الإمام جعفر الصادق عليه السلام الجزء ١

الإمام جعفر الصادق عليه السلام0%

الإمام جعفر الصادق عليه السلام مؤلف:
تصنيف: الإمام الصادق عليه السلام
الصفحات: 228

الإمام جعفر الصادق عليه السلام

مؤلف: العلامة الجليل الشيخ محمد الحسين المظفر
تصنيف:

الصفحات: 228
المشاهدات: 70845
تحميل: 5221


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 228 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 70845 / تحميل: 5221
الحجم الحجم الحجم
الإمام جعفر الصادق عليه السلام

الإمام جعفر الصادق عليه السلام الجزء 1

مؤلف:
العربية

عليك بالحلم فإنه ركن العلم، واملك نفسك عند أسباب القدرة فإنك إِن تفعل ما تقدر عليه كنت كمن شفى غيظاً، أو تداوى حقداً أو يحبّ أن يذكر بالصولة، واعلم بأنك إن عاقبت مستحقّاً لم تكن غاية ماتوصف به إِلا العدل، والحال التي توجب الشكر أفضل من الحال التي توجب الصبر، فقال المنصور: وعظت فأحسنت، وقلت فأوجزت(١) .

أقول: إِن أمثال هذه المواقف تعطيك دروساً وافيه عمّا كان عليه أهل ذلك العصر من سياسة وعلم واعتقادها وغيرها، وهنا نستطيع أن نتعرّف عدّة اُمور:

١ - إِن المنصور يريد ألا يظهر الصادق بمظهر الامامة فحاول أن يخدعه أمام الناس بتلك الكلمات الليّنة، وهنا تعرف دهاء المنصور، لأن العبّاسيّين إِنما تربّعوا على الدست باسم الامامة والخلافة، فلو كان هناك إِمام آخر يرى شطر من الاُمّة أنه صاحب المنبر والتاج لا يتمّ لهم أمر، وهو يريد ألا يعارضه أحد في سلطانهم، فكان المنصور يدفع عن عرشه بالشدّة مرّة وباللين اُخرى فكان من سياسته أن جابه الصادق أمام ملأ من الناس بهذا القول وحسب أنّ الصادق سوف يبطل ما يقوله الناس فيه، وبه يحصل ما يريد، وهو يعلم أنّ الصادق لا يجبهه بالردّ، حذراً من سطوته.

٢ - إِن الصادق إِمام بجعل إِلهي كما يرى ذلك ويراه الشيعة فيه، والامامة في أهل البيت وفي الصادق ليست وليدة عصر المنصور، وإِنما هي من عهد صاحب الرسالة، فالامام الصادقعليه‌السلام وقع بين لحيي لهذم فإنه إِن جارى المنصور فقد أبطل إِمامة إِلهية، وإِن عارضه لا يأمن من شرّه، فمن ثمّ أجابه بكلمات مجملة لا تصرّح بالامامة ولا تبطل قول الناس فيه، ولذا قال المنصور «هذا قد حالني على بحر موّاج لا يدرك طرفه».

____________________

(١) بحار الأنوار: ٤٧/١٦٨ في أحوال الصادقعليه‌السلام .

١٠١

٣ - إِن قول الشيعة في الامام من ذلك اليوم على ما هو عليه اليوم، وهذا ما تقتضيه اُصول المذهب، وتدلّ عليه أخبار أهل البيت وآثارهم.

٤ - إِن سكوت الامام الصادق وعدم إِبطاله لأن يكون كما يقول الناس برهان على أن حقيقة الامامة كما يحكيها المنصور عن الناس، ولو كانت حقيقتها غير هذا لقال الصادق: إِن هذا الرأي والقول باطل، بل لوجب عليه إِعلام الناس ببطلانه وردعهم عن هذا المعتقد.

٥ - إِن القائل بإمامة الصادقعليه‌السلام خلق كثير من الناس، ممّا جعل المنصور يفكّر فيه ويخشى من اتساعه ومن عقباه، فحاول أن يتذرّع بالصادق لمكافحته.

٦ - إِن المرء بأصغريه، فالامام الصادق لو لم تسبق الأخبار والآثار عن منزلته، لكان في مثل كلامه ومثل موقفه هذا دلالة على ما له من مقام، أتراه كيف حاد عن جواب المنصور بما حيّره، دون أن يصرّح بخلاف ما حكاه عن الشيعة، ودون أن يصرّح بصحّة ما يرون، وكيف وعيت ذلك البيان منه عن نفسه، ببليغ من القول، وجليل من المعنى، وكيف وعظ المنصور بما يوافق شأن الملوك، وما يتفق وابتلاءهم كثيراً ؟

وهذا بعض ما يمكن استنباطه من هذا الموقف وفهم حال الناس ذلك اليوم، وكفى به عن سواه.

ودخل على المنصور في إِحدى جيئاته فاستقبله الربيع بالباب وقال له: يا أبا عبد اللّه ما أشدّ تلظّيه عليك لقد سمعته يقول: واللّه لا تركت له نخلاً إِلا عقرته، ولا مالاً إِلا نهبته، ولا ذرّية إِلا سبيتها، فلمّا دخل وسلّم وقعد قال له المنصور: أما واللّه لقد هممت ألا أترك لكم نخلاً إِلا عقرته، ولا مالاً إِلا أخذته، فقال له الصادقعليه‌السلام : يا أمير المؤمنين إِن اللّه عزّ وجل ابتلى أيوب فصبر، وأعطى داود فشكر، وقدر(١) يوسف فغفر، وأنت من ذلك النسل ولا يأتي ذلك النسل إِلا بما يشبهه، فقال: صدقت قد عفوت عنكم، فقال الصادق: إِنه لم ينل أحد منّا أهل البيت دماً إِلا سلبه اللّه مُلكه، فغضب لذلك واستشاط، فقال: على رسلك إِن هذا المُلك كان في آل أبي سفيان فلمّا قتل يزيد حسيناًعليه‌السلام سلبه اللّه مُلكه، فورثه آل مروان فلمّا قتل هشام زيداً سلبه اللّه ملكه فورثه مروان بن محمّد، فلمّا قتل مروان إبراهيم الامام سلبه اللّه مُلكه وأعطاكموه فقال: صدقت(٢) .

أقول: إِن الصادقعليه‌السلام ما اعتذر عن قوله الأو ل، وإنما جاء بالشواهد عليه، سوى إنه استعرض ذكر أخيه إِبراهيم ليكفّ بذلك شرّه.

____________________

(١) أي جعله قادراً على الانتقام من اخوته.

(٢) الكافي: كتاب الدعاء، باب الدعاء للكرب والهمّ والحزن: ٢/٥٦٣.

١٠٢

وللصادقعليه‌السلام مواقف كثيرة على غرار ما ذكرناه اجتزينا عنها بما أوردناه.

وكانت للصادقعليه‌السلام مواقف مع بعض ولاة المنصور ورجاله تشبه مواقفه مع المنصور في الشدّة، جاء إِلى المدينة والياً من قبل المنصور بعد مقتل محمّد وإبراهيم رجل يقال له شيبة بن عفال، يقول عبد اللّه بن سليمان التميمي: فلمّا حضرت الجمعة صار الى مسجد الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فرقى المنبر وحمد اللّه وأثنى عليه، ثمّ قال: أمّا بعد فإن عليّ بن أبي طالب شقّ عصا المسلمين وحارب المؤمنين، وأراد الأمر لنفسه، ومنعه أهله، فحرّمه اللّه عليه، وأماته بغصّته، وهؤلاء ولده يتبعون أثره في الفساد وطلب الأمر بغير استحقاق له فهم في نواحي الأرض مقتولون، وبالدماء مضرّجون.

فعظم هذا الكلام منه على الناس، ولم يجسر أحد منهم أن ينطق بحرف فقام اليه رجل فقال: ونحمد اللّه ونصلّي على محمّد خاتم النبيين وسيّد المرسلين وعلى رسل اللّه وأنبيائه أجمعين، أمّا ما قلت من خير فنحن أهله، وأمّا ما قلت من سوء فأنت وصاحبك به أولى، فاختبر يا من ركب غير راحلته واكل غير زاده إِرجع مأزوراً.

ثمّ أقبل على الناس فقال: ألا أنبئكم بأخلى الناس ميزاناً يوم القيامة وأبينهم خسراناً، من باع آخرته بدنيا غيره، وهو هذا الفاسق، فأسكت الناس وخرج الوالي من المسجد لم ينطق بحرف، فسألت عن الرجل، فقيل لي: هذا جعفر بن محمّد بن عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب صلوات اللّه عليهم أجمعين.(١)

وعن الصادقعليه‌السلام أنه قال: كنت عند زياد بن عبد اللّه وجماعة من أهل بيتي، فقال: يا بني فاطمة ما فضلكم على الناس ؟ فسكتوا، فقلت: إِن من فضلنا على الناس إِنّا لا نحبّ أن نكون من أحد سوانا، وليس أحد من الناس لا يحبّ أن يكون منّا.(٢)

أقول: لقد جاءه بالمسكت وهذه الكلمة على اختصارها جمعت الفضائل واغنت عن الدلائل.

____________________

(١) مجالس الشيخ الطوسي طاب ثراه، المجلس الثاني.

(٢) بحار الأنوار: ٤٧/١٦٦/٨ في أحوال الصادقعليه‌السلام .

١٠٣

وكان داود بن علي بن عبد اللّه بن العبّاس والياً على المدينة من قِبل المنصور، فأرسل خلف المعلّى بن خنيس مولى الصادقعليه‌السلام ، وأراد أن يدلّه على أصحاب الصادقعليه‌السلام وخواصّه، فتجاهل عليه المعلّى بمعرفتهم، فألحَّ عليه ثمّ هدّده بالقتل، فقال له المعلّى: أبالقتل تهدّدني واللّه لو كانوا تحت قدمي ما رفعت قدمي عنهم، وإِن أنت قتلتني تسعدني وأشقيتك، فلمّا رأى داود شدّة امتناع المعلّى قتله واستلب أمواله وكانت للصادقعليه‌السلام .

فلما بلغ الصادق ذلك قام مغضباً يجرّ رداءه ودخل على داود وقال له: قتلت مولاي وأخذت مالي، أما علمت أن الرجل ينام على الثكل ولا ينام على الحرب.

ثمّ أن الصادقعليه‌السلام طلب منه القود، فقدّم له قاتله فقتله به، وهو صاحب شرطته، ولمّا قدّموه ليقتل اقتصاصاً جعل يصيح: يأمروني أن أقتل لهم الناس ثم يقتلونني.

ثمّ أن داود بعد ذلك أرسل خمسة من الحرس خلف الصادقعليه‌السلام وقال لهم: ائتوني به فإن أبى فأتوني برأسه، فدخلوا عليه وهو يصلّي فقالوا: أجب داود، قال: فإن لم اجب، قالوا: اُمرنا بأمر، قال: فانصرفوا فإنه خير لكم في دنياكم وآخرتكم، فأبوا إِلا خروجه، فرفع يديه فوضعهما على منكبيه ثمّ بسطهما، ثمّ دعا بسبابته فسمع يقول: الساعة الساعة، حتّى سمع صارخ عال، فقال لهم: إِن صاحبكم قد مات فانصرفوا.

أقول: هذه بعض مواقفه من رجال المنصور دعاه الى الشدّة فيها الغضب للحق، حين وجد أن الكلام أولى من السكوت، وإِن أبدى فيها صفحته للسيف.

الصادق في العراق

قضت السياسة العبّاسيّة وحذق رجالها العاملين - والقدر من ورائهم - بتقويض مُلك بني مروان، والحيلولة دون نجاح الحسنيين، وانتشار روح الامامة في الناس للحسينيين، بيد أنهم أخطأوا في سياسة الإرهاق والإرهاب مع الصادقعليه‌السلام ، وحملهم إِيّاه إِلى العراق عدّة مرّات، لأنهم بهذا خدموا الإمامة وأظهروا أمر أهل البيت اكثر ممّا لو تركوه وادعاً في مكانه.

مازجت تربة العراق مودّة أهل البيت من بدء دخول الاسلام فيه، لا سيّما وقد صار برهة عاصمة سلطانهم، وبه مدفن عدّة من أعاظم رجالهم، وبه حوادث لهم لا ينساها الناس والتأريخ مادام بشر على وجه الأرض، ومادام تأريخ مسطور، كحادثة الطفّ وحادثة زيد.

١٠٤

وإِن للنظر والمشاهدة أثراً لا يبلغه السماع، فإن الجمال اذا اجتذب الأرواح الشفّافة، والعواطف الرقيقة، فبالعيان لا بالآذان، نعم ربّ شيء يكون لسماعه أثر - والاذن تعشق قبل العين أحياناً - إِلا أنّ السماع لا يماثل المشاهدة مهما بلغ تصويره مبلغاً يجذب القلوب والمشاعر.

كما أن للمظلوميّة عاطفة في القلوب، ورحمة في النفوس، لا سيّما اذا كان المظلوم من أماثل الناس، وأعاظم العلماء.

فإذا غلب على القلوب حبّ الصادقعليه‌السلام بالسماع، واعتقد الناس إِمامته بالبرهان، فأين ذلك من مبلغ العيان، ومشاهدة البرهان، وسماع البيان، فكان لقدوم الصادق العراق بلاد الولاء للعترة، ولمشاهدة شمائله وفضائله، ولسماع عظاته ونوادر آياته أثر بليغ في ميل النفوس اليه، وانعطافهم عليه، فوق ما يجدونه من السماع عنه، وما كان الناس كلّهم يذهب للحجّ فيجتمع به، فكانت جملة من الأحاديث أخذوها عنه في جيئاته إِلى العراق.

وربت على هذا كلّه مظلوميّته، فإن الناس كلّهم أو جلّهم يعلمون بأن الصادق مظلوم مقهور على هذا المجيء، ويعلمون بما ينالون منه من سوء أذى في مجيئه، هذا فوق ما يعتقدونه من غضب مقامه والتضييق عليه، والحيلولة دون نشر علومه ومعرفه.

وما كان حتّى الشيعة يعرفون عن الإمام من الشأن والقدر والعلم والكرامة مثلما عرفوه عنه بعد مجيئه، لأن التقيّة وعداء السلطة حواجز دون نشر فضائله والصادقعليه‌السلام كما يقول عمرو بن أبي المقدام: كنت إِذا نظرت اليه علمت أنه من سلالة النبيين، وكما يقول ابن طلحة في مطالب السؤل: رؤيته تذكّر الآخرة، واستماع حديثه يزهد في الدنيا، والاقتداء بهديه يورث الجنّة، نور قسماته شاهد أنه من سلالة النبوّة، وطهارة أفعاله تصدع بأنه من ذوي الرسالة.

ومن ثمّ تجد هشام بن الحكم وكان جهمياً يعدل إِلى القول بالإمامة لمحاورة الصادق له ونظره اليه، ذلك النظر الذي امتلأت نفسه منه جلالاً وهيبةً فأحسّ أن ذلك لشأن لا يكون إِلا للأنبياء والأوصياء، فكان من آثار مجيئه إِلى العراق هداية هشام، وأنت تعرف مَن هشام، وما آثاره في خدمة أهل البيت، وخدمة الدين(١) .

____________________

(١) كتبت رسالة عن هشام بن الحكم استقصيت فيها قدر الامكان أخباره وآثاره.

١٠٥

ومن آثار مجيئه إِلى العراق إِشادته لموضع قبر أمير المؤمنينعليه‌السلام ودلالته خواصّ الشيعة عليه، وكان اكثرهم لا يعلمون موضعه على اليقين، سوى أنه على ظهر الكوفة في النجف لأن أولاده جهدوا في إخفائه خوفاً من أعدائه فصارت الشيعة تقصده زائرين، وكان الصادقعليه‌السلام يصحب في كلّ زيارة بعض خواصّ أصحابه، وهو الذي أمر صفوان بن مهران الجمّال بالبناء عليه.

وقد ذكر شيخ الطائفة محمّد بن الحسن الطوسي في كتاب التهذيب، في كتاب المزار منه، في باب فصل الكوفة عدّة زيارات للصادقعليه‌السلام .

كما ذكر مثل ذلك الشيخ الكليني طاب ثراه في الكافي، والسيد ابن طاووس في فرحة الغري، والمجلسي في مزار البحار وهو الجزء الثاني والعشرون، والشيخ الحرّ العاملي في وسائل الشيعة في كتاب المزار الجزء الثاني الى كثير غيرهم.

ونحن نورد لك بعض تلك الزيارات والدلالات منه، قال الشيخ أبو جعفر الطوسي: إِن الصادقعليه‌السلام زار قبر أمير المؤمنينعليه‌السلام عدّة مرات، منها يوم أقدمه السفّاح الحيرة، ومنها ما يرويه عبد اللّه بن طلحة النهدي(١) يقول: دخلت على أبي عبد اللّهعليه‌السلام - ثمّ قال - فمضينا معه حتّى انتهينا إِلى الغري فأتى موضعاً فصلّى فيه.

وذكر أيضاً مجيئه مرّة اُخرى من الحيرة ومعه يونس بن ظبيان(٢) ودعا عند القبر وصلّى وأعلم يونس أنه قبر أمير المؤمنينعليه‌السلام بعد أن كان يونس لا يدري أين هو سوى أنه في الصحراء.

____________________

(١) عربي كوفي روى عن الصادقعليه‌السلام ، وروى عنه جماعة من الثقات مثل علي بن إسماعيل الميثمي ومحمّد بن سنان وابن محبوب.

(٢) الكوفي ممّن روى عن الصادقعليه‌السلام وجاءت فيه روايات قادحة واُخرى مادحة، ولكن روى عنه جماعة كثيرة من الثقات، وبعضهم من أصحاب الاجماع.

١٠٦

وروى الكليني طاب ثراه عن يزيد بن عمرو بن طلحة(١) قال: قال أبو عبد اللّهعليه‌السلام وهو بالحيرة: أما تريد ما وعدتك، قلت: بلى، يعني الذهاب إِلى قبر أمير المؤمنينعليه‌السلام ، قال: فركب وركب إِسماعيل وركبت معهما حتّى اذا جاء الثوية وكان بين الحيرة والنجف عن ذكوات بيض(٢) نزل ونزل إِسماعيل ونزلت معهما فصلّى وصلّى إسماعيل وصلّيت.

وروى عن أبان بن تغلب(٣) قال: كنت مع أبي عبد اللّهعليه‌السلام فمرّ بظهر الكوفة فنزل فصلّى ركعتين، ثمّ تقدّم قليلاً فصلّى ركعتين، ثمّ سار قليلاً فنزل فصلّى ركعتين، ثمّ أخبر أبان أن الصّلاة الاُولى عند قبر أمير المؤمنينعليه‌السلام ، والثانية عند موضع رأس الحسينعليه‌السلام ، والثالثة عند منزل القائم.

وذكر الشيخ الحرّ أن الصادقعليه‌السلام زار قبر أمير المؤمنين نوباً عديدة منها ما عن الصدوق رحمه اللّه عن صفوان بن مهران الجمّال قال: سار الصادقعليه‌السلام وأنا معه في القادسيّة حتّى أشرف على النجف فلم يزل سائراً حتّى أتى الغري فوقف به حتّى أتى القبر، فساق السّلام من آدم على كلّ نبي وأنا أسوق معه السّلام حتّى وصل السّلام الى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثمّ خرّ على القبر فسلّم عليه وعلا نحيبه، فقلت: يا ابن رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ما هذا القبر، فقال: قبر جدّي عليّ بن أبي طالب.

وذكر المجلسي زيادة على ما سبق زيارات أُخر، وذكر زيارة صفوان معه بصورة أُخرى، وفيها أن الصادق شمّ تربة أمير المؤمنين فشهق شهقة ظننت أنه فارق الدنيا، فلمّا أفاق قال: ههنا واللّه مشهد أمير المؤمنين، ثمّ خطّ تخطيطاً، فقلت يا ابن رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ما منع الأبرار من أهل البيت من إِظهار مشهده ؟ قال: حذراً من بني مروان والخوارج أن تحتال في أذاه.

____________________

(١) الكوفي، ولم تعرف عنه غير هذه الرواية، وكفى في شأنه رواية الكليني عنه.

(٢) جمع ذكوة، وهي الجمرة الملتهبة، والمأسدة، ولا يناسبان المقام ولعلّه أراد منها الربوات التي تحوط القبر، وشبّهها بالذكوات لبريقها، لأن أرض الغري ذات رمل وحصى فيكون لها بريق ولمعان.

(٣) سوف نذكره في المشاهير من ثقات الأصحاب للصادقعليه‌السلام .

١٠٧

وروى عن عمر بن يزيد(١) انّه أتى عبد اللّه بن سنان(٢) فركب معه فمضيا حتّى أتيا منزل حفص الكناسي(٣) فاستخرجه وركب معهما فمضوا حتّى أتوا الغري، فانتهوا إِلى قبر، فقال: انزلوا هذا قبر أمير المؤمنين، فقال له عبد اللّه: من أين علمت هذا ؟ قال: أتيته مع أبي عبد اللّهعليه‌السلام حيث كان بالحيرة غير مرّة، وخبّرني أنه قبره.

وروى عن يونس بن ظبيان أنه كان عند الصادقعليه‌السلام بالحيرة أيام مقدمه على أبي جعفر في ليلة صحيانة مقمرة، إِلى أن قال: فركب وركبت معه وسار حتّى انتهينا إِلى الذكوات الحمر، قال: ثمّ دنا من اكمة فصلّى عندها ثمّ مال عليها وبكى، إِلى أن قال: قال: هو قبر أمير المؤمنينعليه‌السلام ولعلّ هذه الرواية رواية يونس الاُولى.

وروى عن أبي الفرج السندي(٤) أنه جاء من الحيرة مع الصادقعليه‌السلام الى الغري وزار قبر أمير المؤمنينعليه‌السلام .

وروى مثل ذلك عن عبد اللّه بن عبيد بن زيد(٥) وذكر انّ عبد اللّه بن الحسن كان معه، وأن عبد اللّه أذّن وأقام وصلّى مع الصادقعليه‌السلام .

وظاهر هذا أن الزيارة كانت في عهد السفّاح، لأنه استقدم عبد اللّه بن الحسن كما استقدم الصادقعليه‌السلام .

____________________

(١) ذكر أرباب الرجال أن عمر بن يزيد اثنان: أحدهما بيّاع السابري والآخر الصيقل، وقد رويا معاً عن الصادقعليه‌السلام ولا يبعد أن يكونا معاً ثقتين.

(٢) سنذكره في ثقات المشاهير.

(٣) هو ابن عبد ربّه الكوفي وعداده في أصحاب الصادق واستظهر الرجاليّون أنه إِمامي.

(٤) واسمه عيسى وعداده في أصحاب الصادق ورواته.

(٥) لم يأت له ذكر في كتب الرجال بهذا العنوان نعم جاء في أصحاب الصادق رجال كثيرون اسمهم عبد اللّه بن عبيد.

١٠٨

وروى أيضاً عن أبي العلاء الطائي(١) حديثاً طويلاً يذكر فيه مجيء الصادق الى الحيرة، وذيوع الخبر بالكوفة، وقعوده لانتظاره، وسؤاله عن القبر الذي في الظهر عندهم وأنه قبر أمير المؤمنينعليه‌السلام وقول الصادق: اي واللّه يا شيخ حقّاً.

وروى عن صفوان أنه كان يأتي القبر بعد ما عرّفه به الصادقعليه‌السلام ويصلّي عنده مدّة عشرين سنة.

وقد ذكر السيّد الجليل عبد الكريم بن طاووس في فرحة الغري ما تقدم ذكره من الزيارات وغيرها شيئاً كثيراً، وليس القصد أن نوافيك بكلّ زيارة رويت له، وإِنما كان القصد أن نوقفك على تلك السياسة الخرقاء التي صنعها العبّاسيّون مع أبي عبد اللّهعليه‌السلام وما كان لتلك الجيئات من آثار أظهرت أمر أهل البيت.

كان الصادقعليه‌السلام يصحب في كلّ زيارة واحداً أو اكثر من أصحابه ليدلّهم على القبر، ويصحب غيرهم في الزيارة الاُخرى ليكثر عارفوه وزائروه، فروى كثير من رجاله هذه الزيارات منهم صفوان الجمّال ومحمّد بن مسلم الثقفي، وأبو بصير، وعبد اللّه بن عبيد بن زيد، وأبو الفرج السندي، وأبان بن تغلب، ومبارك الخبّاز(٢) ومحمّد بن معروف الهلالي(٣) وأبو العلاء الطائي، والمعلّى بن خنيس، وزيد بن طلحة، وعمر بن يزيد، ويزيد بن عمرو، وعبد اللّه بن طلحة النهدي، ويونس بن ظبيان، الى غير هؤلاء.

وقد أعطى الصادقعليه‌السلام صفوان الجمّال دراهم لتجديد بنائه وكان قد جرفه السيل، فمن هذا تعرف أن القبر كان ظاهراً وإِنما كانوا يتكتّمون في زيارته والاشارة اليه ليبقى مخفيّاً على الخوارج وبني مروان، ومن ههنا يسأله أبو العلاء عن القبر الذي عندهم بالظهر أهو قبر أمير المؤمنينعليه‌السلام ؟ فلو لم يكن عندهم قبر ظاهر لما كان وجه لسؤاله، ويسأله صفوان حين خرّ على القبر، قائلاً: يا ابن رسول اللّه ما هذا القبر ؟

____________________

(١) لم أقف على حاله.

(٢) لم تُعرف عنه غير هذه الرواية.

(٣) له روايات عن الصادقعليه‌السلام .

١٠٩

وفي عهد الصادقعليه‌السلام عرف الناس القبر ودلّوه من تلك الزيارات وصاروا لا يسألونه عنه وإِنما يسألون عن الآداب في زيارته، كما سأله محمّد بن مسلم وصفوان ويونس بن ظبيان وغيرهم.

ومن آثار الصادقعليه‌السلام في العراق من تلك الجيئات محرابه في مسجد الكوفة، ويقع شرقيّ المسجد قريباً من سوره، بالقرب من قبر مسلمعليه‌السلام وهو بيّن معروف في المسجد ليس في جواره محراب سواه وله صلاة ودعاء ومحرابه في مسجد سهيل (السهلة) ويقع في وسط المسجد وله صلاة ودعاء والسبب في ذلك معروف، وهو أن الصادقعليه‌السلام كان في الكوفة ودخل عليه بشّار المكاري(١) فأعلم الصادق أن جلوازاً(٢) يضرب رأس امرأة يسوقها الى الحبس وهي تنادي بأعلى صوتها: المستغاث باللّه ورسوله، ولا يغيثها أحد، وقال: ولِم فعل بها ذلك ؟ قال: سمعت الناس يقولون: إِنها عثرت فقالت: لعن اللّه ظالميكِ يا فاطمة، فارتكب منها ما ارتكب، فقطع الصادق الأكل،

____________________

(١) لم أقف على ترجمته.

(٢) الجلواز - بالكسر - الشرطي.

١١٠

وكان بين يديه رطب طبرزد(١) ولم يزل يبكي حتّى ابتلّ منديله ولحيته وصدره بالدموع، ثمّ ذهب الصادق من فوره ومعه بشّار الى مسجد السهلة، فصلّى ركعتين ودعا(٢) فلمّا خرج جاء الرسول فأعلمه أنها اُطلق سراحها، فاسترّ لذلك، وبعث لها بصلة، وكانت قد أبت أن تقبل من الوالي شيئاً وقد أعطاها مائتي درهم وكانت محتاجة(٣) ومازال الناس يقصدون المسجد والمحراب ويدعون بذلك الدعاء في طلب الحوائج.

وعلى ضفة نهر الحسينيّة في كربلاء محراب وعليه بنية ينسب إِلى الصادق ولعلّه صلّى في هذا المكان يوم زار الحسينعليه‌السلام وقد ذكر زيارته للحسينعليه‌السلام الحسين بن أبي العلاء الطائي، في خبره الطويل الذي أشرنا اليه وقد ذكره ابن طاووس في الفرحة، والمجلسي في البحار في مزاره، وفي الحديث، فقلت له: جعلت فداك بأبي وامّي هذا القبر الذي أقبلت منه قبر الحسين ؟ قال: اي واللّه يا شيخ حقّاً.

وفي الجانب الغربي من بغداد على ضفة النهر شمال جسره الغربي اليوم المعروف بالجسر القديم مكان يعرفه الناس بمدرسة الصادق وليس فيه اليوم أثر بيّن ولعلّه أفاد بعض الناس فيه عند مجيئه الى بغداد على عهد المنصور.

ومن الغريب أن الخطيب في تأريخه لم يذكر الصادقعليه‌السلام فيمن قدم بغداد، مع أنه ذكر ابنه الكاظم وحفيده الجوادعليهما‌السلام .

وكفى ما ذكرناه من آثار الصادق في مجيئه الى العراق عند إِرسال السفّاح والمنصور عليه وازدياد شأن أهل البيت به، والعور يذكور بالاحراق.

____________________

(١) قال في القاموس: السكر معرّب، وقال الأصمعي: طبرزن وطبرزل.

أقول: ولعلّ هذا الرطب سمّي بالطبرزد لشدّة حلاوته أو لتشابه الطعم بالسكر، ولعلّه ما يسمى اليوم عندنا بالطبرزل وهو من جيد الرطب.

(٢) ذكرنا هذا الدعاء فيما جمعناه من دعائه.

(٣) بحار الأنوار: ١٠٠ / ٤٤٠ /٢١، مزار البحار: ٢٢/١٠٣.

١١١

حياته العلميّة (علمه إِلهامي)

لا فضيلة كالعلم، فإن به حياة الاُمم وسعادتها، ورقيّها وخلودها، وبه نباهة المرء وعلوّ مقامه وشرف نفسه.

ولا غرابة لو كان العلم أفضل من العبادة أضعافاً مضاعفه، لأنّ العابد صالح على طريق نجاة قد استخلص نفسه فحسب، ولكن العالم مصلح يستطيع أن يستخرج عوالم كبيرة من غياهب الضلال، وصالح في نفسه أيضاً، وقد فتح عينيه في طريقه، ومن فتح عينه أبصر الطريق.

وليس في الفضائل ما يصلح الناس وينفعهم ويبقى أثره في الوجود مثل العلم، فإن العبادة والشجاعة والكرم وغيرها اذا نفعت الناس فإنما نفعها مادام صاحبها في الوجود، وليس له بعد الموت إِلا حسن الاحدوثة، ولكن العالم يبقى نفعه مادام علمه باقياً، وأثره خالداً.

وقد جاء في السنّة الثناء العاطر على العلم وأهله، كما جاء في الكتاب آيات جمّة في مدحه ومدح ذويه، وهذا أمر مفروغ عنه، لا يحتاج الى استشهاد واستدلال.

نعم إِنما الشأن في أن هذا الثناء خاصّ بالعلم الديني وعلمائه، أو عامّ لكلّ علم وعالم ؟ إِخال أن الاختصاص بعلم الدين وعلمائه لا ينبغي الريب فيه فإن الأحاديث صرّحت به، وكفى من الكتاب قوله تعالى: «إِنما يخشى اللّه من عباده العلماء»(١) وقد لا تجد خشية عند علماء الصنعة وما سواهم غير علماء الدين، بل إِن بعضهم قد لا تجده يعترف بالوجود أو بالوحدانيّة.

وما استحق علماء الدين هذا الثناء إِلا لأنهم يريدون الخير للناس ويسعون له ما وجدوا سبيلاً ومتى كانوا وجدتهم أدلاء مرشدين هداة منقذين.

وعلم الدين إِلهامي وكسبي، والكسبي يقع فيه الخطأ والصواب والصحّة والغلط، وغلط العالم وخطأه يعود على العالم كلّه بالخطأ والغلط، لأن النّاس أتباع العلماء في الأحكام والحلال والحرام، واللّه جلّ شأنه لا يريد للناس إِلا العمل بالشريعة التي أنزلها، والأحكام التي شرّعها، فلا بدّ إِذن من أن يكون في الناس عالم لا يخطأ ولا يغلط، ولا يسهو ولا ينسى، ليرشد الناس الى تلك الشريعة المنزلة منه جلّ شأنه، والأحكام المشرّعة من لدنه سبحانه، فلا تقع الاُمّة في أشراك الأخطاء وحبائل الأغلاط، ولا يكون ذلك إِلا اذا كان علم العالم وحياً أو إِلهاماً.

____________________

(١) فاطر: ٢٨.

١١٢

فمن هنا كان حتماً أن يكون علم الأنبياء وأوصيائهم من العلم الإِيحائي أو الإِلهامي صوناً لهم وللاُمم من الوقوع في المخالفة خطأً.

واللّه تعالى قد أنزل شريعة واحدة لا شرائع، وفي كلّ قضيّة حكماً لا أحكاماً، ونصب للاُمّة في كلّ عهد مرشداً لا مرشدين، ونجدها اليوم شرائع ولها مشرّعون لا شريعة واحدة ومشرّعاً واحداً، ونرى في كلّ قضيّة أحكاماً لا حكماً واحداً، وفي كلّ زمن مرشدين متخالفين متنابذين بل يكفر بعضهم بعضاً، ويبرأ بعضهم من بعض لا مرشداً واحداً، وليس هذا ما جاء به المصلح الأكبر رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولا ما أراده لاُمّته.

فلا غرابة لو حكم العقل بأن الواجب عليه سبحانه أن ينصب في كلّ عهد عالماً يدلّ الناس على الشريعة كما جاءت، ويأتيهم بالأحكام كما نزلت، وهل يجوز ذلك على أحد سوى عليّ وبنيه ؟ وهذه آثارهم العلميّة بين يديك فاستقرئها، لعلّك تجد على النور هدى، ولو لم يكن لدنيا أثر أو دليل إِلا قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أنا مدينة العلم وعليّ بابها(١) »، وقوله: «إِني تارك فيكم الثقلين كتاب اللّه وعترتي أهل بيت»(٢) ، لكفى في كون أهل البيت علماء الشريعة والكتاب، الذين أخذوا العلم من معدنه، واستقوه من ينبوعه، ولو كان علمهم بالاكتساب لما جعلهم الرسول علماء الكتاب عمر الدهر دون الناس، وما الذي ميّزهم على الناس اذا كانوا والناس في العلم سواء.

وممّا يسترعي الانتباه أن الناس كانوا محتاجين الى علمهم أبداً، وكلّما رجعوا اليهم في أمر وجدوا علمه عندهم، وما احتاجوا إِلى علم الناس أبداً.

ولا نريد أن نلمسك هذه الحقيقة بالأخبار دون الآثار، فإن في الآثار ما به غنى للبصر، وهذه آثارهم شاهدة على صدق ما ادّعوه وادعي فيهم، وأمر حقيق بأن تنتبه اليه، وهو أن الجوادعليه‌السلام انتهت اليه الامامة وهو ابن سبع، ونهض بأعبائها، وقام بما قام به آباؤه من التعليم والإرشاد، وأخذ منه العلماء خاضعين مستفيدين، وما وجدت فيه نقصاً عن علوم آياته وهذا عليّ بن جعفر شيخ العلويّين في عهده سنّاً وفضلاً اذا أقبل الجواد يقوم فيقبّل يده، وإِذا خرج يسوّي له نعله، وسئل عن الناطق بعد الرضاعليه‌السلام فقال: أبو جعفر ابنه

____________________

(١) تاريخ بغداد: ٢/٣٧٧، وكنز العمال: ٦/١٥٦.

(٢) مسند أحمد بن حنبل: ٤/٣٦٦، وصحيح الترمذي: ٢/٣٠٨.

١١٣

فقيل له: أنت في سنّك وقدرك وأبوك جعفر بن محمّد تقول هذا القول في هذا الغلام، فقال ما أراك إِلا شيطاناً ثمّ أخذ بلحيته وقال: فما حيلتي إِن كان اللّه رآه أهلاً لهذا ولم ير هذه الشيبة لها أهلاً(١) هذا وعليّ بن جعفر أخ الكاظمعليه‌السلام والكاظم جدّ الجواد، فماذا ترى بينهما من السن، وعلي أخذ العلم من أبيه الصادق وأخيه الكاظم وابن أخيه الرضا، فلو كان علمهم بالتحصيل لكان علي اكثر تحصيلاً، أو الإمامة بالسنّ لكان علي اكبر العلويّين سنّاً.

على أن الجواد قد فارقه أبوه يوم سافر الى خراسان وهو ابن خمس، فمن الذي كان يؤدّبه ويثقّفه بعد أبيه حتّى جعله بتلك المنزلة العليّة لو كان ما عندهم عن تعلّم وتأدّب ؟ ولم لا يكون المعلّم والمثقف هو صاحب المنزلة دونه.

ومات الجواد وهو ابن خمس وعشرين سنة وأنت تعلم أن ابن هذا السنّ لم يبلغ شيئاً من العلم لو أنفق عمره هذا كلّه في الطلب فكيف يكون عالم الاُمّة ومرشدها، ومعلّم العلماء ومثقّفهم، وقد رجعت إِليه الشيعة وعلماؤها من يوم وفاة أبيه الرضاعليه‌السلام ؟

وهكذا الشأن في ابنه عليّ الهاديعليه‌السلام ، فقد قضى الجواد وابنه الهادي ابن ست أو ثمان، فمن الذي ثقّفه وجعله بذلك المحلّ الأرفع ؟ وكيف رجعت اليه العلماء والشيعة وهو ابن هذا السن ؟ وماذا يحسن من كان هذا عمره لو كان علمه بالكسب ؟

فالصادق كسائر الأئمة لم يكن علمه كسيباً وأخذاً من أفواه الرجال ومدارستهم، ولو كان فممّن أخذ وعلى مَن تخرّج ؟ وليس في تأريخ واحد من الأئمةعليهم‌السلام أنه تلمذ أو قرأ على واحد من الناس حتّى في سنّ الطفولة فلم يذكر في تأريخ طفولتهم أنه دخلوا الكتاتيب أو تعلّموا القرآن على المقرئين كسائر الأطفال من الناس، فما عِلمُ الامام إِلا وراثة عن أبيه عن جدّه عن الرسول عن جبرئيل عن الجليل تعالى، وسوف نشير الى بعض آثاره العلميّة والى تعليمه لتلامذته، وما سواها ممّا هو دخيل في حياته العلميّة.

____________________

(١) رجال الكشي ٢٦٩ و٢٧٠.

١١٤

مدرسته العلميّة

ما كان أخذ العلم عنه على الطراز الذي تجده اليوم من الحوزات العلميّة والنقاش في الدليل والمأخذ، بل كان تلامذته يرون إِمامته عدا قليل منهم، والاماميّة كما تقدّم ترى أن علم الامام لا يدخل فيه الرأي والاجتهاد فيحاسب الامام على المصدر والمستند، وإِنما علمه إِلهي موروث، نعم ربّما يسأله السائل عن علّة الحكم سؤال تعلّم واستفاده لا سؤال ردّ وجدل.

على أن من أخذوا عنه العلم من غير الاماميّة كانوا يرون جلالته وسيادته وإِمامته(١) وقد عدّوا أخذهم عنه منقبة شرفوا بها وفضيلة اكتسبوها(٢) .

وهذا ابن أبي الحديد قد أرجع علم المذاهب الأربعة اليه في الفقه(٣) .

فكان السائل يأتي اليه ويستعلمه عمّا أشكل عليه، وكان الكثير منهم قد استحضر الدواة والقرطاس ليكتب ما يمليه عليه الامام ليرويه عنه عن تثبّت.

وإِذا أردت أن تعرف مبلغ علمه فانظر إِلى كثرة من استقى منه العلم فقد بلغ من عرفوه منهم أربعة آلاف أو يزيدون، ولماذا روى هؤلاء كلّهم عنه ولم يرووا عن غيره، مع وفرة العلماء في عصره، ولماذا إِذا روى أحد منهم عنه وقف عليه، ولا يسأل عمّن يروي ما أملاه، إِلا أن يخبر هو أن ما أملاه عن آبائه عن جدّه الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

وما كانت تلك المدرسة التي خرّجت ذلك العدد الجم مدرسة تريد أن تعلّم العلوم للذكر والصيت والفخر والشرف، وما كانت غاية تلامذتها إِلا أن يتعلّموا العلم للعلم وخدمة الدين والشريعة، ومن خالف هذه السيرة أبعده الامام عن حوزته، فكم طرد اُناساً ولعن قوماً خالفوه في سيرته وسريرته وما زالت عظاته وارشاداته تسبق تعاليمه، أو تطّرد مع بيانه.

____________________

(١) تهذيب الأسماء واللغات وينابيع المودّة.

(٢) مطالب السؤل.

(٣) شرح النهج: ١/٦.

١١٥

تعاليمه لتلاميذه

ما اكثر تعاليمه واكثر عظاته ونصائحه، وستأتي لها فصول خاصّة، وإِنما نذكر منها ههنا ما يخصّ طلب العلم.

قال عمرو بن أبي المقدام(١) : قال لي أبو عبد اللّهعليه‌السلام في أوّل مرّة دخلت عليه: تعلّموا الصدق قبل الحديث(٢) .

أقول: ما أثمنها نصيحة، وما زال يوصي كلّ من دخل عليه من أوليائه بالصدق وأداء الأمانة، ولا بدع فإن بهما سعادة المرء في هذه الحياة، ووفرة المال والجاه، والطمأنينة اليه، والرضى به للحكومة بين الناس.

وأما إِرشاده الى طلب العلم فما اكثر قوله فيه، فتارةً يقولعليه‌السلام : لست أحبّ أن أرى الشاب منكم إِلا غادياً في حالين، إِما عالماً أو متعلّماً، فان لم يفعل فرط، وإِن فرط ضيّع، وإِن ضيّع أثم(٣) .

____________________

(١) سيأتي في ثقات المشاهير من رجاله.

(٢) الكافي: باب الصدق وأداء الأمانة.

(٣) مجالس الشيخ الصدوق رحمه اللّه، المجلس /١١.

١١٦

واُخرى يقول: اطلبوا العلم وتزيّنوا معه بالحلم والوقار(١) وما اقتصر على حثهم على طلب العلم، بل حثّهم على ما يزدان به من الحلم والوقار، بل والتواضع كما في قولهعليه‌السلام :( وتواضعوا لمن تعلّمونه العلم، وتواضعوا لمن طلبتم منه العلم، ولا تكونوا علماء جبّارين، فيذهب باطلكم بحقكم ) (٢) .

أقول: ما أدقّها نصيحة، وأسماه تعليماً، فإن العلم لا ينفع صاحبه ولا الناس ما لم يكن مقروناً بالتواضع، سواء كان المتحلّي به معلّماً أو متعلّماً، وأن الناس لتنفر من ذي الكبرياء، فيكون الجبروت ذاهباً بما عنده من حق.

ويقولعليه‌السلام في إِرشاده لطالب العلم: ولا تطلب العلم لثلاث: لترائي به، ولا لتباهي به، ولا لتماري به، ولا تدعه لثلاث: رغبة في الجهل وزهادة في العلم، واستحياءً من الناس، والعلم المصون كالسراج المطبق عليه(٣) .

أقول: إِن الصادقعليه‌السلام يريد أن يكون طلب العلم للعلم ولنفع الاُمّة، فلو طلبه المرء للرياء أو المباهاة أو المجادلة لما انتفع ونفع، بل لتضرّر وأضرّ، كما أن تركه للرغبة في الجهل والزهد في العلم كاشف عن الحمق، ولا خير في حياء يقيمك على الرذيلة ويبعد عنك الفضيلة، ولا يكون انتفاع الناس بالعلم إِلا بنشره، وما فائدة السراج اذا اُطبق عليه.

ولنفاسة العلم حضّ على طلبه وإِن كلّف غالياً، فقال: اطلبوا العلم ولو بخوض المهج وشقّ اللجج(٤) .

____________________

(١) الكافي: ١/٣٦/١.

(٢) مجالس الشيخ الصدوق، المجلس /١٧، بحار الأنوار: ٢/٤١/٢.

(٣) بحار الأنوار: ١٧/٢٧٠.

(٤) الكافي: ١/٣٥/٥.

١١٧

ولمّا كان للعلم أوعية ومعادن نهاهم عن أخذ العلم من غير أهله فقالعليه‌السلام : اطلبوا العلم من معدن العلم وإِيّاكم والولايج فهم الصادّون عن اللّه(١) .

أقول: إِننا لنجد عياناً أن المتعلّم يتغذّى بروح معلّمه، ويتشبّع بتعاليمه، فالتلميذ الى الضلالة أدنى إِن كان المعلّم ضالاً، والى الهداية أقرب إِن كان هادياً، لأن غريزة المحاكاة تقوى عند التلميذ بالقياس الى معلّمه.

وما حثّ على طلب العلم فحسب، بل أراد منهم اذا تعلّموه أن يعملوا به فقالعليه‌السلام : تعلّموا العلم ما شئتم أن تعلموا فلن ينفعكم اللّه بالعلم حتّى تعملوا به، لأن العلماء همّهم الرعاية، والسفهاء همّهم الرواية(٢) وقال: العلم الذي لا يعمل به كالكنز الذي لا ينفق منه أتعب نفسه في جمعه ولم يصل إلى نفعه(٣) وقال: مثل الذي يعلم الخير ولا يعمل به مثل السراج يضيء للناس ويحرق نفسه(٤) وقال: إِن العالم اذا لم يعمل بعلمه زلّت موعظته عن القلوب كما يزلّ المطر عن الصفا(٥) .

وقد دلّهم على ما يحفظون به ما يتعلّمونه فقالعليه‌السلام : اكتبوا فإنكم لا تحفظون حتّى تكتبوا(٦) .

وممّا قاله للمفضّل بن عمر: اكتب وبثّ علمك في إِخوانك فإن متّ

____________________

(١) كتاب زيد الزراد وهو من الاصول المعتبرة.

(٢) بحار الأنوار: ٢/٣٧/٥٤.

(٣) بحار الأنوار: ٢/٣٧/٥٥.

(٤) بحار الأنوار: ٢/٣٨/٥٦.

(٥) بحار الأنوار: ٢/٣٩/٦٨.

(٦) الكافي: ١/٥٢/٩.

١١٨

فورّث كتبك بنيك، فإنّه يأتي زمان هرج ما يأنسون فيه إِلا بكتبهم(١) .

وقال: احتفظوا بكتبكم فإنكم سوف تحتاجون اليها.(٢)

إنهعليه‌السلام ما أراد فضيلة العلم لأهل زمانه فحسب، بل أرادها لكلّ جيل وعصر، كما أنه ما أوصاهم بالتعلّم إِلا لأن يجمعوا كلّ فضيلة معه كما ستعرفه من وصاياه، وكما تعرفه من قولهعليه‌السلام :

فإن الرجل منكم اذا ورع في دينه وصدق الحديث، وأدّى الأمانة وحسن خلقه مع الناس، قيل هذا جعفري، ويسرّني ذلك ويدخل عليّ منه السرور، وإِن كان على غير ذلك دخل عليّ بلاؤه وعاره، وقيل هذا أدب جعفر(٣) .

إِن الصادق وآباءه من قبل وأبناءه من بعد جاهدوا في حسن تربية الاُمّة وتوجيههم الى الفضائل، وردعهم عن الرذائل بشتّى الوسائل، ولكن ما حيلتهم اذا كان الناس يأبون أن يسيروا بنهج الحقّ، وأن يتنكّبوا عن جادة الباطل.

وما حضّ على طلب العلم إِلا وحضّ على العناية بشأن العلماء والعطف عليهم، فقالعليه‌السلام : إِني لأرحم ثلاثة، وحقّ لهم أن يُرحموا: عزيز أصابته ذلّة، وغنيّ أصابته حاجة، وعالم يستخفّ به أهله والجهلة(٤) .

وقالعليه‌السلام : ثلاثة يشكون الى اللّه عزّ وجل: مسجد خراب لا يصلّي به أهله، وعالم بين جهّال، ومصحف معلّق قد وقع عليه غبار لا يقرأ فيه(٥) .

وقال إسحاق بن عمّار الصيرفي(٦) : قلت للصادقعليه‌السلام : من قام من

____________________

(١) الكافي: ١/٥٢/١١.

(٢) الكافي: ١/٥٢/١٠.

(٣) الكافي: ٢/٦٣٦.

(٤) خصال الصدوق: ص ٨٧.

(٥) بحار الأنوار: ٩٢/١٩٥.

(٦) سيأتي في ثقات المشاهير من أصحابهعليه‌السلام .

١١٩

مجلسه تعظيماً لرجل، قالعليه‌السلام : مكروه إِلا لرجل في الدين. وقالعليه‌السلام : من اكرم فقيهاً مسلماً لقي اللّه يوم القيامة وهو عنه راض، ومن أهان فقيهاً مسلماً لقي اللّه يوم القيامة وهو عليه غضبان(١) .

وما اكثر ما جاء عنهعليه‌السلام في رعاية أهل العلم وتقديرهم، واكرام العلماء وتوقيرهم، وهكذا كان مجاهداً في تثقيف أتباعه وتهذيبهم وتعليمهم الأخلاق الفاضلة.

الحديث

عرفت أن الذي روى عنه الحديث أربعة آلاف راوية أو يزيدون وكان التدوين قبل عهده وكثر في أوانه، وكان الحديث المدوّن عنه في كلّ علم.

وكان الشيعة يأخذون عنه الحديث كمن يتلقّاه عن سيّد الرسلصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لأنهم يعتقدون أن ما عنده عن الرسول من دون تصرّف واجتهاد منه، ولذا كانوا يأخذون منه مسلّمين من دون شكّ واعتراض، ويسألونه عن كلّ شيء يحتاجون اليه فكان حديثه المروي يجمع كلّ شيء.

واذا كان الرواة أربعة آلاف أو اكثر، فما كان عدد الرواية ؟ ولقد ذكر أرباب الرجال أن أبان بن تغلب وحده روى عنه ثلاثين ألف حديث، ومحمّد بن مسلم ستة عشر ألف حديث وعن الباقر ثلاثين ألفاً، ولا تسل عن مقدار ما رواه جابر الجعفي، فهل يحصى إِذن عدد الرواية، والفنون المرويّة عنه ؟ ولقد بقي بالأيدي من تلك الرواية بعد ضياع الكثير وإِهمال البعض ما ملأ الصحف والطوامير.

____________________

(١) بحار الأنوار: ٤٧/٤٤/١٣.

١٢٠