الإمام علي الهادي ( عليه السلام ) مع مروق القصر وقضاة العصر

الإمام علي الهادي ( عليه السلام ) مع مروق القصر وقضاة العصر0%

الإمام علي الهادي ( عليه السلام ) مع مروق القصر وقضاة العصر مؤلف:
تصنيف: الإمام علي بن محمد الهادي عليه السلام
الصفحات: 286

الإمام علي الهادي ( عليه السلام ) مع مروق القصر وقضاة العصر

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: كامل سليمان
تصنيف: الصفحات: 286
المشاهدات: 19427
تحميل: 5417

توضيحات:

بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 286 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 19427 / تحميل: 5417
الحجم الحجم الحجم
الإمام علي الهادي ( عليه السلام ) مع مروق القصر وقضاة العصر

الإمام علي الهادي ( عليه السلام ) مع مروق القصر وقضاة العصر

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

بسم الله الرحمن الرحيم

السلام عليك يا أبا الحسن، عليّ بن محمد، الزكي الرّاشد، النّور الثّاقب.

السلام عليك يا نور الأنوار، السّلام عليك يا زين الأبرار، السّلام عليك يا سليل الأخيار.

السّلام عليك يا حجّة الرحمان، السّلام عليك يا ركن الإيمان، السّلام عليك يا مولى المؤمنين، السّلام عليك يا وليّ الصّالحين.

السّلام عليك يا عَلمَ الهدى، السّلام عليك يا حليف التّقى، السّلام عليك يا عمود الدّين، السّلام عليك يا بن خاتم النبيّين، السّلام عليك يا بن سيّد الوصيّين، السّلام عليك يا بن فاطمة الزّهراء سيّدة نساء العالمين،.. السّلام عليك أيّها الحجّة على الخلق أجمعين، ورحمة الله وبركاته (1) .

من زيارته (عليه السلام) المنصوصة.

الإهداء

إلى الأخ المنصف الّذي يحب أن يستمع القول فيتّبع أحسنه، ويفتح قلبه للوعي، قبل أن يفتح عينيه للقراءة.

ويوطِّن نفسه على الدّخول إلى هيكل قدس، بقلب نقيّ لا رواسب فيه، ونفس صافية لا تشوبها شائبة.

ليقرأ سيرة عظيم من أولياء الله تعالى، وحُماة دينه، وحَمَلة كلمته، وعيبة عِلمه، الّذين خُلقوا من غير طينتنا، واصطنعوا على عينه سبحانه.

وليدخل محراب حضرة علويّة، فيطالع آيات واحدٍ من أوصياء رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، حَملَ أعباء الولاية قرابة ثُلُث قرن على هذه الأرض، فكان في عصره سيّد العصر، فتىً،.. فشابّاً،.. فكهلاً،.. وإلى آخر لحظةٍ من عمره الشّريف.

أجل، إلى مَن يريد أن يقرأ، ويتفكّر، ويتدبّر.

أهدي بعض آيات هذا الإمام العظيم.

في هذا الكتاب المتواضع الّذي هو نفحة من نفحات سادة الخلق (عليهم السلام).

البيّاض: قضاء صُور - لبنان الجنوبي

سنة 1419 هجريّة، 1999 ميلاديّة

المؤلّف          

____________________

(1) انظر مفاتيح الجنان، وأكثر كتب الزّيارات.

١

مفتتحُ هذا الكتاب

سِيَر أهل بيت النبيّ صلوات الله وسلامه عليه وعليهم، سِيَر حافلة بكرائم الأقوال وجلائل الأعمال، طافحة بشذى الرّسالة وروح النبوّة، لا ترى فيها إلاّ نماذج أئمّة الحقّ والعدل، ولا تقع عند استقرائها إلاّ على صور مشرقة لخلفاء الله تبارك وتعالى الذين جعلهم في أرضه تراجمة وحيه، النّاطقين عن أمره، الممثّلين ظلّه بين عباده،.. تَحسبُ الصامت منهم متجلبباً بهيبة الرّسول، وتجد المتكلّم يصدر عن ربّه فيما يقول،.. تعلوه - أبداً - هالة وقار وجلال تجعله مهاباً قد ضربَ على المجرّة قبابه، ووصلَ بحبل الله أسبابه،.. فلا تُذكر فضيلة إلاّ وله محضها وخلاصتها، ولا تُستعصى حجّة إلاّ وعلى لسانه حججها وأدلّتها..

فهو أحرى النّاس بكلّ مكرمة؛ لِما منحه الله تعالى من خصائص تفرّدَ بها: كسماحة النّفس، والخلُق العظيم، والرّسوخ في العلم والفضل والحِلم، والتمرّس بالقرآن والسنّة، وكالصّدق في القول والوعد والعهد، وغير ذلك من مزايا الكمال التي لا تجتمع في غيره من البشر،.. وكالإيمان العميق الّذي يبلغ به مرتبة الأنبياء،.. ولا شيء كالإيمان لا يحتاج إلى برهان بعد أن تؤكّده أقوال حامله وأفعاله..

فسيَر حياتهم (عليهم السلام) مأدبة غنيّة تحيى بها القلوب، وتتقوّى العقيدة، ويترسّخ الإيمان، ويكمل العمل ويُتقبّل، وتُرتضى الحياة - على ما فيها من أثقال الخطوات الشاقّة - نحو النّعيم المقيم الّذي لا يُنال بيوم الدّين إلاّ بتولّيهم..

***

ولم يكن الأئمة (عليهم السلام) طالبي حكم دنيويّ،.. ولا هم موعودون به فضعفوا عن طلبه وقعدوا عنه، ولا كانوا في مركز ضعف حينما كان سلاطين الزمان يشخصونهم إلى عواصم مُلكهم، ويضعونهم تحت الرقابة؛ لإبعادهم عن قواعد أعمالهم ومفاتح تحرّكاتهم، وللوقوف بوجه دعوتهم التي تزلزل عروش الظّلم، وتُظهر زيف الحُكم، وتفضح باطل ما كان عليه الحاكمون، بل كانوا أقوياء مرهوبين، يُحسب لقوّتهم ألف حساب!.

٢

فلم يولد واحد منهم (عليهم السلام)، إلاّ انتشرَ خبر ولادته كلمح البصر، وذاعَ صيته بين البدو والحضر، وارتاعت لدى سماع اسمه قلوب السّلطان وأعوانه، وهابت ذكره أركان الدولة وسائر لحَسَة قصاعها من الكذَبة وسرقة المال؛.. لأنّهم - جميعاً - على موعد مع ذلك الاسم الكريم المرعب الّذي لا ينطق عن الهوى، وبشّرَ به آباؤه واحداً بعد واحدٍ، فصار على كلّ شَفة ولسان.

نعم، كانوا يرضون بالشّخوص إلى عواصم خلفاء الزمان (مستضعفين)؛ ليُعلنوا وليبشّروا وينذروا هناك،.. حيث تتزاحم الأقدام ويزدحم الجبابرة ممّن يأكلون التّراث أكلاً لمّاً، ويحبّون المال وشهوات النفوس حبّاً جمّاً! ولذا كانوا مهاجَمين من جميع الدائرين في فلَك طواغيت الحُكم، مراقَبين ومحاسَبين على مفتريات خصومهم،.. صابرين على ذلك برضا واطمئنان؛ لأنّهم كانوا يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر في مركز ثقل الدّهماء، وبصفتهم شهداء الله تعالى على الخلق..

فمِن خداع الحواسّ أن نظنّ في الأئمة (عليهم السلام) ضعفاً، لمجرّد النظرة الطائشة لإذعانهم (لأوامر) الحاكم الظالم الذي كان يعتقلهم بجانبه مرةً، ويسجنهم مرةً، ويطلق سراحهم مرةً أخرى،.. فهم مأمورون بالصبر على هذه الأمور؛ ليتسنّى لهم القيام بعملهم الذي هو امتداد للرّسالة السماويّة، وتتيسّر إذاعة كلمة العدل عند الحاكم الظالم، والوقوف في وجه ضلال الأمير، والمشير، والوزير، وفقيه السّوء،.. وليكونوا على اتصال مع كافّة مَن يدورون حول عرش السلطان من ذباب موظّفيه وعملائه، ولو ذاقوا الشذى من الحكم تارةً والأذى طوراً؛.. لأنّهم حُجج الله على عباده، وأُمناؤه على دعوته، وسفراؤه في أرضه،.. ولولا ذلك لكانوا كالصقور، ولرأيتَ كلّ واحد منهم كالأسد الهصور، تحميهم حصانة الحاكم السماويّ الذي لا يرهب الحاكم الأرضيّ!

فأهل بيت النبيّ (صلّى الله عليه وعليهم) كانوا كذلك،.. والناس يعلمون أنّ أمرهم من أمر ربّهم سبحانه وتعالى..؛ ولذا كانوا محسودين، ومجفوّين..

***

٣

أمّا إمامُنا أبو الحسن عليّ الهادي (عليه السلام)، الذي نحن بصدد عرض شيء من سيرته الكريمة، فإنّ كتابنا هذا سيكشف للقارئ عن جوانب من عَظمة الله تعالى في عظمة مخلوقه هذا، وسيريه آيات صُنع الله سبحانه في آيات وليّه، الذي حَفلت حياته بأسمى معاني الإمامة التي هي خزينة النبوّة، فكان لدى التقويم في الميزان، يرجح بجميع أهل ذلك الزمان،.. قد تقلّد الإمامة وهو في أوائل السنة التاسعة من عمره، فتصدّر يومها مجالس الفتوى بين أجلاّء العصر ومشايخ الفقهاء، وبهرَ العقول بعلمه وفضله..

ثمّ حملَ أعباءها طيلة ثلاث وثلاثين سنة في عصر ظلم وغشم ونفاق، أخَذَ منه - ومن العلويّين جميعاً - ومن شيعته - خصوصاً - بالخناق! ولكنّه استمرّ على أدب الله عزّ وجلّ، وسيرة رسوله (صلّى الله عليه وآله) ونهج آبائه (عليهم السلام)، لا يُمالئ حاكماً، ولا يهادن ظالماً، بل يقوم بما انتدبَ إليه في قصر السلطان، ومجالس الحُكم، وبين الأمراء، وفي كلّ مكان.

يعيش صراحة الدّين، ويجانب الباطل بجرأة لا يكون لها نظير إلاّ عند المنتجب من الله تعالى للولاية على الناس،.. منسجماً مع أمر السماء التي استسفرته لكلمتها، وقائماً بقسط الوظيفة التي خَلعت عليه سربال ولايتها،.. مُثبتاً أنّه على مستوى ذلك الأمر، في ذلك العصر،.. تماماً كالسّفير الذي لا يخرج عن خطّ دولته، ويدلّ صدقه مع وظيفته على حفظ كرامة الدولة التي سخت عليه بما وضعته بين يديه من إمكانيّات؛ ليستطيع تمثيلها حقّاً وحقيقة.

وأنا - في كتابي هذا - أحبّ أن يعرف قرّائي الأعزاء شيئاً عَرَفتهُ من مزايا هذا الإمام العظيم؛ ليكونوا على بيّنة من أمر الله سبحانه وتعالى في مَن يولّى عليهم، فإنّهم يوم القيامة لموقوفون،.. وإنّهم عن أئمّتهم في الدّين لمسؤولون..

٤

وقد قال الإمام الصادق (عليه السلام): (يجيء الرجل يوم القيامة وله من الحسنات كالسّحاب الرّكام، أو كالجبال الرّواسي، فيقول: يا ربّ، أنّى لي هذا ولم أعملها؟ فيقول: هذا علمك الّذي عَلّمته الناس، يُعمل به من بعدك) (1) ..

فعلينا أن نتعلّم،.. وأن يُعلّم بعضنا بعضاً ما فيه سعادتنا في الدارين ( ...مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاّ مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ... ) (2) ؛ فإنّ المعرفة باب النجاة، والجهل يؤدي إلى البوار والخسران..

وقال معاوية بن عمّار: قلت لأبي عبد الله الصادق (عليه السلام): رجل راوية لحديثكم يبثّ ذلك إلى الناس ويُسدّده في قلوب شيعتكم، ولعلّ عابداً من شيعتكم ليست له هذه الرّواية، أيّهما أفضل؟

قال: (الراوية لحديثنا يبثّ في الناس ويُسدّده في قلوب شيعتنا، أفضل من ألف عابد) (3) .

لذا تصدّيتُ لهذا الأمر، دون أن أنصِب نفسي معلّماً أو راوية يبثّ أخبار هذه العترة الطاهرة في الناس، بل كنت جَمّاعاً - لهذه الأمور - غير وضّاع، متوخّياً أن يجد المعلّم والرّاوية مادّة التعليم والرّواية بين أيديهما محضّرة مهيّأةً، فيتيسّر لهما القيام بواجبهما حين يجدان وسائل العمل مرتّبةً جاهزةً لتثقيف الآخرين، مبتغياً من وراء ذلك إنارة زاوية من زوايا حياتنا الدّنيا الزائلة، وراجياً بلوغ الغاية المرجوّة في حياتنا الأخرى الدائمة.

وما كنتُ - بالحقيقة - لأختار هذا الموضوع وأبذل جهدي في الكتابة عن أهل البيت (عليهم السلام)، لولا أنّهم شجرة النبوّة المقطوعة من أكثر المسلمين، وحبل الله الممدود من السماء إلى الأرض فلا ينجو إلاّ مَن تمسّك به،.. ولم يتمسّك به إلاّ القليلون! وكتابتي فيهم لا - ولن - تبلغ سوى جزءً من آلاف الأجزاء ممّا كانوا عليه من المنزلة السامية، التي لا يبلغ شأوها قلم كاتب، ولا فكر ثاقب.

***

____________________

(1) بصائر الدرجات: ج 2 ص 3.

(2) الروم: 43.

(3) بصائر الدرجات: ج 2 ص 3.

٥

إلمامةٌ عابرة بمزايا العترة الطاهرة

إنّ أوّل آية خارقةٍ من آيات أهل بيت النبيّ (صلوات الله عليه وعليهم): أنّ تأريخهم سَبَقهم وكُتِب قبل ولادتهم، فقد حدّث به النبيّ (صلّى الله عليه وآله) أصحابه قبل حدوثه، وأطلعهم على ما يجري عليهم واحداً بعد واحدٍ سلفاً، ونقلَ إليهم ما خطّه قلم القدرة في اللّوح المحفوظ عنهم، وما قضى به الباري عزّ وعلا عليهم، فتحدّث الناس بأوصياء النبيّ (صلّى الله عليه وآله)، وبعددهم، وأسمائهم، وصفاتهم، وبما يُصيب عليّاً، والحسن، والحسين،.. حتى الإمام الثاني عشر عجّل الله تعالى فرجه..

  ثمّ وصفَ علمهم وفضلهم، وبيّن صفاتهم ولم يترك خافياً من أمورهم؛ كي لا يضلّ الناس عنهم ولا يحيدوا عن الدّين، وعمّا كلّفهم به ربّ العالمين،.. فصارَ تاريخ أهل البيت (عليهم السلام) يدور على كلّ لسان قبل أن يولد أكثرهم، وقبل أن يولد آخرهم بمئتين وخمس وخمسين سنة،.. ثمّ تناقلهُ الرّواة، وتحدّثت به الرّكبان، وصار معلوماً لدى القاصي والداني، جارياً على لسان المؤالف والمخالف،.. كما أنّه كُتبَ - يومئذ - مجمل تاريخ بعض الصّحابة؛ إذ ذكرَ النبيّ (صلّى الله عليه وآله) نصر بعضهم لأهل بيته، وظلم البعض الآخر لهم، وقيام سلاطين جبّارين،.. وأعطى من أعلام الغيب ما مدحَ به قوماً وذمّ آخرين، وكشفَ لأمّته عن كثير ممّا يجري بعد لحوقه (صلّى الله عليه وآله) بالرّفيق الأعلى.

٦

والتاريخ الذي كتبهُ الله عزّ وجلّ لا يُمحى؛ إذ لا مُبدّل لكلماته سبحانه،.. والحديث الشريف الذي نقله رسوله (صلّى الله عليه وآله) عن الوحي لا يُطمس، ولا يعفو أثره مهما زوّر المزوّرون؛ لأنّ الحقّ ينادي على نفسه وينفض عن وجهه الرّكام والغبار مهما تطاولت الأزمنة والدهور،.. فأنتَ إذا استقصيتَ ما كتبه السلف الصالح عن أئمّة أهل البيت (عليهم السلام)، واستنطقتَ بطون الكتب، وجدتَ الخطوط تتكامل بين يديك شيئاً فشيئاً، ووصلتَ إلى تكوين صورةٍ مشرقةٍ واضحة المعالم تدلّ عليهم أصدق دلالة، ولا تنطبق على غيرهم بوجه من الوجوه؛ لأنّهم خُلقوا مُعلَّمين مُفهَّمين، يعرفون كلّ لغة ويتكلّمون بكلّ لسان معرفةً لدُنيّةً موهوبةً لهم من ربّهم، كما وهبَ لنا ولهم النظر والسّمع والحسّ دون أن يُعلّمنا أهلنا كيف نرى، أو كيف نسمع، أو كيف نحس..؟

فمن عطايا الله سبحانه لسفرائه في أرضه أنّهم يُزّقون العلم زقّاً، فيولَدون علماء، حلماء، حكماء، ذوي أدب ربّانيّ موهوب - غير مكسوب - فلا يعيون بجواب ولا ينطقون إلاّ بالصواب،.. تكاد أجوبتهم تدع السامع مشدوهاً من العجب، لبلاغة منطقهم وصدق حِكمهم، من دون فرق بين كبيرهم وصغيرهم؛ لأنّهم يصدرون عن معينٍ واحدٍ، ويتمتّعون بنفس الكفاءة خلقاً من عند ربّهم وتمييزاً لهم عمّن سواهم،.. وكمثلٍ على بعض أحوالهم نورد لك ما رواه عبد العظيم الحسنيّ، عن عليّ بن محمد - إمامنا الهادي - عن أبيه محمد بن عليّ، عن أبيه الرّضا، عليّ بن موسى (عليهم السلام)، حيث قال:

(خرجَ أبو حنيفة من عند الصادق (عليه السلام)، فاستقبلهُ موسى بن جعفر (عليه السلام) - وهو دون السابعة من عمره - فقال له أبو حنيفة: يا غلام، ممّن المعصية؟

قال (عليه السلام): لا تخلو من ثلاث:

إمّا أن تكون من الله عزّ وجلّ، وليست من الله، فلا ينبغي للكريم أن يُعذّب عبده بما لا يكتسبه.

٧

وإمّا أن تكون من الله عزّ وجلّ ومن العبد،.. وليس كذلك، فلا ينبغي للشريك القويّ أن يظلم الشريك الضّعيف.

وإمّا أن تكون من العبد،.. وهي منه، فإن عاقَبهُ الله فبذنبه، وإن عفا عنه فبكرمه وجوده) (1).

فزِنْ جواب هذا الغلام بميزان العقل والعدل - ولا تنسَ أنّه يخاطب فقيهاً كبيراً من فقهاء ذلك العصر، يرى أنّ العبد محمول على ارتكاب المعصية مجبور عليها؛ لأنّه مقضيّ عليه من الله تعالى بها - تَعلم أيّ فقه يَحمل هذا الغلام العظيم، وأيّة حكمة تجري على لسانه حين يضع الأحكام الحقيقية في مواضعها بعد أن يفلسفها فلسفةً عقليةً بليغةً، وتعلم - أيضاً - أنّ الله سبحانه يُطلع سفراءه المنتجبين على كلّ كبيرة وصغيرة في الأرض، ولا يحجب عنهم شيئاً ليكونوا على بيّنة ممّا يجري حولهم، كما هو شأن السفير الذي لا تخفي عنه دولته أمراً من أمورها، فقد روى عليّ بن حمزة عن إمامنا الهادي (عليه السلام) ما يلي:

(سمعتهُ يقول: (ما من مَلَك يُهبطه الله في أمر، ما يهبطه إلاّ بدأ بالإمام فعرضَ عليه، وأنّ مختلف الملائكة من عند الله تبارك وتعالى إلى صاحب هذا الأمر)) (2) - أي إلى الإمام الحجّة على الناس -.

فعن محمد بن يعقوب بإسناده عن الحسن بن راشد، قال:

(سمعتُ أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: (إنّ الله تبارك وتعالى إذا أحبّ أن يَخلق الإمام، أمرَ مَلَكاً فأخذَ شربةً من ماء تحت العرش فيسقيها أباه، فمن ذلك يخلق الإمام، فيمكث أربعين يوماً وليلةً في بطن أمّه لا يسمع الصوت، ثمّ يسمع بعد ذلك الكلام، فإذا ولِدَ بعثَ الله ذلك المَلَك فيكتب بين عينيه: وتمّت كلمة ربّك صدقاً وعدلاً، لا مبدّل لكلماته وهو السّميع العليم، فإذا مضى الإمام الذي كان قبله، رُفعَ لهذا مناراً من نورٍ يَنظر فيه إلى أعمال الخلائق، فبهذا يحتجّ الله على خلقه) (3) .

____________________

(1) توحيد الصدوق: ص 55، وهو في الاحتجاج للطبرسي.

(2) الكافي: م 1 ص 394.

(3) حلية الأبرار: ج 2 ص 341.

٨

فمن المعروف أنّ الموفَد من الدولة إلى دولةٍ أخرى بمهمّةٍ ما، يراجِع - أول ما يراجِع - سفير دولته، ويَدخل - بادئ بدءٍ - على المنتدَب من حكومته؛ ليُطلعه على ما جاء بشأنه وما انتُدب إليه من عمل، فالأجدر بحكومة السماء - ذات النّظام الأزليّ الدقيق - أن تكون على مستوىً أرفعَ من جميع الأنظمة الأرضيّة من حيث الدّقة في التخطيط والتنفيذ..

  ولا عجبَ - إذاً - أن يمرّ كلّ أمر سماويّ عِبر سفير السماء؛ ليعرف جميع ما يدور في مملكة الله الكبرى، وليطّلع على ما يحدث فيها ويستجدّ من قضاء ربّه تعالى وقدره، وعلى ما يلج في الأرض وما يخرج منها، وما ينزل من السماء وما يعرج إليها،.. وليعلم كلّ شيء في وقته، فيكون حينئذٍ السفير المنتدَب من لدن الحضرة القدسيّة بحقّ وحقيقة.

وإنّ الّذين يمارون في هذه الأمور يغالطون عقولهم، ويسيئون فهمها إذا أنكروا النظام الإلهيّ وهم يرون الترتيبات الأرضية التي صنعوها بأيديهم، بل إنّهم حين ينكرونها يخالفون المنطق السليم، ويزجّون أنفسهم في مدار إنكار قدرة الله تعالى على تسيير شؤون كونه العظيم وإدارة مُلكه الواسع، ويسيرون في ركاب المُنكِرين لكلّ أوامر الله سبحانه من الّذين كفروا (وَقَالُواْ إِنْ هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ ) (1) أي: أنّهم يُلحدون بالسماء وبأوامرها برمّتها ويقفون في صفّ المعاندين..

فلابدّ من تمرير أمر الله عزّ اسمه على عبده المنتجب أولاً وبالذات؛ لأنّه اختارهُ من بين خلقه لإمامة خلقه، ولذا قال الإمام الصادق (عليه السلام): (نحنُ السبب بينكم وبين الله) (2) ، وهذا معنى كونهم السبب بيننا وبين ربّنا عزّ وجلّ.

____________________

(1) الأنعام: 29.

(2) مناقب آل أبي طالب: ج 4 ص 400.

٩

فنلفت النظر إلى أنّ الجهل بشأن أئمّة أهل البيت (عليهم السلام)، لا يشكّل عذراً للجاهل بحالهم وبحقّهم، ولا هو حجّة مقبولة بين يدي الله تعالى يوم الدّين، كما أنّ معرفته السطحيّة التقليدية لا تُُُُُُُُكوّن باب خلاص في قسطاس العمل المقبول عنده سبحانه ,.. فوجبَ أن نعرفهم بما هم فيه، وبما كانوا عليه، وبما انتدبهم الله عزّ اسمه إليه من حماية دينه ورقابة عباده؛ لنرجع إلى معدن العلم والحكمة في سائر أمور ديننا ودنيانا، ولنستقي من منابع تتفجّر معرفتها من سرادق عرش الرّحمان، فنصدر في تصرّفاتنا وأعمالنا عن مشرّعين ربّانيّين اصطفاهم خالقهم عزّ وجلّ، وجَعلهم حججاً على خلقه وهداةً لهم إلى سواء السبيل، اجتباءً لهم منه سبحانه وآدم بين الطين والماء، فإنْ نَفِسَ عليهم أحد بما أعطاهم الله سبحانه من فضله، وبخلَ عليهم بكيفية خلقه لهم على هذه الشاكلة، فليُطفئ نور الشمس إذا استطاع، أو فليأتِ بها من الغرب إذا قَدر، أو فليطأطئ رأسه صاغراً لمشيئة الله عزّ وجلّ ولا (يتفرعَن)، ويُنصّب نفسه شريكاً لله عزّ وعلا في خلقه..

قال الحَكم بن عيينة: (لقيَ رجل الحسين بن عليّ بالثعلبيّة وهو يريد كربلاء، فدخلَ عليه.

فقال له الحسين (عليه السلام): (من أيّ البلاد أنت؟

قال: من أهل الكوفة.

قال: يا أخا أهل الكوفة، أمَا والله لو لقيتُك بالمدينة لأريتك أثر جبرائيل من دارنا، ونزوله على جدّي بالوحي، يا أخا أهل الكوفة، مستقى العلم من عندنا، أفعلموا وجَهِلْنا؟!. هذا ما لا يكون) (1) .

____________________

(1) بصائر الدرجات: ج 1 ص 5، ورويَ عن ابنه زين العابدين (عليه السلام) مثله مع تفصيل أكثر في نفس المصدر ونفس الصفحة.

١٠

وأكرِم بهذه القَولة الكريمة من سيّد الشّهداء (عليه السلام)، فهي قولة لا يجرؤ عليها إلاّ هو أو مَن كان من أهل بيته إمام حقّ مكرّس من عند ربّه، وإنْ تواقحَ وقالها غيرهم كذّبهُ الله وملائكته وسائر خلقه، وهي كلمة لو وَعاها المسلم لرأى فيها رسالةً منه سلام الله عليه لكافّة المسلمين، تُضارع قولة حسامه يوم الطّف حيث ضربَ الباطل بسيف الحقّ، فأبقى على كلمة لا إله إلاّ الله.. إلى يوم القيامة! فليتأمّل بعين عقله وصافي فكره ( وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ ) (1) .

وعن حسّان بن سدير أنّ أبا جعفر الباقر (عليه السلام) قال:

(إنّ لله عِلماً عامّاً وعِلماً خاصّاً، فأمّا الخاصّ فالذي لم يطّلع عليه مَلك مقرّب ولا نبيّ مرسل، وأمّا عِلمه العامّ الذي اطّلعت عليه الملائكة المقرّبون والأنبياء المرسلون، قد رُفعَ ذلك كلّه إلينا) (2) .

وروي بمعناه - وقريب منه - عن أكثر الأئمة (عليهم السلام).

وحدّثَ سماعة أنّ أبا عبد الله (عليه السلام) قال:

(إنّ لله عِلماً علّمه ملائكته وأنبياءه ورسُله فنحن نعلمه، ولم يطّلع عليه أحد من خلْق الله) (3) .

فدعْ عِلم الساعة - الذي هو لله عزّ وعلا - تجد عندهم عِلم ما كان وما يكون إلى يوم القيامة؛ منحةً من الكريم الوهّاب الذي اختارهم كفاءَ وظيفتهم الإلهيّة.

وقد روى جابر أنّ أبا عبد الله (عليه السلام) قال:

(لمّا نَزلت هذه الآية: ( يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ ) (4) قال المسلمون: يا رسول الله، ألستَ إمام النّاس كلّهم أجمعين؟!

____________________

(1) الحشر: 18.

(2) بصائر الدرجات: ج 2 ص 31.

(3) المصدر السابق: ص 10.

(4) الإسراء: 71.

١١

فقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): إلى النّاس أجمعين، ولكن سيكون بعدي أئمّة على النّاس من الله، من أهل بيتي، يقومون في النّاس فيُكذَّبون ويظلمهم أئمّة الكفر والضلال وأشياعهم، ألا ومَن والاهم واتّبعهم وصدّقهم فهو منّي، ومعي وسيلقاني، ألا ومَن ظَلمهم، وأعانَ على ظلمهم وكذّبهم، فليس منّي، ولا معي، وأنا منه بريء) (1) .

ومَن تبرّأ منه رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، فسيُحشر يوم القيامة مع أئمّة الكفر والنّفاق ( وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ ) (2) .

وقد قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): (إنّا أهل البيت، أهل بيت الرّحمة، وشجرة النبوّة، وموضع الرّسالة ومختلف الملائكة، ومَعدن العلم) (3) .

ورويَ مثله عن الإمام زين العابدين (عليه السلام) مبتدأً بقوله: (ما تنقمُ الناس منّا..؟) (4) ، وكذلك رويَ عن ابنه الباقر وحفيده الصادق، فابن حفيده الكاظم (عليهم السلام) جميعاً بلفظه (5) .

و ( إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ) (6) على الله سبحانه، ولا يجوز لمؤمن بدعوته أن يتّخذه ظهريّاً؛ إذ لم يقله من عند نفسه، ولا نطقَ به إلاّ عن وحي نزلَ من ربّه فيه وفي أهل بيته، الّذين - للأسف - لاقوا من ظلم المسلمين ما لا يعلمه إلاّ الله تعالى!

فبأيّ آلائهم - يا ربّ - كانوا هكذا مجفوّين من قِبل المسلمين؟!.. أليسوا هم ذريّة رسول الإسلام التي لازمت الحقّ وبقيت مع دعوة الرسول في أحلك ظروفها؟!. يتخايل لي أنّ سبب جفوة النّاس لهم كانت بدافع حبّ الدّنيا، والتهرّب من مسؤولية القيام بأوامر الله تعالى ونواهيه قياماً حقّاً،.. إلى جانب حسدهم على المرتبة التي رتّبهم الله سبحانه فيها.

____________________

(1) بصائر الدرجات: ج 2 ص 10.

(2) البقرة: 200.

(3) بصائر الدرجات: ج1 ص 17 و 18.

(4) المصدر السابق.

(5) المصدر السابق.

(6) التكوير: 19.

١٢

وحقيقة ماذا ينقم الناس منهم حتى فارقوهم ونسوا وصيّة جدّهم التي نزلت من عند الله تبارك وتعالى القائل له: يا محمد ( قُل لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى ) (1) ، فهل أخذوا عليهم حُكماً بدّلوه فلم يوادّوهم، أم حدّاً عطّلوه فقتلوهم، أم فريةً اجترحوها فنابذوهم وانتبذوا منهم، وفارقوهم؟!

لم ينجُ أحد من الصّحابة والتابعين - أنصاراً ومهاجرين - من مهمز أو ملمز - إلاّ مَن عصمَ الله - سواهم، ولا عفّت الألسن عن ذكر أحد بالسوء إلاّ إذا دارَ عليها ذكرهم؛ لأنّهم مبرّأون من كلّ عيب ومنزّهون عن أيّ ريب، لم يجاوزوا الكتاب ولا حادوا عن السنّة، بل كانوا عِدلهما كلَيهما،.. قد أذهبَ الله تعالى عنهم الرّجس وطهّرهم تطهيراً بنصّ القرآن الكريم..

قال عليّ بن عبد الله: (سأل الإمام الصادق رجل عن قوله: ( فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى ) (2) .

قال: (مَن قال بالأئمة وتَبعَ أمرهم، ولم يجُز طاعتهم) (3) .

أمّا مَن ردّ هذا القول، فهو حُرّ في أن يختار لنفسه ويتحمّل وِزر ردّه ( وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُ جَزَاء الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْراً ) (4) والإيمان لا يتمّ إلاّ بموادّتهم؛ لأنّهم حَمَلة القرآن وتراجمته، وحَفَظة سنّة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ونَقلتها، لم يَفُتهم حُكم إلهيّ يتناول أيّ شأن من الشؤون، ولا خفيَ عليهم شيء من أمور النّاس، ولا كانت تغيب عنهم خاطرة تمرّ في نفوس جلسائهم؛ فإنّ عدّة من أصحاب الإمام الصادق (عليه السلام) فيهم عبد الأعلى، وعبيد بن عبد الله بن بشر الخثعمي، وعبد الله بن بشر، سمعوه يقول:

(إنّي لأعلم ما في السماوات، وأعلم ما في الأرض، وأعلم ما في الجنّة، وأعلم ما في النّار، وأعلم ما كان وما يكون.

____________________

(1) الشورى: 23.

(2) طه: 123.

(3) مناقب آل أبي طالب: ج4 ص 400.

(4) الكهف: 88.

١٣

ثمّ مكثَ هنيئة فرأى أنّ ذلك كبُر على مَن سمعه فقال: عَلمتُ من كتاب الله أنّ الله يقول: فيه تبيان لكلّ شيء ) (1) .

وهذا ممّا لم يقله أحد غير الإمام الصادق وآبائه وأبنائه (عليهم السلام)؛ لأنّه لا يتجرّأ على قوله مَن تُكذّبه شواهد الامتحان،.. فإنّهم - بعد رسول الله (صلّى الله عليه وآله) - أوتوا العلم - كلّ العلم - وبأيديهم مواريث الأنبياء من لدُن آدم حتى خاتم النبيّين صلوات الله عليهم أجمعين.

فاستمِع إلى ما حدّث به إبراهيم بن مهزم الذي قال: (خرجتُ من عند أبي عبد الله (عليه السلام) ليلةً مُمسياً، فأتيت منزلي في المدينة وكانت أمّي معي، فوقعَ بيني وبينها كلام فأغلظتُ لها،.. فلمّا كان من الغد صلّيت الغداة وأتيتُ أبا عبد الله (عليه السلام).

فلما دخلتُ عليه قال: (ما لكَ ولخالدة أغلظتَ في كلامها البارحة؟ أمَا عَلمتَ أنّ بطنها منزل قد سكنتَهُ، وأنّ حِجرها مهد قد غمزته، وثديها وعاء قد شَربتهُ؟

قلت: بلى.

قال: فلا تغلظ لها) (2) .

فالأئمّة (عليهم السلام) لا تخفى عليهم أفعال شيعتهم ولا أفعال غيرهم، بل يطّلعون على أعمال الناس وأحوالهم تباعاً، ويعلمون ما يضمرونه بعلم لدُنيّ اختصّهم الله تبارك وتعالى به؛ لأنّهم أمناؤه وحججه في ملكوته الأعظم، والدولة لا تكتم عن أمينها شيئاً من معلوماتها ودساتيرها وأنظمتها،.. وقد روى أبو بصير أنّ أبا عبد الله (عليه السلام) قال له:

(يا أبا بصير، إنّا أهل بيت أوتينا عِلم المنايا والبلايا والأنساب، والله لو أنّ رجلاً منّا قامَ على جسرٍ ثمّ عُرضت عليه هذه الأمّة، لحدّثكم بأسمائهم وأنسابهم) (3) .

____________________

(1) بصائر الدرجات: ج 2 ص 35 وأكثر مصادر بحثنا، والآية الكريمة في النحل، ولفظها الشريف: ( وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ ) ، ولم يقرأها الإمام (عليه السلام) بنصّها، بل ذكرَ معناها.

(2) بصائر الدرجات: ج 3 ص 67.

(3) المصدر السابق: نفس الجزء ص 35.

١٤

فلا ينبغي أن نحور وندور؛ لئلاّ نمسك بحبال الشيطان فيضلّنا عن حقيقة أهل بيت نبيّنا صلوات الله عليه وعليهم، فإنّ الله سبحانه حين وهَبهم مِننه الجزيلة لم يستشر أحداً منّا لنكون شركاء له في العطاء والمنع،.. ولا تَعجب من علمهم العامّ، ولا بمعرفتهم بما في النفوس، فإنّ المرآة العادّية تُري الإنسان العاديّ صورته الطبيعية بملامحها الظاهرة وألوانها وظلالها الحقيقيّة، ولا تنقص ولا تزيد في الصورة شيئاً، ولكنّها لا تكشف عمّا وراء الصورة الظاهرة، ولا تُطلعه على ما في داخلها ولا تفضح سرّاً مكتوماً، ولا تُبيّن ما خَبأ في الصّدر.

أمّا المرآة السرّية التي مَنحها الله تعالى للأئمّة (عليهم السلام) - وهي عمود النّور أقلاًّ، أو عيونهم التي تخترق الكثافات (1) - فإنّها تكشف لهم عن ضمائرنا وعمّا وراء صُورنا الظاهرة، وتفضح الأسرار ولا تُبقي مكنوناً ولا مكتوماً ولا خافياً،.. فهي تفوق أشعة الليزر وتفوق الكهرباء والإلكترون؛ لأنّها مرآة ترتسم عليها الصورة وسائر ما يعتمل في النّفس،.. وإنّ جميع تصرّفاتهم مع الناس تدلّ على ذلك بفضلٍ من الله عليهم؛ لأنّهم أُمناؤه وأهل طاعته وحاملو دعوته.

قال سيف التمّار: (كنّا مع أبي عبد الله (عليه السلام)، جماعةً من الشيعة في الحجر فقال: (هل علينا عَين؟ - أي هل يراقبنا أحد؟ -.

فالتفتنا يمنةً ويسرةً فلم نرَ أحداً، فقلنا: ليس علينا عَين.

فقال: وربّ الكعبة، وربّ البيت - ثلاث مرّات - لو كنتُ بين موسى والخضر لأخبرتهما أنّي أعلم منهما ولأنبَأتهما بما ليس في أيديهما؛ لأنّ موسى والخضر أُعطيا عِلم ما كان ولم يُعطيا عِلم ما هو كائن إلى يوم القيامة، فورثناهُ عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وراثة) (2) .

____________________

(1) قد فصّلنا الكلام حول هذا الموضوع في كتابنا (الإمام الجواد (عليه السلام))، ومَن شاء فليراجع الأخبار والتعليق عليها.

(2) بصائر الدرجات: ج3 ص 35.

١٥

ويمين الإمام الصادق (عليه السلام) بربّ الكعبة وربّ البيت - ثلاث مرّات - لها وزنها في عالَم الاعتبار والتقدير؛ فإنّه لا يتجرّأ على مثل قوله هذا أحد، كائناً مَن كان من العلماء والفقهاء وأهل الملّة، بل إنْ أحدٌ قاله كذّبهُ جَليسه، وفَضحهُ حديثه.

وقال الحسن بن الجهم: (حضرتُ مجلس المأمون يوماً وعنده عليّ بن موسى الرّضا (عليه السلام)، وقد اجتمعَ الفقهاء وأهل الكلام من الفِرق المختلفة، فسأله بعضهم فقال له: يا بن رسول الله، بأيّ شيء تصحّ الإمامة لمدّعيها؟

قال: (بالنّص والدليل.

قال له: دلالة الإمام فيمَ هي؟

قال: في العِلم، واستجابة الدعوة.

قال: فما وجه إخباركم بما يكون؟

قال: ذلك بعهدٍ معهود إلينا من رسول الله (صلّى الله عليه وآله).

قال: فما وجه إخباركم بما في قلوب الناس؟

قال (عليه السلام): أمَا بلغكَ قول الرسول (صلّى الله عليه وآله): اتّقوا فَرَاسة المؤمن؛ فإنّه ينظر بنور الله؟!

قال: بلى.

قال: وما من مؤمن إلاّ وله فَراسة، ينظر بنور الله على قدر إيمانه ومبلغ استبصاره وعلمه، وقد جمعَ الله في الأئمّة منّا ما فرّقه في جميع المؤمنين)) (1) .

فإنّه لو تسنّى لكائن مَن كان أن تجتمع فيه فَراسة جميع المؤمنين؛ لنفذَ بصرُه إلى ما وراء الآفاق فضلاً عمّا وراء شغاف القلوب، ولشَقّ الصخر واخترقَ البحر وعَلِم ما توسوس به النفوس، وتعتمل به الضمائر وأتى بالعجب العجاب،.. ولبطلَ عجبه من قدرة الأئمّة (عليهم السلام) على معرفة ما تنعقد عليه القلوب..

هذا، وإنّ الإمام الكاظم (عليه السلام) قال - في حديثٍ رواه عنه عليّ بن يقطين بمناسبة مُلك سليمان (عليه السلام) الذي لا ينبغي لأحدٍ من بعده -:

____________________

(1) عيون أخبار الرّضا: ج 2 ص 200.

١٦

(قد والله أوتينا ما أوتيَ سليمان وما لم يؤتَ سليمان، وما لم يؤتَ أحدٌ من الأنبياء،.. قال الله عزّ وجلّ في قصّة سليمان (عليه السلام): ( هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ) ، وقال عزّ وجلّ في قصّة محمّد (صلّى الله عليه وآله): ( وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا )) (1) .

فما أعطاه الله تعالى لنبيّنا محمد (صلّى الله عليه وآله) أفضل ممّا أعطاه لسليمان (عليه السلام)؛ لأنّه سبحانه أعطى سليمان ما أعطى وفوّض الأمر إليه في بذله ومنعه، ولكنّه لم يُفوّض إليه تعيين أمر،.. وذاك بخلاف ما أعطى نبيّنا (صلّى الله عليه وآله)؛ فإنّه فوّض إليه الأمر وأمَرَ الناس باتّباعه في كلّ ما يقول، ممّا يعني إطلاق صلاحيّة خاتم النبيّين بفضل ما اختصّه الله سبحانه به من سموّ المنزلة، وما حَباه من العلم والفضل والحكمة، فجعلهُ لا يتعدّى الحقّ ولا يَحيد عن الصواب في جميع أقواله الكريمة وأفعاله العظيمة.

***

فالأئمّة الاثنا عشر (عليهم السلام) أعلام الهدى في الأرض، والعروة الوثقى، وحُجج الله على أهل الدّنيا، وهم يعرفون محبّهم من مبغضهم وما انعقدَ عليه قلب كلّ واحدٍ من النوايا، بمنحةٍ ربّانيّة أقدرهم الله تعالى بها على ذلك بعفويّة تامّة، ودون تنجيمٍ ولا حسابٍ، ولا ضربٍ بالرّمل، وقد روى جابر: أنّ أبا جعفر (عليه السلام) قال:

(إنّ الله أخذَ ميثاق شيعتنا فينا من صُلب آدم، فنعرف بذلك حبّ المحبّ وإن أظهرَ خلاف ذلك بسبيله - أي استعملَ التقيّة وتظاهرَ بعدم حبّهم - ونعرف بُغض المبغض وإن أظهرَ حبّنا أهل البيت) (2) .

فعِلمهم - بجملته وتفصيله - هو ميراثهم من رسول الله (صلّى الله عليه وآله) كما مرّ، وهم لا يقولون برأيهم، ولا يتعدّون أصول ما هو عندهم من ميراث النبوّة قيد أنملة؛ ولذلك قال أبو جعفر (عليه السلام) لجابر أيضاً:

____________________

(1) انظر بحار الأنوار: ج 14 ص 86، والآية الأولى في ص: 39، والثانية في الحشر: 7.

(2) بصائر الدرجات: ج6 ص 83، وعدّة مصادر إسلامية.

١٧

(يا جابر، لو كنّا نُحدّثكم برأينا وهوانا لكنّا من الهالكين، ولكنّا نُحدّثكم بأحاديث نكنزها عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، كما يكنز هؤلاء ذَهبهم وفضّتهم) (1) .

وقد بيّنا في كتابنا في مكان آخر أنّهم مُلهمون، محدّثون، مفهّمون، ينكَت في قلوبهم، وينقَر في أسماعهم، ومعهم مَلَك عظيم - أكبر من جبرائيل (عليه السلام) - يُسدّدهم ويؤيّدهم،.. وتوسّعنا حول ذلك كثيراً ولن نكرّر هنا بعد أن برهنّا على كونهم يعرفون جميع الناس، ويتكلّمون بكلّ اللّغات، ويعلمون ما ينقص في الأرض وما يزاد من حقّ أو باطل، ويفهمون منطق الطّير والأنعام وسائر المخلوقات، ويعرفون الناس بسيماهم فلا تخفى عليهم منهم خافية،.. ولكنّهم ليسوا بأنبياء.. فقط.

ولا يجفلنّك هذا القول،.. ولا تعجب ممّا هم عليه من الكرامة والمقامة العليّة والقدرة على معرفة ما غاب عن الناس؛ فإنّهم هكذا خُلقوا من لدُن ربّهم عزّ وجلّ، ثمّ زوّدهم بإمكاناتٍ عظيمة كالاسم الأعظم الذي تنفتح به مغالق الأمور ويتيسّر به كلّ عسير، وقد قال عليّ بن محمد النوفلي: (سمعت الإمام أبي الحسن الهادي (عليه السلام) يقول:

(اسم الله الأعظم ثلاثة وسبعون حرفاً، وإنّما كان عند آصف منه حرف واحد تكلّم به فانخرَقت له الأرض فيما بينه وبين سبأ، فتناولَ عرش بلقيس حتى صيّرهُ إلى سليمان، ثمّ انبسطت الأرض في أقلّ من طرفة عين، وعندنا منه اثنان وسبعون حرفاً، وحرف واحد عند الله جلّ وعزّ استأثرَ به في علم الغيب) (2) .

فدَعْ - إذاً - أنّهم أنبياء،.. وقل في علمهم الربّانيّ ما تشاء.

____________________

(1) المصدر السابق نفس الجزء: ص86.

(2) كشفُ الغمّة: ج 3 ص 172، وبحار الأنوار: ج 50 ص 176، والكافي: م 1 ص 230، ومناقب آل أبي طالب: ج 4 ص 406، ومدينة المعاجز: ص 544 وص 560.

١٨

وكلامنا فيهم لا يقاس بعطاء الله تعالى القائل: ( وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ ) (1) فقد نزّل عليهم من خزائن علمه ما شاء بعد أن انتجبهم أصفياء من خلقه، ثمّ لم يحجب عنهم إلاّ علم الساعة - فقط -، وعلّمهم ما دون ذلك جميعاً وأقدرهم على معاجز الأنبياء السابقين كلّها، حتى شفاء المرضى، وإبراء الأكمه والأبرص، وإحياء الموتى بإذنه سبحانه وتعالى عطاءً منه غير مجذوذ؛ ليكونوا ذوي لياقة لخلافته في أرضه وسفارته عن سمائه،.. فقد قال أبو حمزة الثمالي رضوان الله عليه: (قلت لعليّ بن الحسين (عليه السلام): الأئمّة يُحيون الموتى ويبرئون الأكمه والأبرص، ويمشون على الماء؟

قال: (ما أعطى الله نبيّاً شيئاً قط، إلاّ وقد أعطاه محمداً (صلّى الله عليه وآله)، وأعطاه ما لم يكن عندهم.

قلت: وما كان عند رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، فقد أعطاه أمير المؤمنين (عليه السلام)؟

قال: نعم، ثمّ الحسن والحسين (عليه السلام) من بعد كلّ إمام إماماً إلى يوم القيامة، مع الزيادة التي تحدث في كلّ سنة، وفي كلّ شهرٍ.. ثمّ قال: إي والله، في كلّ ساعة) (2) .

وليس في هذا الأمر غرابة؛.. فإنّ عَظمة السفير من عَظمة دولته، والسفارة عن السماء لابدّ أن تكون على غير ما يألفه الأرضيّون.

قال أحمد بن علي: (دعانا عيسى بن أحمد القمّي لي ولأبي وكان أهوج - أي طويلاً في حمقٍ وطيشٍ وتسرّعٍ - فقال لنا: أدخَلَني ابن عمّي أحمد بن إسحاق، على أبي الحسن (عليه السلام) فرأيتهُ، وكلّمه بكلامٍ لم أفهمه، ثمّ قال له:

جَعلني الله فداك، هذا ابن عمّي عيسى بن أحمد، وبه بياض في ذراعه وشيء قد تكتّل كأمثال الجوز.

قال: فقال لي: (تَقدّم يا عيسى.

فتقدّمتُ، فقال لي: أخرِج ذراعك.

____________________

(1) الحجر: 21.

(2) بصائر الدرجات: ج 6 ص 76، وهو موجود في كثير من مصادرنا في هذا الكتاب.

١٩

فأخرجتُ ذراعي، فمسحَ عليه وتكلّم بكلام خفيّ طوّلَ فيه، ثمّ قال: بسم الله الرّحمن الرّحيم، ثمّ التفت إلى أحمد بن إسحاق وقال: يا أحمد بن إسحاق، كان عليّ بن موسى يقول: بسم الله الرّحمن الرّحيم أقرب من الاسم الأعظم من بياض العين إلى سوادها.

ثمّ قال: يا عيسى.

قلت: لبّيك.

قال: أدخِل يدك في كُمّك، ثمّ أخرِجها).

فأدخَلها، ثمّ أخرَجها وليس في يده قليل ولا كثير) (1) .

أجل، هكذا كان،.. ولا يكون ذلك كذلك إلاّ بإذن الله تبارك وتعالى، وعلى يد وليّه الذي أقدره بمشيئته على مثل هذه الآية الإلهية، التي لا سحرَ فيها ولا شعوذة..

وفي عيون المعجزات، عن أبي جعفر بن جرير الطبري، عن عبد الله بن محمد البلويّ، عن هاشم بن زيد، قال:

رأيت عليّ بن محمد، صاحب العسكر - أي إمامنا الهادي (عليه السلام) - وقد أُتيَ بأكمَه فأبرأهُ، ورأيتهُ يُهيئ من الطّين كهيئة الطّير، وينفخ فيه فيطير!

فقلت له: لا فرق بينك وبين عيسى (عليه السلام)؟!

فقال: (أنا منه، وهو منّي) (2) .

نعم، إنّهما من طينةٍ واحدةٍ،.. وما قدرا عليه من ابتداع العجائب غير المألوفة هو من الله تعالى وبإذنه،.. وقد تخرّجا من الجامعة الإلهيّة كلاهما؛ إذ قال سبحانه: ( إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ ) (3) وجَعل سبحانه هذه الذّرية من البشر، ولكنّه جَبلها من طينةٍ أعلى من طينة النّاس، ورصدها لأمره ودعوته، وأفاضَ عليها من قدرته ما يمكّنها من الإتيان بالآيات الدالّة على شأنها وشأوها الرفيع،.. وفي الخبر القدسيّ أنّ الله تعالى قال: (يا عبدي، أطِعني تكُن مَثلي، تقول للشّيء: كن فيكون..) فأين البشر العاديّون عن مثل تلك العبوديّة الحقّة التي تخوّلهم احتلال مثل هذه المرتبة السامية؟!

____________________

(1) مدينة المعاجز: ص 545.

(2) بحار الأنوار: ج 50 ص 185، ومدينة المعاجز: ص 546.

(3) آل عمران: 33 - 34.

٢٠