

أما علمتم أن اللّه عزّ وجل قد فرض على المؤمنين في أوّل الأمر أن يقاتل الرجل منهم عشرة من المشركين ليس له أن يولّي وجهه عنهم، ومن ولاهم يومئذٍ دبره فقد تبوّأ(١) مقعده من النار، ثمّ حوّلهم من حالهم رحمة منه لهم، فصار الرجل منهم عليه أن يقاتل رجلين من المشركين تخفيفاً من اللّه عزّ وجل للمؤمنين فنسخ الرجلان العشرة.

أقول: لمّا هاجر المسلمون من مكّة الى المدينة بدء الهجرة كانوا لا يجدون مأوىً ولا مطعماً، فكان الإيثار من الأنصار أمراً لازماً إِلى أن يتمّ للمهاجرين ما يحتاجون اليه، ولمّا أن تمّ له ما احتاجوه نسخ الإيثار بالتوسّط في الإنفاق فكان كلام الصادقعليه‌السلام عن العشرة بدء الجهاد، وعندما كثر المسلمون وأحسن منهم الضعف والعجز ونسخه بالرجلين تنظيراً لكلامه الأوّل.

ثمّ قالعليه‌السلام : واخبروني أيضاً عن القضاة أجورة(٢) هم حيث يقضون على الرجل منكم نفقة امرأته اذا قال: إِني زاهد وإِني لا شيء لي ؟ فإن قلتم جورة ظلمتم أهل الاسلام، وإِن قلتم بل عدول خصمتم أنفسكم، وحيث يردون صدقة من تصدق على المساكين عند الموت باكثر من الثلث.

أقول: وذلك فيما اذا أوصى أحد باكثر من ثلث ماله بعد الموت، فإنها لا تمضي الوصيّة إِلا في الثلث دون ما زاد، وقوله «وحيث يردون» أي يرد القضاة.

ثمّ قالعليه‌السلام : أخبروني لو كان الناس كلّهم كالذين تريدون زهّاداً لا حاجة لهم في متاع غيرهم، فعلى من يصدق بكفّارة الأيمان والنذور والصدقات من فرض الذهب والفضّة والتمر والزبيب وسائر ما أوجب فيه الزكاة من الإبل والبقر والغنم وغير ذلك ؟ اذا كان الأمر كما تقولون لا ينبغي لأحد أن يحبس شيئاً من عرض الدنيا إِلا قدمه وإِن كان به خصاصة، فبئس ما ذهبتم فيه وحملتم الناس عليه من الجهل بكتاب اللّه عزّ وجل وسنّة نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأحاديثه التي يصدقها الكتاب المنزل، وردّكم إِيّاها بجهالتكم وترككم النظر في غرائب القرآن من الناسخ والمنسوخ، والمحكم والمتشابه والأمر والنهي.

____________________

(١) هيّأ.

(٢) الهمزة للاستفهام، والجورة جمع جائر.

١٨١

واخبروني أين أنتم عن سليمان بن داودعليهما‌السلام حيث سأل اللّه ملكاً لا ينبغي لأحد من بعده، فأعطاه اللّه عزّ وجلّ اسمه ذلك، وكان يقول الحقّ ويعمل به، ثمّ لم نجد اللّه عزّ وجل عاب عليه ذلك ولا أحد من المؤمنين، وداود النبي قبله في ملكه وشدّة سلطانه.

ثمّ يوسف النبيعليه‌السلام حيث قال لملِك مصر: اجعلني على خزائن الأرض إِني حفيظ عليم، فكان من أمره الذي كان أن اختار مملكة الملك وما حولها الى اليمين، وكانوا يمتارون الطعام من عنده لمجاعة أصابتهم وكان يقول الحقّ ويعمل به، ثمّ لم نجد احداً عاب عليه ذلك.

فتأدّبوا أيّها النفر بآداب اللّه عزّ وجل للمؤمنين، اقتصروا على أمر اللّه ونهيه، ودعوا عنكم ما اشتبه عليكم ممّا لا علم لكم به، وردّوا العلم إِلى أهله تؤجروا وتعذروا عند اللّه تبارك وتعالى، وكونوا في طلب علم ناسخ القرآن من منسوخه ومحكمه من متشابهه، وما أحلّه اللّه فيه ممّا حرّم فإنه أقرب لكم من اللّه، وأبعد لكم من الجهل، ودعوا الجهالة لأهلها، فإن أهل الجهل كثير، وأهل العلم قليل، وقد قال اللّه عزّ وجل:( وفوق كلّ ذي علم عليم ) (١) .

أقول: ما أوقع الناس في مهامه الجهالة، ومتائه الضلالة إِلا الاعتماد على آرائهم وخواطرهم دون ان يراجعوا في الكتاب والسنّة الى الثقل الثاني - العترة - علماء الكتاب والسنّة، وقد رأيت كيف أوضح لهم الحقّ في شأن الزهد.

مناظرته في صدقة

لا ريب في أن الناس تقع بالجهل والتيه اذا اعتمدوا على أنفسهم دون أن يرجعوا الى أهل العلم الصادق، فيكون الجاهل تائهاً في قفار الجهل ويحسب أنه عالم بالشريعة، ومن الذي يرشده الى الهدى والناس مثله اذا لم يكن المرشد العالم بالشريعة كما جاءت.

____________________

(١) يوسف: ٧٦، وهذه المناظرة في أوّل كتاب المعيشة من فروع الكافي.

١٨٢

ولقد كانت بين الصادقعليه‌السلام وبين جاهل يدّعي العلم مناظرة في صدقة يحدّثنا عنها الصادق نفسه فيقول:

إِن من اتّبع هواه واُعجب برأيه كان كرجل سمعتُ غثاء الناس تعظّمه وتصفه، فأحببت لقاءه حيث لا يعرفني، فرأيته قد أحدق به كثير من غثاء العامّة، فما زال يراوغهم حتّى فارقهم ولم يقر فتبعته، فلم يلبث أن مرَّ بخبّاز فتغفّله وأخذ من دكّانه رغيفين مسارقة، فتعجّبت منه، ثمّ قلت في نفسي: لعله معاملة، ثمّ أقول: وما حاجته إِذن الى المسارقة، ثمّ لم أزل أتبعه حتّى مرَّ بصاحب رمّان، فما زال به حتّى تغفّله فأخذ من عنده رمّانتين مسارقة، فتعجّبت منه ثم قلت في نفسي: لعلّه معاملة، ثمّ أقول: وما حاجته إِذن إِلى المسارقة، ثمّ لم أزل أتبعه حتّى مرَّ بمريض فوضع الرغيفين والرمّانتين بين يديه.

ثمّ سألته عن فعله فقال: لعلّك جعفر بن محمّد، قلت: بلى، فقال لي: وما ينفعك شرف أصلك مع جهلك ؟ فقلت: وما الذي جهلت منه ؟ قال: قول اللّه عزّ وجل( من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ومن جاء بالسيّئة فلا يجزى إِلا مثلها ) (١) وإِني لمّا سرقت الرغيفين كانت سيّئتين، ولمّا سرقت الرّمانتين كانت سيّئتين، فهذه أربع سيّئات فلما تصدَّقت بكلّ واحدة منها كان لي أربعين حسنة، فانتقص من أربعين حسنة أربع سيّئات وبقي لي ستّ وثلاثون حسنة، فقلت: ثكلتك اُمّك أنت الجاهل بكتاب اللّه، أما سمعت اللّه تعالى يقول( إِنما يتقبّل اللّه من المتّقين ) إِنك لمّا سرقت رغيفين كانت سيّئتين، ولمّا سرقت رمّانتين كانت أيضاً سيّئتين، ولمّا دفعتها الى غير صاحبها بغير أمر صاحبها كنت إِنما أضفت أربع سيّئات الى أربع سيّئات، ولم تضف أربعين حسنة الى أربع سيّئات، فجعل يلاحظني فانصرفت وتركته.

قال الصادقعليه‌السلام :بمثل هذا التأويل القبيح المستكره يَضلّون ويُضلّون (٢) .

أقول: وما اكثر أمثال هذا المتأوّل ولا غرابة بعد أن أعرضوا عن المنهل واستقوا من السراب.

وهذه شذرات من مناظرات الصادقعليه‌السلام ومحاججاته مع مَن تنكّب عن سبيل الهدى، وحاد عن سنن الحقّ، وهي قطرة من غيث، جئنا بها نموذجاً من تلك الحياة العلميّة في الحجج والأدلّة.

____________________

(١) الأنعام: ١٦.

(٢) وسائل الشيعة: ٢/٥٧ باب استحباب الصدقة بأطيب المال.

١٨٣

سيرته وأخلاقه ..(تمهيد)

إِن سيرة المرء تفصح عن سريرته، وسريرته مطويّة في سيرته.

قد يحاول غواة التدليس والرياء بحسن السمت والهدي إِخفاء ما انطوت عليه ضمائرهم وأجنته سرائرهم من الخديعة والاغواء، بيدَ أنه ما أسرع ما تفضح الأعمال تلك الطوايا، والأقوال هاتيك النوايا، فإن ما في القلب تظهره فلتات اللسان وحركات الأعمال.

ثوبَ الرّياء يشفّ عمّا تحتَه

فاذا التحفتَ بهِ فإنكَ عارِ

وقد يروم رجال من ذوي الأخلاق الفاضلة وأرباب العِرفان ألا تظهر منهم تلك السرائر النقيّة والضمائر الزكيّة، حذر الافتتان أو الشهرة، فلا يلبث دون أن تضوع تلك النفحات الذكيّة، ويضيء سناً تلك النفس القدسيّة.

وَمهما تكن عِندَ امرئ مِنَ خليقةٍ

وإِن خالَها تخفى على الناس تُعلم

وهذه ألسنة الخلق فإنها في الكشف عن الحقائق أقلام الحق.

نعم ربما تنبري فئة للدفاع عن تلك الشرذمة الخادعة عصبيّةً أو اغترازاً بظاهر تلك الشؤون الصالحة، أو تندفع زمرة للمسّ بكرامة هؤلاء الأبدال أتباعاً لقوم فتكت فيهم أدواء الحسد والأحقاد، أو الجهل والعناد، ولكن الحقيقة لا يجهلها البصير، وأن الشمس لا يسترها الغربال.

وها هو ذا الصادقعليه‌السلام تدّلنا سيرته وتعلمنا عن سريرته، أنه من أهل البيت الذين أذهب اللّه عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً، ومن العترة التي تركها النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في اُمّته لتكون بياناً عن كتابه الصامت، وليكونا معاً العروة الوثقى التي لا انفصام لها والتي ينجو المستمسك بها من مهاوي الضلال.

فكانت سيرته القويمة تريد بالناس إِخراجهم من الغواية الى الهداية، ومن العمى الى البصر، ومن الجهل الى العلم، وتلك السريرة مطويّة في هذه السيرة.

ونحن نورد من سيرته ما يعرب عن تلك الأخلاق العظيمة والنفسيّة القدسيّة العلويّة، التي لا ترى غير الجهاد في الإرشاد والإصلاح همّاً ولا همّة.

١٨٤

آدابه في العِشرة

إِن الأخلاق الحميدة قد تكون غرائز نفسيّة، وطبائع فطريّة، أمثال السماحة والشجاعة والبشاشة والبلاغة، وقد تكون بالتعلّم والاكتساب مثل العبادة والزهادة والمعارف والعلوم والآداب.

وإِن من يسبر سيرة هاشم وبنيه يجدهم قد جمعوا الفضائل بقسميها، والأخلاق بشطريها، حتّى اذا نبغ الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من بينهم وأخذ من كلّ فضيلة بأسماها كما يقتضيه منصبه الإلهي كان بنوه أحقّ من درج على سنّته واتّبع جميل أتره لا سيّما والفضيلة شعار قبيلتهم قبل هذا التراث من رسول الأخلاق والفضائل.

ومن يستقص سيرة أبي عبد اللّهعليه‌السلام يعرف أنه الشخصيّة المثاليّة لأبيه المصطفىصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وما المرء إِلا بعمله، ولئن سكت عن بيان حاله فأعماله ترجمان ذاته وصفاته.

ولقد مرَّ عليك ما قاله العلماء في شأنه، وكفى عن تعريف شخصيّته ما قرأته من حياته العلميّة، وسوف تقرأ المختار من كلامه فتتمثل له منزلته في الأخلاق والفضيلة من تلك النوادر الغالية، وكان الجدير أن يكون مثالاً لكلامه قبل أن يحمل عليه رجاله والآخذين عنه.

فلا نستكبر منه إِذن أن يكون بين أصحابه كأحدهم لا تظهر عليه آثار العزّة وحشمة الإمامة، فقد خرج يوماً وهو يريد أن يعزّي ذا قرابة بفقد مولود له، ومعه بعض أصحابه فانقطع شسع نعله، فتناول نعله من رجله، ثمّ مشى حافياً، فنظر اليه ابن أبي يعفور(١) فخلع نعل نفسه من رجله وخله الشسع منها وناولها أبا عبد اللّهعليه‌السلام ، فأعرض عنه كهيئة المغضب ثمّ أبى أن يقبله، وقال: لا، صاحب المصيبة أولى بالصبر عليها، فمشى حافياً حتّى دخل على الرجل الذي أتاه ليعزّيه.

وكان اذا بسط المائدة حثّهم على الأكل ورغّبهم فيه، ولربّما يأتيهم بالشيء بعد الشبع، فيعتذرون فيقول: ما صنعتم شيئاً إن أشدّكم حبّاً لنا أحسنكم أكلاً عندنا، ثمّ يروى لهم عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمثال ذلك لتطيب نفوسهم بالأكل وترغب بالزيادة، ويروي لهم هذا القول، أعني«أشدّكم حبّاً لنا أحسنكم أكلاً عندنا» عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مع سلمان والمقداد وأبي ذر. وقد يجيء بالقصعة من الارز بعد انتهائهم من الأكل، فاذا امتنع أحدهم من الأكل قال له: يعتبر حبّ الرجل لأخيه بانبساطه في طعامه، ثمّ يجوز له حوزاً ويحمله على أكله، واذا رآهم يقصرون في الأكل خجلاً قال لهم: تستبين

____________________

(١) سيأتي في مشاهير الثقات من أصحابه.

١٨٥

مودَّة الرجل لأخيه في أكله(١) .

وكان اذا أطعم أصحابه يأتيهم بأجود الطعام، قال بعضهم: كان أبو عبد اللّهعليه‌السلام ربّما أطعمنا الفراني والأخبصة، ثمّ أطعمنا الخبز والزيت فقيل له: لو دبّرت أمرك حتّى يعتدل يوماك، فقال: إِنما نتدبّر بأمر اللّه اذا وسّع وسّعنا واذا قتّر قتّرنا.

وقال أبو حمزة: كنّا عند أبي عبد اللّهعليه‌السلام جماعة فاُتينا بطعام ما لنا عهد بمثله لذاذةً وطيباً، واُتينا بتمر ننظر فيه وجوهنا من صفائه وحسنه(٢) .

وكان مع ذلك الشأن والسنّ يمنع ضيفه من القيام لبعض الحوائج فإن لم يجد أحداً قام هو بنفسه، ويقول: نهى رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن أن يستخدم الضيف(٣) .

ولرغبته في بقاء الضيف عنده كان لا يساعده على الرحيل عنه، كما صنع ذلك مع قوم من جهينة، فإنه أمر غلمانه ألا يعينوهم على الرحلة، فقالوا له: يا ابن رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لقد أضفت فأحسنت الضيافة، وأعطيت فأجزلت العطيّة، ثمّ أمرت غلمانك ألا يعينونا على الرحلة، فقالعليه‌السلام : إِنّا أهل بيت لا نعين أضيافنا على الرحلة من عندنا(٤) .

وكان من حُبّه للبرّ والإطعام والتزاور أن يأمر بها أصحابه تصريحاً وتلويحاً، ولربّما كان التلويح أجمل في الترغيب بالعمل، حيث يخبر عن حبّه لتلك الخصال الكريمة، فيقول: لئن آخذ خمسة دراهم وأدخل الى سوقكم هذه فأبتاع

____________________

(١) بحار الأنوار: ٤٧/٤٠/٤٧.

(٢) وسائل الشيعة: ٣/٢٦٨.

(٣) بحار الأنوار: ٤٧/٤٠/٤٨.

(٤) مجالس الصدوق رحمه اللّه، المجلس/١٨.

١٨٦

بها الطعام وأجمع نفراً من المسلمين أحبّ إِليَّ من أعتق نسمة(١) .

ويقول: لئن أطعم مؤمناً محتاجاً أحبّ إِليَّ من أن أزوره، ولئن أزوره أحبّ إِليَّ من أن أعتق عشر رقاب(٢) . وما أكثر ما جاء عنه من أمثال ما أوردناه.

وإِخال أن السرّ في تقديم بعض هذه الاُمور على بعض هو رعاية الاُلفة والتوادد فما كان أدخل في الاجتماع كان أفضل.

وانظر كيف يقرّب لك حسن الصنيعة والافضال ليحملك على هذا العمل الجميل فيقول: ما من شيء أسرَّ إِليَّ من يد أتبعتها الاُخرى، لأن من الأواخر يقطع شكر الأوائل(٣) .

أقول: إِن الوجدان شاهد صدق على ذلك، لأن اليد الواحدة اذا اتبعها الانسان بقطيعة فوَّتت القطيعة شكر تلك الصنيعة، فلا يدوم الشكر إِلا إِذا تتابعت الأيدي.

وإِن شئت أن تقف على عمله الذي يمثّل لك العطف والبرّ فانظر الى ما كان يعمله في (عين زياد) وهي ضيعة كانت له حول المدينة فيها نخل كثير، فإن بعض أصحابه طلب منه أن يذكر لهم ذلك.

قالعليه‌السلام : كنت آمر اذا أدركت الثمرة أن يثلم في حيطانها الثلم ليدخل الناس ويأكلوا، وكنت آمر في كلّ يوم أن يوضع عشر ثبنات(٤) يقعد على كلّ ثبنة عشرة، كلّما أكل عشرة جاء عشرة اُخرى، يلقى لكلّ منهم مُد من

____________________

(١) الكافي: ٢/٢٠٣/١٥.

(٢) الكافي: ٢/٢٠٣/١٨.

(٣) كشف الغمّة، في أحوال الصادقعليه‌السلام : ٢/٢٠٥.

(٤) جمع ثبنة بالضم وهي الموضع الذي تحمل فيه من ثوبك تثنيه بين يديك ثم تحمل فيه من التمر أو غيره.

١٨٧

رطب، وكنت آمر لجيران الضيعة كلّهم الشيخ والعجوز والصبي والمريض والمرأة ومن لا يقدر أن يجيء فيأكل منها، لكلّ إِنسان مُد، فاذا كان الجداد(١) وفيت القوام والوكلاء والرجال اُجرتهم، وأحمل الباقي الى المدينة، ففرّقت في أهل البيوتات والمستحقّين الراحلتين والثلاث والأقلّ والأكثر على قدر استحقاقهم، وحصل لي بعد ذلك ألف دينار، وكان غلّتها أربعة آلاف دينار(٢) .

وهذا الإنفاق وإِن بلغ ثلاثة آلاف دينار لا يستكثر على سماحة أهل البيت، وإِنما الجميل فيه اهتمامه في صلة المعوزين ومواصلة البرّ لهم.

وإِن الأفضل في الأخلاق ما يحكيه عن نفسه بقوله: إِنه ليعرض لي صاحب الحاجة فاُبادر الى قضائها مخافة أن يستغني عنها صاحبها(٣) .

هذه بعض أخلاقه العالية التي تمثّل لك البرّ والعاطفة وتجسّم لك الحنان والرأفة، فكأنما الناس كلّهم عياله وإِخوانه وآله، ولا بِدع فذلك شأن الإمام في الاُمّة.

سخاؤه

إِن السخاء وإِن كان خلّة كريمة في نفسه، وفائدة لمن يحبى بالعطاء، إِلا أن فيه عدا هذا فوائد اُخرى اجتماعيّة ملموسة، إِن الكريم يحمل الناس على حُبّ الكريم، والحبّ داعية الائتلاف، بل ربما كان الحبّ سُلَّماً لرياسة ذي الجود والإصغاء لقوله، وكم تكون من جدوى زعامة المرء واستماع كلامه اذا كان من أهل الصلاح والخير.

____________________

(١) بالمهملتين والمعجمتين: قطع التمر.

(٢) بحار الأنوار: ٤٧/٥١/٨٣.

(٣) المجلس /٣١ من أمالي الطوسي طاب ثراه.

١٨٨

وهو القائل للمعلّى بن خنيس: يا معلّى تحبّب الى إِخوانك بصلتهم، فان اللّه تعالى جعل العطاء محبّة والمنع مبغضة، فأنتم واللّه إِن تسألوني واعطيكم أحبّ إِليَّ من ألا تسألوني فلا اعطيكم فتبغضوني(١) .

فكان الصادقعليه‌السلام يعطي العطاء الجزيل، العطاء الذي لا يخاف صاحبه الفقر، وقد سبق في الأخلاق بعض هباته، كما سيأتي الوفر من صِلاته.

وقد أعطى مرَّة فقيراً أربعمائة درهم فأخذهما وذهب شاكراً، فقال لعبده: ارجعه، فقال: يا سيّدي سُئلت فأعطيت فما ذا بعد العطاء ؟ فقال له: قال رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : خير الصدقة ما أبقت غنى وإِنّا لم نغنك، فخذ هذا الخاتم فقد أعطيت فيه عشرة آلاف درهم فإذا احتجت فبعه بهذه القيمة(٢) .

أحسب أن الصادقعليه‌السلام إِنّما زاده للشكر، والشكر داعية المزيد يقول تعالى: «ولئن شكرتم لأزيدنكم» ولقد زاد سائلاً من ثلاث حبّات عنب الى كفّين الى نحو من عشرين درهماً الى قميص، وما ذاك إِلا لأن السائل قنع في الاُولى وحمد اللّه تعالى وما كفَّ عن عطائه إِلا بعد أن كفّ عن الحمد ودعا للصادقعليه‌السلام (٣) .

ودخل عليه أشجع السلمي(٤) فوجده عليلاً فجلس وسأل عن علّة مزاجه، فقال الصادق له: تَعَدّ عن العلّة واذكر ما جئت له، فقال:

ألبسك اللّه منه عافية

في نومك المعتري وفي أرقك

____________________

(١) المجلس /١١ من أمالي الطوسي طاب ثراه.

(٢) بحار الأنوار: ٤٧/٦١.

(٣) نفس المصدر.

(٤) هو من الشعراء المجيدين والمجاهرين بالولاء والحبّ لأهل البيت، ترجم له في الأغاني: ١٧/٣٠ وأعيان الشيعة: ١٣/٣٤٦.

١٨٩

يخرج من جسمك السقام كما

أخرج ذلّ السؤال من عنقك

فقال: يا غلام أيّ شيء معك، قال: أربعمائة، قال: اعطها لأشجع(١) ودخل عليه المفضّل بن قيس بن رمّانة، وكان من رواته الثقات وأصحابه الأخيار فشكا اليه بعض حاله وسأله الدعاء، فقال: يا جارية هاتي الكيس الذي وصلنا به أبو جعفر، فجاءت بكيس، فقال: هذا كيس فيه أربعمائة دينار فاستعن به، فقال له: لا واللّه جُعلت فداك ما أردت هذا ولكن أردت الدعاء، فقال له: ولا أدَع الدعاء، ولكن لا تخبر الناس بكلّ ما أنت فيه فتهون عليهم(٢) .

وهذه بعض نفحاته الجزيلة، وما ذكرناها إِلا مثالاً لذلك الخلق السامي وتدليلاً على تخلقه بهذه الخلّة الحميدة، ولا نريد أن نذكر له كلّ نفحة طيّبة وبما مضى ويأتي كفاية.

هباته السرّية

إِن الصلة وإِن كانت من الأب أو ممّن هو أرفق منه كالإمام قد تحدث في القابل انكساراً وذلّة، لأنها تنبّئ عن تفضّل المعطي وحاجة الآخذ، والحاجة نقص، والشعور به يحدث الإنكسار في النفس.

وقد تحدث في المعطي هزّة الإفضال، وتبجّج المتفضّل، هذا سوى ما قد يكون للعطيّة في بعض النفوس من حُبّ الذكر والفخر والسمعة أو الرياء أو ما سوى ذلك ممّا تكرم عنه النفوس النزيهة النقيّة.

فلهذا أو لغيره كان دأب أرباب الأخلاق الفاضلة التكتُّم في الصلة وشأن أهل البيت خاصّة التستّر في صِلاتهم، فلا تكاد تمرّ عليك سيرة إِمام منهم إِلا وتجد فيها تَرقّبه للغلس ليتّخذه ستراً في الهبات والصّلات.

فلا أرى ذلك الإصرار على الإسرار إِلا لأنّهم لا يريدون أن يشاهدوا على الآخذ ذلّة الحاجة والخضوع للمتفضّل المحسن، وإِنهم أزكى نفساً وأعلى شأناً من أن يخافوا الفتنة في الإعلان.

____________________

(١) مناقب ابن شهراشوب: ٤/٢٧٤.

(٢) الكشي: ص ١٢١.

١٩٠

ومن ثمّ تجد الصادق اذا جاء الغلس أخذ جراباً فيه الخبز واللحم والدراهم فيحمله على عاتق، ثمّ يذهب الى أهل الحاجة من أهل المدينة فيقسّمه فيهم وهم لا يعرفونه، وما عَلموا ذلك حتّى مضى لربّه فافتقدوا تلك الصِلات، فعلموا أنها كانت من أبي عبد اللّهعليه‌السلام (١) .

وهذه السيرة دَرَج عليها آباؤه من قبل، ونهج عليها بنوه من بعد.

وما كانت سيرته تلك مع أهل المدينة خاصّة بل يعمل ذلك حتّى مع الهاشميّين، فإنه كان يتعاهدهم بالصِلة ويتخفّى في نسبتها اليه، وكان يرسل اليهم بصرر الدنانير ويقول للرسول: قل لهم إِنها بُعث بها من العراق، ثمّ يسأل الرسول بعد عودته عمّا قالوه فيقول: إِنهم يقولون: أمّا أنت فجزاك اللّه خيراً بصلتك قرابة رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأمّا جعفر فحَكم اللّه بيننا وبينه فيخرّ أبو عبد اللّهعليه‌السلام ساجداً ويقول اللّهمّ أذل رقبتني لوُلد أبي(٢) .

وأعطى يوماً صرَّة لأبي جعفر الخثعمي(٣) وأمره بأن يدفعها الى رجل من بني هاشم وأمره بكتمان الأمر، فلمّا أوصله بالصرَّة قال: جزاه اللّه خيراً ما يزال

____________________

(١) بحار الأنوار: ٤٧/٣٨/٤٠.

(٢) نفس المصدر.

(٣) وهو محمّد بن حكيم من أصحاب الصادق ورواته، وروى عنه الثقات وأصحاب الاجماع.

١٩١

كلّ حين يبعث بها فنعيش بها الى قابل، ولكنّي لا يصلني جعفر بدرهم مع كثرة ماله(١) .

وكان لا يترك صِلاته حتّى لقاطعيه منهم، وحتّى ساعة الاحتضار، فإنه حين دنا أجله وكان في سكرات الموت أمر بإجراء العطاء، وأمر للحسن بن عليّ الأفطس(٢) بسبعين ديناراً فقيل له: أتعطي رجلاً حمل عليك بالشفرة ليقتلك ؟ فقالعليه‌السلام : وَيحَكم أما تقرأون:( والذين يَصِلون ما أمر اللّه به أن يوصل ويخشون ربّهم ويخافون سوء الحساب ) (٣) . إِن اللّه خلق الجنّة فطيَّبها وطيَّب ريحها ليوجد من مسيرة ألفي عام ولا يجد ريحها عاق ولا قاطع رحم(٤) .

هذه نفحات من هباته السرّيّة، وصِلاته الخفيّة، التي تمثّل لك الرحمة والرأفة.

حلمُه

وكان التجاوز عليه يأتيه من القريب والبعيد، فلا يقابله إِلا بالصفح بل ربما قابله بالبّر والإحسان.

وقد مرَّ عليك شطر منه في العنوان الماضي وكثير في حياته السياسيّة في محنه وسيأتي في أبواب كثيرة، ونحن نورد لك الآن بعض ما ينبيك عن هذا الخلق الكريم.

____________________

(١) مناقب ابن شهراشوب: ٤/٢٧٣.

(٢) هو الحسن بن علي الأصغر بن علي بن الحسينعليهما‌السلام وخرج مع محمّد بن عبد اللّه وكانت بيده راية بيضاء وابلى، ويقال: إِنه لم يخرج معه أشجع منه ولا أصبر وكان يقال له رمح آل أبي طالب لطُوله وطَوله ولما قتل محمّد اختفى الحسن هذا، وحين دخل الصادق العراق ولقي أبا جعفر تشفّع به فشفعه، ومع هذه الصنيعة وتلك الصلات حمل عليه بالشفرة.

(٣) الرعد: ٢١.

(٤) غيبة الشيخ الطوسي طاب ثراه، والمناقب: ٤/٢٧٣.

١٩٢

فكان اذا بلغه نيل منه ووقيعة وشتم يقوم فيتهيّأ للصلاة فيصلّي ثمّ يدعو طويلاً ملحّاً في الدعاء سائلاً ربّه ألا يؤاخذ ذلك الجاني بظلمه ولا يقايسه على ما جنى، لأن الحقّ حقّه، وقد وهبه للجاني غافراً له ظلمه(١) .

بل يزيد على ذلك في ذوي رحمه فيقول: إِني لا حبّ أن يعلم اللّه أني أذللت رقبتي في رحمي، وأني لاُبادر أهل بيتي أصلهم قبل أن يستغنوا عني(٢) .

إِن الحوادث محكّ، وبها تعرف مقادير الرجال، وبها تبلى السرائر ومن ثمّ تعرف الفرق بين أبي عبد اللّه وبين ذوي قرابته، فكان يجفوه أحدهم، بل ينال منه الآخر شتماً ونبزاً، بل يحمل عليه الثالث بالشفرة عامداً على قتله، وليس هناك ما يدعوهم الى تلك الجفوة والقسوة والقطيعة فيعاملهم على عكس ما فعلوه معه، فتراه واصلاً بدل القطيعة، وبارّاً عوض الجفاء، وعاطفاً بدل القسوة.

لقد أحزنته تلك النكبات التي أوقعها المنصور ببني الحسن حتّى لقد بكى وظهر عليه الجزع والاستياء بل حُمَّ أياماً حين حمل المنصور شيوخ بني الحسن ورجالهم من المدينة الى الكوفة، وهم قد لاقوه بسيئ القول بالابواء يوم أرادوا البيعة لمحمّد، وما زال محمّد وأبوه عبد اللّه يلاقيانه بالقول السيئ زعماً منهما أنه كان حجر عثرة في سبيل البيعة لمحمّد، ولمّا أن ظهر محمّد بالمدينة أرسل على الصادق يريد منه البيعة، وحين امتنع عليه قابله بسوء القول والفعل، وكم تجرّع غصصاً من بني العبّاس ورجالهم، ولو لم يكن قادراً على شيء ينتقم به منهم إِلا الدعاء لكفى به سلاحاً ماضياً.

____________________

(١) مشكاة الأنوار: ٢١٧.

(٢) الكافي: ٢/١٥٦/٢٥.

١٩٣

وما كان الحلم شعاره مع الأقربين من أهله فحسب، بل كان مع مواليه وسائر الناس، فقد بعث غلاماً له في حاجة فأبطأ فخرج على أثره فوجده نائماً فجلس عند رأسه يروّح له حتّى انتبه، فلمّا انتبه لم يكن منه معه إِلا أن قال: يا فلان ما ذلك لك تنام الليل والنهار، لك الليل ولنا منك النهار(١) .

وبعث مرّة غلاماً له أعجميّاً في حاجة ثمّ جاء الغلام فاستفهم الصادقعليه‌السلام الجواب والغلام يعني عن إفهامه، حتّى تردّد ذلك منه مراراً والغلام لا ينطق لسانه ولا يستطيع إفهامه، فبدلاً من أن يغضب عليه أحدَّ النظر اليه وقال: لئن كنت عيّ اللسان فما أنت بعيي القلب، ثمّ قالعليه‌السلام : إِن الحياء والعفاف والعي - عيّ اللسان لا عيّ القلب - من الإيمان، والفحش والبذاءة والسلاطة(٢) من النفاق(٣) .

ونهى أهل بيته عن الصعود فوق البيت فدخل يوماً فإذا جارية من جواريه ممّن تربّي بعض وُلدِه قد صعدت في سلّم والصبيّ معها، فلما بصرت به ارتعدت وتحيّرت وسقط الصبيّ الى الأرض فمات، فخرج الصادق وهو متغيّر اللون فسئل عن ذلك فقال: ما تغيّر لوني لموت الصبي وإِنما تغيّر لوني لِما أدخلتُ على الجارية من الرعب، وكان قد قال لها: أنتِ حُرَّة لوجه اللّه لا بأس عليك، مرّتين(٤) .

وما كان هذا رأيه مع أهله وغلمانه فحسب بل كان ذلك شأنه مع الناس كافّة، فإنَّه نام رجل من الحاجّ في المدينة فتوهّم أن هميانه سُرِق فخرج فرأى

____________________

(١) الكافي: ٨/٨٧.

(٢) طول اللسان.

(٣) بحار الأنوار: ٤٧/٦١.

(٤) المناقب: ٤/٢٧٥.

١٩٤

الصادق مُصلّياً ولم يعرفه فتعلّق به وقال: أنت أخذت همياني، قال: ما كان فيه ؟ قال: ألف دينار، فحمله الى داره ووزن له ألف دينار، وعادَ الرجل الى منزله ووجد هميانه، فعادَ الى الصادق معتذراً بالمال، فأبى قبوله، وقال: شيء خرج من يدي لا يعود إِليّ، فسأل الرجل عنه، فقيل: هذا جعفر الصادق، قال: لاجرم هذا فعال مثله(١) .

بل دأب على هذه الخِلّة حتى مع ألدّ أعدائه، فإنّه لمّا سرّحه المنصور من الحيرة خرج ساعة أذِن له وانتهى الى موضع السالحين في أوَّل الليل فقال له: لا أدعك أن تجوز فألّح عليه وطلب اليه فأبى إِباءً شديداً وكان معه من أصحابه مرازم(٢) ومن مواليه مصادف(٣) فقال له مصادف: جُعلت فداك إِنما هذا كلب قد آذاك، وأخاف أن يردك، وما أدري ما يكون من أمر أبي جعفر، وأنا ومرازم أتأذن لنا أن نضرب عنقه ثمّ نطرحه في النهر، فقال: كيف يا مصادف، فلم يزل يطلب اليه حتّى ذهب من الليل اكثره، فأذن له فمضى، فقال: يا مرازم هذا خير أم الذي قلتما ؟ قلت: هذا جعلت فداك، فقال: يا مرازم إِن الرجل يخرج من الذلّ الصغير ذلك في الذلّ الكبير(٤) .

أقول: لعلّه عَنى من الذلّ الكبير القتل، والذلّ الصغير الطلب، والخطاب خطاب إِنكار.

هذا بعض ما كان منه ممّا دلّك على ذلك الحلم العظيم، الذي كان يلاقي به تلك الاعتداءات والمخالفات لقوله ولأمره.

____________________

(١) المناقب: ٤/٢٧٤.

(٢) سيأتي في المشاهير من ثقات رواته.

(٣) سيأتي في مواليه.

(٤) روضة الكافي: ٨/٨٧/٤٩.

١٩٥

عطفه

إِن الإمام لا يعرف فرقاً في البِرّ والعطف بين الناس، فالناس قريبهم وبعيدهم لديه شرع سواء، وما كلّ من ينيلهم بذلك البِرّ والصِلة في جوف الليل، ويسعفهم من التمر من عين زياد، ممّن يرى إِمامته وولاءه، فالمسلمون كلّهم - لو استطاع - مغرس برّه، ومنال عطفه.

فمن بوادر عطفه ما كان منه مع مصادف مولاه، فإِنه دعاه فأعطاه ألف دينار، وقال له: تجهّز حتّى تخرج الى مصر فإن عيالي قد كثروا فتجهَّز بمتاع وخرج مع التجّار الى مصر، فلمّا دنوا من مصر استقبلتهم قافلة خارجة من مصر، فسألوهم عن المتاع الذي معهم ما حاله في المدينة، وكان متاع العامّة، فأخبروهم أن ليس بمصر منه شيء، فتحالفوا وتعاقدوا على ألا ينقصوا من ربح دينار ديناراً، فلمّا قبضوا أموالهم انصرفوا الى المدينة، فدخل مصادف على أبي عبد اللّهعليه‌السلام ومعه كيسان في كلّ واحد ألف دينار، فقال: جعلت فداك هذا رأس المال وهذا الآخر ربح، فقالعليه‌السلام : إِن هذا الربح كثير، ولكن ما صنعتم في المتاع، فحدَّثه كيف صنعوا وكيف تحالفوا، فقال: سبحان اللّه تحلفون على قوم مسلمين ألا تبيعوهم إِلا بربح الدينار ديناراً، ثمّ أخذ أحد الكيسين، فقال: هذا رأس مالي، ولا حاجة لنا في الربح، ثمّ قال: يا مصادف مجالدة السيوف أهون من طلب الحلال(١) .

أقول: إِن هذا الربح الذي أخذه مصادف ما كان حراماً حسب القواعد الشرعيّة، ولكن الصادقعليه‌السلام لا يريد من الناس إِلا الإرفاق من بعضهم ببعض، شأن الاخوة المتحابّين لا سيّما ساعة العسرة، وكان ذلك التحالف والتعاقد على خلاف ما تدعو اليه المروّة، وذلك الربح على غير ما يتطلّبه الإرفاق، ومن ثمّ استنكر الصادق هذا العمل حتّى عدَّ الربح بهذا الوجه غير حلال فسمّاه حراماً على نحو المجاز، وكان ذلك تعليماً منه لمصادف ومن سمع منه من أوليائه.

____________________

(١) بحار الأنوار: ٤٧/٥٩/١١١.

١٩٦

وتشاجر أبو حنيفة سائق الحاجّ(١) مع ختنه(٢) فيه ميراث فمرّ عليهما المفضّل بن عمر، وكان وكيلاً للصادقعليه‌السلام في الكوفة، وبعد ساعة من وقوفه عليهما أمرهما بالمجيء معه الى الدار وأصلح أمرهما بأربعمائة درهم ودفعها من عنده، وبعد استيثاق كلّ واحد من صاحبه قال لهما: أما أنها ليست من مالي، ولكن أبو عبد اللّهعليه‌السلام أمرني اذا تنازع رجلان من أصحابنا في شيء أن أصلح بينهما وافتديهم من ماله، فهذا مال أبي عبد اللّهعليه‌السلام (٣) .

أجل ما أفضل إِصلاح ذات البيت، ولكن الأفضل فيه أن يفتدي المصلح من ماله، وهذه هي العاطفة حقاً التي تريك الرأفة والرحمة ملموستين.

وما كان حاله مع الغلامين والجارية فيما سبق في الحلم حلماً فحسب، بل حلم وعطف، فإنه لم يقنع بأن يصفح عمّا كان منهم دون أن يعطف على الأول فيروّح له، وهو إِمام الاُمّة، ويمدح الثاني بأنه غير عيي القلب، ويهب للجارية جرمها، وما اكبره، بل يزيد في الإحسان لها أن يحرّرها من رقّ العبوديّة.

وما أوفر عطفه فكم دعا لسجين بإطلاق سراحه كما في دعائه لسدير وعبد الرحمن وهما من أصحابه وكانا في السجن، وعلّم اُمّ داود الحسني، وكان في سجن المنصور مع بني الحسن، دعاءً وعملاً وصوماً في الأيام البيض من رجب، فعملت ما قال فاطلق سراحه وما زال العمل يُعرف الى اليوم بعمل اُمّ داود، الى كثير سواهم.

____________________

(١) واسمه سعيد بن بيان وكان من أصحاب الصادق وثقات رواته.

(٢) الختن - بالتحريك - الصهر.

(٣) الكافي: ٢/٢٠٩/٤.

١٩٧

وكم دعا لمريض بالعافية فعوفي، كما في دعائه لحبابة الوالبيّة وكانت من النساء الفاضلات، وليونس بن عمّار الصيرفي وهو من رجال الصادق الثقات، ولرجل عرض له وقد سُئل له الدعاء، ولامرأة بها وضح في عضدها، ولرجل جاءه في البيت متعوّذاً وبه بلاء شديد، الى غير هؤلاء.

وكم دعا لناس بسعة الحال فأصابوا الدعوة، كما في طرخان النخاس وحمّاد بن عيسى وغيرهما، وسنذكر ذلك في استجابة دعائه.

ولا غرابة أن يكون أبو عبد اللّهعليه‌السلام على تلك العاطفة النبيلة، وما هي إِلا بعض ما يجب أن يستشعره.

جَلده

إِن من يلمس في أبي عبد اللّهعليه‌السلام تلك العاطفة الرقيقة التي تدر دمعته وتذكي النار في قلبه رحمة، وتختطف الدم من وجهه، يستغرب كيف يكون له الجَلد الذي لا توازنه الجبال الشمّ في احتماله.

كان ابنه إسماعيل اكبر أولاده، وهو ممّن جمع الفضيلة والعقل والعبادة فكان الصادقعليه‌السلام يحبّه حبّاً شديداً، حتّى حسب بعض الناس أن الامامة فيه بعد أبيه، فلمّا مات وكان الصادق عند مرضه حزيناً عليه جمع أصحابه وقدَّم لهم المائدة وجعل فيها أفخر الأطعمة وأطيب الألوان، ودعاهم الى الأكل وحثَّهم عليه لا يرون للحزن أثراً عليه، وكانوا يحسبون أنه سيجزع ويبكي ويتأثّر ويتألّم، فسألوه عن ذلك فقال لهم: وما لي لا اكون كما ترون وقد جاء في خبر أصدق الصادقين: إِني ميّت وإِيّاكم.

١٩٨

ومات ابن له من غُصَّة اعترته وهو يمشي بين يديه فبكى وقال: لئن أخذت لقد أبقيت، ولئن ابتليت لقد عافيت، ثمّ حمله الى النساء فصرخن حين رأينه، فأقسم عليهنّ ألا يصرخن، ثمّ أخرجه الى الدفن وهو يقول: سبحان من يقتل أولادنا ولا نزداد له إِلا حبّاً، ويقول بعد الدفن: إِنّا قوم نسأل اللّه ما نحبّ فيمن نحبّ فيعطينا، فاذا أحبّ ما نكره فيمن نحبّ رضينا(١) .

لا أدري من أيّها يعجب المرء أمِن جَلد أبي عبد اللّهعليه‌السلام على هذه المفاجأة المشجية، أم من هذا الشكر المتوالي على مثل هذه النوائب المؤلمة، أم من ذلك الحبّ للخالق على كلّ حال، والرضى بما يصنع في كلّ أمر، أم من تلك البلاغة والفصاحة وتدافع الحِكم البليغة ومطاوعتها له ساعة الدهشة والذهول ؟ أجل لولا هذه الملكات القدسيّة، والأحوال المتضادّة في شخصيّة أبي عبد اللّهعليه‌السلام لم تكن الشخصية الوحيدة في خصالها وصفاتها.

وكفى إِكباراً لجَلده سقوط الولد من يد الجارية وموته، وتغيّر لونه لفزع الجارية وارتهابها، ولم يظهر عليه الحزن والجزع لهذه المفاجأة بموت الصبي على هذه الصور المشجية.

وما زال يشاهد الآلام والنوائب والمكاره طيلة أيامه من الدولتين ولم يعرف التاريخ عنه تطامناً وخضوعاً وجزعاً وذهولاً بل ما زال يظهر عليه الصبر والجَلد وتوطين النفس.

هيبته

قد تكون الهيبة للرجال العِظام من تلك الكبرياء التي يرتديها المرء نفسه، أو من الذين حوله من خدم وأهل وقبيلة، أو جند ودولة، وهذه الهيبة لا تختصّ بقوم، فإن كلّ من تلبّس بأحد هذه الشؤون اكتسى هذه الهيبة، وهذه الهيبة جديرة بأن تسمّى الهيبة المصطنعة.

وقد تكون للمرء من دون أن يُحاط بجيش وخدم وعشيرة ودولة وإِمرة وكبرياء، تلك الهيبة التي لا تكون باللباس المستعار، بل هي التي يفيضها اللّه تعالى على من يشاء من عباده، تلك الهيبة التي لا يزيلها التواضع وحسن الخُلق والانبساط، تلك التي يلبسها العلم والعمل به، من أراد عِزَّاً بلا عشيرة وهيبةً بلا سلطان، فليخرج من ذلّ معصية اللّه الى عِزّ طاعته، وإِن مَن خاف اللّه أخاف منه كلّ شيء، ومن لم يخف اللّه أخافه من كلّ شيء، وهذه الهيبة جديرة بأن تسمّى الهيبة الذاتيّة.

____________________

(١) بحار الأنوار: ٤٧/١٨/٨.

١٩٩

إِن المنصور كان صاحب تلك الهيبة المصطنعة، ومن أوسع منه مُلكاً، وأكثر جنداً، وأقوى فتكاً ؟ ولكنه كان اذا نظر الى جعفر بن محمّد الصادقعليه‌السلام وهو عازم على قتله هابه وانثنى عن عزمه.

يقول المفضّل بن عمر: إِن المنصور قد همّ بقتل أبي عبد اللّهعليه‌السلام غير مرّةً فكان اذا بعث اليه ودعاه ليقتله فاذا نظر اليه هابه ولم يقتله(١)

ولا تختلف هذه الهيبة لأبي عبد اللّهعليه‌السلام باختلاف الناس معه فإن كلّ واحد يشعر من نفسه بتلك الهيبة له، سواء الوليّ والعدوّ، والمؤالف والمخالف، فهذا هشام بن الحكم كان جهميّاً قبل أن يقول بالإمامة، ولمّا التقى بالصادقعليه‌السلام في صحراء الحيرة سكت وأطرق هيبةً وإِجلالاً وهو اللّسن المفوّه، فأحسّ أن هذه الهيبة هي الهيبة التي يجلّل اللّه بها أنبياءه

____________________

(١) مناقب ابن شهراشوب: ٤/٢٣٨.

٢٠٠