الوهمي والحقيقي في سيرة عمر بن الخطاب

الوهمي والحقيقي في سيرة عمر بن الخطاب0%

الوهمي والحقيقي في سيرة عمر بن الخطاب مؤلف:
الناشر: انتشارات دارالتفسير
تصنيف: مناظرات وردود
الصفحات: 564

الوهمي والحقيقي في سيرة عمر بن الخطاب

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: عبدالباقي قرنة الجزائري
الناشر: انتشارات دارالتفسير
تصنيف: الصفحات: 564
المشاهدات: 77540
تحميل: 4759

توضيحات:

الوهمي والحقيقي في سيرة عمر بن الخطاب
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 564 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 77540 / تحميل: 4759
الحجم الحجم الحجم
الوهمي والحقيقي في سيرة عمر بن الخطاب

الوهمي والحقيقي في سيرة عمر بن الخطاب

مؤلف:
الناشر: انتشارات دارالتفسير
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

وعليه نزل الكتاب المهيمن على الكتب كلّها، وله شرعت أفضل وأوسع شريعة، ونصبت أشرف قبلة؛ إلاّ أنّنا مع ذلك نراوح في أتعس وضعيّة، حيث يحلم كثير من أبنائنا باسترجاع ماض بعيد، إثمه أكبر من نفعه، ويتّهمون كلّ صوت يشخّص الدّاء ويرشد إلى أنجع الدّواء. يرسمون حول ذلك الماضي أسوارا من الجمود والتطرّف تجعل الحديث عنه مساسا بالمقدّسات، ويطفّفون الكيل فيكتالون بمكيالين، ويحكمون في شريعة واحدة للأمثال بحكمين مختلفين. فهذا قاتل عمر بن الخطّاب مجوسيّ مع أنّ عمر نفسه شهد للعجم المقيمين بالمدينة أنّهم صلّوا صلاتهم وتكلّموا لسانهم! وذاك ابن ملجم قاتل عليّ بن أبي طالب عليه السلام مجتهد متأوّل مأجور.

والخارج عن أبي بكر مرتدّ حلال الدّم، بينما الخارج عن عليّ بن أبي طالب عليه السلام مجتهد مأجور مبشّر بالجنّة! ومن انتقد سلوك صحابيّ ما بموضوعيّة وإنصاف فهو زنديق، وأما من سبّ وشتم ولعن عليّ بن أبي طالب عليه السلام فهو ثقة صدوق لا نزاع فيه! تلك ثمار ثقافة الكرسيّ؛ وبالمناسبة إنّه لمن المؤسف حقّا أن يتجاهل المسلمون جيلا بعد جيل أقوال وأفعال ومواقف فاطمة بنت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لكونها لا تسير في ظلّ ثقافة الكرسيّ، وهم في نفس الوقت يصلّون عليها يوميّا في كلّ صلواتهم فرضا ونفلا!

أضع بين يدي القارئ أخبارا وأحاديث تتعلّق بسيرة عمر بن الخطّاب، وأحاول تحليلها والتّعليق عليها بما يبدو لي منسجما مع المقاييس والمعايير التي دعا إليها القرآن الكريم، وعلى رأسها قول الله تعالى( إِنّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللّهِ أَتْقَاكُمْ ) ، وقوله تعالى( وَأَن لّيْسَ لِلْاِنسَانِ إِلّا مَا سَعَى ) . وما توفيقي إلاّ بالله عليه توكّلت وإليه أنيب.

تنبيه:

ابن أبي الحديد يشترط على نفسه أن ينقل من كتب السنة لا من كتب الشيعة.

قال ابن أبي الحديد: (الفصل الأوّل: فيما ورد من الأخبار والسّير المنقولة من

٢١

أفواه أهل الحديث وكتبهم، لا من كتب الشّيعة ورجالهم. لأنّا مشترطون على أنفسنا ألاّ نحفل بذلك، وجميع ما نورده في هذا الفصل من كتاب أبي بكر أحمد بن عبد العزيز الجوهريّ في السقيفة وفدك وما وقع من الاختلاف والاضطراب عقب وفاةالنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأبو بكر الجوهري هذا عالم محدّث كثير الأدب، ثقة ورع، أثنى عليه المحدثون ورووا عنه مصنفاته)(1) .

وإنّما نبّهت إلى هذا لأنّ في المحدّثين والمؤرّخين من ينسب ابن أبي الحديد إلى التّشيّع، وذلك يؤدّي إلى نقض ما يورده مما يشكل به على مخالفي أهل البيت عليهم السّلام. قال إدوارد فنيك في معرض ذكر ابن أبي الحديد: أما ابن أبي الحديد فهو عبد الحميد بن هبة الله المدائني الشيعي المعتزليّ الكاتب المحسن الشّاعر المجيد؛ له كتاب الفلك الدائر على المثل السائر، قيل إنّه صنّفه في ثلاثة عشر يوما، وله أيضا ديوان شعر وغيرهما كثير(2) .

أقول: ولا يلام إدورد فنيك على هذا الخطا إذ كان شائعا بين المحدّثين والرّجاليّين والمؤرّخين؛ وفي اعتقادي أنّه خطأ متعمّد يرمي إلى سلب الحجّيّة عن كلّ ما يستدلّ به ابن أبي الحديد عند مناقشة الأحاديث والوقائع، وإلاّ فإنّه هو نفسه يردّ على علماء الشّيعة في أكثر من موطن في شرح نهج البلاغة، ويتتبّع عبارات الشّريف المرتضى واحدة واحدة قصد تفنيد مضمونها. وهذا الخلط المتعمّد منهم إنّما يقدح في نزاهتهم وأمانتهم، ويلب عنهم صفة الموضوعيّة. فالاختلاف بين الشّيعة والمعتزلة واضح في كلّ شيء، في العقائد والفقه والأصول وغيرها. وترى المعتزلة في الفقه يقلّدون أصحاب المذاهب، وليس شأن الشّيعة الإمامية كذلك. وللمعتزلة رأيهم في قضيّة الإمامة وهو مخالف لما عليه الشّيعة الإماميّة.

____________________

(1) شرح نهج البلاغة: ج 16 ص 210 باب ذكر ما ورد من السير والأخبار في أمر فدك. دار أحياء الكتب العربية ط، 1962 م.

(2) اكتفاء القنوع، ج 1 ص 344، اكتفاء القنوع بما هو مطبوع، إدوارد فنديك، صححه السيد محمد علي البيلاوي، دار صادر، بيروت، 1896 م.

٢٢

وقد تردّدت عبارة (شيعي معتزلي) في كتاب المغني في الضّعفاء (ج 1 ص 54 وج 2 ص 462) و كتاب ميزان الاعتدال في نقد الرّجال (ج 1 ص 280 وج 1 ص 369 وج 5 ص 217 وج 6 ص 502) وكتاب لسان الميزان (ج 5 ص 72 وج 4 ص 280 وج 1 ص 262 وج 6 ص 82) وكتاب تاريخ الإسلام للذهبيّ (ج 27 ص 398) وكتاب إيضاح المكنون في الذيل على كشف الظنون (ج 3 ص 181).

٢٣

٢٤

الفصل الأول

نسب عمر بن الخطّاب

٢٥

٢٦

نسب عمر

عمر بن الخطّاب عدويّ من قبيلة عديّ، وهي قبيلة شهد عليها أبو سفيان صخر بن حرب أنّها وقبيلة تيم أذلّ حيّ قريش(1) !، وقد اختلفوا في سنّه حين وفاته، وهو ما ينتج الاختلاف في سنة مولده، وسيأتي ذلك مفصّلا في فصل (وفاة عمر).

قال ابن قتيبة: كان الخطّاب بن نفيل من رجال قريش، وأمّه امرأة من فهم، وكانت تحتنفيل فتزوّجها عمرو بن نفيل بعد أبيه (!) فولدت له زيدا، فأمّه أمّ الخطاب، وزيد هذا هوأبو سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل أحد العشرة الذين بشّرهم رسول الله بالجنّة. فولد الخطّاب زيد بن الخطّاب وعمر بن الخطّاب(2) .

إذاً فقد تزوج عمّ عمر بن الخطّاب زوجة أبيه بعد هلاكه، وهو أمر تشمئزّ منه النّفوس بمقتضى الفطرة؛ ويشهد لذلك الوجدان في كلّ الثّقافات والملل دون الرّجوع إلى دين ما. فلا معنى لقول من يقول (كان ذلك في الجاهلية).

قال ابن قتيبة: (وأمّا عمر بن الخطّاب فيكنى أبا حفص وأمّه حنتمة بنت هشام بن المغيرة المخزومي)(3) . وبنو مخزوم هم الذين نزل فيهم قرآن بشهادة عمر نفسه. قال السّيوطي: (وأخرج ابن مردويه عن ابن عباسرضي‌الله‌عنه أنه قال لعمررضي‌الله‌عنه : يا أمير المؤمنين، هذه الآية( الّذِينَ بَدّلُوا نِعْمَتَ اللّهِ كُفْراً ) قال: هم الأفجران من قريش، أخوالي وأعمامك؛ فأمّا أخوالي فاستأصلهم الله يوم بدر، وأمّا أعمامك فأملى الله لهم إلى حين(4) .

والمقصود بالأخوال أبو جهل والوليد بن المغيرة وغيرهما من صناديد بني مخزوم.

وقد شهد النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على بني مخزوم أنّهم يبغضونه ويبغضون أهل بيته. روى

____________________

(1) قال ابن عبد ربه في العقد الفريد ج 3 ص 271: فلما قدم [أبو سفيان] المدينة جعل يطوف في أزقتها ويقول:

بني هاشم لا تطمع الناس فيكم

ولا سيما تيم بن مرة أو عدي

فما الأمر إلا فيكم وإليكم

وليس لها إلا أبو حسن علي

فقال عمر لأبي بكر: إنّ هذا قد قدم، وهو فاعل شرّا، وقد كان النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يستألفه على الإسلام، فدع له ما بيده من الصدقة. ففعل، فرضي أبو سفيان.

(2) المعارف، ابن قتيبة، ج 1 ص 179.

(3) المعارف، ابن قتيبة، ج 1 ص 180.

(4) تفسير الطبري، ج 13 ص 219، وتفسير ابن كثير، ج 2 ص 540 وتفسير البحر المحيط، ج 5 ص 413. والدر المنثور، السيوطي، ج 5 ص 41.

٢٧

الحاكم حديثا يكشف حقيقة بني أميّة وبني مخزوم فقال: أخبرني محمّد بن المؤمل [..] عن أبي نضرة قال: قال أبو سعيد الخدريّرضي‌الله‌عنه قال النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّ أهلبيتي سيلقون من بعدي من أمّتي قتلا وتشريدا، وإنّ أشدّ قومنا لنا بغضنا بنو أميّة وبنو المغيرة وبنو مخزوم. قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه(1) . ونفس الحديث في فتن نعيم(2) . وفي هذا تصريح من النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّ بني أميّة وبني مخزوم يبغضونه، فإنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال (وإنّ أشدّ قومنا لنا بغضا) ولم يقل (وإنّ أشدّ قومنا بغضا لأهل بيتي) كيما يتأوّل متأوّل. ومعلوم أنّ بغض النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يخرج صاحبه من دائرة الإيمان.

وأم عمر حنتمة بنت هشام بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم أخت أبي جهل(3) . فتحصّل ممّا سبق أنّه ليس في نسب عمر ما يفتخر به لا من جهة الأب ولا من جهة الأمّ!

قال ابن أبي الحديد: قدم عمرو بن العاص على عمر وكان واليا لمصر، فقال له: في كم سرت؟ قال: في عشرين، قال عمر: لقد سرت سير عاشق. فقال عمرو: إنّي والله ما تأبّطتني الإماء ولا حملتني في غبرات المآلي، فقال عمر: والله ما هذا بجواب الكلام الذي سألتك عنه! وإنّ الدّجاجة لتفحص في الرّماد فتضع لغير الفحل، وإنّما تنسب البيضة إلى طرقها. فقام عمرو مربد الوجه. قلت: المآلي: خرق سود يحملها النوائح ويسرن بها بأيديهنّ عند اللّطم، وأراد خرق الحيض هاهنا وشبّهها بتلك، وأنكر عمر فخره بالأمّهات وقال: إنّ الفخر للأب الذي إليه النّسب. وسألت النّقيب أبا جعفر عن هذا الحديث في عمر فقال: إنّ عمرا فخر على عمر لأنّ أمّ الخطّاب زنجيّة، وترعف بباطحلى، تسمّى سهاك، فقلت له: وأمّ عمرو النّابغة أمة من سبايا العرب، فقال: أمة عربيّة من عنزة سبيت في بعض الغارات فليس يلحقها من النّقص عندهم ما يلحق الإماء

____________________

(1) المستدرك على الصحيحين ج 4، ص 534 والفتن لنعيم بن حماد ج 1، ص 131.

(2) ولعلّ الصواب بنو المغيرة من بني مخزوم، فإنّ الحديث وارد بهذا اللفظ في رواية أخرى لنعيم بن حماد في كتاب الفتن، ص 131 تحت رقم 319.

(3) مشاهير علماء الأمصار ن ج 1 ص 5.

٢٨

الزنجيات. فقلت له: أكان عمرو يقدم على عمر بمثل ما قلت؟ قال: قد يكون بلغه عنه قول قدح في نفسه فلم يحتمله له ونفث بما في صدره منه، وإن لم يكن جوابا مطابقا للسؤال(1) .

إذاً، فأمّ الخطّاب جدّة عمر بن الخطّاب زنجية، وقد عرض عمرو بن العاص به في قوله (ما تأبّطتني الإماء).

وقد كانت تبدر من عمر عبارات تشير إلى طفولته وعلاقته بأبيه، وهي علاقة تركت في نفس عمر مرارة بقي يتجرّع غصّتها حتّى في شيخوخته! وفي القصّة التّالية عبرة للمتدبّرين.

قال ابن كثير في المختصر: وعن أبي هريرة قال: خرج رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو غضبان محمرّ وجهه حتّى جلس على المنبر فقام إليه رجل فقال: أين أبي؟ قال: في النّار. فقام آخر فقال: من أبي؟ فقال: أبوك حذافة. فقام عمر بن الخطّاب فقال: رضينا بالله ربّا وبالإسلام دينا وبمحمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نبيّا وبالقرآن إماما؛ إنّا يا رسول الله حديثو عهد بجاهليّة وشرك، والله أعلم من آباؤنا. قال: فسكن غضبه ونزلت هذه الآية:( يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا لاَ تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ ) الآية؛ إسناده جيد. وقد ذكر هذه القصّة مرسلة غير واحد من السّلف منهم السديّ(2) . فعمر بن الخطّاب في القصّة يعترف صريحا أنّه لا يدري من هو أبوه! وهو لم يقل (إنّ النّاس حديثو عهد بالجاهليّة ولا يعرفون من هم آباؤهم) وإنّما قال: (إنّا حديثو عهد بالجاهلية ولا ندري من هم آباؤنا)، فاستعمل ضمير المتكلّم وبذلك أدخل نفسه في المعنيّين.

____________________

(1) شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد، ج 12 ص 39.

(2) مختصر ابن كثير، ج 1 ص 385 وانظر القصة في تفسير السمعاني ج 2 ص 71 وتفسير الثعلبي، ج 4 ص 113، والدر المنثور ج 3 ص 206 وتفسير أبي السعود ج 3 ص 85 وتفير ابن كثير، ج 2 ص 106 وتفسير البغوي ج 2 ص 69 وتفسير الطبري ج 7 ص 82 وزاد المسير ج 2 ص 433 وأحكام القرآن للجصاص، ج 4 ص 150 وتفسير الثعلبي، ج 4 ص 113 وفتح الباري، ج 8 ص 281 ومعتصر المختصر ج 2 ص 155 وجامع العلوم والحكم ج 1 ص 90 وتذكرة الأريب في تفسير الغريب، ج 1 ص 150.

٢٩

صفة عمر

قالوا في وصف عمر بن الخطّاب: كان طويلا آدم، أصلع، أعسر أيسر، يعني يعمل بيديه، وكان لطوله كأنه راكب، وقيل: كان أبيض أبهق يعني شديد البياض تعلوه حمزة طوالا أصلع أشيب، وكان يصفر لحيته ويرجّل رأسه، وكان مولده قبل الفجار بأربع سنين؛ وكان عمره خمسا وخمسين سنة، وقيل: ابن ستّين سنة، وقيل: ابن ثلاث وستّين سنة وأشهر. وهو الصّحيح، وقيل: ابن إحدى وستين(1) .

وفي تاريخ دمشق: كان رجلا طوالا أصلع آدم أعسر أيسر، ومات حين شارف الستّين، وقد اختلفوا في سنّه(2) .

قال الواقديّ: لا يعرف عندنا أنّ عمر كان آدم إلاّ أن يكون رآه عام الرّمادة فإنّه كان تغيّر لونه حين أكل الزيت(3) .

أقول: ولم لا يكون آدم ما دامت جدّته زنجيّة؟!

وأخرج ابن عساكر عن أبي رجاء العطاردي قال: كان عمر رجلا طويلا جسيما، أصلع شديد الصّلع، أبيض شديد الحمرة، في عارضيه خفّة، سبلته كبيرة وفي أطرافها صهبة(4) .

وفي الآحاد والمثاني: حدّثنا ابن مصفى حدّثنا سويد بن عبد العزيز عن حميد عن أنس قال: كان عمررضي‌الله‌عنه يخضب بالحنّاء(5) .

وقال الزمخشري: كان عمر بن الخطّابرضي‌الله‌عنه أضبط يعمل بكلتا يديه، وكان يخرج الضّاد من جانبي لسانه وهي أحد الأحرف الشّجريّة أخت الجيم والشين(6) .

____________________

(1) الكامل في التاريخ، ابن الأثير،ج 3 ص 53.

(2) تاريخ مدينة دمشق، ابن عساكر، ج 44 ص 478.

(3) تاريخ الخلفاء ج 1 ص 130.

(4) تاريخ الخلفاء ج 1 ص 131.

(5) الآحاد والمثاني ج 1 ص 99 تحت رقم 75.

(6) الكشاف، الزمخشري ن ج 1 ص 1345.

٣٠

أقول:

ماذا كان عمر يعمل بكلتا يديه؟ هل كان يصنع الدّروع أو يصقل السّيوف؟ هل كان حدّادا أو نجّارا أو ملاّحا؟! إنّما كان دلاّلا يجمع بين من يريد أن يبيع جملا ومن يريد أن يشتري جملا، وهذا عمل لا حاجة فيه لليدين! بل في تسميته عملا تجوّز.

وقال ابن حبيب البغدادي في تسمية الحول(1) من قريش: عمر بن الخطّاب، الفاروقرضي‌الله‌عنه ، وأبو لهب بن عبد المطّلب، وأبو جهل بن هشام، وزياد بن أبيه، وهشام بن عبد الملك بن مروان، وأبان بن عثمان بن عفان..(2) . وقال نفس الشيء في المحبّر(3) .

وإلى ذلك أشار المأمون فيما ذكره المزي في تهذيب الكمال قال:

قال أبو بكر محمد بن يحيى الصولي حدثنا أبو العيناء [..] واللّفظ لأبي العيناء قال: كنّا مع المأمون في طريق الشّام فأمر فنودي بتحليل المتعة، فقال لنا يحيى بن أكثم: بكّرا غدا إليه، فإن رأيتما للقول وجها فقولا، وإلاّ فأمسكا إلى أن أدخل. قال: فدخلنا إليه وهو يستاك ويقول وهو مغتاظ: (متعتان كانتا على عهد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعلى عهد أبي بكر وأنا أنهى عنهما) ومن أنت يا أحول حتى تنهى عما فعله النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأبوبكر؟! فأومأت إلى محمد بن منصور أن أمسك! رجل يقول في عمر بن الخطّاب ما يقول نكلمه نحن؟ فأمسكنا(4) !

أقول: ولم يكن المأمون ليستعمل عبارة الأحول في غير ملحّها وهو خليفة فيعاب عليه ذلك.

وعن عاصم عن زرّ قال: خرجتمع أهل المدينة في يوم عيد فرأيت عمر بن الخطّابرضي‌الله‌عنه يمشي حافيا، شيخا أصلع، آدم أعسر أيسر طوالا، مشرفا على النّاس كأنّه على دابّة، ببرد قطريّ، يقول: عباد الله هاجروا، ولا تهجروا وليتّق أحدكم الأرنب

____________________

(1) الحول جمع أحول وهو من مالت إحدى عينيه، وهذا يعني أن عمر بن الخطّاب كان أحول.

(2) المنمق، محمد بن حبيب البغدادي، ص 405.

(3) كتاب المحبر، محمد بن حبيب البغدادي 245.

(4) تهذيب الكمال، المزي، ج 31 ص 213 و 214.

٣١

يخذفها بالحصى أو يرميها بالحجر فياكلها، ولكن ليذكّ لكم الأسل، الرّماح والنّبل(1) .

وقال ابن أبي الحديد: كان [عمر] إذا غضب على واحد منهم لا يسكن غضبه حتى يعضّ على يديه عضّا شديدا فيدميها.

أقول: هذا فعل من لا يملك نفسه عند الغضب.

عن شعبة عن سماك أحسب عن رجل من قومه يقال له هلال بن عبد الله قال كان عمر يسرع يعني في مشيته، وكان رجلا آدم كأنه من رجال بني سدوس وكان في رجليه روح. و [..] عن نافع بن جبير بن مطعم قال صلع عمر فاشتد صلعه. وعن عامر بن عبد الله بن الزبير عن أسلم قال: رايت عمر إذا غضب أخذ بهذا واشار إلى سبلته فقال بها إلى فمه ونفخ فيه. و [..] عن عامر بن عبد الله بن الزبير عن أبيه أن عمر بن الخطّاب أتاه رجل من أهل البادية فقال يا أمير المؤمنين بلادنا قاتلنا عليها في الجاهلية وأسلمنا عليها في الإسلام ثم تحمى علينا؟ فجعل عمر ينفخ ويفتل شاربه(2) .

وفي مصنّف عبد الرّزاق عن زياد بن حدير الأسدي قال: ما رأيت رجلا أدأب للسّواك من عمر بن الخطّاب وهو صائم، ولكن بعود قد ذوي يعني يابس(3) .

وعن مالك عن زيد بن أسلم عن عامر بن عبد الله بن الزبير عن أبيه قال: كان عمررضي‌الله‌عنه إذا غضب فتل شاربه(4) .

أقول:

ليس من السنّة إطالة الشّارب؛ ففي صحيح البخاري عن ابن عمررضي‌الله‌عنه عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: من الفطرة قصّ الشارب(5) . وفي صحيح مسلم عن أنس بن مالك قال: قال أنس وقتلنا في قصّ الشارب وتقليم الأظفار ونتف الإبط وحلق العانة أن لا نترك

____________________

(1) المستدرك، الحاكم النيسابوري، ج 3 ص 81.

(2) الطبقات الكبرى، ج 3 ص 326.

(3) مصنف عبد الرزاق ج 4 ص 201 تحت رقم 7485.

(4) الآحاد والمثاني ج 1 ص 100 تحت رقم 78.

(5) صحيح البخاري ج 5 ص 2208 رقم 5549.

٣٢

أكثر من أربعين ليلة. وعن ابن عمر عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه أمر بإحفاء الشوارب وإعفاء اللحية.

وعن ابن عمر قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خالفوا المشركين، أحفوا الشوارب وأوفوا اللحى. وعن أبي هريرة قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جزّوا الشّوارب وأرخوا اللحى خالفوا المجوس(1) . وفي سنن النسائي الكبرى عن زيد بن أرقم قال سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول من لم يأخذ من شاربه فليس منا(2) . وعن عبد الله بن عمر قال: ذكر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المجوس فقال: إنّهم يوفّرون سبالهم ويحلقون لحاهم فخالفوهم. [قال] وكان ابن عمر يستعرض سبلته فجزها كما تجز الشاة أو يجز البعير(3) . عن أبي هريرة عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال الفطرة خمس الاختتان والاستحداد وقص الشارب وتقليم الأظفار ونتف الإبط(4) .

أقول: ثمّ أنت ترى معظم الروايات تجنّبت ذكر الحول؛ حتى الجاحظ الذي ألّف كتابا في الحولان والعميان والعرجان والبرصان من الأشراف والأعيان لم يذكر ذلك علما أنّه كان معاصرا لمحمد بن حبيب البغدادي(5) . ولو لا ما ذكره ابن حبيب البغدادي وما جرى على لسان المأمون لما وصل إلينا شيء من ذلك.

____________________

(1) صحيح مسلم، ج 1 ص 222.

(2) سنن النسائي الكبرى، ج 5 ص 406 تحت رقم 9293.

(3) سنن البيهقي الكبرى ج 1 ص 151.

(4) سنن النسائي الكبرى ج 1 ص 65. وحديث قص الشارب في المستدرك على الصحيحين ج 2 ص 293 والمسند المستخرج على صحيح مسلم ج 1 ص 315 ج 1 ص 316 ج 1 ص 318 وصحيح ابن حبان ج 12 ص 291 وصحيح ابن خزيمة ج 1 ص 47 والجمع بين الصحيحين ج 2 ص 200 ج 2 ص 653 والجمع بين الصحيحين ج 4 ص 204 وسنن أبي داود ج 1 ص 14 وسنن ابن ماجه ج 1 ص 94 ومسند أبي عوانة ج 1 ص 163 ومصنف ابن أبي شيبة ج 1 ص 178 ومصنف عبد الرزاق ج 1 ص 126 ومسند أبي يعلى ج 7 ص 198 ومسند إسحاق بن راهويه ج 2 ص 79 ومسند أحمد بن حنبل ج 2 ص 229 ومجمع الزوائد ج 5 ص 168.

(5) قال ابن خلكان: وكانت وفاة الجاحظ في المحرم سنة خمس وخمسين ومائتين بالبصرة. وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان ج 3 ص 474. وأما ابن حبيب البغدادي فتوفي سنة 245 هـ.

٣٣

تلكم كانت صفةعمر، ولا يصعب على رسّام ماهر أن يتتبّع العبارات ويترجمها على لوحته ليقدّم للنّاس صورة عمر بن الخطّاب؛ والذي لا شكّ فيه أن الصّلع والحول والرّوح والشارب الطّويل إذا اجتمعت لم تشر إلى الوسامة لا من قريب ولا من بعيد.

تربية عمر

لم يحظ عمر بن الخطّاب بطفولة هادئة، بل كانت طفولته كابوسا ظلّ يطارده حتّى الشيخوخة، فقد كان الخطاب يعامله بغلظة ويذهب معه إلى أبعد حدود العنف؛ وقد اعترف هو بنفسه بذلك أمام جمع كبير من النّاس. قال ابن المسيب: وحجّ عمر، فلمّا كان بضجنان قال: لا إله إلا الله العظيم العليّ المعطي ما شاء من شاء(1) ؛ كنت أرعى إبل الخطّاب في هذا الوادي في مدرعة صوف، وكان فظّا يتعبني إذا عملت ويضربني إذا قصّرت، وقد أمسيت وليس بيني وبين الله أحد(2) .

ومع أنّ عمر يصف أباه بالفظاظة إلاّ أنّه لا يتورّع أن يقسم به وهو يعلم أنّه مات على الشّرك. فعن نافع عن ابن عمر أنّه أدرك عمر بن الخطّاب في ركب وهو يحلف بأبيه فناداهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ألا إنّ الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم، فمن كان حالفا فليحلف بالله وإلا فليصمت(3) .

وقد أثبت التجارب والنظريات العلمية الحديثة أنّ للطّفولة دورا مهمّا في تكوين شخصيّة الإنسان، وأنّ الطفولة التّعيسة تترك آثارا عميقة في نفوس أصحابها، وقد تدفعهم إلى العنف حتى مع أقرب المقرّبين؛ وذلك ما يدفع الباحث إلى محاولة الإطلال على طفولة عمر بن الخطّاب رغم قلّة النّصوص وحدّة مقصّ الرّقابة الذي

____________________

(1) هذه مغالطة من عمر، فإن الذي أعطاه الخلافة هو أبو بكر بن أبي قحافة، وهو ينسب ذلك إلى الله تعالى.

(2) الكامل في التاريخ، ج 2 ص 456 وتاريخ الطبري، ج 2 ص 575 وحجّة الله البالغة ج 1 ص 615 والاكتفاء ج 4 ص 399.

(3) صحيح البخاريّ ج 5 ص 2265 وصحيح البخاريّ وصحيح البخاريّ ج 5 ص 2265 وج 6 ص 2449 وج 6 ص 2450 وج 6 ص 2693، وصحيح مسلم ج 3 ص 1266 وصحيح مسلم ج 3 ص 1267.

٣٤

فرضته ثقافة الكرسيّ.

قال عمرو بن العاص لمحمّد بن مسلمة حين بعثه إليه عمر ليأخذ شطر ماله: لعن الله زمانا صرت فيه عاملا لعمر، والله لقد رأيت عمر وأباه على كلّ واحد منهما عباءة قطوانيّة لا تجاوز مأبض ركبتيه، وعلى عنقه حزمة حطب، والعاص بن وائل في مزرّرات الديباج(1) . وهذا يشير إلى مستوى الفقر الذي كان يكابده. فبالإضافة إلى العنف الذي يلاقيه من أبيه، كان هناك فقر مدقع بقي في ذاكرة عمرو بن العاص لشدّة ما كان عليه. وليس الفقر في ذاته عيبا، لكن إذا انضمّ إليه العنف والجهل كانت آثاره وخيمة. أضف إلى ذلك ظاهرة عامّة لم يستثن منها عمر، تتمثّل في عبادة الأصنام؛ وعليه تكون طفولة عمر بن الخطّاب عنفا وفقرا وعبادة أصنام، وهو مزيج لا يثبت له كهل في الأربعين، فكيف بصبيّ يعيش تحت سقف الخطّاب!

ومن حقّ الباحث أن يتساءل عن سبب العنف الذي كان الخطّاب يعامل به ابنه عمر، فقد كان للخطّاب ولد آخر اسمه زيد لم يؤثر عنه من التّشكّي ما أثر عن عمر، وقد بقي عمر يتجرّع الذكريات المريرة وهو في شيخوخته. ولعلّ الخطّاب تفرّس في ابنه عمر ما لم يبلغنا، ولعلّه كان يكره من عمر أمورا لم تصلنا، المهمّ أنّه ليس طبيعيّا أن يعامل رجل ولده بتلك الطّريقة ويخصّه بذلك دون سائر إخوته. ولعلّ ذلك أيضا ممّا يفسّر لنا تعامل عمر مع أبنائه، فقد كان خشنا معهم خشونة تأباها الفطرة ويأباها الذّوق السليم. روى عبد الرزاق في مصنفه عن عكرمة بن خالد قال: دخل ابن لعمر بن الخطّاب عليه، وقد ترجّل ولبس ثيابا حسانا، فضربه عمر بالدّرّة حتى أبكاه فقالت له حفصة: لم يكن فاحشا لم ضربته؟ فقال: رايته قد أعجبته نفسه فأحببت أن أصغّرها إليه(2) . فهل يعقل أن يضرب ولد صغير من طرف أبيه لأنّه أعجبته نفسه؟ لم لا يكون أمر آخر يستشفّ من وراء سلوك عمر وله علاقة بطفولة عمر؟ فهذا الولد على خلاف

____________________

(1) شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد، ج 1 ص 175.

(2) مصنف عبد الرزاق، ج 10 ص 416 تحت رقم 19548.

٣٥

عمر تماما، فهو ابن الخليفة وعمر كان أبوه رجلا مغمورا لا في العير ولا في النّفير؛ وهو يلبس الثّياب الحسان، ويرجّل شعره، ويسمع الأذان وليس هناك أصنام تعبد، وأمامه مستقبل في ظلّ الإسلام، وعمر كان عليه عباءة قطوانية لا تجاوز مأبض ركبتيه، وعلى عنقه حزمة حطب. ألا يكون عمر بن الخطّاب قد حسد الولد على هذه النّعمة التي لم يحظ بها هو يوما واحداً؟! لقد كان حريّا بعمر أن يفرح لرؤية ولده في نعمة العافية، وكان حريّا به أن يحمد الله الذي وقى ولده شؤم الشّرك والجاهليّة والفقر، لكنّه تصرّف عكس ذلك تماماً، وحاسبه كما لو كان بالغا مكلّفا قد أتى جرما! ومثل هذا التّصرّف صدر من عمر مع ابن الزّبير؛ قال ابن تيمية: ولذلك لمّا رأى عمر بن الخطّاب على ابن الزّبير ثوبا من حرير مزّقه عليه فقال الزّبير: أفزعت الصّبيّ! فقال: لا تكسوهم الحرير(1) . وكان الزبير يدلّل ولده عبد الله.

ولعمر قصّة مماثلة مع كهل شريف في قومه؛ فعن الحسن قال: كان عمر قاعدا ومعه الدّرّة والنّاس حوله إذ أقبل الجارود فقال رجل: هذا سيّد ربيعة! فسمعه عمر ومن حوله وسمعه الجارود، فلما دنا منه خفقه بالدّرة، فقال: مالي ولك يا أمير المؤمنين؟ فقال: ما لي ولك! أما لقد سمعتها! قال: سمعتها فمه؟ قال: خشيت أن يخالط قلبك منها شيء فأحببت أن أطأطئ منك(2) .

أقول: حينما قال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قوموا إلى سيّدكم لم يستطع عمر أن يفعل شيئا بما أنّ الأمر يتعلّق بالزّعيم في قومه سعد بن معاذ، الذي استشهد فيما بعد، وحتى لو لم يكن سعد بن معاذ زعيما في قومه فإنّه ليس في وسع عمر أن يمعن في العنف بحضرة النّبي الكريمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فاكتفى بقوله (سيدنا الله) وغفل عن أنّ في قوله هذا ردّا على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذي ما ينطق عن الهوى؛ وقد أضفى القرآن صفة السّيادة على المؤمن وغير

____________________

(1) مجموع الفتاوى، ابن تيمية، ج 28 ص 114.

(2) كنز العمال، ج 3 ص 325 تحت رقم 8830.

٣٦

المؤمن، فقال عن يحي بن زكريا عليهما السلام (سيّدا وحصوا) وقال عن عزيز مصر (وألفيا سيّدها لدى الباب)، فكلام عمر بن الخطاب في هذا المقام مردود عليه. لكنّه لا يتحمّل أن يرى رجلا من الأنصار يشهد له النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بنفسه أنّه سيّد، فقال ما قال من باب الحسد لا أكثر. أما ههنا فإن عمر بن الخطاب هو الحاكم، وسمع قول أحدهم للجارود (هذا سيّد ربيعة)، ولا ذنب للجارود في ذلك القول، ولا تزر وازرة وزر أخرى، ومع ذلك خفقه بالدرّة ولم يتعرّض للقائل!

وكما كان عمر قاسيا مع ولده الصغير كان قاسيا مع أولاده الكبار أيضا، فهذا ابنه عبد الرحمن الذي يقال له أبو شحمة شرب الخمر في مصر، وأقام عليه عمرو بن العاص الحدّ، لكنّ عمر أبى إلاّ أن يضيف إليه حدّا ثانيا لأنّه شوّه صورة آل الخطاب. ومع أنّ عبد الرحمن كان مريضا، ومع أنّه لا ينبغي إقامة حدّ الخمر على المريض حتى يبرأ خشية التّلف، إلاّ أنّ عمر أقام عليه الحدّ وكانت وفاته بعد ذلك بقليل، فكانوا يرون أنه مات بسبب ذلك.

قال ابن عبد البرّ: والحديث بذلك عند الزهريّ عن سالم عن أبيه رواه معمر وابن جريج عن الزهري عن سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه قال: شرب عبد الرحمن بن عمر بمصر خمرا قال كذا قال معمر - وقال ابن جريج شرابا مسكرا - في فتية منهم أبو سروعة عقبة بن الحارث فحدّهم عمرو بن العاص؛ وبلغ ذلك عمر فكتب إلى عمرو أن أبعث إلي بابني عبد الرحمن على قتب. فلمّا قدم عليه جلده عمر بيده الحدّ. قال ابن عمر: فزعم النّاس أنّه مات من ضرب عمر ولم يمت من ضربه. قال أبو عمر: جاء عن الشعبي عن يحيى بن أبي كثير وهو شيء منقطع أنّ عمر ضرب ابنه حدّا فأتاه وهو يموت فقال: يا أبت قتلتني! فقال له: إذا لاقيت ربك فأخبره أنّ عمر يقيم الحدود! وليس في هذا الخبر ما يقطع به على موته لو صحّ وحديث ابن عمر أصح(1) .

____________________

(1) الاستذكار، ابن عبد البر، ج 8 ص 6.

٣٧

أقول:

يقول ابن عمر (فزعم النّاس أنّه مات من ضرب عمر)، والنّاس في عهد ابن عمر إمّا صحابة وإمّا تابعون، ويبدو أنّ هذا القول منهم كان شائعاً، وأنّ القائلين به كانوا كثيرين، والدّليل على صحّة ما يذهبون إليه قول عبد الرحمن بن عمر (يا أبت قتلتني)، وهو ما يعني: (يا ابت إنّي مريض، وإقامة الحدّ على المريض قد تقتله؛ فلو تركتني حتى أتعافى). وجواب عمر له (إذا لاقيت ربّك فأخبره أنّ عمر يقيم الحدود!) ومعناه: (إذا متّ من أثر هذا الحدّ ولاقيت ربّك فأخبره أنّ عمر بن الخطاب يقيم الحدود، فلا لوم عليه إذا مات رجل من أثر الحدّ). فعبد الله بن عمر لا يقبل هذا، لأنّه يعزّ عليه أن يكون عمر قتل ابنه بتلك الطريقة المحرجة لآل الخطاب جميعا.

وقال ابن كثير: وفي هذه السّنة (سنة 14) ضرب عمر بن الخطّاب ابنه عبيد الله في الشّراب هو وجماعة معه(1) . وقال ابن الأثير: وفيها أعني سنة أربع عشرة ضرب عمر ابنه عبيد الله وأصحابه في شراب شربوه(2) .

أقول: وعبيدالله غير عبد الرحمن، وقد عاش عبيد الله وأدرك صفين وبها قتل، ومات عبد الرحمن بن عمر في حياة أبيه كما مرّ بك. وهذا يفيد أنّه كان لآل الخطاب ولع بالخمر بعد تحريمها، كما يفيد أنّه لم يبارك لعمر في أولاده.

آل عمر

فاقد الشّيء لا يعطيه، وعمر بن الخطّاب فاقد للمقوّمات الأساسيّة للتّربية الصّحيحة، وعلى رأسها الرّحمة. وإذا لم يكن المربّي رحيما فإنّه يحرم من يتربّى على يديه من أفضل شيء يتحلّى به آدميّ. ولأنّ الرّحمة ليس لها بديل، ولأنّها أهمّ ما يعدّ الإنسان للتّمسك بالقيم ورفض الأنانيّة والأثرة، ولأنّها العمدة في تقريب النّاس إلى الخير

____________________

(1) البداية والنهاية، ابن كثير، ج 7 ص 48.

(2) الكامل في التاريخ، ابن الأثير، ج 2 ص 336.

٣٨

وإبعادهم عن الشرّ، فإنّ الإسلام لم يفتأ يدعو إليها ويحثّ عليها ويرغّب فيها؛ ويكفي لذلك أن الله تعالى يفتتح سور كتابه الكريم ببسملة تتضمّن الرحمة مكرّرة، فهو الرحمن الرحيم. ومع أنّه العزيز الجبّار، المنتقم، المقتدر المتكبّر، شديد العقاب، ذو الطّول، إلاّ أنّه يخاطب عباده بـ (الرّحمن الرّحيم). ويصعب علينا أن نصف أمثال عمر بن الخطّاب بالرّحمة وهو الذي يذكر عنه أنه وأد ابنته، أي دفنها حية تتنفّس!! حتّى البهائم ترحم صغارها، حتّى الوحوش ترحم صغرها وتدافع عنها حتى الموت، لكنّ الآدميّ الذي خلا قلبه من الرّحمة لا يستنكف أن يدفن صغيرته حيّة ويهيل عليها التراب من دون جرم أتته. ويصعب علينا أن ندّعي أن عمر بن الخطّاب اكتسب الرّحمة بعد إسلامه، ولو حاولنا أن ندّعي له ذلك لهجمت علينا صور كثيرة ومشاهد عديدة من مشاهد العنف أحدها مشهده وهو يجمع الحطب ويهدّد بتحريق بيت فاطمة بنت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وفي البيت حسن وحسين وزينب وأم كلثوم! لم يغيّر الإسلام من عمر بن الخطّاب إلاّ المظهر، أمّا باطنه فبقي هو هو؛ هو الذي دفن ابنته حيّة، وهو الذي أراد أن يحرّق بنت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأبناءها وهم أحياء.هذا الرّجل بهذه القسوة هو والد كلّ من عبد الله بن عمر وعبيد الله بن عمر وعبد الرحمن بن عمر وعاصم بن عمر وحفصة بنت عمر.. ويجمع هؤلاء جميعا بغض آل محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

قال زيني دحلان في السيرة الحلبية: وأما فضل التّسمية بهذا الاسم أعني محمدا فقد جاء في أحاديث كثيرة وأخبار شهيرة أي منها أنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: قال الله تعالى وعزتي وجلالي لا أعذب أحدا تسمّى باسمك في النّار أي باسمك المشهور وهي محمد أو أحمد. ومنها: ما من مائدة وضعت فحضر عليها من اسمه أحمد ومحمّد، وفي رواية فيها اسمي إلاّ قدّس الله ذلك المنزل كلّ يوم مرّتين. ومنها: يوقف عبدان اسم أحدهما أحمد والآخر محمد بين يدي الله تعالى فيؤمر بهما إلى الجنة فيقولان ربّنا بم استأهلنا الجنة لوم نعمل عملا تجازينا به الجنّة؟ فيقول الله تعالى: ادخلا الجنّة فإنّي آليت على نفسي أن لا يدخل النّار من اسمه أحمد أو محمّد. لكن قال بعضهم: ولم يصحّ في

٣٩

فضل التّسمية بمحمّد حديث، وكلّ ما ورد فيه فهو موضوع! قال بعض الحفّاظ: وأصحّها أي أقربها للصحّة من ولد له مولود فسمّاه محمّدا حبّا لي وتبرّكا باسمي كان هو ومولوده في الجنة(1) .

أقول: ولم يثبت أنّ عمر بن الخطاب سمّى أحد أبنائه أحمد أو محمّدا.

عبد الله بن عمر:

كان هذا الرّجل ممن يصطاد الدّنيا بالدّين، فكان يتعبّد حتى تنهكه العبادة، لكنّه في نفس الوقت لا يأنف أن يركن إلى الذين ظلموا ويعتبر حكمهم شرعيّا مسئولا عنه أمام الله تعالى، وموقفه من أهل المدينة في واقعة الحرّة معلوم، وهو موقف لا ينمّ إلاّ عن خنوع واستكانة ورضا بالباطل. وله مع ذلك أخبار تكشف عن حقيقته ومدى فهمه للإسلام. وقد كان يحدث نفسه بالخلافة أيام الفتنة وهو الذي لم يحسن طلاق امرأته، وبقي يحلم بذلك إلى أن قطع أمله معاوية ببيعة يزيد وواجهه بما لا يصبر عنه أبيّ شريف. وهو أيضا صاحب الرّوايات العجيبة في تفضيل أبيه على المطهّرين بنصّ كتاب الله الكريم، وحاشا لذي العرش أن يفضّل من عبد الصّنم عشرات السنين على من تربّى في حجر النّبي الأمين ولم يشرك بالله طرفة عين. ولا يرتاب كاتب هذه السّطور في أنّ عبد الله بن عمر من النّواصب الذين يبغضون علي بن أبي طالب عليه السلام، فإنّه لم يكن يعدّه من الخلفاء، مع أنّه كان لا يتردّد في شرعيّة حكم يزيد بن معاوية، وهذا ما لا يقول به إلاّ من انتكست فطرته وعميت بصيرته وأضلّه الله على علم.

عن نافع قال: دخل ابن عمررضي‌الله‌عنه الكعبة فسمعته وهو ساجد يقول: (قد تعلم ما يمنعني من مزاحمة قريش على هذه الدّنيا إلاّ خوفك(2) .

أقول: يرد عليه قول أبيه عمر في حقّه، وهو أعلم به من غيره، (إنّه لا يصلح للخلافة) وقد عاب عليه أنّه لم يحسن طلاق امرأته. ولقد كانت له مواقف خزي مع بني أميّة

____________________

(1) السيرة الحلبية، ج 1 ص 135.

(2) حلية الأولياء، ج 1 ص 292.

٤٠