الإمام جعفر الصادق عليه السلام الجزء ١

الإمام جعفر الصادق عليه السلام0%

الإمام جعفر الصادق عليه السلام مؤلف:
تصنيف: الإمام الصادق عليه السلام
الصفحات: 228

الإمام جعفر الصادق عليه السلام

مؤلف: العلامة الجليل الشيخ محمد الحسين المظفر
تصنيف:

الصفحات: 228
المشاهدات: 70826
تحميل: 5221


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 228 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 70826 / تحميل: 5221
الحجم الحجم الحجم
الإمام جعفر الصادق عليه السلام

الإمام جعفر الصادق عليه السلام الجزء 1

مؤلف:
العربية

وقد جمعت شطراً من تلك الأحاديث التي رويت عنه وعن آبائه وأبنائه في الأخلاق والآداب والأحكام فحسب، الكتب الأربعة (الكافي، ومن لا يحضره الفقيه، والتهذيب، والاستبصار) ثمّ جمعها الملا محسن الفيض الكاشاني(١) في كتاب (الوافي)، ولمّا وجد الحرّ العاملي(٢) كتباً اُخرى تصلح لأن تكون مصدراً للأَحكام حاصّة ضمّها الى ما في الكتب الأربعة فألّف كتابه (تفصيل وسائل الشيعة) فكان ما روى عنه بلا واسطة ثمانين كتاباً وبواسطة سبعين كتاباً.

ثمّ جاء أخيراً العلامة النوري ميرزا حسين(٣) وقد وقف على عدّة كتب اُخرى صالحة لأن تكون مصدراً، فجمع منها الشيء الوافر في الأحكام خاصّة، وألّفه على نهج كتاب الوسائل للحرّ وسماه (مستدرك الوسائل).

هذا ما كان في الأحكام خاصّة، وأما في الأخلاق والآداب، فلم يجمع فيهما من الكتب الأربعة إِلا الكافي، واكثر ما روي فيها كان عنهعليه‌السلام خاصّة، ولو شئت أن تحصي الكتب التي روت عنهم وعنه لأعياك العدّ، فهذا الشيخ الصدوق محمّد بن علي بن بابويه وحده قد ألّف عشرات الكتب التي اشتملت على أحاديثهم.

____________________

(١) صاحب التآليف القيّمة الكثيرة، وقيل إنها قريب من مائة مؤلّف منها كتاب الوافي وفيه شروح جمّة على الأحاديث، وكتاب الصافي في التفسير، والشافي مختصره، والمحجّة البيضاء في إِحياء الأحياء، والحقائق ملخّصه، ومفاتيح الشرائع في الفقه، وعلم اليقين، وعين اليقين وغيرها توفي عام ١٠٩١.

(٢) هو محمّد بن الحسن بن علي الحرّ العاملي، وكتابه الوسائل من أنفس الكتب في ترتيبه وتبويبه، وكان فراغه من تأليفه في منتصف رجب عام ١٠٨٢، وله كتاب أمل الآمل في علماء جبل عامل، وكانت ولادته عام ١٠٣٣ ثامن رجب في قرية مشغرة من جبل عامل ووفاته في خراسان ٢١ من شهر رمضان عام ١١٠٤.

(٣) صاحب التآليف الجمّة القيّمة، وكان دأبه الجمع والتأليف توفي عام ١٣٢٠.

١٢١

وكفى في وفرة الحديث عنهم ما جمعه بحار الأنوار للعلامة المجلسي(١) .

وإن اشتمل على الغثّ والسمين شأن المؤلّفات الواسعة، غير أنك اذا استقريت بعض كتبه عرفت وفرة ما فيه، ومن الغريب أن يكون هذا الكتاب الجامع الذي لم يؤلّف مثله حتّى اليوم قد فاته الشيء الكثير من حديثهم، فتصدّى بعض علماء العصر وفّقه اللّه(٢) لجمع كتاب مستدرك للبحار وقد جمع الى اليوم فيه الشيء الكثير.

وكان الصادقعليه‌السلام يرغّب أصحابه في رواية الحديث فيقول لمعاوية بن وهب(٣) الراوية للحديث: المتفقّه في الدين أفضل من ألف عابد لا فقه له ولا رواية.

أقول: ولا إِخالك تستغرب من هذا التفضيل، لأن اللّه تعالى يريد من عباده أن ينفع بعضهم بعضاً، ويصلح بعضهم بعضاً، والعابد صالح، والمحدّث المتفقّه مصلح وصالح.

الفقه

إِن الفقه هو معرفة الأحكام الفرعيّة من الطهارات الى الديات، وهذه الأحكام مأخوذة من الأدلّة الأربعة واكثرها شرحاً وبسطاً - السنّة – وهي حديث الرسول وأهل بيته عند الشيعة، فكتُبُ الشيعة في الفقه مأخوذة من هذه الأدلّة الأربعة، واكثر السنّة حديثاً هو الحديث الصادقي، ولولا حديثه لأشكل على العلماء استنباط اكثر تلك الأحكام.

وما كان فقهاء الشيعة عيالاً عليه فحسب، بل أخذ كثير من فقهاء السنّة الذين عاصروه الفقه عنه، أمثال مالك وأبي حنيفة والسفيانين وأيوب وغيرهم، كما ستعرفه في بابه، بل ابن أبي الحديد في شرح النهج (١: ٦) أرجع فقه المذاهب الأربعة اليه، وهذا الآلوسي في مختصر التحفة الاثني عشريّة ص ٨ يقول: وهذا أبو حنيفة وهو بين أهل السنّة كان يفتخر ويقول بأفصح لسان: لولا السنّتان لهلك النعمان، يريد السنّتين اللتين صحب فيها الامام جعفر الصادقعليه‌السلام لأخذ العلم.

____________________

(١) هو شيخ الاسلام الشيخ محمّد باقر ابن الشيخ محمد تقي المجلسي طاب ثراه وكان في أيّامه صاحب النفوذ في دولة الشاه حسين الصفوي وكانت حوزته العلميّة تجمع أَلف تلميذ، وله مؤلّفات اُخرى جليلة سوى البحار، وكانت ولادته عام ١٠٣٧، ووفاته عام ١١١٠ أو ١١١١ في اصفهان، وبها اليوم مرقده معروف يزار.

(٢) هو العلامة الجليل الكبير سنّاً وأخلاقاً ميرزا محمّد الطهراني نزيل سامراء اليوم.

(٣) الظاهر أنه البجلي الكوفي، الثقه الجليل، وقد روى عن الصادق والكاظمعليهما‌السلام ، وله كتاب رواه عنه جماعة من أجلاء الرواة.

١٢٢

فكان الحقّ أن يصبح أبو عبد اللّهعليه‌السلام فقيه الاسلام الوحيد، وكفى من فقهه كثرة الرواية والرواة عنه، ومَن سَبر كتُبَ الحديث عرف كثرة الحديث الصادقي، وكثرة رواته وقد عاصره فقهاء كثيرون، فما بلغ رواة أحدهم ما بلغه رواته، وما أنفق في هذه السوق أحد مثلما أنفقه من علم وفقه، وما سئل عن شيء فتوقّف في جوابه.

إِن الفقه النظام العامّ للناس، ولا يُعرف الدين بسواه، ومن هنا أمر الصادق رجاله بالتفقّه في الدين فقالعليه‌السلام : «حديث في حلال وحرام تأخذه من صادق خير من الدنيا وما فيها من ذهب أو فضّة». وقالعليه‌السلام : «لا يشغلك طلب دنياك عن طلب دينك فان طالب الدنيا ربّما أدرك وربّما فاتته فهلك بما فاته منها».

وقال حرصاً على التفقّه في الدين:«ليت السياط على رؤوس أصحابي حتى يتفقّهوا في الحلال والحرام» . وقالعليه‌السلام :«تفقّهوا في الدين، فإنه من لم يتفقّه منكم فهو اعرابي» (١) .

وسئل عن الحكمة في قوله تعالى:«ومن اوتي الحكمة فقد اوتي خيراً كثيراً» (٢) فقال:«إِن الحكمة المعرفة والتفقّه في الدين» (٣) .

والفقيه عنده العارف بالحديث، فقالعليه‌السلام :«اعرفوا منازل شيعتنا بقدر ما يحسنون من رواياتهم عنّا، فإنّا لا نعدّ الفقيه منهم فقيهاً حتّى يكون محدَّثاً» (٤) .

الأخلاق

إِن علم الأخلاق لم يكن بدء الأمر مبوّباً، وإِنما كانت الأخلاق تلتقط من تلك الآيات الكريمة التي جاء بها الكتاب الحكيم(٥) ومن كلام سيّد الأنبياء وسيّد الأوصياء وأبنائهما الحكماء عليهم جميعاً سلام اللّه، وإِنما ابتدأ التأليف فيه عند الشيعة في اُخريات القرن الثاني من إسماعيل بن مهران بن أبي نصر السكوني وكان من أصحاب الرضاعليه‌السلام وثقات الرواة وله كتاب صفة المؤمن والفاجر، ثمّ ألّف فيه من رجال القرن الثالث أبو جعفر أحمد بن محمّد بن خالد البرقي، وكان من ثقات الرواة وأبوه محمّد من أصحاب الرضاعليه‌السلام

____________________

(١) بحار الأنوار: ١/٢١٥/١٩.

(٢) البقرة: ٢٦٩.

(٣) بحار الأنوار: ١/٢١٥/٢٥.

(٤) بحار الأنوار: ٢/٨٢/١.

(٥) جمعت الشيء الكثير من الآيات الأخلاقيّة وعلّقت عليها موجزاً من البيان وسمّيته: القرآن تعليمه وإِرشاده.

١٢٣

وثقات رواته، وكتاب أبي جعفر (المحاسن) من محاسن الكتب، وكانت وفاته عام ٢٧٤ أو ٢٨٠ في قم، ومن رجال هذا القرن المؤلّفين في الأخلاق الحسن بن علي بن شعبة، وكتابه تحف العقول وهو كتاب نفيس يشتمل على الحِكم والمواعظ والأخلاق لكل إِمام إِمام، ثمّ اتّسع التأليف في الأخلاق فكان من أفضله اُصول الكافي لثقة الاسلام الكليني طاب ثراه المتوفى عام ٣٢٩، الذي جاهد طوال السنين في تأليف هذا الكتاب حتّى جعله منتخباً في أحاديثه وأسانيده، ولو ألقيت نظرة على كتبه وأبوابه لعرفت ما هي الأخلاق وما علم الصادق وأهل البيت في الأخلاق.

ولو أمعن الناظر في هذا الكتاب لعرف أن أفضل مصدر لعلم الأخلاق بعد الكتاب الحكيم كلام مَن كان على خلق عظيم، وكلام من ورثوا عنه كلّ علم وفضل، وسوف تجد صدق ذلك اذا قرأت المختار من كلام الصادقعليه‌السلام في هذا الكتاب.

التفسير

كان في الحديث عن أهل البيت الذي أشرنا اليه موارد جمّة للتفسير حتّى أن بعض المفسّرين جعلوا تفسيرهم كلّه مبنيّاً على الحديث، واذا شئت أن تعرف شيئاً من كلام الصادقعليه‌السلام في التفسير فدونك (مجمع البيان) فإنه قد أورد شيئاً من أحاديثه في تفسيره، وقد يشير الى رأي أهل البيت مستظهراً ذلك من حديثهم.

وأن هناك مؤلّفات عديدة في آيات الأحكام، وقد علّق عليها المؤلّفون ما جاء في تفسيرها والاشارة الى مفادها من طريق أهل البيت وأحاديثهم، والحديث الوارد عن سيّد الرسل في عدّة مقامات ومن عدّة طرق:«إني تارك فيكم الثقلين كتاب اللّه وعترتي أهل بيتي، ما إِن تمسّكتم بهما لن تضلّوا بعدي أبداً فإنهما لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض» يعرّفنا مبلغ علمهم بالقرآن، وان في كلّ زمن عالماً منهم بالقرآن، وتشفع لهذا الحديث الأخبار الكثيرة الواردة عن أهل البيت في شأن علمهم

١٢٤

بالقرآن، والصادق نفسه يقول: واللّه إِني لأعلم كتاب اللّه من أوّله الى آخره كأنه في كفّي، فيه خبر السماء وخبر الأرض، وخبر ما كان وخبر ما هو كائن، قال اللّه عزّ وجل«فيه تبيان كلّ شيء» (١) .

ويفرج أصابعه مرّة اُخرى فيضعها على صدره ويقول:«وعندنا واللّه علم الكتاب كلّه» (٢) الى كثير أمثال ذلك.

ولا بدّ في كلّ زمن من عالم بالقرآن الكريم على ما نزل، كما يشهد لذلك حديث الثقلين، ولأن القرآن إِمام صامت وفيه المحكم والمتشابه، والمجمل والمبيّن، والناسخ والمنسوخ، والعامّ والخاصّ، والمطلق والمقيّد، الى غير ذلك ممّا خفي على الناس علمه، وكلّ فرقة من الاسلام تدّعي أن القرآن مصدر اعتقادها وتزعم أنها وصلت الى معانيه واهتدت الى مقاصده وتأتي على ذلك بالشواهد، فالقرآن مصدر الفَرق بزعم أهل الفِرق، فمَن هو الحكَم الفصل ليردّ قوله وتفسيره شبه هاتيك الفِرق، ومزاعم هذه المذاهب ؟ وقد دلّ حديث الثقلين على أن علماء القرآن هم العترة أهل البيت خاصّة ومنهم يكون العالم به في كلّ عصر.

وفي عصرهعليه‌السلام اذا لم يكن هو العالم بالقرآن فمَن غيره ؟ ليس في الناس مَن يدّعي أن في أهل البيت أعلم من الصادق في عهده في التفسير أو في سواه من العلوم.

علم الكلام

نعني من علم الكلام العلم الذي يبحث عن الوجود والوحدانيّة والصفات وما يلزم هذه المباحث من نبوّة وإِمامة ومعاد، وبالأدلّة العقليّة المبتنية على اُسس منطقيّة صحيحة، ولا نعني به علم الجدل الذي تاه فيه كثير من الناس لاعتمادهم فيه على خواطر توحيها اليهم نفوس ساقها الى الكلام حبّ الغلبة في المجادلة، دون أن يستندوا الى ركن وثيق أو يأخذوا هذا العلم من معدنه الصحيح.

وإِن جاء ذمّ على ألسنة الأحاديث للمتكلّمين فيعني بهم الذين تعلّموا الجدل للظهور والغلبة ولم يستقوا الماء من منبعه، ولم يعبأوا بما يجرّهم اليه الكلام من لوازم فاسدة، وأمّا الذين انتهلوه من مورده الروي وبنوه على اُسس صحيحة ودعائم وجدانيّة فإنهم ألسنة الحقّ وهداته ودعاة الايمان وأدلاؤه.

____________________

(١) يريد الاشارة الى قوله( ونزّلنا عليك الكتاب تبياناً لكلّ شيء ) .

(٢) الكافي: ١/٢٢٩/٥.

١٢٥

وإِن أوّل من برهن على الوجود ولوازم الوجود بالأدلّة العقليّة والآثار المحسوسة أمير المؤمنينعليه‌السلام حتّى كاد أن يشكّ في تلك الخطب بعض مَن يجهل أو يتجاهل مقام أبي الحسن من العلم الربّاني بدعوى أن العلم على تلك الاُصول لم يكن معهوداً في ذلك الزمن، وليت شعري إِن لم يعترف هذا الجاهل بأن علم أبي الحسن إِلهامي يستقيه من المنبع الفيّاض فإنه لا يجهل ما قاله النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيه: أنا مدينة العلم وعليّ بابها.

ونسج على منوال أبي الحسن بنوه في هذا العلم فإنهم مازالوا يفيضون على الناس من علمهم الزاخر عن الوجود ولوازمه، وكيف يعبد الناس ربّاً لا يعرفونه ويطيعون نبيّاً يجهلونه ويتّبعون إِماماً لا يفقهون مقامه، فالمعرفة قبل كلّ علم وأفضل كلّ علم، يقول الصادقعليه‌السلام : أفضل العبادة العلم باللّه(١) .

وليس للسمع في تلك القواعد والاُصول مدخل، لأن التقليد في العقليّات لا يصحّ عند أرباب العقول. بلى قد يجيء النقل دليل ولكنه من الارشاد الى حكم العقل، أو الاشارة الى الفطرة كما في قوله تعالى:( أفي اللّه شكّ فاطر السموات والأرض ) (٢) وأمثاله من القرآن المجيد، فإن هذه الآية الكريمة لم تحمّلك على القول بالوجود حتماً، بل لفتتك اليه من جهة الأثر ومشاهدته.

فاذا جاء عن الرسول وعترته أدلّة على هذه الاُصول فما كلامهم في هذا إِلا إِرشاد الى حكم العقل، فإنهم ما زالوا يدلّون على العقل ويهدون الى دلالته، وهذا الصادق نفسه يقول: العقل دليل المؤمن، ويقول: دعامة الانسان العقل، ويقول: لا يفلح من لا يعقل(٣) ، ولو قرأت ما أملاه الكاظمعليه‌السلام على هشام بن الحكم في شأن العقل والعقلاء(٤) لعرفت كيف عرفوا حقيقة العقل، ودلّوا عليه وحثّوا على الاستضاءة بنوره.

ولقد جاء في كلامهم الشيء الكثير من الاستدلال على هذه الاُصول، وهذا نهج البلاغة قد جمع من البراهين ما أبهر العقول وحيّر الألباب، كما جمعت كتب الحديث والكلام كثيراً من تلك الحجج، ومن تلك الكتب احتجاج الطبرسي، واُصول الكافي، وتوحيد الصدوق، والأوّل والثّاني من البحار، وفي كتبه الاُخرى التي يترجم فيها الأئمةعليهم‌السلام ويذكر كلامهم طيّ تراجمهم، الى نظائر هذه الكتب الجليلة. ونحن الآن نوافيك بشيء ممّا جاء عن الصادقعليه‌السلام في بعض هذه الاُصول.

____________________

(١) بحار الأنوار: ٢١٥/٢١.

(٢) إبراهيم: ١٠.

(٣) الكافي: ١/٢٦/٢٩.

(٤) الكافي: ١/١٣/١٢.

١٢٦

الوجود والتوحيد

إِن للصادقعليه‌السلام فصولاً جمّة في التدليل على وجوده ووحدانيّته تعالى، منها توحيد المفضّل، وهو الدروس التي ألقاها على المفضّل بن عمر الجعفي الكوفي أحد أصحابه الذين جمعوا بين العلم والعمل، ورسالته المسمّاة بالاهليلجة، المرويّة عن المفضّل أيضاً، غير أن التوحيد أخذه منه شفاهاً، والرسالة رواها مكاتبة وهاتان الرسالتان وإِن كانتا مقطوعتي السند غير أن البيان يفصح لك عن صدق النسبة، ولولا أن نخرج عن خطّتنا المرسومة لأتينا بهما جميعاً مع بعض التعاليق الوجيزة، غير أننا نأتي بشيء منهما لئلا يخلو هذا السفر من تلك العقود النفيسة.

توحيد المفضّل

سمع المفضّل ابن أبي العوجاء والى جانبه رجل من أصحابه في مسجد النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهما يتناجيان في ذكر النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويستغربان من حِكمته وحظوته، ثمّ انتقلا الى ذكر الأصل فأنكر وجوده ابن أبي العوجاء وزعم أن الاشياء ابتدأت بإهمال، فأزعج ذلك المفضّل فلم يملك نفسه غضباً وغيظاً، ثمّ أنحى عليه يسبّه، وبعد مناظرة جرت بينهما قام المفضّل ودخل على الصادقعليه‌السلام ، والحزن لائح على شمائله، يفكر فيما ابتلى به الاسلام وأهله من كفر هذه العصابة وتعطيلها، فسأله الصادقعليه‌السلام عن شأنه حين رأى الانكسار بادياً على وجهه، فأخبره بما سمعه من الدهريّين، وبما ردّ عليهما به، فقال الصادقعليه‌السلام : لألقينّ اليك من حِكمة الباري جلّ وعلا في خلق العالم والسباع والبهائم والطير والهوام وكلّ ذي روح من الأنعام، والنبات والشجرة المثمرة وغير ذات الثمر والحبوب والبقول المأكول وغير المأكول ما يعتبر به المعتبرون، ويسكن إِلى معرفته المؤمنون ويتحيّر فيه الملحدون فبكّر عليّ غداً.

حقّاً لقد ألقى الصادقعليه‌السلام على المفضّل من البيان ما أنار به الحجّة وأوضح الشبهة، ولم يدع للشكّ مجالاً، وللشبهة سبيلاً، وأبدى من الكلام عن بدائع خلائقه، وغرائب صنائعه، ما تحار منه الألباب، وتندهش منه العقول، وأظهر من خفايا حِكمه ما لا يهتدي إِلا أمثاله ممّن اوتي الحِكمة وفصل الخطاب.

١٢٧

وكلّما حاولت أن أنتخب فصولاً خاصّة من تلك البدائع لم أطق، لأني أجدها كلّها منتخبة، وأن أقتطف من كلّ روضة زهرتها اليانعة لم أستطع لأني أراها كلّها وردة واحدة في اللون والعرف، فما رأيت إِلا أن أذكر من كلّ فصل أوّله، واشير إِلى شيء منه، والفصول أربعة:

- ١ -

قالعليه‌السلام - بعد أن ذكر عمى الملحدين وأسباب شكّهم وتهيئة هذا العالم وتأليف أجزائه وانتظامها -: نبتدئ يا مفضّل بذكر خلق الانسان فاعتبر به، فأوّل ذلك ما يدبر به الجنين في الرحم وهو محجوب في ظلمات ثلاث: ظلمة البطن وظلمة الرحم، وظلمة المشيمة(١) حيث لا حيلة عنده في طلب غذاه، ولا دفع أذى، ولا استجلاب منفعة، ولا دفع مضرّة، فإنّه يجري اليه من دم الحيض ما

____________________

(١) الثوب الذي يكون فيه الجنين.

١٢٨

يغذوه كما يغذو الماء النبات، فلا يزال ذلك غذاءه حتّى اذا كمل خلقه واستحكم بدنه، وقوي أديمه(١) على مباشرة الهواء وبصره على ملاقاة الضياء هاج الطلق باُمّه فأزعجه أشدّ إِزعاج وأعنفه حتّى يولد، واذا ولد صرف ذلك الدم الذي كان يغذوه من دم اُمّه الى ثديها، فانقلب الطعم واللون الى ضرب آخر من الغذاء، وهو أشدّ موافقة للمولود من الدم، فيوافيه في وقت حاجته اليه، فحين يولد قد تلمّظ وحرّك شفتيه طلباً للرضاع، فهو يجد ثدي اُمّه كالأداوتين(٢) المعلّقتين لحاجته اليه، فلا يزال يغتذي باللبن مادام رطب البدن رقيق الأمعاء ليّن الأعضاء، حتّى اذا تحرّك واحتاج الى غذاء فيه صلابة ليشتدّ ويقوى بدنه طلعت له الطواحن من الأسنان والأضراس، ليمضغ بها الطعام فيلين عليه وتسهل له إساغته، فلا يزال كذلك حتّى يدرك، فاذا أدرك وكان ذكراً طلع الشعر في وجهه فكان ذلك علامة الذكر وعِزّ الرجل الذي يخرج به من حدّ الصبي وشبه النساء، وإِن كانت اُنثى يبقى وجههاً نقيّاً من الشعر لتبقى لها البهجة والنضارة التي تحرّك الرجال لما فيه دوام النسل وبقاؤه.

إِعتبر يا مفضّل فيما يدبر الانسان في هذه الأحوال المختلفة، هل ترى يمكن أن يكون بالإهمال ؟ أفرأيت لو لم يجر اليه ذلك الدم وهو في الرحم، ألم يكن سيذوي ويجفّ كما يجفّ النبات اذا فقد الماء ؟ ولو لم يزعجه المخاض عند استحكامه، ألم يكن سيبقى في الرحم كالموؤد في الأرض ؟ ولو لم يوافقه اللبن مع ولادته، ألم يكن سيموت جوعاً أو يغتذي بغذاء لا يلائمه ولا يصلح عليه بدنه ؟

ولو لم تطلع عليه الأسنان في وقتها، ألم يكن سيمتنع عليه مضغ الطعام وإِساغته، أو يقيمه على الرضاع فلا يشدّ بدنه ولا يصح لعمل، ثمّ كان تشتغل اُمّه بنفسه عن تربية غيره من الأولاد ؟ ولو لم يخرج الشعر في وجهه في وقته، ألم يكن سيبقى في هيئة الصبيان والنساء، فلا ترى له جلالاً ولا وقاراً ؟ فمَن هذا الذي يرصده حتّى يوافيه بكلّ شيء من هذه المآرب إِلا الذي أنشأه خلقاً بعد أن لم يكن، ثمّ توكّل له بمصلحته بعد أن كان، فإن كان الإهمال يأتي بمثل هذا التدبير فقد يجب أن يكون العمد والتقدير يأتيان بالخطأ والمحال لأنهما ضدّ الإهمال، وهذا فظيع من القول وجهل من قائله، لأن الإهمال لا يأتي بالصواب، والتضادّ لا يأتي بالنظام، تعالى اللّه عمّا يقول الملحدون علوّاً كبيراً.

____________________

(١) جلده.

(٢) تثنية أداوة - بالكسر - إِناء صغير من جلد يتّخذ للماء.

١٢٩

أقول: إِن الإهمال دوماً يأتي بالخطأ كما نشاهده عياناً، أرأيت لو وجّهت الماء الى الزرع وأهملت تقسيمه على الألواح أيسقي الألواح كلّها من دون خلل، أو إِذا نثرت البذر في الأرض من دون مناسبة أيخرج الزرع بانتظام، أو إِذا جمعت قطعاً من خشب وواصلتها بمسامير أتكون كرسيّاً أو باباً من دون تنسيق.

ثمّ قالعليه‌السلام : ولو كان المولود يولد فهماً عاقلاً لأنكر العالم عند ولادته، ولبقي حيران تائه العقل إِذا رأى ما لم يعرف، وورد عليه ما لم يرَ مثله من اختلاف صور العالم من البهائم والطير إِلى غير ذلك ممّا يشاهده ساعة بعد ساعة ويوماً بعد يوم، واعتبر ذلك بأن من سبي من بلد إِلى بلد وهو عاقل يكون كالواله الحيران فلا يسرع في تعلّم الكلام وقبول الأدب كما يسرع الذي يسبى صغيراً غير عاقل، ثم لو ولِد عاقلاً كان يجد غضاضة إِذا رأى نفسه محمولاً مرضعاً معصّباً بالخرق مسجّى في المهد، لأنه لا يستغني عن هذا كلّه لرقّة بدنه ورطوبته حين يولد، ثمّ كان لا يوجد له من الحلاوة والوقع من القلوب ما يوجد للطفل، فصار يخرج الى الدنيا غبيّاً غافلاً عمّا فيه أهله فيلقى الأشياء بذهن ضعيف ومعرفة ناقصة ثمّ لا يزال يتزايد في المعرفة قليلاً قليلاً وشيئاً بعد شيء وحالاً بعد حال، حتّى يألف الأشياء ويتمرّن ويستمرّ عليها، فيخرج من حدّ التأمّل لها والحيرة فيها الى التصرّف والاضطراب في المعاش بعقله وحيلته والى الاعتبار والطاعة والسهو والغفلة والمعصية، وفي هذا أيضاً وجوه اُخر فإنه لو كان يولد تامّ العقل مستقلاً بنفسه لذهب موضع حلاوة تربية الأولاد، وما قدر أن يكون للوالدين في الاشتغال بالولد من المصلحة، وما يوجب التربية للآباء على الأبناء من المكافاة بالبّر والعطف عليهم عند حاجتهم الى ذلك منهم، ثمّ كان الأولاد لا يألفون آباءهم ولا يألف الآباء أبناءهم، لأن الأولاد كانوا يستغنون عن تربية الآباء وحياطتهم فيتفرّقون عنهم حين يولدون، فلا يعرف الرجل أباه واُمّه ولا يمتنع من نكاح اُمّه واُخته وذوات المحارم منه إِذ لا يعرفهنّ، وأقلّ ما في ذلك من القباحة، بل هو أشنع وأعظم وأفظع وأقبح وأبشع لو خرج المولود من بطن اُمّه وهو يعقل أن يرى منها ما لا يحلّ له، ولا يحسر به أن يراه، أفلا ترى كيف اُقيم كلّ شيء من الخلقة على غاية الصواب وخلا من الخطأ دقيقه وجليله.

١٣٠

أقول: إِن بعض هذا البيان البديع من الامام عن تدرج الانسان في نموّه، ونموّه في أوقاته كافٍ في حكم العقل بأنّ له صانعاً صنعه عن علم وحِكمة وتقدير وتدبير.

ثمّ أن الصادقعليه‌السلام جعل يذكر فوائد البكاء للأطفال من التجفيف لرطوبة الدماغ وأن في بقاء الرطوبة خطراً على البصر والبدن.

ثمّ ساق البيان الى جعل آلات الجماع في الذكر والاُنثى على ما يشاكل أحدهما الآخر، ثمّ ذكر أعضاء البدن والحِكمة في جعل كلّ منها على الشكل الموجود، وههنا يقول له المفضّل: يا مولاي إِن قوماً يزعمون أن هذا من فعل الطبيعة، فيقول له الامام: سلهم عن هذه الطبيعة أهي شيء له علم وقدرة على مثل هذه الأفعال، أم ليست كذلك ؟ فإن أوجبوا لها العلم والقدرة فما يمنعهم من إِثبات الخالق، فإن هذه صفته، وإِن زعموا أنها تفعل هذه الأفعال بغير علم ولا عمد وكان في أفعالها ما قد تراه من الصواب والحِكمة علم أن هذا الفعل للخالق الحكيم وأن الذي سمّوه طبيعة هو سنّة في خلقه الجارية على ما أجراه عليه.

أقول: انظر إِلى قول أهل الطبيعة فإنهم جروا على نسق واحد من عهد الصادقعليه‌السلام إِلى اليوم، وكأنهم لم يتعقّلوا هذا الجواب القاطع لحججهم أو أغضوا عنه إِصراراً على العناد والجحود.

إِن الامام حصر الطبيعة بين اثنين لا ثالث لهما، وذلك لأنها إِمّا أن تكون ذات علم وحِكمة وقدرة، أو تكون خالية عن ذلك كلّه، فإن كان الأوّل فهي ما نثبته للخالق، ولا فارق إِذن بينهم وبيننا إِلا التسمية، وإِن كان الثاني كان اللازم أن تكون آثارها مضطربة لا تقدير فيها ولا تدبير شأن من لا يعقل ويبصر ويسمع في أفعاله، ولكننا نشاهد الآثار مبنيّة على العلم والحِكمة والقدرة والتقدير، فلا تكون إِذن من فعل الطبيعة العمياء الصمّاء وكانت الطبيعة غير اللّه العالم القادر المدبّر ولا تكون الطبيعة إِذن إِلا سنّته في خلقه، لا شيء آخر له كيان مستقلّ عن خالق الكون.

ثمّ أن الامامعليه‌السلام عاد الى كلامه الأول فتكلّم عن وصول الغذاء الى البدن وكيفيّة انتقال صفوه من المعدة الى الكبد في عروق رقاق واشجة بينها قد جعلت كالمصفى للغداء، ثمّ صيرورته دماً ونفوذه الى البدن كلّه في مجار مهيّأة لذلك، ثمّ كيفيّة تقسيمه في البدن وبروز الفضلة منه، فكأنما الامام كان الطبيب النطاسي الذي لم يماثله أحد في الطب، والعالِم الماهر في التشريح الذي قضى عمره في عملية التشريح، بل كشف الامام في هذا البيان (الدورة الدموية) التي يتغنّى الغربيّون باكتشافها وقد سبقهم اليها بما يقارب اثني عشر قرناً.

١٣١

ثمّ ساق كلامه الى نشوء الأبدان ونموّها حالاً بعد حال، وما شرّف اللّه به الانسان من الميزة في الخلقة على البهائم، ثمّ استطرد الكلام الى الحواسّ التي خصّ اللّه بها الانسان وفوائد جعلها على النحو الموجود، واختصاص كلّ منها بأثر لا تؤدّيه الثانية، وهكذا يفيضفي بيانه عن الأعضاء المفردة والمزدوجة والأسباب التي من أجلها جعلها على هذا التركيب، الى أن يطّرد في بيانه عمّا منحه الجليل من النِّعم في المطعم والمشرب، وما جعل فيه من التمايز في الخلقة حتّى لا يشبه أحد الآخر.

إِلى أن يقولعليه‌السلام : لو رأيت تمثال الانسان مصوّراً على حائط فقال لك قائل: إِن هذا ظهر ههنا من تلقاء نفسه لم يصنعه صانع، أكنت تقبل ذلك ؟ بل كنت تستهزئ به، فكيف تنكر هذا في تمثال مصوّر جماد ولا تنكر في الانسان الحيّ الناطق.

أقول: ما أقواها حجّة، وأسماه بياناً، وأن كلّ ناظر فيه من أهل كلّ قرن يكاد أن يقول: إنه أتى به لأهل زمانه وقرنه في الحجّة والاسلوب لما يجده من ملائمة البيان والبرهان.

- ٢ -

ثمّ أنه في اليوم الثاني أورد على المفضّل الفصل الثاني وهو في خلقة الحيوان فقالعليه‌السلام : أبتدئ لك بذكر الحيوان ليتّضح لك من أمره ما وضح لك من غيره، فكّر في أبنية أبدان الحيوان وتهيئتها على ما هي عليه، فلا هي صلاب كالحجارة، ولو كانت كذلك لا تنثني ولا تتصرّف في الأعمال ولا هي على غاية اللين والرخاوة، فكانت لا تتحامل ولا تستقلّ بأنفسها، فجعلت من لحم رخو ينثني تتداخله عظام صلاب يمسكه عصب وعروق تشدّه وتضّم بعضه الى بعض، وعليت(١) فوق ذلك بجلد يشتمل على البدن كلّه.

ومن أشباه ذلك هذه التماثيل التي تعمل من العيدان وتلفّ بالخرق وتشدّ بالخيوط ويطلى فوق ذلك بالصمغ، فتكون العيدان بمنزلة العظام والخرق بمنزلة اللحم، والخيوط بمنزلة العصب والعروق، والطلاء بمنزلة الجلد، فإن جاز أن يكون الحيوان المتحرّك حدث بالإهمال من غير صانع، جاز أن يكون ذلك في هذه التماثيل الميّتة، فإن كان هذا غير جائز في التماثيل فبالحريّ ألا يجوز في الحيوان.

____________________

(١) غلفت في نسخة.

١٣٢

وفكّر بعد هذا في أجساد الأنعام فإنها خُلقت على أبدان الإنس من اللحم والعظم والعصب اُعطيت أيضاً السمع والبصر، ليبلغ الانسان حاجياته منها، ولو كانت عمياً صمّاً لما انتفع بها الانسان، ولا تصرّفت في شيء من مآربه، ثمّ منعت الذهن والعقل لتذلّ للانسان، فلا تمتنع عليه إِذا كدَّها الكدّ الشديد، وحملها الحمل الثقيل، فإن قال قائل: إِنه قد يكون للانسان عبيد من الإنس يذلّون ويذعنون بالكدّ الشديد وهم مع ذلك غير عديمي العقل والذهن، فيقال في جواب ذلك: إِن هذا الصنف من الناس قليل، فأمّا اكثر البشر فلا يذعنون بما تذعن به الدواب من الحمل والطحن وما أشبه ذلك، ولا يقومون بما يحتاجون اليه منه، ثمّ لو كان الناس يزاولون مثل هذه الأعمال بأبدانهم لشغلوا بذلك عن سائر الأعمال، لأنه كان يحتاج مكان الجمل الواحد والبغل الواحد الى عدّة اناسي، فكان هذا العمل يستفرّغ الناس حتّى لا يكون فيهم عنه فضل لشيء من الصناعات، مع ما يلحقه من التعب الفادح في أبدانهم والضيق والكدّ في معاشهم.

ثمّ أنهعليه‌السلام أخذ يذكر المميّزات، لكلّ نوع من الأنواع الثلاثة للحيوان وهي: الانسان، وآكلات اللحوم، وآكلات النبات، وما يقتضي كلّ نوع منها حاجته من كيفيّة الأعضاء والجوارح، فيأتيك بلطائف الحكمة، وبدائع القدرة، ومحاسن الطبيعة.

ويدلّك على الحكمة في جعل العينين في وجه الدابّة شاخصتين والفم مشقوقاً شقاً في أسفل الخطم(١) ولم يجعل كفم الانسان، الى غير ذلك من خصوصيّات الأعضاء والجوراح.

ويرشدك الى الفطنة في بعضها اهتداءً لمصلحة كامتناع الايل(٢) الآكل للحيّات عن شرب الماء، لأن شرب الماء يقتله، واستلقاء الثعلب على ظهره ونفخ بطنه اذا جاع، حتّى تحسبه الطير ميّتاً، فإذا وقعت عليه لتنهشه وثب عليها، الى غيرهما من الحيوانات، فيقول الصادقعليه‌السلام : مَن جعل هذه الحيلة طبعاً في هذه البهيمة لبعض المصلحة ؟ ثمّ أنهعليه‌السلام تعرّض في كلامه للذرة والنملة والليث، وتسمّيه العامّة أسد الذباب وتمام خلقة الذرة مع صغر حجمها، والنملة وما تهتدي اليه لاقتناء قوتها، والليث وما يهتدي اليه في اصطياد الذباب، ثمّ يقول: فانظر الى هذه الدويبة كيف جعل في طبعها ما لا يبلغه الانسان إِلا بالحيلة واستعمال الآلات، فلا تزدر بالشيء اذا كانت العبرة فيه واضحة كالذرة والنملة وما أشبه ذلك، فإن المعنى النفيس قد يمثل بالشيء الحقير فلا يضع منه ذلك، كما لا يضع من الدينار وهو ذهب أن يوزن بمثقال من حديد.

____________________

(١) بفتح وسكون، من الطائر منقاره ومن الدابة مقدم أنفها وفمها.

(٢) كقنب وخلب وسيد: الوعل.

١٣٣

ثمّ أنهعليه‌السلام استطرد ذكر الطائر وكيف خفّف جسمه وأدمج خلقه وجعل له جؤجؤاً ليسهل أن يخرق الهواء الى غير ذلك من خصوصيّات خلقته، والحكمة في خلق تلك الخصوصيّات، وهكذا يستطرد الحكمة في خصوصيّات خلقة الدجاجة، ثمّ العصفور، ثمّ الخفّاش، ثمّ النحل، ثمّ الجراد، وغيرها من صغار الطيور، وما جعله اللّه فيها من الطبائع والفطن والهداية لطلب الرزق، وما سوى ذلك ممّا فيها من بدائع الخلقة.

ثمّ استعرض خلق السمك ومشاكلته للأمر الذي قدر أن يكون عليه، ثمّ يقولعليه‌السلام : فاذا أردت أن تعرف سعة حِكمة الخالق وقصر علم المخلوقين، فانظر الى ما في البحار من ضروب السمك ودواب الماء والاصداف والأصناف التي لا تحصى ولا تعرف منافعها إِلا الشيء بعد الشيء يدركه الناس بأسباب تحدث... إِلى آخر كلامه، وبه انتهى هذا الفصل.

أقول: ليس العجب من خالق أمثال هذه الذرة والدودة وأصناف الأسماك الغريبة، التي اختلفت اشكالها، وتنوّعت الحِكمة فيها وليس العجب ممّن يهتدي الى الحِكمة في كلّ واحد من تلك المصنوعات بعد وجودها وتكوينها، وإِنما العجب ممّن ينكر فاطر السموات والأرضين وما فيهنّ وبينهنّ مع اتقان الصنعة، وإِحكام الخلقة، وبداعة التركيب، ولو نظر الجاحد الى نفسه مع غريب الصنع وتمام الخلق لكان اكبر برهان على الوجد ووحدانيّة الموجود.

- ٣ -

ثمّ بكّر المفضّل في اليوم الثالث فقال له الصادقعليه‌السلام : قد شرحت لك يا مفضّل خلق الانسان وما دبر به وتنقّله في أحواله وما فيه من الاعتبار وشرحت لك أمر الحيوان، وأنا ابتدئ الآن بذكر السماء والشمس والقمر والنجوم والفلك والليل والنهار والحرّ والبرد والرياح والمطر والصخر والجبال والطين والحجارة والمعادن والنبات والنخل والشجر وما في ذلك من الأدّلة والعبر.

١٣٤

فكّر في لون السماء وما فيه من صواب التدبير، فإن هذا اللون أشدّ الألوان موافقة وتقوية للبصر، حتّى أن من وصفات الأطباء لمن أصابه شيء أضرَّ ببصره إِدمان النظر الى الخضرة، وما قرب منها الى السواد، وقد وصف الحذّاق منهم لمن كلَّ بصره الأطلاع في إِجانة(١) خضراء مملوءة ماءً، فانظر كيف جعل اللّه جلّ وتعالى أديم السماء بهذا اللون الأخضر الى السواد، ليمسك الأبصار المنقلبة(٢) عليه، فلا تنكأ(٣) فيها بطول مباشرتها له، فصار هذا الذي أدركه الناس بالفكر والرويّة والتجارب يوجد مفروغاً عنه في الخلقة، حِكمة بالغة ليعتبر بها المعتبرون، ويفكّر فيها الملحدون قاتلهم اللّه أنّى يؤفكون.

فكّر يا مفضّل في طلوع الشمس وغروبها لإقامة دولتي الليل والنهار فلولا طلوعها لبطل أمر العالم كلّه، فلم يكن الناس يسعون في معايشهم، وينصرفون في اُمورهم والدنيا مظلمة عليهم ولم يكن يتهنَّون بالعيش مع فقدهم لذَّة النور وروحه، والارب في طلوعها ظاهر مستغن بظهوره عن الاطناب في ذكره، والزيادة في شرحه، بل تأمّل المنفعة في غروبها، فلولا غروبها لم يكن للناس هدوء ولا قرار مع عظم حاجتهم الى الهدوء والراحة لسكون

____________________

(١) بكسر وتشديد.

(٢) المتقلّبة في نسخة.

(٣) أي لا يحصل فيها جرح وتضرّر.

١٣٥

أبدانهم، ووجوم(١) حواسهم، وانبعاث القوّة الهاضمة لهضم الطعام وتنفيذ الغذاء الى الأعضاء، ثمّ كان الحرص يستحملهم من مداومة العمل ومطاولته على ما يعظم نكايتة في أبدانهم، فإن كثيراً من الناس لولا جثوم(٢) هذا الليل لظلمته عليهم لم يكن لهم هدوء ولا قرار حرصاً على الكسب والجمع والادّخار، ثمّ كانت الأرض تستحمي(٣) بدوام الشمس ضياءها، وتحمي كلّ ما عليها من حيوان ونبات فقدّرها اللّه بحكمته وتدبيره تطلع وقتاً وتغرب وقتاً، بمنزلة سراج يرفع لأهل البيت تارة ليقضوا حوائجهم ثمّ يغيب عنهم مثل ذلك ليهدأوا ويقرّوا، فصار النور والظلمة مع تضادّهما منقادين متظاهرين على ما فيه صلاح العالم وقوامه.

إِلى أن يقومعليه‌السلام في آخر هذا الفصل: فكّر في هذه العقاقير وما خصّ بها كلّ واحد منها من العمل في بعض الأدواء، فهذا يغور في المفاصل فيستخرج الفضول مثل الشيطرج(٤) وهذا ينزف المرّة السوداء مثل الافتيمون(٥) وهذا ينفي الرياح مثل السكبينج(٦) وهذا يحلّل الأورام وأشباه هذا من أفعالها، فمَن جعل هذه القوى فيها إِلا من خلقها للمنفعة، ومَن فطن الناس بها إِلا من جعل هذا فيها.

____________________

(١) سكوت.

(٢) جثوم الليل: انتصافه.

(٣) تشتدّ حرارتها.

(٤) بكسر الشين وفتح الطاء، انظر شرحه في تذكرة الأنطاكي ١/١٥٣.

(٥) يقول الأنطاكي في التذكرة ١/٤٥: يوناني معناه دواء الجنون.

(٦) بفتح السين وسكون الكاف، انظره في التذكرة: ١/١٧٣.

١٣٦

إِلى أن يقول: واعلم أنه ليس منزلة الشيء على حسب قيمته بل هما قيمتان مختلفتان بسوقين، وربّما كان الخسيس في سوق المكتسب نفيساً في سوق العلم، فلا تستصغر العبرة في الشيء لصغر قيمته، فلو فطن طالِبو الكيمياء لما في العذرة لاشتروها بأنفس الأثمان وغالوا بها.

- ٤ -

ثمّ أن المفضّل بكّر اليه في اليوم الرابع، فقال له الصادقعليه‌السلام :

يا مفضّل قد شرحت لك من الأدلّة على الخلق والشواهد على صواب التدبير والعمد في الانسان والحيوان والنبات والشجر وغير ذلك ما فيه عبرة لمن اعتبر، وأنا أشرح لك الآن الآفات الحادثة في بعض الأزمان التي اتخذها اُناس من الجهّال ذريعة الى جحود الخالق والخلق والعمد والتدبير، وما انكرت المعطّلة والمانويّة من المكاره والمصائب، وما أنكروه من الموت والفناء، وما قاله أصحاب الطبائع، ومن زعم أن كون الأشياء بالعرض والاتفاق ليتّسع ذلك القول في الردّ عليهم، قاتلهم اللّه أنّى يؤفكون.

إِتخذ اُناس من الجهّال هذه الآفات الحادثة في بعض الأزمان كمثل الوباء واليرقان والبرد والجراد ذريعة الى جحود الخلق والتدبير والخالق، فيقال في جواب ذلك: إِنه إِن لم يكن خالق ومدبّر فلِم لا يكون ما هو اكثر من هذا وأفظع ؟ فمن ذلك أن تسقط السماء على الأرض وتهوي الأرض فتذهب سفلاً، وتتخلّف الشمس عن الطلوع أصلاً، وتجفّ الأنهار والعيون حتّى لا يوجد ماء للشفة، وتركد الريح حتّى تحمّ الأشياء وتفسد، ويفيض ماء البحر على الأرض فيغرقها.

ثمّ هذه الآفات التي ذكرناها من الوباء والجراد وما أشبه ذلك ما بالها لا تدوم وتمتدّ حتّى تجتاج كلّ ما في العالم بل تحدث في الأحايين ثمّ لا تلبث أن ترفع ؟ أفلا ترى أن العالم يصان ويحفظ من تلك الأحداث الجليلة، التي لو حدث عليه شيء منها كان فيه بواره، ويلدغ أحياناً بهذه الآفات اليسيرة لتأديب الناس وتقويمهم، ثمّ لا تدوم هذه الآفات بل تكشف عنهم عند القنوط منهم، فيكون وقوعها بهم موعظة، وكشفها عنهم رحمة ؟ وقد أنكرت المعطّلة ما انكرت المانويّة من المكاره والمصائب التي تصيب الناس فكلاهما يقول إِن كان للعالم خالق رؤوف رحيم فلِم يُحدث فيه هذه الاُمور المكروهة ؟ والقائل بهذا القول يذهب به الى أنه ينبغي أن يكون عيش الانسان في هذه الدنيا صافياً من كلّ كدر، ولو كان هكذا كان الانسان يخرج من الأشرّ والعتوّ الى ما لا يصلح في دين ودنيا، كالذي ترى كثيراً من المترفين ومن نشأ في الجدة والأمن يخرجون اليه، حتّى أن أحدهم ينسى

١٣٧

أنه بشر أو أنه مربوب أو أن ضرراً يمسّه أو أن مكروهاً ينزل به أو أنه يجب عليه أن يرحم ضعيفاً أو يواسي فقيراً أو يرثي لمبتلى أو يتحنّن على ضعيف أو يتعطّف على مكروب، فاذا عضّته المكاره ووجد مضضها اتّعظ وأبصر كثيراً ممّا كان جهله وغفل عنه، ورجع الى كثير ممّا كان يجب عليه، والمنكرون لهذه الأدوية المؤذية بمنزلة الصبيان الذين يذمّون الأدوية المرّة البشعة، ويتسخّطون من المنع من الأطعمة الضارّة ويتكرّهون الأدب والعمل، ويحبّون أن يتفرغوا للّهو والبطالة وينالوا كلّ مطعم ومشرب، ولا يعرفون ما تؤدّيهم اليه البطالة من سوء النشو والعادة، وما تعقبهم الأطعمة اللذيذة الضارّة من الأدواء والأسقام، وما لهم في الأدب من الصلاح، وفي الأدوية من المنفعة، وإِن شاب ذلك بعض المكاره.

أقول: وعلى هذا ومثله مثّل الصادقعليه‌السلام أقوال اولئك الملحدين في شأن الآفات وأجاب عنها بنير البرهان، الى أن انتهى في البيان إِلى ذات الخالق تعالى في شبه الملحدين، فقال: وأنه كيف يكلّف العبد الضعيف معرفته بالعقل اللطيف ولا يحيط به.

فيقول في الجواب: إنما كلّف العباد من ذلك ما في طاقتهم أن يبلغوه وهو أن يوقنوا به ويقفوا عند أمره ونهيه، ولم يكلّفوا الإحاطة بصفته، كما أن الملِك لا يكلّف رعيّته أن يعلموا أطويل هو أم قصير، أَبيض هو أم أسمر وإِنما يكلّفهم الإذغان بسلطانه والانتهاء الى أمره، ألا ترى أن رجلاً لو أتى الى باب الملك فقال: اعرض عليّ نفسك حتّى أتقصّى معرفتك وإِلا لم أسمع لك، كان قد أحلّ نفسه العقوبة، فكذا القائل أنه لا يقرّ بالخالق سبحانه حتّى يحيط بكنهه متعرّض لسخطه.

أقول: وعلى مثل هذا البديع من البيان، والساطع من البرهان، أتمَّ الصادقعليه‌السلام دروسه التي ألقاها على المفضّل بن عمر، فقال في آخر كلامه: يا مفضّل خذ ما آتيتك وكن من الشاكرين، ولآلائه من الحامدين، ولأوليائه من المطيعين، فقد شرحت من الأدلّة على الخلق والشواهد على صواب التدبير والعمد قليلاً من كثير وجزءاً من كلّ، فتدبّره وفكّر فيه واعتبر به.

يقول المفضّل: فانصرفت من عند مولاي بما لم ينصرف أحد بمثله(١) .

____________________

(١) طبع هذا التوحيد المعروف بتوحيد المفضّل عدّة مرّات ورواه في بحار الأنوار ٢٠/ ١٧ - ٤٧ وكانت الطبعات كلّها غير خالية من الغلط المطبعي، فكان النقل عنه بعد التدبّر والتطبيق، وأصحّها طبعاً ما طبع في المطبعة الحيدريّة في عام ١٣٦٩ هجري. والشواهد على نسبة هذا التوحيد الى الصادقعليه‌السلام كثيرة ليس هذا محلّ ذكرها.

١٣٨

أقول: حقيق بأن يغتنم أرباب المعارف جلائل هذه الحِكم كما اغتنمها المفضّل، فقد أوضح فيها أبو عبد اللّه من حِكم الأسرار وأسرار الحِكم ما خفي على الكثير علمه وصعب على الناس فهمه.

وهذه الدروس كما دلّتنا على الحكيم في صنائعه تعالى أرشدتنا الى إِحاطتهعليه‌السلام بفلسفة الخلقة، بل تراه في هذه الدروس فيلسوفاً إِلهيّاً، وعالماً كلامياً، وطبيباً نطاسيّاً، ومحلّلاً كيمياويّاً، ومشرّحاً فنّيّاً، وفنّاناً في الزراعة والغرس، وعالماً بما بين السماء والأرض من مخلوقاته، وقادراً على التعبير عن أسرار الحِكم في ذلك الخلق.

الإهليلجة

سميّ هذا التوحيد بالاهليلجة لأن الصادقعليه‌السلام كان مناظراً فيه لطبيب هندي في إهليلجة كانت بيد الطبيب، وذلك أن المفضّل بن عمر كتب الى الصادقعليه‌السلام يخبره أن أقواماً ظهروا من أهل هذه الملّة يجحدون الربوبيّة ويجادلون على ذلك، ويسأله أن يردّ عليهم قولهم ويحتجّ عليهم فيما ادّعوا بحسب ما احتجّ به على غيرهم.

فكتب اليه الصادق فيما كتب: وقد وافاني كتابك ورسمت لك كتاباً كنت نازعت فيه بعض أهل الأديان من أهل الإنكار، وذلك أنه كان يحضرني طبيب من بلاد الهند، وكان لا يزال ينازعني في رأيه ويجادلني عن ضلالته، فبينا هو يوماً يدقّ إهليلجة ليخلطها دواءً احتجت اليه من أدويته إِذ عرض له شيء من كلامه الذي لم يزل ينازعني فيه، من ادّعائه أن الدنيا لم تزل ولا تزال شجرة تنبت واُخرى تسقط، ونفس تولد واُخرى تتلف، وزعم أن انتحالي المعرفة للّه دعوى لا بيّنة عليها ولا حجّة لي فيها، وأن ذلك أمر أخذه الآخر عن الأول والأصغر عن الأكبر، وأن الأشياء المختلفة والمؤتلفة والباطنة والظاهرة إِنما تعرف بالحواسّ الخمس: النظر والسمع والشمّ والذوق واللمس، ثمّ قاد منطقه على الأصل الذي وضعه، فقال: لم يقع شيء من حواسّي على خالق يؤدّي الى قلبي إِنكار اللّه تعالى.

ثمّ قال: أخبرني بم تحتجّ في معرفة ربّك الذي تصف قدرته وربوبيّته وإِنما يعرف القلب الأشياء كلّها بالدلالات التي وصفت لك ؟

قلت: بالعقل الذي في قلبي، والدليل الذي أحتجّ في معرفته، قال: فأنّى يكون ما تقول وأنت تعرف أن القلب لا يعرف شيئاً بغير الحواس، فهل عاينت ربّك ببصر، أو سمعت صوته باُذن، أو شممته بنسيم، أو ذقته بفم، أو مسسته بيد، فأدّى ذلك المعرفة الى قلبك ؟

١٣٩

قلت: أرأيت اذا أنكرت اللّه وجحدته لأنك زعمت أنك لا تحسّه بحواسك التي تعرف بها الأشياء وأقررتُ أنا به هل بدّ من أن يكون أحدنا صادقاً، والآخر كاذباً، قال: لا، قلت: أرأيت إِن كان القول قولك، فهل تخاف عليّ شيء ممّا اُخوّفك به من عقاب اللّه، قال: لا، قلت: أفرأيت إِن كان كما أقول والحقّ في يدي، ألست قد أخذت فيما كنت اُحاذر من عقاب اللّه بالثقة، وإِنك قد وقعت بجحودك وإنكارك في الهلكة، قال: بلى، قلت: فأيّنا أولى بالحزم وأقرب من النجاة، قال: أنت، إِلا أنك من أمرك على ادّعاء وشبهة وأنا على يقين وثقة، لأني لا أرى حواسّي الخمس أدركته، وما لم تدركه حواسّي فليس عندي بموجود، قلت: إِنه لمّا عجزت حواسّك عن إِدراك اللّه أنكرته، وأنا لمّا عجزت حواسّي عن إِدراك اللّه صدّقت به، قال: وكيف ذلك ؟ قلت: لأن كلّ شيء جرى فيه أثر التركيب لجسم أو وقع عليه بصر للون(١) فما أدركته الأبصار ونالته الحواس فهو غير اللّه سبحانه لأنه لا يشبه الخلق ولا يشبهه الخلق، وأن هذا الخلق ينتقل بتغيير وزوال، وكلّ شيء أشبه التغيير والزوال فهو مثله، وليس المخلوق كالخالق، ولا المحدَث كالمحدِث(٢) .

ثمّ أن الصادقعليه‌السلام قال: قلت له: أخبرني هل أحطت بالجهات كلّها وبلغت منتهاها ؟ قال: لا، قلت: فهل رقيت الى السماء التي ترى، أو انحدرت الى الأرض السفلى فجلت في أقطارها ؟ أو هل خضت في غمرات البحور واخترقت نواحي الهواء فيما فوق السماء أو تحتها الى الأرض وما أسفل منها، فوجدت ذلك خلاء من مدبّر حكيم عالم بصير ؟ قال: لا، قلت: فما يدرك لعلّ الذي انكره قلبك هو في بعض ما لم تدركه حواسّك ولم يحط به علمك، قال: لا أدري لعلّ في بعض ما ذكرت مدبّرا وما أدري لعلّه ليس في شيء من ذلك شيء.

أقول: ربّما يتوهّم بأن في كلام الصادق هذا إِشعاراً بالتجسيم لأنه جوّز أن يكون في جهة معيّنة وهو من شؤون الجسم، ولكن ذلك كان منه إنكاراً على الطبيب الذي يريد أن يستدلّ على عدم الوجود بعد الوجدان، وإِنما أراد الصادق أن يكذّب دعواه بعدم الوجدان فيورد عليه احتمال وجوده في جهة لم يصل اليها الطبيب، وأن احتمال وجوده في جهة كافٍ في ردّ دعواه بعدم الوجدان، وهذا من باب الإلزام للخصم وإِبطال حجّته لا من باب إِثبات وجوده في جهة، وقد سبق من كلامه إِنكار إِدراكه بالحواس، والمثبت في جهة خاصّة مدرك بالحواس.

____________________

(١) اللام في لجسم وللون لام الابتداء المفتوحة وجسم ولون خبر أن.

(٢) الأول اسم مفعول وهو بفتح الدال والثاني بكسره وهو اسم فاعل.

١٤٠