الإمام جعفر الصادق عليه السلام الجزء ١

الإمام جعفر الصادق عليه السلام0%

الإمام جعفر الصادق عليه السلام مؤلف:
تصنيف: الإمام الصادق عليه السلام
الصفحات: 228

الإمام جعفر الصادق عليه السلام

مؤلف: العلامة الجليل الشيخ محمد الحسين المظفر
تصنيف:

الصفحات: 228
المشاهدات: 70831
تحميل: 5221


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 228 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 70831 / تحميل: 5221
الحجم الحجم الحجم
الإمام جعفر الصادق عليه السلام

الإمام جعفر الصادق عليه السلام الجزء 1

مؤلف:
العربية

ثمّ قال الصادقعليه‌السلام : قلت: أما إِذ خرجت من حدّ الإنكار الى منزلة الشكّ فإني أرجو أن تخرج الى المعرفة، قال: فإنما دخل عليّ الشكّ لسؤالك إيّاي عمّا لم يحط به علمي، ولكن من أين يدخل عليّ اليقين بما لم تدركه حواسّي ؟ قلت: من قِبل إهليلجتك هذه، قال: ذاك إِذن أثبت للحجّة، لأنها من آداب الطبّ الذي اذعن بمعرفته.

ثمّ أن الصادقعليه‌السلام صار يلقي عليه الأسئلة عمّا يخصّ الاهليلجة من كيفيّة صنعتها، ومن وجود أمثالها في الدنيا، والطبيب يراوغ في الجواب حذراً من الالتزام بالصنعة الدالّة على الصانع، الى أن ألزمه بما لا يجد محيصاً من الاعتراف به وهو أنها خرجت من شجرة.

ثمّ قال الصادق: أرأيت الاهليلجة قبل أن تعقد، إِذ هي في قمعها ماء بغير نواة ولا لحم ولا قشر ولا لون ولا طعم ولا شدّة، قال: نعم، قال الصادقعليه‌السلام : قلت له: أرأيت لو لم يرقق الخالق ذلك الماء الضعيف الذي هو مثل الخردلة في القلّة والذلّة ولم يقوّه بقوّته ويصوّره بحكمته ويقدّره بقدرته، هل كان ذلك الماء يزيد على أن يكون في قمعه غير مجموع بجسم ولا قمع وتفصيل، فإن زاد زاد ماءً متراكباً غير مصوّر ولا مخطّط ولا مدبّر بزيادة أجزاء ولا تأليف أطباق.

قال: أريتني من تصوير شجرتها وتأليف خلقتها وحمل ثمرتها وزيادة أجزائها وتفصيل تركيبها أوضح الدلالات وأظهر البيّنات على معرفة الصانع، ولقد صدقت بأن الأشياء مصنوعة، ولكني لا أدري لعلّ الاهليلجة والأشياء صنعت نفسها.

ثمّ أن الصادقعليه‌السلام أثبت له أنها مصنوعة لغيرها، لسبقها بالعدم ولأن صنعتها تدلّ على أن صانعها حكيم عالم، الى غير ذلك من البراهين. ثمّ ما زال الصادق يسايره في الكلام، ومحور الكلام الاهليلجة، إِلى أن أرغمه الدليل على الاعتراف بالصانع الواحد، بعد أن صار كلامهما إِلى النجوم والمنجّمين. ثمّ صار الصادق يدلي عليه بالبيان عن تلك العلامات على ذلك الصانع الواحد، والدلالات على ذلك الحكيم القدير والعالم البصير، من مصنوعاته من السماء والأرض والشجر والنبات والأنعام وغيرها وكيفيّة دلالتها عليه. ثمّ أخذ في بيان صفاته من اللطف والعلم والقوّة والسمع والبصر والرأفة والرحمة والإرادة(١) .

أقول: وما حداني على الاشارة الى مواضع هذه الرسالة دون إيرادها إِلا رعاية الإيجاز، على أن هذه الرسالة جمعت فنوناً من العلم الى قوّة الحجّة وجَودة البيان، وما كان محور المناظرة فيها إِلا اهليلجة، وهي من أضعف المصنوعات، وأصغرها جرماً وشأناً.

____________________

(١) بحار الانوار: ٣/ ١٥٢ - ١٧٠.

١٤١

موجز براهينه على الوجود والوحدانيّة

تعرف المواهب الغزيرة من المقدرة في البيان، فبينا تجده يطنب في الدليل كما في توحيد المفضل وغيره إِذ تراه يأتي بأوجز بيان في البرهان مع الوفاء بالقصد، وذلك حين يُسأل عن الدليل على الخالق فيقولعليه‌السلام : ما بالناس من حاجة(١) .

أقول: ما أوجزها كلمة، واكبرها حجّة، فإنّا نجد الناس في حاجة مستمرّة في كلّ شأن من شؤون الحياة، وهذه الحاجة تدلّ على وجود مآل لهم في حوائجهم غنيّ عنهم بذاته، وأن ذلك المآل واحد، إِلا لاختلف السير والنظام.

ويسأله مرّة هشام بن الحكم بقوله: ما الدليل على أن اللّه تعالى واحد ؟ فيقولعليه‌السلام : اتّصال التدبير، وتمام الصنع(٢) .

أقول: إِن كلّ واحدة من هاتين الكلمتين تصلح لأن تكون دليلاً برأسه، وذلك لأن اتّصال التدبير شاهد على وحدانيّة المدبّر، إِذ لو كان اثنين أو اكثر لكان الخلاف بينهما سبباً لحدوث فترة أو تضارب، فلا يكون التدبير متّصلاً، والتقدير دائماً، كما أن تمام الصنعة في الخلقة دائماً شاهد آخر على الوحدانيّة، لأن استمرار الإتفاق في الاثنين مع التكافؤ في كلّ شأن لا يكون أبداً، كما نشاهده في الذين يديرون دولاب البلاد، فإن حصل اختلاف ولو برهة فسد المخلوق، فأين تمام الصنع ؟ فالتمام دليل الوحدة أيضاً.

ويسأله أبو شاكر الديصاني بقوله: ما الدليل على أن لك صانعاً ؟ فيقولعليه‌السلام : وجدت نفسي لا تخلو من إِحدى جهتين إِمّا اكون صنعتها أنا أو صنعها غيري، فإن كنت صنعتها فلا أخلو من إِحدى جهتين إِمّا أنّ اكون صنعتها وكانت موجودة فقد استغنت بوجودها عن صنعتها، وإِن كانت معدومة فإنك تعلم أن المعدوم لا يحدث شيئاً، فقد ثبت المعنى الثالث أن لي صانعاً وهو ربّ العالمين، فقام وما أحار جواباً(٣) .

وسأل الصادق مرّة ابن أبي العوجاء فقال له: أمصنوع انت أم غير مصنوع ؟

____________________

(١) تحف العقول.

(٢) توحيد الصدوق: باب الردّ على الثنويّة والزنادقة ص ٢٤٣.

(٣) التوحيد: باب أنه عزّ وجل لا يُعرف إِلا به.

١٤٢

فقال له ابن أبي العوجاء: أنا غير مصنوع، فقال له الصادقعليه‌السلام : فصف لي لو كنت مصنوعاً كيف كنت تكون؟ فبقي مليّاً لا يحير جواباً وولع بخشبة كانت بين يديه وهو يقول: طويل عريض عميق قصير متحرّك ساكن، كلّ ذلك من صفة خلقه، فقال له الصادقعليه‌السلام : فإن كنت لم تعلم صفة الصنعة من غيرها فاجعل نفسك مصنوعاً لما تجد في نفسك ممّا يحدث من هذه الاُمور، فقال ابن أبي العوجاء: سألتني عن مسألة لم يسألني أحد عنها قبلك، ولا يسألني أحد بعدك عن مثلها(١) .

أقول: إِن إِثبات هذه العوارض على الانسان لكونه مصنوعاً ظاهر، لأن طوله بعد القصر واختلافه في العمق والعرض آناً بعد آخر، وسكونه مرّة وحركته اُخرى أحداث دلّت على وجوده بعد العدم ومصنوعيّته بعد أن لم يكن، ولا بدّ للمصنوع من صانع وللمخلوق من خالق.

نفي التجسيم

لعلّ شبهة التجسيم جاءت من قبل بعض الزنادقة فدخلت في بعض معتقدات أهل الآراء والمذاهب من المسلمين، الذين يجمدون في الدين على الظواهر، فإن أهل الزندقة لما خابوا في الدعوة الى التعطيل والإلحاد أفلحوا في دسّ هذه الشبهة، لأنّا نجد الكلام عنها كثيراً في ذلك العصر، ونقرأ الكثير عنها في الأسئلة التي توجّه الى الإمام، فمن ذلك قوله في الجواب عن هذه الشبهة:

إِن الجسم محدود متناه، والصورة محدودة متناهية، فاذا احتمل الحدّ احتمل الزيادة والنقصان، واذا احتمل الزيادة والنقصان كان مخلوقاً.

قال السائل: فما أقول ؟ قالعليه‌السلام : لا جسم ولا صورة وهو مجسّم الأجسام، ومصوّر الصور، لم يتجزّأ ولم يتناه، ولم يتزايد ولم يتناقص، لو كان كما يقولون لم يكن بين الخالق والمخلوق فرق، ولا بين المنشئ والمنشأ، لكن هو المنشئ فرّق بين جسمه وصوره وأنشأه، إِذ لا يشبهه شيء

____________________

(١) توحيد الصدوق: باب إثبات حدوث العالم.

١٤٣

ولا يشبه هو شيئاً(١) .

أقول: كاد أن يسيل هذا البيان رقّة ولطفاً مع قوّة الحجّة ومتانة التركيب وقد أغنى بوضوحه عن ايضاحه.

وقال مرّة اُخرى: فمن زعم أن اللّه في شيء أو على شيء أو يحول من شيء الى شيء أو يخلو منه شيء أو يشتغل به شيء فقد وصفه بصفة المخلوقين واللّه خالق كلّ شيء لا يقاس بالقياس، ولا يشبّه بالناس، لا يخلو منه مكان ولا يشتغل به مكان، قريب في بُعده بعيد في قربه، ذلك اللّه ربّنا لا إِله غيره(٢) .

أقول: ما أبدع هذا الوصف منهعليه‌السلام ، وما أدقّ معنى قوله «قريب في بُعده بعيد في قربه» ويحتاج إِدراكه الى لطف فريحة وفطرة ثانية.

وما اكثر ما جاء عنهعليه‌السلام في هذا المعنى ونجتزي عنه بهذا القدر. وممّا يجب أن يعلم أن نفي الجسم والصورة عنه - تقدّست ذاته - ممّا يقتضيه حكم العقل، وقد استوفت البيان عن كتب الكلام، وأن النبي وأهل بيتهعليهم‌السلام جميعاً أجمعوا على هذا التنزيه إِرشاداً الى حكم العقل، وما اكثر ما جاء عن سيّد الرسلصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من البيان عن هذا التنزيه، ومن التأويل لما جاء ظاهراً في التجسيم من التنزيل، أمثال قوله تعالى:( على العرش استوى ) وقوله( يد اللّه فوق أيديهم ) وقوله:( فثم وجه اللّه ) وغيرها، ولولا أن نخرج عن الصدد لوافيناك ببعض كلامه، بيد أننا نذكر كلمة واحدة فحسب وهو ما يروى عن ابن عباس، قال: قدم يهودي على رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقال له نعثل فقال: يا محمّد إني أسألك عن أشياء تلجلج في صدري مند حين، فإن أنت أجبتني عنها أسلمت على يدك، قال: سل يا أبا عمارة، فقال: يا محمّد صف لي ربّك، فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إِن الخالق لا يوصف إِلا بما وصف به نفسه، وكيف يوصف الخالق الذي تعجز الحواسّ أن تدركه، والأوهام أن تناله، والخطرات أن تحدّه، والأبصار عن الاحاطة به جلّ عمّا يصفه الواصفون، نأى في قربه، وقرب في نأيه، كيّف الكيفيّة فلا يقال له كيف، وأيّن الأين فلا يقال له أين، فهو الأحد الصمد، كما وصف نفسه، والواصفون لا يبلغون نعته، لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد.

____________________

(١) الكافي: باب النهي عن الجسم والصورة، وتوحيد الصدوق: باب أنه ليس بجسم ولا صورة.

(٢) بحار الأنوار: ٣/٢٨٧/٢.

١٤٤

قال: صدقت يا محمّد، أخبرني عن قولك: أنه واحد لا شبيه له، أليس اللّه واحداً والانسان واحداً، فوحدانيّته أشبهت وحدانيّة الانسان، فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : اللّه واحد واحديّ المعنى، والانسان ثنويّ المعنى، جسم وعرض وبدن وروح، فإنما التشبيه في المعاني لا غير، قال: صدقت يا محمّد(١) .

أقول: فهذه الكلمة من الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم صريحة في تنزيهه تعالى عمّا يشابه الخليقة في الذات والصفات، والقرآن ينادي بفصيحه في ذلك التنزيه بأمثال قوله تعالى:( لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار ) (٢) فليت شعري أما يكفي في تأويل هاتيك الآيات الظاهرة مثل هذه الآيات الصريحة، ومثل كلام الرسول السالف، ومثل ما جاء عنه وعن آله في تفسير تلك الظواهر، ومن ورائها جميعاً حكم العقل بنزاهته تعالى عن مشابهة الحوادث ومجانسة الممكنات.

ولا أدري كيف نفث ذلك السحر فأعمى بعض الأبصار والبصائر، فجعل ناساً من الأوائل يخبطون خبط عشواء في التوحيد ؟

____________________

(١) بحار الأنوار: ٣/٣٠٣/٤٠.

(٢) الأنعام: ١٠٣.

١٤٥

صفات الحدوث

إِن هناك صفات تستلزم الحدوث مثل المكان والزمان والكيف والحيث والحركة والانتقال، وما سواها، فقد يتوهّم بعضهم من ظاهر بعض الآيات هذه الصفات اللازمة للجسميّة، فكان الصادقعليه‌السلام يدفع أمثال هذه التوهّمات ببالغ حجّته، كما توهّم بعضهم أنه تعالى جسم من قوله جلّ شأنه في كتابه المجيد( ما يكون من نجوى ثلاثة إِلا هو رابعهم ولا خمسة إِلا هو سادسهم ) (١) الآية، فقال الصادقعليه‌السلام في جوابه: هو واحد واحديّ الذات بائن من خلقه، وبذلك وصف نفسه، وهو بكلّ شيء محيط بالإشراف والإحاطة والقدرة، لا يعزب عنه ذرّة في السموات ولا في الأرض، ولا أصغر ولا اكبر، بالاحاطة والعلم لا بالذات، لأن الأماكن عنده محدودة تحويها حدود أربعة، فإذا كان بالذات لزمها الحواية(٢) .

وأجابعليه‌السلام آخر بأوجز من هذا البيان فقال: من زعم أن اللّه تعالى من شيء فقد جعله محدثاً، ومن زعم أنه في شيء فقد جعله محصوراً، ومن زعم أنه

____________________

(١) المجادلة: ٧.

(٢) التوحيد: باب الحركة والانتقال.

١٤٦

على شيء فقد جعله محمولاً(١) .

وسأله محمّد بن النعمان عن قوله تعالى:( وهو اللّه في السموات وفي الأرض ) (٢) فقال الصادقعليه‌السلام : كذلك هو في كلّ مكان، قال: بذاته ؟ قالعليه‌السلام : ويحَك إِن الأماكن أقدار فاذا قلت في مكانه بذاته لزمك أن تقول في أقدار وغير ذلك، ولكن هو بائن من خلقه محيط بما خلق علماً وقدرةً وإحاطةً وسلطاناً، وليس علمه بما في الأرض بأقلّ ممّا في السماء، لا يبعد منه شيء، والأشياء له سواء علماً وقدرةً وسلطاناً وملكاً وإحاطةً(٣) .

وسأله سليمان بن مهران الأعمش(٤) بقوله: هل يجوز ان تقول إن اللّه عزّ وجل في مكان ؟ فقالعليه‌السلام : سبحان اللّه وتعالى عن ذلك أنه لو كان في مكان لكان محدثاً، لأن الكائن في مكان محتاج الى المكان، والاحتياج من صفات المحدَث لا من صفات القديم(٥) .

ويقول لأبي بصير(٦) : إِن اللّه تبارك وتعالى لا يوصف بزمان ولا مكان ولا حركة ولا انتقال ولا سكون، بل خالق الزمان والمكان والحركة والسكون، تعالى اللّه عمّا يقولون علوّاً كبيراً(٧) .

وقالعليه‌السلام لعبد اللّه بن سنان(٨) : ولا يوصف بكيف ولا أين ولا

____________________

(١) التوحيد: باب الحركة والانتقال.

(٢) الأنعام: ٣.

(٣) بحار الأنوار: ٣/٣٢٣/٢٠.

(٤) سيأتي في المشاهير من الثقات.

(٥) توحيد الصدوق: باب نفي الزمان والمكان.

(٦) سيأتي في ثقات المشاهير.

(٧) التوحيد: باب نفي الزمان والمكان.

(٨) سيأتي أيضاً في المشاهير.

١٤٧

حيث، وكيف أصفه وهو الذي كيّف الكيف حتّى صار كيفاً فعرفت الكيف بما كيّف لنا من الكيف، أم كيف أصفه بأين وهو الذي أيَّن الأين حتّى صار أيناً فعرفت الأين بما أيَّن لنا من الأين، أم كيف أصفه بحيث وهو الذي حيّث الحيث حتّى صار حيثاً فعرفت الحيث بما حيّث لنا من الحيث، فاللّه تبارك وتعالى داخل في كلّ مكان، وخارج من كلّ شيء«لا تدركه الابصار وهو يدرك الأبصار» (١) .

أقول: إِن المراد بالكيف والأين والحيث السؤال أو الإخبار عن ذي الحيّز من الممكنات.

ولازم هذا أن يكون تعالى اذا استفسر عنه بالكيف والأين والحيث السؤال أو الإخبار عن ذي الحيّز من الممكنات.

ولازم هذا أن يكون تعالى اذا استفسر عنه بالكيف والأين أن يكون ذا جسم أو مكان، واذا اُخبر عنه بالحيث أن يكون متحيّزاً في محل، وإِذا كان كذلك فالأبصار تدركه لأن ذا الجسم المتحيّز الحال بمكان لا بدّ أن تدركه الأبصار، واللّه تعالى لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار.

وجرت بينهعليه‌السلام وبين ابن أبي العوجاء(٢) محاورة، فمنها قول ابن أبي العوجاء للصادق: ذكرت اللّه فأحلت على غائب، فقال أبو عبد اللّهعليه‌السلام : ويلك كيف يكون غائباً من هو مع خلقه شاهد وإِليهم أقرب من حبل الوريد، يسمع كلامهم ويرى اشخاصهم ويعلم أسرارهم، فقال ابن أبي العوجاء: أهو في كلّ مكان، أليس اذا كان في السماء كيف يكون في الأرض، واذا كان في الأرض كيف يكون في السماء، فقال أبو عبد اللّهعليه‌السلام : إِنما وصفت المخلوق اذا انتقل عن مكان اشتغل به مكان فخلا منه مكان، فلا يدري في

____________________

(١) التوحيد: باب النهي عن الصفة بغير ما وصف به نفسه.

(٢) اسمه عبد الكريم، وقد عدّه السيد المرتضى في أماليه من ملاحدة العرب المشهورين، وقتله محمّد بن سليمان والي الكوفة من قبل المنصور على الالحاد.

١٤٨

المكان الذي صار اليه ما حدث في المكان الذي كان فيه، فأمّا اللّه العظيم الشأن الملِك الديّان فلا يخلو منه مكان ولا يشتغل به مكان ولا يكون الى مكان(١) .

أقول: وما اكثر ما جاء عنه من أمثال هذا الكلام في تنزيه البارئ تعالى شأنه عن صفات صنائعه، واجتزينا بما أوردناه.

لا تدركه الأبصار

ذهب بعض أبناء الفِرق الاسلاميّة الى أنه جلّ شأنه يُرى بالبصر في الآخرة فقط، أو في الدنيا والآخرة معاً وما زال أهل البيت - لا سيّما الصادقعليه‌السلام - يبطلون هذه النسبة ويمنعون عليه تعالى الرؤية، وسوف نورد عليك بعض الحجج من كلامه.

قال هشام: كنت عند الصادقعليه‌السلام إِذ دخل عليه معاوية بن وهب وعبد الملك بن أعين(٢) فقال له معاوية بن وهب: يا ابن رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما تقول في الخبر الذي روي أن رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رأى ربه، على أي صورة رآه ؟ وعن الحديث الذي رووه أن المؤمنين يرون ربّهم في الجنّة على أيّ صورة يرونه ؟ فتبسّمعليه‌السلام ثمّ قال: يا معاوية ما أقبح بالرجل يأتي عليه سبعون سنة أو ثمانون سنة يعيش في مُلك اللّه ويأكل من نعمه ثمّ لا يعرف اللّه حقّ معرفته، ثمّ قالعليه‌السلام : يا معاوية إِن محمّداًصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يَر الربّ تبارك وتعالى بمشاهدة العيان وأن الرؤية على وجهين: رؤية القلب، ورؤية البصر، فمن عنى برؤية القلب فهو مصيب ومن عنى برؤية البصر فقد كفر باللّه وبآياته لقول رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : من شبّه اللّه بخلقه فقد كفر، ولقد حدّثني أبي عن أبيه عن الحسين بن عليعليهم‌السلام قال: سئل أمير المؤمنينعليه‌السلام فقيل: يا أخا رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هل رأيت ربّك ؟ فقال: وكيف أعبد من لم أره، لم تره العيون بمشاهدة العيان، ولكن رأته القلوب بحقائق الايمان، فإذا كان المؤمن يرى ربّه بمشاهدة البصر فإن كلّ من جاز عليه البصر

____________________

(١) توحيد الصدوق: باب الحركة والانتقال.

(٢) هما من أصحاب الصادقعليه‌السلام وأعلامهم المشهورين.

١٤٩

والرؤية فهو مخلوق، ولا بدّ للمخلوق من الخالق، فقد جعلته إِذن محدثاً مخلوقاً، ومن شبّهه بخلقه فقد اتخذ مع اللّه شريكاً، ويلَهُم أَوَلم يسمعوا بقول اللّه تعالى( لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير ) (١) وقوله( لن تراني ولكن انظر الى الجبل فإن استقرّ مكانه فسوف تراني فلمّا تجلّى ربّه للجبل جعله دكّاً ) (٢) وإِنما طلع من نوره على الجبل كضوء يخرج من سمّ الخياط فدكدكت الأرض وصعقت الجبال فخرّ موسى صعقاً - أي ميّتاً - فلمّا أفاق وردّ عليه روحه قال: سبحانك تبت اليك من قول مَن زعم أنك تُرى ورجعت الى معرفتي بك أن الأبصار لا تدركك، وأنا أول المؤمنين وأول المقرّين بأنك تَرى ولا تُرى وأنت بالمنظر الأعلى.

ثمّ قالعليه‌السلام : إِن أفضل الفرائض وأوجبها على الإنسان معرفة الربّ، والإقرار له بالعبوديّة، وحدّ المعرفة أن يعرف أنه لا إِله غيره، ولا شبيه له ولا نظير، وأن يعرف أنه قديم مثبت موجود غير فقيد، موصوف من غير شبيه ولا مبطل، ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، وبعده معرفة الرسول والشهادة بالنبوّة، وأدنى معرفة الرسول الإقرار بنبوّته وأن ما أتى به من كتاب أو أمر أو نهي فذلك من اللّه عزّ وجل، وبعده معرفة الإمام الذي تأتمّ به بنعمته وصفته واسمه، في حال العسر واليسر، وأدنى معرفة الإمام أنه عدل النبي إِلا درجة النبوّة ووارثه وأن طاعته طاعة اللّه وطاعة رسول اللّه والتسليم له في كلّ أمر، والردّ اليه والأخذ بقوله.

ثمّ أنه أورد على معاوية ذكر الأئمة وأسمائهم، ثمّ قال: يا معاوية جعلت لك أصلاً في هذا فاعمل عليه، فلو كنت تموت على ما كنت عليه لكان حالك أسوأ الأحوال، فلا يغرّنك قول من زعم أن اللّه تعالى يُرى بالبصر.

ثمّ ذكر لمعاوية أعاجيب ما نسبوه من المكروه والباطل للأنبياء ولأبويه النبيّ وعليّعليهم‌السلام جميعاً.

____________________

(١) الأنعام: ١٠٣.

(٢) الأعراف: ١٤٣.

١٥٠

وهذا بعض ما جاء عن الصادق في استحالة الرؤية البصريّة عليه تعالى وبما سبق غنى، كما وأن للصادقعليه‌السلام كلاماً في كلّ باب من أبواب التوحيد، وفي كلّ آية من الآيات المتشابهة وما كان القصد أن نأتي بكلّ ماله من بيان في ذلك لأن بسط البحث والإتيان بكلّ شاردة وواردة له يبعدنا عن الغاية، وبما وافيناك به كفاية.

الطبّ

نزّل اللّه تعالى الكتاب تبياناً لكلّ شيء، وقد جمع الكتاب الطبّ كما يقولون في كلمتين وهما قوله تعالى:( كلوا واشربوا ولا تسرفوا ) (١) فلا غرابة إِذن لو كان العلماء بما في القرآن علماء في الطبّ أيضاً، وكان ما يظهر منهم، من البيان عن طبائع الأشياء والأمزجة والمنافع والمضار يرشدنا الى وجود هذا العلم لديهم، ولقد جمع بعض علماء السلف شيئاً كثيراً من كلامهم في ذلك وسمّاه «طبّ الأئمة» وإِخال أن الكتاب لا وجود له اليوم، غير أن المجلسي طاب ثراه يروي عنه كثيراً في بحار الأنوار، كما يروي عنه الحرّ العاملي في الوسائل.

وكفى دلالة على علم الصادق بالطبّ ما جاء في توحيد المفضّل من الأخبار عن الطبائع وفوائد الأدوية وما جاء فيه من معرفة الجوارح التي تكفّل بها علم التشريح، وسيأتي ما في بعض مناظراته مع الطبيب الهندي ممّا يدلّ على ذلك، ويسع الكاتب أن يجمع كتاباً فيما ورد عنه في خواصّ الأشياء وفوائدها، وفي علاج الأمراض والأوجاع وفي الحميّة والوقاية، وهي متفرقة في غضون كتب الأحاديث ونحوها، وربّما لم يكشف عنها إِلا العلم الحديث مثل مداواة الحمّى بالماء البارد، فإنه ذكروا له الحمّى فقالعليه‌السلام :«إِنّا أهل بيت لا نتداوى إِلا بإفاضة الماء البارد يُصبُّ علينا» .

ومثل وجوب غسل الفاكهة قبل الأكل، قالعليه‌السلام :«إِن لكلّ ثمرة سمّاً فاذا أتيتم بها فأمسوها الماء واغمسوها في الماء» .

ونحن نحيلك على كتاب الأطعمة والأشربة من الوسائل: ٣/ من ٢٧٦ - ٣١١ لترى الشيء الكثير من ذلك.

____________________

(١) الأعراف: ٣١.

١٥١

الجفر

الجفر في الأصل ولد الشاة اذا عظم واستكرش، ولعلّ مبدأ هذا العلم كان يكتب على جلد ولد الشاة فسمّي به، وعلم الجفر علم الحروف الذي تعرف به الحوادث المستقبلة، وجاء عن الصادقعليه‌السلام أن عندهم الجفر وفسّره بأنه وعاء من أدم فيه علم النبيّين وعلم العلماء الذين مضوا من بني إِسرائيل، وجاء عنهم الشيء الكثير عن الجفر الذي عندهم، وإِنّا وإِن لم نعرف هذا العلم وما القصد منه إِلا أننا نعرف من هاتيك الأحاديث التي ذكرت الجفر وأنه من مصادرهم أن هذا العلم شريف منحهم اللّه إِيّاه، وجاء في الكافي أحاديث كثيرة عن الجفر الذي عندهم.

وذكر بعض علماء أهل السنّة الجفر وأنه ممّا يعلمه الصادقعليه‌السلام ، قال الشبلنجي في نور الأبصار ص ١٣١: وفي حياة الحيوان الكبرى فائدة، قال ابن قتيبة في كتاب أدب الكاتب: وكتاب الجفر كتبه الامام جعفر الصادق بن محمّد الباقر، فيه كلّ ما يحتاجون الى علمه الى يوم القيامة، والى هذا الجفر أشار أبو العلاء بقوله:

لقد عجبوا لآل البيت لمّا

أتاهم علمهم في جلد جفر

فمرآة المنجم وهي صغرى

تريه كلّ عامرة وقفر

وقال في الفصول المهمّة: نقل بعض أهل العلم أن كتاب الجفر الذي بالمغرب يتوارثونه بنو عبد المؤمن بن علي من كلام جعفر الصادق، وله فيه المنقبة السنيّة، والدرجة التي في مقام الفضل عليه.

الكيمياء وجابر بن حيّان

ذكر علم الصادقعليه‌السلام بالكيمياء كثير من المؤلّفين، وأن تلميذه جابر بن حيّان الصوفي الطرطوسي أخذ عنه هذا العلم، وألّف خمسمائة رسالة فيه في ألف ورقة، وهي تتضمّن رسائل جعفر الصادقعليه‌السلام (١) .

____________________

(١) تاريخ ابن خلكان في أحوال الصادق: ١/١٠٥.

١٥٢

وللقدماء والمتأخّرين من المستشرقين كلام كثير في شأن جابر وقد ذكره ابن النديم في الفهرست ص ٤٩٨ - ٥٠٣، وأطال فيه الكلام وذكر له من الكتب والرسائل في مختلف العلوم لا سيّما الكيمياء والطبّ والفلسفة والكلام شيئاً كثيراً لا يكاد يتّسع وقت الانسان في العمر الطبيعي لتأليفها، نعم إِلا لأفذاذ في الدهر منحوا ذكاءً وفطنةً مفرطين وانكبّوا على الكتابة والتّأليف، وذكر أن له تآليف على مذاهب الشيعة ومن ثمّ استظهر تشيّعه ولعلّ أخذه عن الصادق وائتمان الصادق به على هذا العلم شاهد على تشيّعه.

وذكره في الذريعة في عداد مؤلّفي الشيعة في ٢/ ٤٥١ - ٤٥٢ عند ذكره لكتابه (الايضاح) في الكيمياء.

ولو تصفّحت شيئاً من رسائله التي نشرها المستشرق «كراوس» لأيقنت بتشيّعه وأخذه عن الامام الصادق، لأَنه أخذ عنه كإمام مفترض الطاعة متّبع الرأي، ولعرفت أنه لم يأخذ عنه الكيمياء فحسب، بل الكلام وغيره.

وقد اكبر مؤلفو الاسلام منزلة جابر وعدّوه مفخرة من مفاخر الاسلام ولا بدع فإن من تزيد مؤلّفاته على ثلاثة آلاف كتاب ورسالة في مختلف العلوم، وجلّها من العلوم النظريّة والطبيعيّة التي تحتاج الى زمن طويل في تجاربها وتطبيقها - هذا عدا الفلسفة والكلام - لجدير بالتقدير والإكبار وأن يكون مفخرة يعتزّ به.

وقد كبر على المستشرقين أن يكون عربي مسلم ومن أهل القرن الثاني للهجرة يمتاز بتلك الآراء السديدة وتكون نظريّاته الاُسس العامّة التي قام عليها علم الكيمياء قديمه وحديثه، فصاروا يخبطون في تعرّضهم لكتبه كحاطب ليل، فمرَّة يشكّون في وجوده، وتارة في زمانه، واُخرى فيما نسب اليه من تلك الكتب، ورابعة في نسبة البعض ممّا يرويه عن استاذه الصادقعليه‌السلام ، وخامسة في التبويب والوضع والاسلوب لأنه لم يكن يعرفه أهل ذلك العصر، الى غير ذلك، وقد فنّد بعض تلك الشكوك والمزاعم الكاتب إِسماعيل مظهر صاحب مجلة العصور فيما نشره في المقتطف (٦٨ / ٥٤٤ - ٥٥١ ومن ٦١٧ - ٦٢٥) وجلى في هذه الحلبة الاستاذ أحمد زكي صالح فيما كتبه في مجلة الرسالة المصريّة السنة الثامنة (ص ١٢٠٤ - ١٢٠٦ ومن ١٢٣٥ - ١٢٣٧ ومن ١٢٦٨ - ١٢٧٠ ومن ١٢٩٩ - ١٣٠٢)، ولقد فنَّد تلك الأوهام والمزاعم تفنيداً حكيماً علميّاً.

١٥٣

وصرّح مراراً بتشيّعه، وقال في مناقشة رأي الاستاذ (كراوس) ص ١٢٩٩: ومن الجليّ الواضح لدى كلّ من درس علم الكلام أن فِرَق الشيعة كانت أنشط الفِرق الاسلاميّة حركة، وكانت أولى من أسّس المذاهب الدينيّة على اُسس فلسفية، حتّى أن البعض ينسب فلسفة خاصّة لعليّ بن أبي طالب.

وكان هذا الكلام من أحمد زكي لتصحيح ما يُنسب الى جابر من المقارنة بين الآراء الكلاميّة والفلسفيّة.

وجملة القول أنه قد أصبح من الواضح تشيّع جابر وتقدّمه في عدّة علوم لا سيّما الكلام والفلسفة والطبّ والكيمياء والطبيعيّات عامّة، وما كادت لتكون آراؤه الاُسّ العامّ لدعائم علم الكيمياء إِلا لأنه أخذ ذلك من معدنه الصحيح الامام الصادقعليه‌السلام .

وكنت قد جمعت عدَّة مصادر عن جابر لا تبسط في ترجمته غير أني اكتفيت بهذا الوجيز عن الإطالة فيها، فإنّا لو استقصينا الكلام على كلّ ما يقتضي التوسعة في البحث عنه لكان هذا الكتاب عدّة أجزاء، وهو وإِن كان لا يخلو من فائدة، غير أنه يكون أبعد عن حياة الصادق الخاصّة.

سائر العلوم

لا نعني بما ذكرناه من العلوم التي كتبنا عنها وأوضحنا أخذ الناس عن الصادق فيها أن تلك جميع ما لديه، بل إِن الامام على رأي الإمامية يجب أن يكون عالماً بكلّ شيء وأعلم الناس في كلّ علم وفنّ ولسان ولغة، كما يقتضيه حكم العقل(١) ولو نظرنا الى الدليل السمعي من دون أن نثبت له الإمامة الإلهية لفهمنا منه أن في كلّ زمان عالماً من العترة بالكتاب والسنّة كما هو مفاد حديث الثقلين وأن عالم الكتاب الذي نزل على الرسول تبياناً لكلّ شيء يجب أن يكون عالماً بكلّ شيء، وما دام الكتاب موجوداً فالعالم به من العترة موجود الى يوم الحشر، ولا يعدو أن يكون ذلك العالم في عهد الصادق نفسه، إِذ ليس في زمانه من هو أعلم منه في العترة، وكفت آثاره دلالة على ذلك العلم.

____________________

(١) وقد أوضحنا ذلك في رسالتنا «الشيعة والإمامة» فانظرها إِن أردت التحقيق.

١٥٤

فصادق أهل البيت إِذن عالم أهل البيت في عصره وعالم العترة بالكتاب الجامع للعلوم والفنون، فمن ثمّة نستغني بما سلف عن التعرّض لبقيّة العلوم والشواهد على علمه فيها، فليس غريباً لو جاء الحديث أن الصادق كلّم الفُرس بلسانهم وأهل اللغات بلغاتهم وناظر أهل كلّ علم وفنّ فخصمهم مثل علماء النجوم والفلك والطبيعيات والطبّ وما عداها، وكلّ ذلك نطقت به الأخبار ودلّت عليه الآثار.

كيف صار مذهباً ؟

إِن المذهب في عرف أهل الاسلام هو المرجع في أحكام الدين، وهذا لا يقتضي أن يكون الصادقعليه‌السلام دون الأئمة الأثني عشر مذهباً، لأن الشيعة الإماميّة ترى أن كلّ إِمام من اولئك الأئمة من عليّ أمير المؤمنين الى الغائب المنتظر يجب الأخذ بقوله والعمل برأيه، لأن علمهم - كما يرون - علم واحد موروث من الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا يختلفون في أخذه ولا يروون عن غيره، وعلمهم سلسلة واحدة يرثه الإبن عن أبيه من دون اجتهاد فيه ولا تحريف في أخذه ونقله.

بيدَ أن الفرص لم تسنح لواحد منهم في إِظهار ما استودعهم الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإِبلاغ ما استحفظهم عليه، كما سنحت للصادق جعفرعليه‌السلام فإن الذي ساعد على بثّه للمعارف ونشره للعلوم الموروثة لهم من سيّد الرسلصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إِجتماع عدّة اُمور:

١ - إن زمن استقلاله بالإمامة قد طال حتّى جاوز الثلاثين عاماً، ولئن كان جدّه زين العابدين وابنه موسى الكاظم وحفيده عليّ الهاديعليهم‌السلام قد شاركوه في طول الزمن، وكانت أيام إِمامتهم تجاوزت الثلاثين عاماً أيضاً فإنه لم يتّفق لهم ما اتّفق له ممّا يأتي.

٢ - إن أيامه كانت أيام علم وفقه، وكلام ومناظرة، وحديث ورواية، وبدع وضلالة، وآراء ومذاهب، وهذه فرصة جديرة بأن يبدي العالم فيها علمه، ليقمع بذلك الأضاليل والأباطيل، ويبطل الآراء والأهواء، ويصدع بالحقّ، وينشر الحقيقة.

٣ - إِنّه مرّت عليه فترة من الرفاهيّة على بني هاشم لم تمرّ على غيره من الأئمة، فلم يتّفق له على الأكثر ما كان يحول دون آبائه وأبنائه من الجهر بمعارفهم بالتضييق عليهم ومنع الناس عنهم ومنعهم عن الناس من ملوك أيامهم.

١٥٥

ولم يملك من الأئمة زمام الأمر سوى أمير المؤمنينعليه‌السلام ، ولكن كانت أيامه على قصرها بين حرب وكفاح وبين مناهضة للبدع والضلالات فحمّلوه على السير في محجّة لا يجد مناصاً من السلوك فيها، على أنه لم تكن في أيامه ما كان في عهد الصادق من انتشار العلم بين طبقات الناس وظهور الأهواء والآراء والنِّحل والمذاهب. أمّا الصادق فقد عاصر الدولتين المروانيّة والعبّاسيّة ووجد فترة لا يخشى فيها سطوة ظالم ولا وعيد جبّار، وتلك الفترة امتزجت من اُخريات دولة بني مروان واوليات دولة بني العبّاس، لأن الاُمويين وأهل الشام لمّا أجهزوا على الوليد بن يزيد وقتلوه انتقضت عليهم أطراف البلاد وتضعضعت أركان سلطانهم، وكانت الدعوة لبني هاشم قد انتشرت في جهات البلاد فكانت تلك الاُمور كلّها صوارف لبني مروان عمّا عليه الصادقعليه‌السلام من الحياة العلميّة، ولمّا انكفأ بهم الزمن وسالم بني العبّاس اشتغل بنو العبّاس بتطهير الأرض من اُميّة وبتأسيس الدولة الجديدة، وأنت تعلم بما يحتاجه المُلك الغضّ من الزمن لتأسيسه ورسوخه، فكان انصرافهم لبناء المُلك وإِحاطته شاغلاً لهم برهة من الزمن عن شأن الصادق في بثّه العلوم والمعارف وإِن لم يتناسه السفّاح ولكن لم يجد عنده ما يخشاه، ولمّا جاء دور المنصور وصفا المُلك له ناصب العداء للصادق فكان يضيّق عليه مرّة ويتغاضى عنه اُخرى. روى العلامة ابن شهراشوب(١) في كتابه المناقب في أحوال الصادق عن المفضّل بن عمر: «أن المنصور قد همّ بقتل أبي عبد اللّهعليه‌السلام غير مرّة، فكان اذا بعث اليه ودعاه ليقتله فاذا نظر اليه هابه ولم يقتله، غير أنه منع الناس عنه ومنعه عن القعود للناس واستقصى عليه أشدّ الاستقصاء حتّى أنه كان يقع لأحدهم مسألة في دينه في نكاح أو طلاق أو غير ذلك، فلا يكون علم ذلك عندهم ولا يصلون اليه فيعتزل الرجل أهله، فشقّ ذلك على شيعته وصعب عليهم، وحتّى ألقى اللّه عزّ وجل في روع المنصور أن يسأل الصادقعليه‌السلام ليتحفه بشيء من عنده لا يكون لأحد مثله، فبعث اليه بمخصرة(٢) كانت للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم طولها ذراع، ففرح بها فرحاً شديداً وأمر أن تشقّ أربعة أرباع، وقسّمها في أربعة مواضع، ثمّ قال له: ما جزاؤك عندي إِلا أن اطلق لك وتفشي علمك لشيعتك، ولا أتعرّض لك ولا لهم فاقعد غير محتشم(٣) وافتِ الناس ولا تكن في بلد أنا فيه، ففشى العلم عن الصادق، وأجاز في المنتهى».

____________________

(١) أشرنا الى شيء من حاله في تعليقة ص ٧٨.

(٢) بالكسر والسكون فالفتح ما يتوكّأ عليه كالعصا ونحوها وما يأخذه الملك بيده يشير به إِذا خاطب.

(٣) على زنة اسم الفاعل، أي غير هائب ومنقبض.

١٥٦

فلهذا وغيره قد فشى عن الصادقعليه‌السلام من العلوم ما لم تسمح الظروف به لسواه من الأئمة، وهذه كتب الحديث والفقه والأخلاق والاحتجاج وغيرها من كتب المعارف والعلوم ترشدك الى ما كان منه، وكفت كثرة رواته والرواية عنه، ولقد كتب عن رواته جملة من المؤلّفين وذكروا أن عددهم أربعة آلاف أو يزيدون، ومن المؤلّفين ابن عقدة(١) ، فإذا كانت الرواة عنه أربعة آلاف فكم كانت الرواية ؟ واذا كان راوٍ واحد يروي عنه ثلاثين ألف حديث فكم تكون رواية الباقين ؟ وكم هي العلوم والمعارف التي اُسندت اليه؟

وجملة القول أن الصادقعليه‌السلام إِنما عرف بأنه مذهب تنتسب اليه الاماميّة والجعفريّة، لما انتشر عنه من العلم وحفظ منه من الحديث حتّى أن اكثر ما في كتب الحديث الشيعيّة مرويّ عنه.

وما كانت الرواية عنه مقصورة على الشيعة بل أخذ عنه اكابر معاصريه من أهل السنّة، ومنهم مالك وأبو حنيفة والسفيانان وأيوب وابن جريح وشُعبة وغيرهم، بل أرجع ابن أبي الحديد فقه المذاهب الأربعة اليه، كما في شرح النهج: (١/٦).

وكان انتساب الشيعة اليه من عهده، وهو القائل في وصاياه لأصحابه: فإن الرجل منكم اذا ورع في دينه وصدق الحديث وأدّى الأمانة وحسن خلقه مع الناس قيل: هذا جعفريّ ويسرّني ذلك، وإِذا كان على غير ذلك دخل عليّ بلاؤه وعاره وقيل: هذا أدب جعفر(٢) .

____________________

(١) هو أحمد بن محمّد بن سعيد الكوفي، وكان زيديّاً جاروديّاً، وشأنه في الجلالة والوثاقة وكثرة الحفظ معروف مشهور، وقد حكي عنه أنه قال: أحفظ مائة وعشرين ألف حديث بأسانيدها واُذاكر بثلثمائة ألف حديث، وله كتب كثيرة منها كتاب أسماء الرجال الذين رووا عن الصادقعليه‌السلام وهم أربعة آلاف رجل، وأخرج فيه لكلّ رجل الحديث الذي رواه، ولم يُعرف اليوم كتابه في الوجود، مات بالكوفة عام ٢٣٣.

(٢) الكافي: ٢/٦٣٦/٥.

١٥٧

وكانت هذه النسبة معروفة في ذلك العهد حتّى أن شريكاً القاضي شهد عنده شيعيّان وهما محمّد بن مسلم الثقة الشهير المعروف بصحبته للصادق وأبو كريبة الأزدي، فنظر شريك في وجهيهما مليّاً ثمّ قال: جعفريّان فاطميّان(١) .

فنعرف من هذا أن النسبة كانت من أيامه واستمرّت الى هذا اليوم.

مناظراته

لأبي عبد اللّهعليه‌السلام الكثير من الحجج البوالغ التي أظهر فيها الحقّ وقطع فيها العذر، نوافيك بشطر منها لأنها ناحية من نواحي حياته العلميّة المليئة بالعِبر والعِظات لا يستغني المسلم عن الوقوف عليها.

مناظراته في التوحيد

سبق شيء من كلامهعليه‌السلام في التوحيد، وكان في طيّه بعض المناظرات، ونورد ههنا شيئاً منها غير ما سلف.

فمن تلك المناظرات ما يروى عن هشام بن الحكم، قال: كان بمصر زنديق يبلغه عن أبي عبد اللّهعليه‌السلام أشياء، فخرج الى المدينة ليناظره فلم يصادفه بها، وقيل: إِنه خارج بمكّة، فخرج الى مكّة ونحن مع أبي عبد اللّهعليه‌السلام فصادفنا ونحن مع أبي عبد اللّه في الطواف وكان اسمه عبد الملك وكنيته أبو عبد اللّه، فضرب كتفه كتف أبي عبد اللّهعليه‌السلام ، فقال له: ما اسمك ؟ قال: عبد الملك، قال: فما كنيتك ؟ قال: أبو عبد اللّه، فقال أبو عبد اللّهعليه‌السلام : فمن هذا الملك الذي أنت عبده ؟ أمن ملوك الأرض أم ملوك السماء ؟ واخبرني عن ابنك عبد إِله السماء أم عبد إِله الأرض ؟ قل ما شئت تخصم. فلم يحر جواباً.

____________________

(١) بحار الأنوار: ٤٧/٣٩٣/١١٥.

١٥٨

ثمّ أن الصادقعليه‌السلام قال له: اذا فرغت من الطواف فأتنا، فلما فرغ أبو عبد اللّهعليه‌السلام أتاه الزنديق فقعد بين يدي أبي عبد اللّهعليه‌السلام ونحن مجتمعون عنده، فقال أبو عبد اللّه للزنديق: أتعلم أن للأرض تحتاً وفوقاً ؟ قال: نعم، قال: فدخلت تحتها ؟ قال: لا، قال: فما يدريك ما تحتها ؟ قال: لا أدري إِلا أني أظن أن ليس تحتها شيء، فقال أبو عبد اللّهعليه‌السلام : فالظنّ عجز فلِم لا تستيقن، ثمّ قال أبو عبد اللّهعليه‌السلام : أفصعدت الى السماء ؟ قال: لا، قال: أفتدري ما فيها ؟ قال: لا، قال: عجباً لك لم تبلغ المشرق ولم تبلغ المغرب، ولم تنزل الى الأرض ولم تصعد الى السماء، ولم تجز هناك فتعرف ما خلفهنّ، وأنت جاحد بما فيهنّ، فهل يجحد العاقل ما لا يعرف ؟ قال الزنديق: ما كلّمني بها أحد غيرك.

فقال أبو عبد اللّهعليه‌السلام : فأنت من ذلك في شكّ فلعلّه هو ولعلّه ليس هو، فقال الزنديق: ولعلّ ذلك، فقال أبو عبد اللّهعليه‌السلام : أيّها الرجل ليس لمن لا يعلم حجّة على من يعلم، ولا حجّة للجاهل، يا أخا أهل مصر تفهم عنّي فإنّا لا نشكّ في اللّه أبداً، أما ترى الشمس والقمر والليل والنهار يلجان فلا يشتبهان ويرجعان، قد اضطرّا ليس لهما مكان إِلا مكانهما فإن كانا يقدران على أن يذهبا فلِم يرجعان ؟ وإن كانا غير مضطرّين فلِم لا يصير الليل نهاراً والنهار ليلاً ؟ اضطرّا واللّه يا أخا أهل مصر الى دوامهما والذي اضطرّهما أحكم منهما واكبر(١) فقال الزنديق: صدقت.

ثمّ قال أبو عبد اللّهعليه‌السلام : يا أخا أهل مصر إِن الذي تذهبون اليه وتظنّون أنه الدهر إِن كان الدهر يذهب بهم فلِم لا يردّهم ؟ وإِن كان يردّهم لِم لا يذهب بهم ؟ القوم مضطرّون يا أخا أهل مصر، لِم السماء مرفوعة والأرض موضوعة ؟ لِم لا تنحدر السماء على الأرض ؟ لِم لا تنحدر الأرض فوق طباقها ؟ ولا يتماسكان ولا يتماسك مَن عليها ؟ قال الزنديق: أمسكهما اللّه ربّهما سيّدهما.

____________________

(١) أي أكبر في القوّة والقدرة وما شابه ذلك.

١٥٩

قال: فآمن الزنديق على يدي أبي عبد اللّهعليه‌السلام ، فقال حمران بن أعين(١) : جعلت فداك إِن آمنت الزنادقة على يدك فقد آمن الكفّار على يد أبيك، فقال المؤمن الذي آمن على يدي أبي عبد اللّهعليه‌السلام : اجعلني من تلامذتك، فقال أبو عبد اللّه: يا هشام بن الحكم خذه اليك، فعلّمه هشام، وكان معلّم أهل الشام وأهل مصر الايمان، وحسنت طهارته حتّى رضي بها أبو عبد اللّهعليه‌السلام (٢) .

وجاء اليه زنديق آخر وسأله عن أشياء نقتطف منها ما يلي: قال له: كيف يعبد اللّه الخلق ولم يروه ؟ قال أبو عبد اللّهعليه‌السلام : رأته القلوب بنور الايمان، وأثبتته العقول بيقظتها إِثبات العيان، وأبصرته الأبصار بما رأته من حسن التركيب وإِحكام التأليف، ثمّ الرسل وآياتها، والكتب ومحكماتها، واقتصرت العلماء على ما رأت من عظمته دون رؤيته، قال: أليس هو قادر أن يظهر لهم حتّى يروه فيعرفونه فيُعبد على يقين ؟ قالعليه‌السلام : ليس للمحال جواب.

أقول: إِنما الرؤية تثبت للأجسام وإِذا لم يكن تعالى جسماً استحالت رؤيته، والمحال غير مقدور لا من جهة النقص في القدرة بل النقص في المقدور.

قال الزنديق: فمن أين أثبت أنبياءً ورسلاً، قالعليه‌السلام : إِنّا لمّا أثبتنا أنَّ لنا خالقاً صانعاً متعالياً عنّا وعن جميع ما خلق، وكان ذلك الصانع حكيماً لم يجز أن يشاهده خلقه ولا أن يلامسوه ولا أن يباشرهم ويباشروه ويحاجّهم ويحاجّوه، ثبت أن له سفراء في خلقه وعباده يدلّونهم على مصالحهم ومنافعهم وما به بقاؤهم وفي تركه فناؤهم، فثبت الآمرون والناهون عن الحكيم العليم في خلقه، وثبت عند ذلك أن لهم معبّرين وهم الأنبياء وصفوته من خلقه، حكماء مؤدّبين بالحكمة، مبعوثين عنه، مشاركين للناس في أحوالهم على مشاركتهم لهم في الخلق والتركيب، مؤيّدين من عند الحكيم العليم بالحكمة والدلائل والبراهين والشواهد من إِحياء الموتى وإِبراء الأكمه والأبرص.

ثمّ قال الزنديق: من أيّ شيء خلق الأشياء ؟ قالعليه‌السلام : من لا شيء، فقال: كيف يجيء شيء من لا شيء ؟ قالعليه‌السلام : إِن الأشياء لا تخلو إِما أن تكون خلقت من شيء أو من غير شيء فإن كانت خلقت من شيء كان معه، فإن ذلك الشيء قديم، والقديم لا يكون حديثاً، ولا يتغيّر ولا يخلو ذلك الشيء من أن يكون جوهراً واحداً ولوناً واحداً، فمن أين جاءت هذه الألوان

____________________

(١) سنذكره في المشاهير من ثقاته.

(٢) الكافي: ١/٧٤.

١٦٠